مسار الحالة العراقية في ظل إدارة أوباما

تعد المسألة العراقية إحدى أهم قضايا الإدارة الأميركية الحالية، والتي تجهد من أجل إيجاد أجوبة عملية لأسئلة في غاية التعقيد والصعوبة، تتمحور أساسا في كيفية إنهاء هذه الحرب وفي الوقت نفسه، أن تكون مخرجات هذه الحلول متسقة مع المصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة.







 

باسل حسين


لعله من نافلة القول أن معظم التحليلات والدراسات التي حاولت استقراء توجهات الإدارة الأمريكية الحالية، بزعامة الرئيس باراك أوباما، قد ركزت على إبراز حجم التهديدات والتحديات التي تواجهها هذه الإدارة، ويمكن وصفها بغير المسبوقة كما ونوعا، إلى درجة دفعت كثير من المحللين إلى تبني الرأي القائل: إن ميراث أو تركة إدارة الرئيس بوش ستطوق الإدارة الحالية لفترة طويلة من الزمن، بمعنى أن الإدارة المنتخبة ستجد نفسها مضطرة للتعامل مع قضايا لم تساهم فعلا في خلقها.


توجهات الإستراتيجية الجديدة
المشهد القائم ومسارات الأزمة والحل
مآلات وسيناريوهات المستقبل


توجهات الإستراتيجية الجديدة


تعد المسألة العراقية إحدى أهم هذه القضايا، وتجهد الإدارة الحالية من أجل إيجاد أجوبة عملية لأسئلة في غاية التعقيد والصعوبة، تتمحور أساسا في كيفية إنهاء هذه الحرب وفي الوقت نفسه، أن تكون مخرجات هذه الحلول متسقة مع المصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة.


الدراسات وأفكار للانسحاب
وإدراكا لهذه الإشكالية كتب "توماس إي واكس" في مجلة السياسة الخارجية عدد مايو /يونيو 2009 "إنه لا توجد حلول جيدة في العراق بل حلول أقل سوءاً".





تبنى كثير من المحللين الرأي القائل: إن ميراث أو تركة إدارة الرئيس بوش ستطوق الإدارة الحالية لفترة طويلة من الزمن، بمعنى أن الإدارة المنتخبة ستجد نفسها مضطرة للتعامل مع قضايا لم تساهم فعلا في خلقها.
ولاشك أن مجموعة من الأسئلة تفرض نفسها بإلحاح: هل يمتلك الرئيس باراك أوباما إستراتيجية واضحة لإنهاء هذه الحرب؟ وهل العراق هو موضع اهتمامه باعتباره مأزقا يجب الخروج منه كما كان يروج إعلاميا، أم أنه أصبح نقطة انطلاق اتجاه أهداف أوسع تطال عموم المنطقة؟، وهل من دلائل تشير إلى ذلك؟ وما هي البدائل المطروحة؟ وهل أن أوباما كان جادا في قضية الانسحاب؟ وما هي الوعود التي أطلقها قبل انتخابه وما تم تنفيذه منها فعلا.

وقد سارعت مراكز الأبحاث الأمريكية إلى تقديم رؤى ودراسات إلى مراكز صنع القرار في الإدارة الحالية، لعل من أهمها ،المشروع البحثي الواسع الذي قام به كل من مجلس العلاقات الخارجية ومركز سابان لسياسة الشرق الأوسط التابع لمؤسسة بروكينغز، وشارك فيه عدد من الخبراء والمختصين، لصياغة إستراتيجية جديدة لمنطق الشرق الأوسط، عالجت من بينها المسألة العراقية.


وقد خرجت توصياتهم وأبحاثهم في كتاب جديد حمل عنوان "استعادة التوازن: إستراتيجية شرق أوسطية للرئيس المقبل"، عن مؤسسة بروكينغز. وقد كانت خلاصة هذا المشروع والكتاب محور مقال لكل من ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، ومارتين إنديك مدير مركز سابان، بمجلة الشئون الخارجية التابعة لمجلس العلاقات الخارجية، في عدد يناير/ فبراير 2009 بعنوان "بعيدًا عن العراق: إستراتيجية أمريكية جديدة في الشرق الأوسط".


وقد أوصت الدراسة بالعمل على خفض تدريجي في العراق، والتحول من إطار الدور القتالي إلى دور الإشراف والتدريب، مع السعي بشكل متزايد لنقل المسؤولية إلى القوات العراقية، والأخذ بنظر الاعتبار أن يتم التخفيض بعناية وتروي كي لا يقوض التقدم الذي أحرز مؤخرا، لأن أي خفض سريع بحسب الدراسة يمكن أن يهدد الاستقرار وأن يهيئ الفرص لإيران والقاعدة، في حين أن الخفض البطيء سوف يجعل القوات الأمريكية متورطة أكثر في العراق وغير مؤهلة للقيام بمهام أخرى، فضلا عن التصدي المستمر لمحاولات عودة القاعدة إلى العراق.


كما ينبغي للرئيس أوباما أن يوضح لقادة العراق أن نقل المسؤولية سوف يقع على أكتافهم مثلما يبين للشعب الأميركي أن مشاركة بلادهم في "الحرب على العراق" تقترب من نهايتها.


ورأت الدراسة أن الأولويات السياسية ينبغي أن تسير في اتجاه ضمان تحقيق المصالحة بين الطوائف والتقاسم العادل لعائدات النفط، والعمل دبلوماسيا على إقناع الدول العربية بالتعامل مع بغداد التي يقودها "الشيعة".


أما الدراسة الأخرى والتي استمد منها الرئيس أوباما مصطلح الانسحاب المسؤول، هي الدراسة المعنونة (الخطوات الضرورية لانسحاب مسؤول من العراق). وقد أشرف عليها مركز وذرهيد للشؤون الدولية في جامعة هارفرد واشتركت فيه عدد مراكز بحثية مهمة، وبينت الدراسة مقدار تكاليف الحرب على الصعد كافة، فعلى سبيل المثال أكدت الدراسة ما ذهب إليه جوزيف ستيغلتز الحائز على جائزة نوبل بالاقتصاد إلى أن كلفة الحرب بالنسبة إلى دافعي الضرائب الأميركيين قد تصل إلى ثلاثة تريليونات دولار أميركي.


وقد طلب من 14 خبيرا الإجابة عن سؤال افتراضي أو موقف تال: (لقد أعلن الرئيس أن انسحابا عسكريا كاملا من العراق سوف يجري خلال الـ12 -18 شهر القادمة. فما هي الخطوات السياسية الملموسة التي يمكن أن تتخذها الحكومة الأمريكية فورا وأثناء الانسحاب لتشجيع السلام والاستقرار في العراق؟)


وأجمع المشاركون في تحليلهم المدروس على رغم تنوعهم بأن وجود القوات الأمريكية في العراق هو عامل مهم في إثارة الصراع والعنف ( بالرغم من إنه ليس العامل الوحيد)، وإن الانسحاب الكامل ليس مرغوبا فحسب، بل هو جوهري لتحقيق تقدم دائم.


وكان هناك شعور بالإذلال، فمصداقية الولايات المتحدة قد قوضتها الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها إدارة بوش، كما ستضمحل قدرة الولايات المتحدة على التأثير في ما يجري في العراق عندما تنسحب القوات الأمريكية. بيد أن الانسحاب سيفتح الباب أمام احتمالات غير موجودة في الوقت الحاضر، ولن تتحقق طالما بقيت الولايات المتحدة في العراق.





ينبغي للرئيس أوباما أن يوضح لقادة العراق أن نقل المسؤولية سوف يقع على أكتافهم مثلما يبين للشعب الأميركي أن مشاركة بلادهم في "الحرب على العراق" تقترب من نهايتها.
وفي النهاية توصلت الدراسة إلى سلسلة من التوصيات أطلق عليها وصف "المبادرات" تلخصت في ضرورة انتهاج حل دبلوماسي وسياسي للصراع المدني وتفادي التوترات الإقليمية، ودعت إلى إشراك الأطراف الإقليمية في تعزيز الاستقرار في العراق بما فيها إيران وسوريا، كما أن مغادرة القوات الأمريكية لا تعني، وينبغي أن لا تعني، تخلي الولايات المتحدة عن مسؤوليتها تجاه العراق، إذ أن هناك تدابير كثيرة يمكن للولايات المتحدة اتخاذها في سياق الانسحاب من أجل مضاعفة فرص التقدم إلى حدودها القصوى.

كما تضمنت المبادرات فكرة إنشاء دعم دولي يسمح لإنشاء "مدونة سلوك" تحدد علاقة الأطراف الخارجية مع العراق بما يضمن استقراره ويؤمن عدم التدخل في شؤونه الداخلية ويقوي من فرص المصالحة الوطنية.


أفكار من الانتخابات
وحاول الرئيس أوباما أثناء حملته الانتخابية طرح عدة أفكار رئيسة فيما يتعلق بالعراق، وقد بينها ما هو على موقعه الرسمي، مستندا -حسب قوله- على سلسلة دراسات.


وقد وتضمنت هذه الخطة والتي أطلق عليها "خطة أوباما – بايدن" لإنهاء الحرب على العراق ما يلي:



  1. إنهاء الحرب في العراق لنتمكن من إعادة تجديد القوة العسكرية الأمريكية وتخصيص مزيد من الموارد لمقاتلة طالبان والقاعدة في أفغانستان، والاستثمار في اقتصادنا في وطننا. وستساعدنا تلك الخطة على النجاح في العراق بنقل السيطرة للعراقيين على بلدهم.


  2. دعت الخطة إلى الثقة بأوباما وذكرت بمواقفه عام 2002، ووصفتها بالحكمة والشجاعة حينما عبر جهاراً عن رأيه المعارض للذهاب إلى الحرب والتحذير من احتلال مجهول المدة والتكاليف والعواقب. وكررت التزام أوباما وبايدن بإنهاء الحرب في العراق.


  3. طرح أوباما فرضية الانسحاب المسؤول حينما أشار إلى أنه علينا الخروج من العراق مثلما كنا غير مبالين عند دخوله. وأنه سيقوم فور توليه الحكم بإعطاء وزير الدفاع والقادة العسكريين مهمة جديدة في العراق هي: إنهاء الحرب.


  4. سيكون الانسحاب المسؤول حسب هذه الخطة على مراحل: يوجهه قادة عسكريون على الأرض وبالتشاور مع الحكومة العراقية. وقال: إنه أخذ رأي الخبراء العسكريين الذين أكدوا له أن بإمكاننا إعادة نشر ألويتنا المقاتلة بأمان من العراق بمعدل 1-2 لواء في الشهر – مما يعني انسحابها جميعاً خلال 16 شهر. وسيكون هذا في صيف 2010 – بعد أكثر من 7 سنوات من بداية الحرب.





  5. تبدو خطوات أوباما في العراق وكأنها تنزع نحو إيجاد حل توفيقي بين الوعود التي أطلقها بالانسحاب، وما بين وقائع الأرض الفعلية من ضغوطات القيادة العسكرية، ومتطلبات الاتفاقية العراقية الأمريكية، والمشهد السياسي والأمني المتأزم
    بموجب خطة أوباما – بايدن، ستبقى قوات محدودة في العراق وفي المنطقة للقيام بمهمات "ضد الإرهاب " في العراق وحماية الدبلوماسيين الأمريكيين والمدنيين. لكنه أشار إلى أنه لن يعمل على إنشاء قواعد دائمة في العراق، لكن سيدعم الجهود المنصبة على تدريب ودعم قوات الأمن العراقية، ما دام يتحرك القادة العراقيون نحو تسوية سياسية بعيداً عن الطائفية.


  6. طرحت هذه الخطة فرضية أخرى هي "الاستيعاب السياسي" قائلا: إن على الولايات المتحدة ممارسة الضغط على الحكومة العراقية للعمل نحو استيعاب سياسي حقيقي. فليس هناك حل عسكري للاختلافات السياسية العراقية. وينبغي الضغط على القادة العراقيين لتحمل المسؤولية عن مستقبلهم واستثمار عائدات النفط في إعادة إعمار أنفسهم.


  7. رأى أوباما أن خطته ستؤدي إلى خلق استقرار دائم في العراق. وسيشجع الانسحابُ على مراحل العراقيين على أخذ زمام القيادة في تأمين بلدهم والقيام بتسويات سياسية، بينما سيعمل الانتشار المسؤول الذي تدعو له خطة أوباما–بايدن على توفير مزيدٍ من الوقت للقادة العراقيين لترتيب بيتهم، وضمان إشراك كافة أطياف المجتمع العراقي –داخل الحكومة وخارجها– لصياغة تسوية بخصوص تقاسم عائدات النفط، وتوفير عادل للخدمات والفدرالية ووضع المناطق المتنازع عليها والانتخابات الجديدة ومساعدة النازحين العراقيين وإصلاح قوات الأمن العراقية.


  8. طرحت الخطة مفهوما آخر هو الدبلوماسية المندفعة من خلال بذل جهود مضنية للتوصل إلى اتفاق شامل حول استقرار العراق والمنطقة، وتشمل كافة الدول المجاورة للعراق، بما فيها إيران وسوريا، وهو ما اقترحه تقرير دراسة مجموعة الحزبين للعراق. وسيهدف هذا الاتفاق إلى تأمين الحدود العراقية، ومنع الدول المجاورة من التدخل في الشأن العراقي، ودعم تسوية بين المجموعات الطائفية العراقية، وتوفير دعم مالي لإعادة إعمار وتطوير العراق.


  9. أكدت هذه الخطة بأن على أمريكا التزاما ومسؤولية أخلاقية يتطلبان مواجهة الأزمات الإنسانية العراقية (أكثر من خمسة ملايين لاجئ أو مشرد عراقي داخل وطنه). والسعي لتشكيل مجموعة عمل دولية لمعالجة هذه الأزمة، من أجل تقديم ما لا يقل عن 2 بليون خدمة للاجئين العراقيين في الدول المجاورة، وضمان قدرة العراقيين على إيجاد الملاذ داخل وطنهم. والعمل مع السلطات العراقية والمجتمع الدولي لتحميل المسؤولية لمرتكبي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، وأشارت الخطة إلى احتفاظ الولايات المتحدة بحق التدخل العسكري مع شركائها الدوليين لقمع عنف الإبادة الجماعية داخل العراق.


  10. دعمت هذه الخطة أية اتفاقية توفر لقوات الولايات المتحدة الحماية والحصانة القانونية التي تحتاجها.

وهكذا تبدو خطوات أوباما في العراق وكأنها تنزع نحو إيجاد حل توفيقي بين الوعود التي أطلقها بالانسحاب، وما بين وقائع الأرض الفعلية من ضغوطات القيادة العسكرية، ومتطلبات الاتفاقية العراقية الأمريكية، والمشهد السياسي والأمني المتأزم، ولعل مقولة الانسحاب المسؤول هي حمالة أوجه يستطيع من خلالها المناورة.


الوعد وتكلفته
واتساقا مع ما ذكر أعلاه أعلن الرئيس أوباما خطة انسحاب لـ 18 شهرا ومع التشاور المستمر مع القادة العسكريين لكي يتم المحافظة على ما أسماه المكتسبات التي تم تحقيقها، وأعلن فيها جدولا زمنيا لرفع وسحب القوات المقاتلة.





الدستور العراقي بدلا من أن يكون ملجأً لحل الخلافات بين الجماعات الاجتماعية والسياسية، أصبح محلا للخلاف وساهم في إنتاج وإعادة إنتاج الخلافات وتعميقها، كما أنه لم يقدم شكلا واضحا لفلسفة الدولة ولا لشكلها أو وظيفتها، أو بين المركز وأطرافه
وأكد بشكل واضح لا لبس فيه قائلا: "بحلول 31 من أغسطس/آب 2010 إن مهمتنا القتالية في العراق ستنتهي، وكما قلت منذ زمن: إننا سنحافظ على قوة انتقالية لتقوم بثلاث مهام رئيسية، التدريب، والتجهيز، وتقديم المشورة لقوات الأمن العراقية، طالما أنها قوات غير طائفية، والقيام بعمليات ضد الإرهاب بشكل مستهدف وحماية الجهد العسكري والمدني المستمر في العراق، هذه القوة ستكون على الأرجح من 35 ألف جندي إلى 50 ألف جندي أميركي، وخلال هذه الفترة الانتقالية سنواصل المزيد من عمليات إعادة الانتشار. وبموجب اتفاقية الأمن مع الحكومة العراقية أزمع أن أنقل كل القوات الأميركية وأسحبها من العراق بنهاية عام 2011..إننا نسعى إلى نقل كامل المسؤولية إلى العراقيين.. وبالتعاون يمكن أن نبني علاقة مستمرة تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المتبادلة والعراق يأخذ محله في المجتمع الدولي".

هذا الخطاب يبين حرص أوباما على فك الارتباط مع ثمانية أعوام من السياسة المدفوعة أيديولوجيا، والتي تركت الجيش الأمريكي على حافة الانكسار، ليقنعهم أنه براغماتي لا تسيّره الأفكار الأيديولوجية، وأنه واقعي التفكير حول قدرات بلاده العسكرية وحدودها، وبالتالي فهو حاول أن يؤكد على الانسحاب لكنه في الوقت نفسه لم يلتزم بالفترة التي أعلنها سابقا، ثم إنه ترك فسحة له للتراجع حينما طرح مبدأ التشاور مع القادة العسكريين وإبقاء عدد من الجنود في العراق، هو في الواقع العسكري أكبر من أن يكون مجرد قوة تدريبية، وهذا ما دفع برئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى معارضة ذلك، مقترحة أن تكون حجم القوة المتبقية خمسة عشر أو عشرين ألفا.


ولاشك أن بالون الاختبار الحقيقي سيبرز حينما تبدأ القوات الأمريكية بالانسحاب من المدن حسب الاتفاقية الأمنية، ويعتقد مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبينغو بريجنسكي، أن يسود نوع مما سماه "العنف السياسي" في العراق عقب الانسحاب الأمريكي- وأن العراقيين سينشغلون بترتيب أوضاعهم.


في حين قال بينت رامبريج في مجلة الشؤون الخارجية عدد مارس/أبريل عام 2009 إن "تجارب الانسحاب" من فيتنام إلى العراق قد تشي بتراجع هيبة الولايات المتحدة إلا أنها غالبا ما تضمن المصالح الأمريكية.


المشهد القائم ومسارات الأزمة والحل 


يبدو المشهد العام في العراق مؤلما جدا، فكلفة الحرب اجتماعيا واقتصاديا كانت مهولة حيث قتل مئات الألوف من العراقيين وهنالك مابين 2- 4 مليون لاجئ خارج العراق، فضلا عن عدد مماثل من النازحين داخل العراق الذين هجروا منازلهم بحثا عن الأمان نتيجة العنف الطائفي والعرقي، والبنى التحتية شبه مهدمة وينخر الفسادُ أجهزةَ البلد، والأمن هش ويعاني من خروقات عدة، والتشظي السياسي في أعلى درجاته منذ أن تم إقرار صيغة التقاسم الطائفي والعرقي للحصص.


كما أن الدستور العراقي بدلا من أن يكون ملجأً لحل الخلافات بين الجماعات الاجتماعية والسياسية، أصبح محلا للخلاف وساهم في إنتاج وإعادة إنتاج الخلافات وتعميقها، كما أنه لم يقدم شكلا واضحا لفلسفة الدولة ولا لشكلها أو وظيفتها، أو بين المركز وأطرافه. وهيمنة أحزاب وقوى همها الأساس هو الاستئثار والاستحواذ بدلا من البناء وتعزيز المشاركة.


بيد أن الصورة ليست قاتمة السواد دائما، فقد استطاع المجتمع العراقي أن يجبر النخب السياسية والقوى الطائفية، إلى لبس الثوب الوطني وأضحى الخطاب الوطني هو الخطاب السائد بعد أن رأى هؤلاء أن اتجاه غالبية الرأي العام العراقي يميل إلى كفة الثوابت الوطنية.


المسألة الكردية وأميركا
إلا أن المشهد الأكثر إقلاقا في الواقع العراقي هو العلاقة ما بين العرب والأكراد، وهي علاقة قابلة للتأزم وربما للصراع مستقبلا إن لم يتم التوصل إلى تفاهمات بعيدة كل البعد عن لغة الغنيمة، ويتهم العرب الأكراد بأنهم حصلوا على كل شيء مقابل لا شيء.



  • فمن ناحية شكل الدولة: أقر الدستور مفهوم الدولة الاتحادية بناءً على إصرار الأكراد، وهوية الدولة "العربية" لم تعد كافية لتعريف الدولة العراقية، وقد نصت المادة (3) من الدستور: "العراق بلدٌ متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضوٌ مؤسسٌ وفعال في جامعة الدول العربية وملتزمٌ بميثاقها، وجزءٌ من العالم الإسلامي".
  • أما من حيث المشاركة السياسية فان الأكراد قد هيمنوا على منصب رئيس الجمهورية ومنصب وزير الخارجية فضلا عن مناصب أخرى ذات أهمية كبرى في المركز.
  • ومن حيث توزيع الثروات فإن حصة كردستان بلغت 17% وهي حصة يقول من ينتقدها أكثر بكثير من استحقاقها الفعلي ( قدرتها بعض الدراسات 13%).
  • وجغرافيا امتد التغلغل الكردي نحو مسافة 300 ميل أو كثر خارج "إقليم" كردستان من أجل فرض سياسة الأمر الواقع.
  • كما يتهم الأكراد بأنهم عملوا، وخلال الست سنوات الماضية، على الاستفادة القصوى من تناقضات الصراع الطائفي، بل شاركوا بصورة مباشرة وغير مباشرة في تأليب الصراع والخلاف السني الشيعي لأنه كان يخدم بالنتيجة الكرد. وأن الأكراد يتعاملون مع الدستور وفق مفهوم المكاسب الضيقة بعيدا عن المصلحة الوطنية.




المشهد الأكثر إقلاقا في الواقع العراقي هو العلاقة ما بين العرب والأكراد، وهي علاقة قابلة للتأزم وربما للصراع مستقبلا إن لم يتم التوصل إلى تفاهمات بعيدة كل البعد عن لغة الغنيمة، ويتهم العرب الأكراد بأنهم حصلوا على كل شيء مقابل لا شيء.
أما الجانب الكردي فيرى أن ما حصل عليه هو في الواقع أقل من استحقاقاته، وأن هناك نكوصاً من قبل الولايات المتحدة وقوى سياسية عراقية في العملية السياسية تجاه مطالبات الأكراد لاسيما في كركوك.

أما موقف الإدارة الأمريكية من أكراد العراق، فهي غالبا ما اعتبرت التحالف معهم تحالفا تكتيكيا وليس إستراتيجيا، وقد ضحت بهم في أكثر من مناسبة، وليس من المتوقع الخروج عن هذا المفهوم لأن القضية الكردية لها تشعبات وامتدادات إقليمية سواء مع تركيا الحليفة الإستراتيجية الرافضة لأي نزوع استقلالي كردي عراقي وتعده خطا أحمر لا يمكن القبول به أو حتى مناقشته، وكذلك إيران وسوريا اللتان ستكونان في بال المفاوض الأمريكي في رسم أية علاقة مع الأكراد، وطالما أن هناك سعيا لتحسين العلاقة مع الدولتين فإن ذلك سيشكل ضغطا على موقف الأكراد التفاوضي في الاتجاه السلبي، وسوف تعتمد القيادة الكردية على اللوبي الكردي الموجود في مراكز صنع القرار الأمريكي وعلى "إسرائيل الحليفة التقليدية للقيادة الكردية".


وقد أبدت القيادة الكردية انزعاجها وخيبة أملها عما بدر من الإدارة الحالية من إشارات واعتبرتها غير مشجعة، منها تجاهل الاتصال مع القيادات الكردية وعدم زيارة أوباما أو هيلاري كلينتون لكردستان فضلا عن مواقف أخرى فسرتها القيادة الكردية بأنها انعطاف في السياسة الأمريكية بما لا يخدم قضاياها.


المعادلة الإقليمية والجوار العراقي
ومما يزيد المشهد العراقي تعقيدا المعادلة الإقليمية ونظرة دول الجوار إلى العراق بشكله الحالي، حيث عملت كل من سوريا وإيران، من منطلق الشعور بالتهديد، على إغراق العراق في فوضى عارمة، هدفها الأساس إغراق الاحتلال في تداعياتها، وساعدها على ذلك أخطاء المحتل وغباء النخبة السياسية التي حكمت العراق بعد عام 2003.


ويبدو الموقف الإيراني ملتبسا: فهي من جهة رحبت بالتغيير الذي حصل بالعراق، لأنها وحسب مفهومها قد تخلصت من عبء نظام عدو لها وبأيادي غيرها، وشكلت فرصة مناسبة للهيمنة الإقليمية والتمدد والنفوذ، لكنها من جهة أخرى أرادت أن تجعل من الوجود الأمريكي في العراق مكلفا وباهظ الثمن، كي لا تنتقل عدواه إليها، وكي لا تكون مخرجات التغيير مناوئة لمصالحها.


ولاشك أن العلاقات الإيرانية الأمريكية ستبقى عاملا أساسيا في تحديد الوضع في العراق مع استمرار الانقسام داخل الجسد العراقي، ولعل تعيين كريستوفر هيل رئيس فريق التفاوض مع كوريا الشمالية في الملف النووي سفيرا للولايات المتحدة في العراق مقدمة لعقد صفقة لتقاسم النفوذ في المنطقة وداخل العراق مقابل تخلي إيران عن ملفها النووي.


أما دول الجوار الأخرى فاتخذت موقف التكيف السلبي عن طريق حماية حدودها من مفاعيل هذه الفوضى، والانتظار لما ستؤول إليه الأمور، وعدم التعامل مع الحكومة الحالية إلا بمقدار محدد تحكمه اعتبارات مصلحية ثنائية، لاسيما أن النظرة إلى العراق حكمته وما زالت معادلة حكْمٍ تُقرأ غالبا بأنها تميل باتجاه إيران.


وقد كشفت الخلافات العراقية الكويتية حول مسالة التعويضات، والخلاف السعودي العراقي الناتج عن عدم اقتناع السعودية بالتعامل مع حكومة المالكي، أن ثمة طريقا طويلا لعودة العلاقات بصورة طبيعية، أو ربما لن تكون أبدا. ويبدو أن زيارة الرئيس أوباما للرياض ستناقش هذه القضية، وسوف يحاول أوباما إقناع القيادة السعودية بتليين موقفها تجاه حكومة المالكي.


ورغم أن دول الجوار العراقي سعت إلى تقريب وجهات نظرها وتوحيد مواقفها حيال الغزو الأمريكي وبما يمنع انتقال عدواه وتداعياته إلى حدودها وذلك عبر تبني بعض المواقف السياسية الموحدة واستضافة اجتماعات مشتركة لتنسيق التصورات حول الحالة العراقية، سواء على مستوى وزراء الخارجية أو وزراء الداخلية، إلا أن تلك الاجتماعات أثبتت أن التحرك الإقليمي لم يكن يمتلك الأجندة الواضحة لطرح حلول توافقية تسجل حضورا مشتركا لدول الجوار في الساحة العراقية، وظلت تلك الاجتماعات تعبر في أغلبها عن مخاوف منفردة لهذه الدولة أو تلك، أو لتبرر في بعض الأحيان سياسات الاحتلال.


مآلات وسيناريوهات المستقبل 


وفي ضوء كل ذلك فإن هنالك أكثر من سيناريو مطروح حول مستقبل الأحداث في العراق:


السيناريو الأول
حدوث انقلاب عسكري ترعاه الولايات المتحدة مع يأسها من المشهد السياسي، وهذا أمر متوقع إلى حد ما، لا سيما إذا ما نظرنا إلى التجارب التاريخية، إذ شهدت معظم دول الجنوب (العالم الثالث) والتي خرجت من الاحتلال قيام انقلابات عسكرية. ومع تضخم المؤسسة العسكرية والأمنية (1.5) مليون عنصر، فإن الانقلاب العسكري في العراق أمر وارد جدا، وربما سوف يكون مدعوما من قبل بعض دول جوار العراق.


السيناريو الثاني



المقارنة ما بين الإدارة الأمريكية القديمة والحالية لا ينبغي أن تتم على قاعدة أيهما الأفضل، بل إن منطق الأمور يقول إن المقارنة يجب أن تكون على قاعدة أيهما الأقل سوءاً.
بروز مشروع وطني عراقي عابر للعراق أو الطائفة، يعيد للعراق لحمته ووحدته، لا سيما وأن بذور الوحدة الوطنية مترسخة في طبيعة المجتمع العراقي، وأثبت العراق أنه عصي على التقسيم على الرغم ما مر به حتى الآن.

السيناريو الثالث
ظهور تحول في شكل الصراع فبدلا من أن يكون صراعا طائفيا( سنيا –شيعيا) يتحول إلى صراع قومي (عربي –كردي)، لنصل في النهاية: إما إلى دولة كونفدرالية عربية كردية، أو قبول الأكراد بإقليم خاضع للمركز بصورة مطلقة، أو الوصول إلى تفاهم متوازن.


السيناريو الرابع
اقتناع الممسكين بالسلطة بضرورة توسيع المشاركة السياسية وتحديث الدستور بما ينسجم وضرورات الدولة العصرية، وتغليب روح الوطن والمواطنة في التشريعات والسلوك التنفيذي وعدم التعامل مع الظروف الاستثنائية وكأنها مكتسبات أو غنائم، وهذا يتطلب إيثارا تبدو النخب السياسية غير مستعدة لأن تأخذ به حتى الآن.


السيناريو الخامس
بقاء الأمر كما هو عليه من انقسامات وتقاسم للسلطة وفقا لتقاسم الحصص على أساس طائفي وعرقي، وما يشكله ذلك من صراع على النفوذ والسلطة والجغرافية وفقا للهويات الضيقة، ويمهد لدخول هذا البلد في أتون صراعات لها أول وليس لها آخر.


السيناريو السادس
انهيار الدولة العراقية وانقسامها إلى دويلات وإقطاعيات طائفية وعرقية ومناطقية وعشائرية.


لكن تبقى تلك السيناريوهات خاضعة لاعتبارات ثلاثة:



  • أولا: ما يراد من العراق وظيفيا في الإستراتيجية الأمريكية، والى أي مدى ترغب الولايات المتحدة في الانغماس في الشأن العراقي سواء في تعزيز الاستقرار أم خلق الفوضى.
  • ثانيا: مدى اقتناع دول جوار العراق بالتغيير الذي حصل والتعامل معه وقبوله، أو محاولة صناعة التغيير أو التقليل من مفاعيله.
  • ثالثا: يتوقف على العراقيين أنفسهم، ومدى قدرتهم على بناء عهد داخلي وطني يستوعب الجميع وقادر على تسوية الخلافات بما يسمح لقيام دولة عصرية، الحكم فيها للمؤسسات لا للأشخاص أو الاعتبارات القومية أو الطائفية أو الفئوية أو الجهوية. وإن الفشل في ذلك يعني مرور العراق بمرحلة أخرى ستشهد مزيدا من الألم والفرقة والتشظي.

إذن ما العمل؟ والجواب هو في الآتي:



  1. لا بديل عن عهد عراقي وطني تشترك في جميع القوى بعيدا عن مفهوم الإقصاء والتهميش، وكلما تم الإسراع في تحقيقه كلما اختصرت مساحة واسعة من الكلف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
  2. ينبغي إصدار قانون يتم فيه تجريم الطائفية والعنصرية ومن يدعوا لها.
  3. إن الرئيس أوباما ينظر إلى دورته الرئاسية هذه على أنها أشبه بحملة انتخابية للدورة الثانية، لذا فإنه سيكون حذرا إلى حد ما في إجراء تغييرات جوهرية ربما ستنعكس على فرصه في الترشيح. وبالتالي ينبغي أخذ ذلك على محمل الجد في التعامل مع الإدارة الحالية.
  4. وأخيرا فإن المقارنة ما بين الإدارة الأمريكية القديمة والحالية لا ينبغي أن تتم على قاعدة أيهما الأفضل، بل إن منطق الأمور يقول إن المقارنة يجب أن تكون على قاعدة أيهما الأقل سوءاً.

_______________
المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية

نبذة عن الكاتب