في مؤتمر للجزيرة للدراسات: الاستثمار في النشر الرقمي وتنويع المحتوى روافع لخروج الصحافة من أزمتها

الجلسة الأولى (يمين): محمد المختار الخليل، مدير مركز الجزيرة للدراسات، وقد ألقى الكلمة الافتتاحية للمؤتمر، ثم أعقبه المتحدثون، السادة: نور الدين مفتاح، نصر الدين لعياضي، نواف التميمي، عزام أبو الحمام، وأدارها المذيع بقناة الجزيرة مباشر، مصطفى عاشور. الجلسة الثانية (يسار): عادل الباز، عماد بشير، منال المزاهرة، محمد الراجي، وأدارها مصطفى الشيخ، المذيع بقناة الجزيرة مباشر. (الجزيرة)

بدأت أمس، الأحد، 28 يونيو/حزيران 2020، أعمال المؤتمر البحثي الذي يُنظِّمه مركز الجزيرة للدراسات عن بُعد تحت عنوان "تحديات الصحافة الورقية والرقمية في العالم العربي" بمشاركة نخبة من أساتذة الإعلام وخبراء المهنة. وقد تناولت جلستا المؤتمر في يومه الأول التحديات البنيوية والوظيفية التي تواجه الصحافة العربية؛ الورقية والرقمية، والتي زادتها وطأةً تداعياتُ جائحة كورونا، وحاول المشاركون تقديم بعض الأفكار والرؤى التي يمكن من خلالها مساعدة المؤسسات الصحفية على التعامل مع هذه التحديات والتغلب على تلك الأزمات أو التخفيف منها.

وخلصت جلستا اليوم الأول من المؤتمر إلى أنَّ الأزمات التي تعانيها الصحافة العربية في الوقت الراهن هي نتاج تراكمات لمشكلات مزمنة ظلت تعاني منها لسنوات طويلة خلت، وأنَّ جائحة كورونا ليست هي السبب الرئيس وإنما قد عملت على التسريع في كشف النقاب عن تلك الأزمات فأصبحت أكثر تعقيدًا.

وأرجع الباحثون الأزمات التي تعانيها الصحافة العربية إلى جملة من الأسباب؛ استحوذ السياسي والاقتصادي منها على النصيب الأوفر.

ففيما يتعلق بالأسباب السياسية، أشار المتحدثون إلى المناخ التسلطي وتضييق هامش الحريات وترسانة القوانين والتشريعات التي تلاحق قضائيًّا المؤسسةَ الصحفية التي لا ترضى السلطة عن خطها التحريري.

أما الشق الاقتصادي فيتمثل في انخفاض مداخيل الصحف، وتراكم الديون، بسبب توقف الدعم الحكومي، واحتكار الدولة لجانب كبير من سوق الإعلانات واستعمالها بمنزلة العصا والجزرة مع الصحف التي ترضى أو لا ترضى عن سياستها التحريرية، فضلًا عن ضعف نسب التوزيع وتوجه أغلب القرَّاء إلى وسائل التواصل الاجتماعي إما للحصول على المعلومة -رغم عدم موثوقيتها- وإما لتمضية وقت فراغ كانوا فيما مضى يقضونه في قراءة الصحف المطبوعة.

وقدَّم المتحدثون في ختام جلستي اليوم الأول جملة من الأفكار والرؤى للتعامل مع تحديات الصحافة الورقية والرقمية، أبرزها: اندماج عديد الصحف في كيان إعلامي واحد، تكون لديه القوة والإمكانات والقدرات على تقديم محتوى أكثر عمقًا يجذب القراء، وأوسع تنوعًا يلبي اهتمامات شرائح واسعة منهم. ومنها تعاون بعض وسائل الإعلام العربية في عمل تحقيق استقصائي حول قضية معينة تهم قطاعات واسعة من القراء، مثلما فعلت بعض الصحف الغربية حينما تعاونت وكشفت عن فساد بعض المسؤولين الحكوميين والمعروفة بـ"أوراق بنما".

أهداف المؤتمر وأسئلته البحثية

سبق الجلسة الأولى للمؤتمر كلمة افتتاحية لمدير مركز الجزيرة للدراسات، الدكتور محمد المختار الخليل، تحدث فيها عن فكرة المؤتمر وأهدافه والمتوقع منه، وأشار في هذا الصدد إلى أن توقيت انعقاد المؤتمر يأتي في لحظة زمنية تشهد فيها الصحافة المطبوعة والإلكترونية، على تفاوت بينهما، تحديات كبيرة، سواء بفعل مواقع التواصل الاجتماعي، أو بسبب قلة الدعم الحكومي، أو على خلفية انخفاض مداخيل الإعلانات.

وقال الخليل: إنَّ المؤمَّل من هذا المؤتمر التوصل إلى إجابات على جملة من الأسئلة تمثل تحديات تواجه الصحافة العربية، سواء من حيث الاستمرارية في أداء دورها التنويري والتوعوي بالنسبة إلى الرأي العام، أو من حيث بقاؤها في حدِّ ذاتها كمؤسسات تخدم المهنة وترعى المنتمين إليها.

وأوضح أن التطور في وسائل التواصل وقنوات الاتصال أوجد أشكالًا وقوالب جديدة في ممارسة مهنة الصحافة، حيث امتزج في الخبر، على سبيل المثال، النص المكتوب مع الصورة مع مقطع الفيديو في وقت واحد؛ ما يستدعي مواكبةً من الصحفيين لهذا التطور على مستويات التكوين والتدريب والممارسة.

وتساءل مدير مركز الجزيرة للدراسات عن طبيعة البيئة الإعلامية الراهنة، وقال: إنَّ ثمَّة أسئلة مطروحة على الباحثين في هذا المؤتمر بشأن هذه البيئة، وما إن كانت حاضنة أم طاردة، جيدة أم رديئة. وهل الوسائل المتاحة أمام الصحافة الورقية والرقمية موجودة وملبية للغرض أم منعدمة وقليلة الأثر. فضلًا عن التحديات التي أوجدتها وسائل التواصل الاجتماعي أمام الصحافة، وما إن كانت قد أضرَّت بصورة الصحفي أمام الرأي العام أم ربما أفادتها.

واختتم الخليل كلمته بالقول: إنَّ المتوقع من هذا المؤتمر خلال يومي انعقاده بلورة رؤى تعين الصحافة العربية على التعامل مع تحدياتها وأزماتها الراهنة. موضحًا أن مخرجات أعمال المؤتمر سوف تُنشر على منصات مركز الجزيرة للدراسات، وكذلك على صفحات مجلة "لباب" التي تُعنى بالدراسات الاستراتيجية والإعلامية.   

تأثيرات أزمة كورونا في الصحافة الورقية والرقمية بنيويًّا ووظيفيًّا

تحت هذا العنوان انعقدت الجلسة الأولى وشارك فيها: نور الدين مفتاح، مدير تحرير صحيفة الأيام، ورئيس لجنة المنشأة الصحافية بالمجلس الوطني للصحافة في المغرب، ونصر الدين لعياضي، أستاذ علوم الإعلام والاتصال في جامعة الجزائر 3، ونواف التميمي، أستاذ الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا، وعزام أبو الحمام، أستاذ الدراسات الإعلامية في الجامعة العربية المفتوحة سابقًا، وأدارها المذيع بقناة الجزيرة مباشر، مصطفى عاشور.

وتركَّز النقاش في هذه الجلسة حول طبيعة الأزمة التي تعانيها الصحافة العربية عمومًا؛ مطبوعة كانت أم رقمية، وسبل التعامل مع تلك الأزمة. واتفقت أغلب آراء المتحدثين على أن أزمة الصحافة العربية لم تكن وليدة الأشهر الثلاثة الأخيرة التي كان عنوانها الأبرز جائحة كورونا، وإنما هي في أساسها أزمة بنيوية متراكمة، يشترك في أسبابها ويُحرِّكُ مسبباتها جملة من العوامل، منها ما هو سياسي، له صلة بتضييق هامش الحريات العامة، والقوانين والتشريعات المقيِّدة للرأي والتعبير، ومنها ما هو اقتصادي متمثل في قلَّة مداخيل المؤسسات الإعلامية بسبب شُحِّ الدعم الداخلي والخارجي، وانخفاض عوائد الإعلانات، وتراجع نسب وأرقام التوزيع. ومنها كذلك ما هو هيكلي ووظيفي، حيث إنَّ أغلب المؤسسات الإعلامية العربية لا تزال تقليدية؛ لم تتهيأ بشكل كامل للولوج إلى النشر الإلكتروني والبث الرقمي، بما يتطلبه ذلك من تغيير في قوالب وأدوات وأشكال هذا النمط من المعرفة والإنتاج.

وقد اختلفت آراء المتحدثين في هذه الجلسة بشأن مستقبل الصحافة الورقية، فالبعض -رغم إقراره بالصعوبات الاقتصادية- توقع استمرارها، وبنى توقعه على أنَّ أزمة كورونا أبانت عن عودة نسب لا بأس بها من القرَّاء إلى وسائل الإعلام التقليدية، وبخاصة الرصينة منها، للبحث عن الخبر المؤكد والمعلومة الموثوقة، ما يشي بإمكانية انتعاش سوق الصحافة الورقية مستقبلًا. في حين رأى البعض الآخر أنَّ سمعة الصحافة الورقية قد تأثرت سلبًا بسبب كورونا، وذلك بعد أن أُشيع أنها يمكن أن تكون وسيلة لنقل العدوى.

واستعرضت الجلسة في هذا الصدد نماذج من معاناة الصحافة الورقية، فتطرَّقت إلى حالها في ثلاثة بلدان عربية كنماذج، هي: المغرب والأردن ولبنان، وكان اللافت أن القاسم المشترك بين هذه الحالات هو التأثير السلبي للعامل الاقتصادي الضاغط على تلك الصحافة، وتشابه تعامل المؤسسات الاقتصادية مع تداعياته، وبخاصة فيما يتعلق بتقليص أعداد الموظفين، والتوقف الكلي أو الجزئي، وطلب الدعم الحكومي. في حين تميزت بعض التجارب، كما هي الحال مثلًا في المغرب، بالسعي نحو تبني نموذج اقتصادي يجعل المؤسسة الواحدة تقوم بعديد المهام التي كانت في السابق موزعة على أكثر من جهة خارجية، من ذلك مثلًا أن تتولى بنفسها الطباعة والتوزيع، وأن يكون لدى الصحيفة محطة إذاعية تصل لشرائح أوسع من الجمهور وتجذب مزيدًا من الإعلانات.

وأشار المتحدثون إلى أن الصحافة الورقية تشهد راهنًا مرحلة انكماش، يحسبها البعض محطة النهاية، في حين يراها البعض الآخر مجرد مرحلة زمنية ستمر وتعقبها مرحلة أخرى ربما تكون أكثر صحة وعافية.

وأوضح المتحدثون أهمية المحتوى وشدَّدوا على ضرورة الاعتناء بتعميقه وتنويعه لتجذب الصحافة عمومًا، سواء كانت ورقية أو رقمية، مزيدًا من القراء. وأشاروا في هذا الصدد إلى العوائق التي تعترض المسعى نحو تعميق المحتوى الصحفي وفي مقدمها البيئة السياسية التي تُضيِّقُ الخناق على الحريات، وتلاحق الصحفيين، وتضغط على المؤسسات الإعلامية التي لا توافق سياستها التحريرية التوجه العام للأنظمة الحاكمة. واستدل الباحثون في أهمية تعميق المحتوى وإمكانية أن يكون أحد مخارج أزمة الصحافة العربية بتجربة صحيفتي لوموند الفرنسية والغارديان البريطانية، وكيف أنهما اهتمَّتا بالنشر الرقمي مع تعميق وتنويع المحتوى فكانت النتيجة أنه في الوقت الذي قلَّت فيه نسبة توزيع النسخ الورقية زادت في المقابل نسب الاشتراك الإلكتروني، ما أدى إلى توسع أعمال هاتين الصحيفتين، وزيادة مداخيلهما.

وطرح المتحدثون في هذه الجلسة فكرة التعاون بين المؤسسات الإعلامية العربية من أجل تقديم محتوى مهم للمجتمع وجدير بالقراءة بالنسبة للأفراد، وضربوا مثلًا على أهمية هذه الفكرة بتجربة بعض وسائل الإعلام الغربية التي اتحدت معًا في كشف فساد بعض المسؤولين الحكوميين حول العالم، والتي ظهرت بعد ذلك فيما عُرف بـ"أوراق بنما". وخلص المتحدثون إلى أنَّ بإمكان بعض المؤسسات الصحفية العربية -رغم الإقرار بالصعوبات الراهنة- القيام بشيء مشابه.

واختتم المشاركون في هذه الجلسة مداخلاتهم بالقول: إنَّ أزمة كورونا تسببت في إغلاق عديد الصحف والمواقع الإلكترونية، لكن ثمَّة صحفًا ومواقع أخرى ستظهر مستقبلًا حينما تزول تداعيات تلك الأزمة تدريجيًّا، وإنَّ ذلك التغيُّر، صعودًا وهبوطًا هو من طبيعة الحياة.

اقتصاديات الصحافة الورقية والرقمية والتعايش والتنافس بينهما: رؤى استراتيجية

ركًّزت هذه الجلسة النقاش بشكل مكثف على العامل الاقتصادي وأثره على الصحافة الورقية والرقمية. وحاول المشاركون فيها، وهم: عادل الباز، رئيس تحرير الأحداث الإلكترونية ومدير تحرير الوسيل الاقتصادية سابقًا، وعماد بشير، أستاذ الإعلام ومدير كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية، ومنال المزاهرة، أستاذة الإعلام ورئيس قسم الصحافة والإعلام في كلية الإعلام بجامعة البترا، ومحمد الراجي، الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، تقديم بعض الأفكار والرؤى التي قد تعين المؤسسات الصحفية على التغلب على التحديات والتعامل مع الأزمات ذات البعد الاقتصادي، وقد أدار الجلسة مصطفى الشيخ، المذيع بقناة الجزيرة مباشر.

ذهب النقاش في بداية الجلسة إلى أنَّ المستقبل للصحافة الرقمية، وأنَّ الاستثمار الأربح هو الذي يُنفق فيها وعليها، وأنَّ العبارة التي تقول: إنَّه ما من وسيلة إعلام جديدة تجبُّ وسيلة قديمة، يبدو أنها لم تعد مؤكدة مع استمرارية تراجع الصحافة الورقية والدعوات المطالبة بمنعها من أجل المحافظة على البيئة.

وتطرَّقت الجلسة إلى طبيعة الصحافة الإلكترونية، فأشار المتحدثون إلى أنه لا يزال في جعبة هذه الصحافة المزيد لتقدمه للقارئ، وأنَّ المؤسسات الصحفية العربية لم تستخدم بعد كل ما هو متوفر من قوالب وأشكال وأدوات باتت من طبيعة النشر الرقمي. فضلًا عن تأخرها في إعادة النظر في الهياكل المؤسساتية، والبنى التقنية اللازمة لسير العمل وفق مقتضيات هذا النمط من الصحافة.

وقدَّم الباحثون في هذه الجلسة خلاصة دراساتٍ أجروها على بعض البلدان، بحثوا فيها مشكلات وتحديات وأزمات الصحافة الورقية والإلكترونية، واتضح من استعراضهم نتائج تلك الدراسات أنَّ ثمة قواسم مشتركة بين هذه البلدان، وأخرى ذات خصوصية نسبية تتفرد بها كل بلد عن الأخرى. من ذلك مثلًا -فيما يتعلق بالعامل المشترك- التأثير السلبي الحاد للبُعد الاقتصادي في الأزمة، واضطرار عديد الصحف ذات النشر الورقي والإلكتروني إلى الإغلاق كليًّا أو جزئيًّا. وأرجع الباحثون ذلك إلى جملة من العوامل من أبرزها، كما سبق القول: شُحُّ الموارد المالية سواء بسبب توقف الدعم الحكومي، أو انخفاض مداخيل الإعلانات، وتراجع نسب المبيعات. ومنها منافسة مواقع التواصل الاجتماعي على الاستحواذ على وقت واهتمام الجمهور.

أما مناحي الاختلاف فتتمثل في ترتيب الوزن النسبي لكل عامل من هذه العوامل: الإعلان، المبيع، الدعم. ففي بعض البلدان، كالمغرب على سبيل المثال، كان الإعلان هو المدخل الأساس لبعض المؤسسات الصحفية رغم تراجع نسب توزيع الصحف الورقية إلى ما يناهز 120 ألف نسخة (في بلد يزيد تعداد سكانه عن 35 مليون نسمة)، في حين كان الدعم في بلدان أخرى، وبخاصة الدعم الحزبي أو الدعم الخارجي، في بلد مثل لبنان، هو العامل الأول بين هذه العوامل الثلاث.

واختتمت الجلسة مداخلاتها باستعراض المحاولات التي اتبعتها بعض وسائل الإعلام العربية والعالمية للتغلب على تحدياتها الاقتصادية، وقد خلص النقاش حول هذه المسألة إلى أنَّ الاندماج والتعاون داخل وحدات الصحيفة الواحدة أو بينها وبين صحف أخرى تعمل في الساحة ربما يكون أحد الحلول المطروحة للتعامل مع الأزمة المالية والاقتصادية التي تواجه الصحافة الورقية والرقمية على السواء.

تأطير (اضغط هنا)

البرنامج (اضغط هنا)

المتحدثون (اضغط هنا)