حكومة العبادي: ترميم البيت الداخلي وتوسيع الشراكة الخارجية

تحتاج الحكومة العراقية الجديدة للتغلب على خطر الدولة الإسلامية إلى ترميمم البيت الداخلي وتوسيع الشراكة الخارجية، لكن رئيسها حيدر العبادي يفتقد إلى القاعدة السياسية الموثوقة التي تساعده على تحقيق ذلك.
20149177102511734_20.jpg
العبادي: صعوبة الموازنة بين القدرات والمهمات (أسوشييتد برس)
ملخص
وُلدت الحكومة العراقية الجديدة من رحم التطورات السياسية والأمنية التي شهدها العراق بعد نجاح تنظيم الدولة الإسلامية بالسيطرة على مدينة الموصل وأجزاء واسعة من محافظات الأغلبية العربية-السنية في العراق. برهن ذلك الحدث مجددًا على فشل السياسات التي اتبعها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، بينما أدركت الولايات المتحدة أن "نسيان العراق" لم يعد خيارًا. ستواجه الحكومة العراقية الجديدة تحديًا صعبًا يجعلها تتحرك في اتجاهين في نفس الوقت، الأول: تأمين جبهة داخلية ودولية داعمة في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، والثاني: الشروع بعملية إصلاح لبنية وآليات عمل النظام السياسي في العراق، وهو ما يعني تفاوضًا شاقًا، وسط تنازع الإرادات والمصالح.

مقدمة

وُلدت الحكومة العراقية الجديدة من رحم التطورات السياسية والأمنية التي شهدها العراق بعد نجاح تنظيم الدولة الإسلامية بالسيطرة على مدينة الموصل وأجزاء واسعة من القسم العربي-السني من العراق؛ فقبل اجتياح التنظيم للموصل في 9 يونيو/حزيران 2014، كانت الطبقة السياسية العراقية تسير بإيقاع شديد البطء يوحي بمفاوضات طويلة تستغرق أشهرًا، وكان رئيس الوزراء آنذاك، نوري المالكي، يرسل الإشارات تباعًا بأنه باقٍ في السلطة وأنه سينجح في إقناع بقية الأطراف بقبول التجديد له لدورة ثالثة، وكانت الولايات المتحدة أقل اهتمامًا بالشأن العراقي وتفضّل النظر إلى العراق وكأنه "شئ من الماضي".

لقد فرض التحول الداخلي والإقليمي-الدولي الذي خلقه تمدد تنظيم الدولة الإسلامية عبر حدود العراق وسوريا، وإعلانه لدولة "الخلافة"، وضعًا جديدًا كانت الحكومة العراقية الجديدة إحدى نتائجه. برهن ذلك الحدث مجددًا على فشل السياسات التي اتبعها المالكي، الذي شيّد إرثه السياسي على مقولة إنه أنهى الحرب الطائفية التي شهدها العراق عامي 2006-2007، فإذا به يواجه أزمة أكثر عمقًا لا تهدد فقط بحرب طائفية جديدة، بل وتقسيم البلاد أيضًا. أصبحت الولايات المتحدة على قناعة بأن "نسيان العراق" لم يعد خيارًا، بينما استنتجت إيران أنها لا تستطيع أن تنفرد بتحديد الخيارات السياسية الكبرى للعراق، وأن عليها قبول شراكة الآخرين، ليس فقط لتحمي حلفاءها في العراق، بل وأيضًا لتحمي حدودها من خطر آخذ بالاقتراب.

بينما كان المالكي يرفض فكرة تحميله المسؤولية عما آلت إليه الأمور، ويقاوم رغبة خصومه باستبدال غيره به، فرض الحراك الدولي الجديد، وتحديدًا الموقف الأميركي، شروطًا جديدة ما كان بإمكان المالكي أن يقاومها حتى لو رغب في ذلك. ومع الموقف الذي عبّرت عنه رسالة المرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، إلى حزب الدعوة الذي يقوده المالكي (1)، بضرورة السعي لاختيار شخصية "جديدة ومقبولة" لقيادة الحكومة، وتخلي إيران عن دعمها السابق لبقاء المالكي في منصبه، أفرز الواقع الجديد توازنات مختلفة سمحت لقادة حزب الدعوة بإعلان "انشقاقهم" عن المالكي، وهو ما مثّل الخطوة الأولى باتجاه إنهاء آماله بالبقاء في منصبه.

المقاربة الأميركية الجديدة

تقوم المقاربة الأميركية لعراق ما بعد 9 يونيو/حزيران 2014 على أن أي جهد عسكري لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية ينبغي أن يقترن بترتيبات سياسية جديدة تستند إلى وجود حكومة تحظى بقبول واسع داخليًا وإقليميًا، وعلى أن تتولى هذه الحكومة توحيد الجهد السياسي والعسكري ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وإطلاق مجموعة من الإصلاحات الجذرية في بنية وآليات عمل النظام السياسي العراقي، من أجل إكسابه مزيدًا من الشرعية ومعالجة تناقضاته القائمة. ويفترض في تلك الإصلاحات أن تحقق ثلاثة أهداف:

  • الأول: وضع حد لما يعتبره الكرد والسنة وعدة قوى شيعية (كالمجلس الإسلامي الأعلى والتيار الصدري) نهجًا انفراديًا وإقصائيًا في إدارة الدولة اتّبعه المالكي، خصوصًا في السنوات الأخيرة، والعودة من جديد لشكل من سياسات "الإجماع والتوافق"، باعتبارها ضرورة لعزل تنظيم الدولة الإسلامية والتفاوض حول مستقبل البلاد.
  • الثاني: اعتماد حزمة من القوانين والسياسات والإجراءات التي تستهدف تطمين السكان العرب السنّة وتضع حدًا لمشاعر السخط السائدة بينهم تجاه الوضع السياسي العراقي بعد العام 2003، ومن ضمن ذلك السياسات التمييزية التي اعتمدتها الحكومات السابقة، باعتبار أن تلك المشاعر هي التي سمحت بتنامي قوة تنظيم الدولة الإسلامية و"التسامح الشعبي" تجاه تمدده وسيطرته على مدن رئيسية. 
  • الثالث: وضع حلول جدية للخلافات بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل، خصوصًا بشأن السياسات النفطية والحصص المالية للإقليم من الميزانية الاتحادية، وقضية المناطق المتنازع عليها التي تضم نسيجًا سكانيًا متنوعًا إثنيًا. مثل هذه الحلول تُستخدم في تعزيز التعاون بين بغداد وأربيل من أجل تطويق ومواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.

إعادة صياغة التوازنات الشيعية

وبرغم إدراك الطبقة السياسية العراقية ضرورة معالجة الاختلالات القائمة والسعي لإصلاحات عميقة في النظام السياسي، إلا أنها لا تتحرك بالضرورة وفق رؤية منهجية واضحة، كما لا تتفق حول الأولويات. فمثلاً، لم يكن الانشقاق الذي قامت به قيادات حزب الدعوة، والذي مهّد للإطاحة بالمالكي، مرتبطًا بوجود رؤية إصلاحية متكاملة لدى الحزب بقدر ماكان يتعلق بأزمته الخاصة؛ فالحزب أدرك حجم الضغوط الناتجة عن الموقف الأميركي الرافض لبقاء المالكي في موقعه، وموقف المرجع السيستاني المُطالِب بشخصية بديلة، فخشي من فقدان منصب رئاسة الوزراء. كما أن قادة الدعوة كانوا عبّروًا -ولو همسًا- عن ضيقهم من السياسة المتفردة للمالكي وتقريبه لأشخاص من خارج الدائرة الحزبية والكثير من أقاربه، فوجدوا الفرصة ملائمة للاحتفاظ بمنصب رئاسة الوزراء مقابل التضحية بالمالكي.

وبالنسبة للقوى الشيعية الأخرى، فإن التخلص من هيمنة المالكي على "السياسات الشيعية" بات ضرورة لبقائها على المسرح السياسي، ولا يقتصر ذلك على القوى الحزبية المنافسة للدعوة، بل ويشمل حتى المرجعية الشيعية التي عبّر تصادمها مع المالكي عن شعورها بالخطر من تنامي قوته وسيطرته على مقاليد السلطة، بل وسعيه إلى استبدال مرجعية النجف التقليدية بأخرى جديدة -موالية لإيران- ومتوائمة مع خياراته السياسية.

وهكذا، فإن الحكومة الجديدة تستند إلى توازنات شيعية مختلفة، لكنها توازنات انتقالية وسيستغرق الأمر بعض الوقت قبل تبلور خريطة شيعية مغايرة عن تلك التي أفرزتها نتائج الانتخابات؛ فبالرغم من أن ائتلاف دولة القانون، الذي يتزعمه المالكي والذي برز بعد الانتخابات العامة الأخيرة في إبريل/نيسان الماضي (2014) كأكبر كتلة سياسية عراقية (92 مقعدًا برلمانيًا من مجموع 328)، يحاول الحفاظ على شكل من أشكال الوحدة، فإنه عمليًا آخذ بالتفكك إلى وحدات أصغر نتيجة التنافسات الداخلية التي أفرزتها مرحلة المالكي، ونتيجة للتوافقات الجديدة في تشكيل حكومة حيدر العبادي، التي أغضبت منذ يومها الأول كتلتين رئيسيتين من كتل ائتلاف دولة القانون، وهما: كتلة "مستقلون" بزعامة نائب رئيس الوزراء السابق حسين الشهرستاني، وكتلة "بدر" بزعامة هادي العامري.

ويبدو أن التشكيلة الجديدة قد خدمت إلى حد كبير المجلس الإسلامي الأعلى الذي حصل على وزارة النفط، أحد أهم الوزارات السيادية، ووزارة النقل والمواصلات وهي من الوزارات المهمة؛ بينما حصل التيار الصدري على منصب نائب رئيس الوزراء ومناصب خدمية. وبشكل عام، يمكن القول: إن التوازنات الشيعية المستقبلية تتعلق إلى حد كبير بالمصير الذي سيؤول إليه ائتلاف دولة القانون، بعد انسحاب المالكي إلى منصب اعتباري بلا صلاحيات مهمة (نائب رئيس الجمهورية)، وإدراك العبادي الحاجة لاعتماد نهج مختلف ونوع من القطيعة -وإن الجزئية- مع إرث المالكي. لكن ما هو واضح أن الساحة السياسية العراقية تتجه إلى مرحلة من تعددية الأقطاب السياسية الشيعية، وإلى عودة دور مرجعية النجف التوجيهي والمتكئ على تفاهم مع إيران حول سبل حماية "المصالح الشيعية". وسيفرض الظرف الراهن سقفًا على حدود التنافس داخل التحالف الشيعي، الذي سيكون عليه الدخول -بقدر أكبر من الوحدة- في المفاوضات مع الطرفين: الكردي والسني لتقرير المسارات المستقبلية للعملية السياسية.

المشكلة "السنية"

في المقابل، يبدو أن القوى السنية التي دخل جميعها في تحالف اسمه "اتحاد القوى الوطنية"، تواجه تحديًا مزدوجًا، الأول: هو انتزاع مقعد أوسع في المفاوضات المستقبلية من أجل إجراء تعديلات في النظام السياسي، الذي تمت صياغة قواعده إلى حد كبير عبر التسويات بين القوى الكردية والشيعية، في وقت غاب عنه الصوت السني، الذي خضع حينذاك لهيمنة القوى الرافضة للعملية السياسية بشكل مطلق. أما التحدي الثاني، فيتمثل في حاجة هذه القوى للبرهنة على أنها تمتلك تأثيرًا حقيقيًا في المجتمع السني وقادرة على تحديد خياراته؛ وفي نفس الوقت إقناع غالبية السنة بأنها ممثلة أصيلة لهم.

لقد أدت سياسات المالكي، ومحاولته التخلص من السياسيين السنّة الأكثر تأثيرًا، إلى ابتداع تمثيل سني مطواع لإرادته، وصعود بعض الشخصيات والقوى السنية التي استفادت من العلاقات الزبائنية مع الحكومة العراقية لتخلق قاعدة دعم محدودة لها. كما أدّت مشاعر السخط السني تجاه تلك السياسات إلى دفع الكثير من الشخصيات السنية إلى الانزواء أو عدم لعب دور سياسي. ولم تسمح الظروف الأمنية في العديد من المناطق السنية ببلورة مناخ ملائم للعمل السياسي؛ مما أنتج نخبة سياسية سنية لا تستطيع ادعاء التمثيل الكامل لإرادة المناطق التي انتُخبت فيها. وجاءت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على الكثير من المناطق السنية لتضعف صلة القادة السنة بمجتمعاتهم المحلية، ولتؤشر إلى صعود جيل جديد من المقاتلين والمتمردين الذين يضعون شرعية النخب التقليدية في موضع التساؤل.

وبالنتيجة، يبدو أن هناك ادراكًا متزايدًا لضرورة البحث عن قوى محلية سنية أخرى لتعزيز جهد مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. وفي الوقت الذي سيكون على تلك القوى الممثلة في البرلمان والحكومة السعي لشرعنة قدرتها التمثيلية، فإن التحالف الدولي الذي أعلنت الولايات المتحدة عن إنشائه لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية سيتجه غالبًا إلى توسيع اتصالاته مع بعض القوى المحلية الموجودة على الأرض، وبعض الجماعات المسلحة التي يراد لها المشاركة في الجهد العسكري. وسيكون على الحكومة العراقية أن تعمل كمظلة لبعض الترتيبات الجديدة على هذا الصعيد، ومن بين ذلك تشكيل ما يُعرف بـ"الحرس الوطني"، وهي وحدات من السكان المحليين مهمتها مقاتلة تنظيم الدولة الإسلامية، تكون بديلاً لتشكيلات الصحوات التي فقدت الكثير من تأثيرها في العامين الأخيرين. وكذلك إلغاء ما تبقى من إجراءات اجتثاث البعث وتحويله إلى ملف قضائي بشكل كامل، فضلاً عن إصدار قانون للعفو (العام أو الخاص)، وذلك أبرز ما يجب أن تقوم به حكومة العبادي لترميم العلاقة بين حكومة بغداد والمجتمع العربي السني. وستحدد طبيعة النقاش الذي سيجري حول هاتين القضيتين بمدى قدرة الحكومة والطبقة السياسية على استيعاب شروط الواقع الجديد.

الانتقال إلى اللامركزية

هنالك إدراك متزايد بأن فشل نهج المالكي، الذي أراد إحياء نوع من المركزية الجديدة، والدرس الذي قدمه انهيار القوات المسلحة العراقية في الفضاءات الاجتماعية غير الداعمة لها، يتطلب السعي إلى إنضاج شكل جديد من اللامركزية في الجزء العربي من العراق. ويدفع الأميركيون بقوة بهذا الاتجاه الذي دعا إليه نائب الرئيس جو بايدن صراحة في مقالة كتبها مؤخرًا. ويعتقد البعض أن إعطاء السنة نوعًا من الحكم الذاتي سيخفف الاحتقان السياسي والصدام الطائفي. لكن الجدل ما زال غير محسوم حول نوع اللامركزية ونطاقها، وفيما إن كانت ستقوم على تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق على أساس إثني وطائفي، أو أنها تكتفي بتقوية نوع من الحوكمة الذاتية للمحافظات القائمة.

وفي حين يستسهل البعض الركون إلى الخيار الأول، الذي يبدو أن القوى الكردية تدعمه لاعتباراتها الخاصة، فإن هنالك شكًا كبيرًا حول إمكانية نجاح هذا الخيار لعدة أسباب؛ فهو أولاً سيكرّس التقسيمات الطائفية ويُنهي ما تبقى من تجسيدات الهوية الوطنية العراقية لصالح صناعة كيانات تُعرّف هوياتُها بالضد من بعضها؛ وهو ما قد يدفعها إلى مزيد من الراديكالية المتقابلة واستسهال الخوض في مباريات صفرية. كما أن هذا الخيار يبدو كعودة إلى مفهوم "التقسيم السلس" الذي روجت له بعض الشخصيات والمؤسسات السياسية والفكرية الأميركية إبّان الصراع الأهلي (2)، وتبّناه جو بايدن عندما كان عضوًا في الكونغرس. غير أن الاتجاه نحو التقسيم يعني إضعاف ما تبقى من كوابح وحدوية ودفع النخب السياسية السنية والشيعية إلى الكف تمامًا عن التفكير بوصفها نخبًا عراقية؛ وهو ما قد يؤدي بها أيضًا إلى عدم التعاون، خصوصًا فيما يتعلق بتوزيع الموارد ورسم الحدود. وسيكون من الصعب إقناع القوى الشيعية بتمويل "دويلة سنية" من موارد نفط الجنوب، كما سيفرز الصراع السني-الكردي حول الحدود أزمات ومشاكل جديدة. يضاف إلى ذلك، أن الاتجاه نحو كونفيدرالية إثنو-طائفية قد ينتقل إلى سوريا، ويضع أساسًا جديدًا للوحدات الجيو-سياسية في المنطقة يقوم على الانتماء الطائفي، وهو ما يعني المزيد من زعزعة الاستقرار الإقليمي، وربما الحروب المستقبلية.

لذلك يبدو خيار اللامركزية الجغرافية أكثر نجاعة، لأن نجاح تطبيقه سيُنهي التعسف المركزي تجاه الأطراف، ويحافظ في الوقت نفسه على وحدة البلاد، ويسهم في التفكك التدريجي للكتل الطائفية لصالح قيام تحالفات براغماتية، ونمو هويات جغرافية تعمل ككابح لهيمنة الاستقطابات الطائفية.

الموقف الكردي

يتعين، بالطبع، التعامل مع الوضع الكردي على نحو متمايز، مع إدراك أن معالجة الاختلال في العلاقة بين كردستان وبغداد يمثل ضرورة قصوى للانتقال إلى نظام سياسي أكثر استقرارًا وديمومة. وما يشجع على ذلك هو شعور كلا الطرفين بحاجتهما لبعضهما بعد الأزمة الأخيرة؛ فالتصور الكردي المبكر بعد سقوط الموصل من أن بإمكان كردستان أن تنأى بنفسها عن الصراع "السني-الشيعي"، بل وأن تستثمره عبر فرض الأمر الواقع في المناطق المتنازع عليها، لم يكن تصورًا ناضجًا بما يكفي، خصوصًا عندما بدأ تنظيم الدولة الإسلامية شنّ هجماته على المناطق الكردية، واتضح أن قوات البيشمركة بمفردها غير قادرة على دحر التنظيم.

وبالرغم من أن الإقليم الكردي يسعى حثيثًا لتأكيد استقلاليته الاقتصادية والسياسية، فإن حكومة كردستان تظل بحاجة إلى حصتها من الميزانية الحكومية العراقية لتمويل نشاطاتها، وإن هذه الحصة التي تمثل (17%) من الميزانية الاتحادية، ستظل ولسنوات قادمة تزود الإقليم بسيولة مالية تفوق ما يمكنه الحصول عليه من تصدير النفط الكردي. وقد أدركت القوى الكردية أن الحماس الأميركي في الدفاع عن أربيل ومنع تنظيم الدولة الإسلامية من الاستحواذ على مناطق ذات غالبية كردية، يوازنه أيضًا تحفظ أميركي تجاه انفصال الإقليم أو المبالغة في نهجه المستقل عن بغداد. ويفضّل الأميركيون انخراطًا كرديًا أكبر في بغداد والعمل من داخل إطار الحكومة الاتحادية لإجراء تغيير في سياساتها. وربما كان تعيين القيادي الكردي روز نوري شاويس وزيرًا للمالية، والقيادي الشيعي عادل عبد المهدي، المعروف بعلاقته التاريخية مع الكرد، وزيرًا للنفط، على حساب حسين الشهرستاني، الذي كان يطمح للمنصب والمعروف بتصلبه تجاه المطالب الكردية، خطوة مهمة لجذب الكرد وتعزيز آمالهم في علاقات مالية ونفطية أفضل مع بغداد.

وبالرغم من أن هناك تيارًا مهمًا في حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون لا يميل لتقديم تنازلات كبيرة للكرد، إلا أن هناك عوامل أخرى تدفع إلى اتّباع نهج جديد في علاقة بغداد-أربيل، من بينها حاجة العبادي إلى الدعم الكردي لنجاح حكومته، ووجود ضغط أميركي على الحكومة العراقية كي تخفف من تصلبها، واتجاه إيران مؤخرًا إلى تقديم الدعم العسكري والاستخباراتي للإقليم في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. وعلى الأرجح، سيكون على الطرفين التخلي عن المواقف الأكثر تشددًا، وتطوير علاقتهما الفيدرالية بشكل يؤمّن دعمًا كرديًا متواصلاً للحكومة في بغداد، في مقابل عودة الحكومة إلى تسديد ميزانية الإقليم وإلى تنسيق أفضل في العلاقات النفطية بين الجانبين. وتتعلق إحدى القضايا الحاسمة على هذا الصعيد بالكيفية التي سيصاغ بها قانون "النفط والغاز"، الذي تعرّض للتأجيل طويلاً بسبب اختلاف الرؤى بين بغداد وأربيل، ويعتبر اليوم أحد أهم عناصر الإصلاح السياسي، وربما ستكون المهمة الأساسية لعادل عبد المهدي هي التوصل إلى صيغة نهائية ومقبولة له، كي يتم إقرارها في البرلمان.

خيارات العبادي الصعبة

الواضح، على أية حال، أن على حكومة العبادي أن تتحرك في اتجاهين؛ أحدهما خارجي والآخر داخلي. على الصعيد الخارجي، ربما سيكون عليها أن تطرح نفسها كشريك سياسي وأمني موثوق في التحالف الذي ترعاه الولايات المتحدة لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، وهو ما يتطلب ترميم علاقات العراق بالدول العربية والخليجية، والتخلص من مظهر الحكومة التابعة لإيران، ومحاولة الموازنة بين علاقاتها الجيدة مع إيران والانفتاح على الدول العربية. لا يعتمد ذلك فقط على ما يمكن لحكومة العبادي أن تقوم به، بل وأيضًا على الأطراف الأخرى ومدى قدرتها على فهم تعقيد الخريطة السياسية والاجتماعية العراقية، وخطورة التحدي الذي يمثله تنظيم الدولة الإسلامية. ورغم الإشارات المحدودة عن استعداد طهران والرياض للتعاون لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن من غير الواضح ما إن كان لدى الطرفين الإرادة الكافية لتغليب التعاون على حالة التنافس العميق بينهما، لاسيما عند الانتقال من الملف العراقي إلى الملف السوري، حيث لا يمكن التغاضي عن التشابك بين الملفين.

كذلك يبدو العبادي راغبًا بعلاقات أمتن مع الولايات المتحدة، وهو غير معروف بعلاقات وطيدة مع الإيرانيين، على الأقل قياسًا بغيره من السياسيين الشيعة؛ وكونه قد عاش ودرس وعمل في بريطانيا ويتحدث الإنكليزية قد يساعد على ردم الفجوة النفسية التي أثّرت كثيرًا في علاقة المالكي بالأميركيين. وهنالك مؤشرات على وجود مستوى جيد من التنسيق بين الطرفين؛ فالعبادي يدرك أن الضغط الأميركي كان سببًا رئيسيًا في حصوله على منصبه  وأن مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية لابد أن يرتكن على تحالف إقليمي ودولي ذي مصداقية وعلى دعم أميركي جديّ.

داخليًا، سيكون على العبادي تطوير رؤية إصلاحية متكاملة وقيادة مفاوضات شاقة حول المحاور الإصلاحية الرئيسية (قانون النفط والغاز، علاقة بغداد-أربيل، علاقة بغداد بالمحافظات، توزيع السلطات والموارد، إصلاح القوات المسلحة، ملف اجتثاث البعث... ). يتسم كل واحد من هذه الملفات بالتعقيد وتتنازعه إرادات مختلفة، وسينجح العبادي في تقصير الطريق إن طوّر نهجًا إصلاحيًا عامًّا يحظى بالمقبولية والدعم من القوى الداخلية والخارجية الرئيسية، وحاول معالجة هذه الملفات في إطاره.

مع ذلك، فالواضح أيضًا أن العبادي لا يتمتع بنفس مستوى الحرية التي كان يتمتع بها المالكي في تحديد خياراته السياسية؛ فهو لم يبْنِ بعدُ نفوذًا شخصيًا في داخل المؤسسات الأمنية والحكومية، وليست لديه قاعدة جماهيرية خاصة به، وحكومته تتكون من أقطاب مهمة ومجموعة من الأحزاب ذات التصورات المختلفة، وسيظل بحاجة إلى دعم حزب الدعوة لتحصين نفسه سياسيًا، وبالتالي عدم الابتعاد كثيرًا عن المنظومة السياسية والأيديولوجية للحزب. يتحرك العبادي، إذن، في سياق من التوازنات الداخلية والإقليمية والدولية الدقيقة، التي تتطلب حسابات معقدة؛ وفي الوقت الذي يبدو نجاحه مرهونًا بعدم الإخلال بتلك التوازنات، فإنه سيواجه عاجلاً أو آجلاً لحظة الاختيار بين أن يكون مجرد تعبير مرحلي عن التوافقات الدنيا بين القوى الرئيسية، أو يسعى إلى خلق خياراته الخاصة والمنفصلة عن تلك التوافقات؛ وهو طريق سار فيه المالكي وقاده إلى نهايته كرئيس وزراء.
_______________________________
* حارث حسن - باحث في الشؤون العراقية

هوامش
(1) المسلة، حزب الدعوة يكشف عن رسالة من السيد السيستاني يدعو فيها لتغيير رئيس الوزراء المالكي، 
http://almasalah.com/ar/NewsDetails.aspx?NewsID=36625
(2) انظر على سبيل المثال:
Edward Joseph and Michael E. O’Hanlon, ”The Case for Soft Partition in Iraq”, Brookings, June 2007.

نبذة عن الكاتب