تنظيم الدولة بالعراق: تغلغل في شروخات النظام السياسي

ستدفع مساعي تنظيم الدولة إلى القضاء على الشيعة بالعراق إمَّا إلى حرب أهلية طاحنة تستمر سنوات طويلة، أو إلى تقسيم للبلد بحدود مذهبية.
201567104512184734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
يمر العراق اليوم بأخطر مراحل تاريخه لأن الصراع الحالي يؤثر بشكل مباشر على وحدة البلد وقدرته على الحفاظ على تكوينه الجغرافي والسياسي الراهن. وهناك اليوم قضيتان أساسيتان ستقرِّران الاتجاهات المستقبلية للبلد: الأولى: هي كيفية إدارة الصراع مع تنظيم الدولة الإسلامية، خصوصًا مع تنامي دور (الحشد الشعبي) وتحوله إلى القوة العسكرية الأهم التي تعتمد عليها الحكومة العراقية، والثانية: هي نوع العراق الذي سينتج عن الصراع الراهن، وما إذا كان هذا الصراع سيُفضي إلى إعادة تركيب النظام السياسي العراقي أم إلى تفتت البلد بشكل نهائي؟

مقدمة

عمليًّا ينقسم العراق اليوم إلى ثلاث مناطق نفوذ: واحدة تمتد من الجنوب وحتى تكريت، مرورًا ببغداد، وهي تخضع رسميًّا لسلطة الحكومة العراقية، إلا أن هذه السلطة يتم تقاسمها -عمليًّا- مع تنظيمات عسكرية غير رسمية منضوية في إطار تشكيلات الحشد الشعبي. منطقة النفوذ الثانية هي تلك التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية وتشمل الموصل وبعض مناطق صلاح الدين ومعظم مناطق الأنبار، ولكن مدى سيطرة التنظيم تتفاوت من منطقة إلى أخرى،  وبعض هذه المناطق يدار عمليًّا من سكانها المحليين بعد أن أخذ التنظيم البيعة من شيوخها، وهناك مناطق أخرى هي موضع نزاع مع الحكومة العراقية والعشائر المتحالفة معها ولم يُحسَم وضعها بعد. ومنطقة النفوذ الثالثة هي إقليم كردستان الذي يتمتع باستقلالية واسعة وقوة أمنية ذاتية، وإلى حدٍّ كبير، سياسة خارجية منفصلة.

تنظيم الدولة وما بعده

أدت سيطرة تنظيم الدولة على الرمادي في مايو/أيار 2015 إلى تنامي الإدراك بصعوبة وتعقيد الصراع الراهن بعد فترة من التفاؤل القصير حول إمكانية طرد التنظيم بعد استعادة السيطرة على تكريت. ويرى البعض أن التنظيم، وقد اكتسب خبرة طويلة في حرب العصابات، صار قادرًا على اختيار جبهاته وخوض معارك استنزاف في أكثر من مكان، وأنه بتوسعه جنوبًا وشرقًا في العراق وغربًا في سوريا، يفرض نفسه ككيان جديد على الأرض، ويرسم معالم لدولة تربط الفضاءات الخارجة من رحم انهيار مشروع الدولة الوطنية في العراق وسوريا، ويعكس بذلك صعود مفاهيم بديلة للهوية السياسية، تتمثل تحديدًا بالهوية الدينية-الطائفية، على حساب مفهوم الهوية الإثنية أو اللغوية الذي اقترنت به مرحلة ظهور الدولة-الأمة.

لكن هذا التصور، الذي يسعى التنظيم لترويجه باعتباره حالة "خَلاصية" من وضع الدولة القلقة وغير المتصالحة مع الذات، يبدو مبتسرًا ويعكس نزعة رغائبية إلى حدٍّ كبير؛ فالكثير من التصورات المقابِلة ترى أن التنظيم حتى مع نجاحات الرمادي، يخسر الحرب فعليًّا (1)، وأن "انتصاره" الأخير هو نتيجة لغياب رؤية استراتيجية موحدة بين خصومه، وتحديدًا بين حكومة حيدر العبادي والحشد الشعبي وقوات العشائر السنية، كما بين الجانبين الإيراني والأميركي الفاعليْن في الوضع العراقي. بل هناك من يجادل بأن هزيمة الرمادي كانت في الحقيقة بداية لصحوة ستفرض على الأطراف المختلفة إعادة تنظيم أوراقها والعودة إلى الهجوم، برؤية أكثر انسجامًا.

إن مشروع تنظيم الدولة هو مشروع تقسيم للعراق، لأن التنظيم بعقيدته وتركيبته وضع مسبقًا حدودًا للنطاق الجغرافي-الديمغرافي لحركته؛ وهو ما يجعل الصدام معه تعبيرًا عن نزعة عراقوية جديدة قد تنجح أو تُخفق بحسب مجريات الصراع واتجاهاته، لكنها نزعة يكبحها الشرخ الطائفي العميق والتنافس الخارجي الذي يؤدي احتدامه إلى تفكيك ما تبقى من فكرة "العراق". لذلك يبدو أن الجدل عن عراق ما بعد تنظيم الدولة، حتى في الوقت الذي يبدو أن تنظيم الدولة لن يختفي سريعًا وقد تكرَّس بقاؤه لزمن طويل، هو في أصله جدل حول إعادة تشكيل العراق وهويته ونظامه السياسي، وهو جدل يحصل أساسًا بين نهجين:

النهج التوافقي: وهو النهج الذي تدعمه الولايات المتحدة ويقوم على فكرة الفدرلة وتوزيع السلطات على أساس إثني-طائفي، وهو ما يمثِّل تعميقًا للنموذج الذي تم بناؤه بعد الاحتلال الأميركي ويقوم على التوافقية السياسية Consociationalism، وقد عبَّر عنه نائب الرئيس، جو بايدن، بمصطلح الفيدرالية القابلة للعملة Functioning Federalism  (2)، عبر إعطاء السُّنَّة سلطات أوسع لإدارة مناطقهم، وتوسيع نطاق مشاركتهم في السلطة المركزية، وإعادة هيكلة القوات المسلحة بشكل يعيد ثقة المجتمعات العربية السنِّية بها، لكن مشكلة هذا النهج أنه يعمِّق من مأسسة الهويات الجزئية وبالتالي يستكمل حالة الانفصال النفسي الذي قد يستتبعه انقسام سياسي فعلي، كما يحول دون تحقيقه وجود تنظيم الدولة في معظم المناطق ذات الغالبية السنية. 

النهج الإدماجي: وهذا النهج هو الذي حكم العراق طوال عمر دولته الحديثة وحتى العام 2003، ويقوم على سلطة مركزية قوية وإخضاع للهويات الفرعية وخطاب أيديولوجي شمولي لا يحفل بالتعددية، وهو نموذج يتم التعبير عنه -جزئيًّا- في خطاب بعض قوى الحشد الشعبي الذي ظهر كتشكيل عسكري شيعي لمواجهة تنظيم الدولة، وصار يعبِّر عن أيديولوجية لبناء عراق بمركزية شيعية، وبمفهوم للوطنية العراقية يقوم على هذه المركزية، بعد أن ظلَّ التيار الإدماجي تاريخيًّا يقوم على وطنية عراقية بمركزية عربية-سُنِّية.

إن توازنات القوى القائمة تضع الكثير من الحدود على إمكانية أيٍّ من المشروعين على النجاح، وربما يظل مستقبل البلد مرهونًا بالقدرة على صياغة طريق ثالث.

الحشد الشعبي وصراع النفوذ

تشكَّلت قوات الحشد الشعبي إثر فتوى للمرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، ويعزو الكثيرون لهذه الفتوى أهمية كبيرة في استعادة الثقة بعد انهيار قوات الجيش العراقي. لكن على الأرجح، فإن أهم دور لعبته الفتوى هو في توفير غطاء لميليشيات موجودة أصلًا وكانت بحاجة إلى شرعنة دورها، مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وسرايا السلام، فضلًا عن تشكيل فصائل جديدة خارج إطار المؤسسة الرسمية. وقد اتضح لاحقًا أن "الحشد الشعبي" هو عنوان عريض لخريطة معقدة وفيها الكثير من التفاصيل. تنامت شعبية هذه القوات بعد نجاح بعض عملياتها العسكرية، خصوصًا في تأمين محيط بغداد وفي تطهير مناطق جرف الصخر وديالى وآمرلي، ثم اندفاعها باتجاه تكريت التي تمثل حتى الآن المدينة الرئيسية الوحيدة التي تمت استعادتها.

نجحت الفصائل المقربة من إيران بالبروز كفصائل "قائدة" للحشد الشعبي؛ حيث ظهر الجنرال قاسم سليماني في أكثر من مناسبة وهو يجالس قادة هذه الفصائل في مناطق تموضعها، كما برز دور هادي العامري، قائد منظمة بدر، بوصفه الزعيم المعترَف به للحشد الشعبي خلال معارك تكريت، وكذلك دور أبي مهدي المهندس الذي يُعرَّف اليوم بوصفه نائب قائد قوات الحشد الشعبي. بالنتيجة، هنالك اعتقاد واسع بأن الفصائل المرتبطة بإيران، والتي تمتلك تمويلًا وتسليحًا وتدريبًا أفضل من غيرها، قد استثمرت الصراع الراهن لتوسع دائرة نفوذها، على حساب فصائل المتطوعين الأخرى (3).

وعلى الرغم من دعوة المرجعية الدينية لربط الميليشيات بالمؤسسة العسكرية (4)، والتحفظ الأميركي على مشاركتها في العمليات القتالية في مناطق ذات غالبية سُنيَّة، لا يبدو أن هناك خطة واضحة بعد لدمج الحشد الشعبي في إطار القوات المسلحة، ولا يبدو أن زعماء فصائله بوارد التخلي عن أسلحتهم للقوات العراقية أو الخضوع لسلطة وزارة الدفاع، وكثير منهم لديه شكوك بولاءات وزير الدفاع. وقد أدَّت هزيمة قوات الجيش والشرطة في الرمادي إلى تقوية رصيد الحشد الشعبي مجددًا، بعد أن توصلت الحكومة العراقية إلى أنها غير قادرة على إدارة المعركة مع تنظيم الدولة بدون دعم تلك القوات، بل ظهرت دعوات لحلِّ قوات الجيش أو استبدال الحشد الشعبي بها (5).

يبدو أن الاختلاف بين إرادة الحشد الشعبي، وإرادة بعض القوى السنية بضرورة منع الحشد من دخول المدن ذات الغالبية السنية، عرقل إمكانية الاستفادة من الزخم الذي خلقته عملية استعادة تكريت من قبضة تنظيم الدولة. ونتيجة لذلك، نجح التنظيم بالسيطرة على مدينة الرمادي وهو ما فرض مراجعة الموقف الأميركي خصوصًا بعد أن أثبتت تلك التطورات أن الجيش العراقي لا يزال بعيدًا جدًّا عن أن يتحول إلى قوة جدية على الأرض. بهذا المعنى، فإن سقوط الرمادي حقَّق لقيادات الحشد ما كانت تريده؛ حيث دعا رئيس الوزراء قواتهم إلى الانخراط بمعركة الأنبار (6)، وأخذ الفيتو الأميركي على مشاركتهم بالتلاشي.

من الواضح أن مزيدًا من الدور العسكري للحشد الشعبي يعني أمرين:

الأول: أن الحشد يملأ فعليًّا الفراغ الذي خلَّفه ضعف وتفكك المؤسسة العسكرية الرسمية؛ ويمثِّل بالتالي خروجًا عن الاشتراطات السياسية التي تشكَّلت عليها تلك المؤسسة منذ العام 2003، والتي لعبت الولايات المتحدة دورًا رئيسيًّا فيها. لقد تشكَّلت تلك المؤسسة على مبدأ المحاصصة، لكن بسبب التشرذم السياسي وتنامي الانقسامات الطائفية والإثنية افتقدت إلى هوية وطنية وبناء عقيدي متماسك، وانتشر فيها الفساد بسبب الطابع شبه المافيوي الذي انتظمت فيه السياسات العراقية منذ ذلك التاريخ، وكانت النتيجة عدم صمود تلك المؤسسة وفقدانها القدرة على إدارة معركة معقدة ومتشعبة كتلك التي تخوضها الدولة العراقية مع تنظيم الدولة.

الأمر الثاني: أن تنامي قوة الحشد الشعبي يعني خلق كيان عسكري موازٍ لا يخضع تمامًا للدولة العراقية، على الرغم من الإعلان شبه الشكلي في إبريل/نيسان الماضي عن ربط تشكيلاته برئيس الوزراء (7)؛ فقد أظهرت معارك تكريت والأنبار أن العلاقة التي تربط الحشد برئيس الوزراء هي إلى حدٍّ كبير علاقة تنسيقية ولا تدخل في إطار التسلسل القيادي الرسمي، وقد عبَّر بعض قادة الحشد الشعبي في أكثر من مناسبة عن ضيقهم من سياسات رئيس الوزراء، وخصوصًا محاولته الاستماع للنصائح الأميركية وشكَّكت بطبيعة الدور الأميركي (8). ويمكن الاستنتاج من ذلك أن هذه العلاقة قد تأخذ أحد مسارين مستقبلًا:

الأول: الإبقاء على كيان الحشد الشعبي كمؤسسة خارج الدولة وترجمة سيطرته الفعلية على الأرض إلى نفوذ سياسي مستقبلًا، وبالتالي إدخال عامل جديد في توازنات القوة السياسية في العراق.

المسار الثاني: مأسسة الحشد الشعبي وربطه تمامًا بالمؤسسة العسكرية؛ وهو ما يعني إعادة بناء تلك المؤسسة لتعكس، أولًا، هيمنة التيار الشيعي القريب من إيران، وإعادة صياغة العقيدة العسكرية العراقية على أساس التحالف العراقي-الإيراني بعد أن أثبتت المؤسسة العسكرية القائمة على المحاصصة شلليتها وعدم جدواها. 

من هنا، يمكن الاستنتاج أن الصراع الراهن مع تنظيم الدولة الإسلامية هو أيضًا صراع على تحديد الهوية السياسية للعراق، ومستقبل النظام الذي تشكَّل بعد الاحتلال الأميركي. 

الخريطة السياسية المتشظية

تبدو الخريطة السياسية الشيعية منقسمة بين تيارين رئيسيين:

الأول: هو تيار مقرب من إيران وتنضوي في إطاره الفصائل المسلحة المذكورة، وينتظم سياسيًّا -في هذه المرحلة- في إطار تحالف غير معلن مقرب من رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، الذي توطدت علاقته مع الجانب الإيراني في السنوات الأخيرة وساءت مع الجانب الأميركي، خصوصًا بعد أن طالبت إدارة باراك أوباما باستبداله إثر سقوط الموصل.

والتيار الثاني، يضم قوى شيعية لديها علاقات مع إيران، لكنها تتبنى نهجًا أكثر استقلالية وتريد انفتاحًا أكبر على السنَّة في العراق، ويبدو التيار الصدري الممثل الرئيسي لهذا التيار، وقد عبَّر مقتدى الصدر شخصيًّا عن ضيقه من تنامي نفوذ ما أسماه بـ "الميليشيا الوقحة" وتجاوزاتها (9). وعلى الأرجح، فإن الصدر يشعر بالتهديد من النفوذ المتنامي لميليشيا عصائب أهل الحق، برئاسة قيس الخرعلي، والتي انفصلت عن التيار الصدري وأصبحت قريبة جدًّا من إيران، وكذلك قوات بدر، وهي منافس تقليدي للتيار الصدري. ويحاول المجلس الأعلى بقيادة عمار الحكيم أن يمسك العصا من الوسط، وهو ما يسعى لفعله أيضًا رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي، الذي يواجه المهمة الصعبة في الموازنة بين الضغطين: الإيراني والأميركي.

ويمكن القول: إنه كلما نجح العبادي بربط التشكيلات العسكرية غير الدولتية بسلطته، استطاع أن يفرض نفسه كزعيم سياسي، والعكس صحيح. وسيؤدي فقدان العبادي القدرة على إدارة القوى الشيعية وصناعة نوع من الإجماع الشيعي الداعم له، إلى إضعافه أكثر وتحويل سلطته إلى واجهة غير فعالة، وهو ما سيُترجم أيضًا إلى مزيد من الضعف والتفكك لسلطة الدولة العراقية.

وتسير الخريطة الشيعية باتجاه نوع من التنافس المستقبلي بين تيار، تمثله العوائل الدينية وبورجوازية المدن، الذي يميل إلى التهدئة مع المكونات الأخرى وإلى شكل من أشكال الفيدرالية، وإلى علاقات جيدة مع الولايات المتحدة دون التفريط بالعلاقة مع إيران (ويبدو أن المرجعية الدينية تنحاز إلى هذا الاتجاه).

والتيار الثالث هو تيار عقائدي يميل إلى حلول جذرية ويستقطب كثيرًا من التكوينات الاجتماعية من شيعة الجنوب الذين يعتقدون أن التركيبة السياسية الشيعية التي تهيمن عليها العوائل الدينية في النجف والكاظمية وكربلاء قد همَّشتهم، وهم يميلون إلى سلطة أكثر مركزية وتحالف أوثق مع الاتجاه الثوري في إيران، ولديهم شكوك بالموقف الأميركي.

يبدو المشهد السياسي السنِّي أكثر تشظيًا وتعقيدًا؛ فلأن معظم المناطق السنية يخضع لسيطرة تنظيم الدولة أو في محل نزاع للسيطرة عليها مع التنظيم، لم تعد هناك في بغداد قيادات سنية قادرة على أن تطرح نفسها كزعامة مؤهلة ومؤثرة على الوضع الداخلي في مناطقها. وبسبب ذلك، يفتقر الجانب السني إلى رؤية واضحة، بل وتتنازعه وتقسمه اتجاهات مختلفة، وسياسيون يحاول كل منهم أن يطرح نفسه زعيمًا محتملًا في إطار مشروع شخصي أكثر منه برنامجًا حقيقيًّا على الأرض.

ويمكن القول: إن القيادات السنية تنقسم إلى ثلاث قوى رئيسية، قوى تسعى إلى استقلالية أكبر عن بغداد وتُحمِّل الحكومة العراقية المسؤولية الأكبر فيما حصل، ولكنها أيضًا قوى غير متجانسة تضم بعض السياسيين المنفيين أو المقيمين في عمَّان، ومجموعة من "شيوخ العشائر" المقيمين في أربيل (10)، ورجال دين ورجال أعمال يقيم معظمهم خارج العراق. وتختلف مواقف هذه الجماعات بحسب الطرف الداعم لهم؛ فالتيار الإسلامي هو أقرب إلى تركيا، بينما يبدو التيار "العشائري" أقرب إلى الأردن والسعودية وكردستان.

وهنالك قوى متحالفة أو ميالة إلى التحالف مع الحكومة العراقية، وتضم خصوصًا عشائر من الأنبار وصلاح الدين وكركوك من الذين يركِّزون على حماية أو استعادة مناطقهم من تنظيم الدولة، وليس لديهم مشروع لأقلمة المناطق ذات الغالبية السنِّية، بل في الغالب لديهم مصالح واعتبارات محلية (11). ومشكلة هذا التيار أنه يواجه التشكيك من طرفين: أحدهما الطرف الشيعي المتشدد الذي يميل إلى وضع كل السنة في خانة تنظيم الدولة ولا يرى موجِبًا للثقة بأية قوة سنية، والطرف السني المتشدد الذي لا يريد أي حل داخلي يقوم على التواصل المباشر مع الحكومة العراقية وبدون ضمانات خارجية.

وهنالك تيار ثالث، تمثِّله بشكل خاص أجزاء من النخبة السنية في بغداد، يمسك العصا من الوسط وينتظر رؤية مآلات الأمور قبل اتخاذ موقف واضح. وبطبيعته، فإن هذا التيار فاقد تقريبًا للتأثير على الشارع السنِّي. وقد أدت التطورات الأخيرة إلى إضعاف حظوظ سياسيين سُنَّة تقليديين مثل الأخوين النجيفي وصالح المطلك، مع وجود فرصة لصعود قيادات بديلة كسليم الجبوري رئيس البرلمان الحالي، وهو ما يعتمد كثيرًا على طبيعة التسوية المستقبلية إن حدثت.

ويرتبط مستقبل الوضع السُّنِّي بقضية القوة التي يمكنها أن تطرد تنظيم الدولة وتركيبتها؛ فقد طُرح مشروع "الحرس الوطني" من قِبل الولايات المتحدة وتبنَّاه بعض الأطراف السنية كصيغة لتشكيل قوة مسلَّحة سنية محلية يمكنها أن تمسك الأرض بعد خروج تنظيم الدولة دون أن تثير توترًا طائفيًّا (12)، لكن التحالف الشيعي والتحالف الكردستاني لم يبديا حماسًا شديدًا لهذه الفكرة بسبب الخشية من أن تنازعهما هذه القوة الجديدة -المدعومة غربيًّا وإقليميًّا- السيطرة على بعض المناطق. ولذلك تم إدخال تعديلات على المشروع غيَّرت كثيرًا من صيغته المدعومة أميركيًّا؛ حيث تضمَّنت إدخال الحشد الشعبي والبيشمركة ضمن قوة الحرس الوطني، وأن يتولى رئيس الوزراء الإشراف على تعيين وتوجيه قادة هذه القوات. والقانون المعدل على وشك أن يُطرح للتصويت في البرلمان، ومن غير الواضح ما إن كان سيتمكن بصيغته الحالية من أن يعكس إجماعًا بين الأطراف المعنية (13).

السيناريوهات المحتملة

على المدى القصير، خصوصًا فيما يتعلق بالصراع مع تنظيم الدولة، هنالك ثلاثة سيناريوهات محتملة:

الأول: أن تفشل الأطراف المعنية بتطوير تصور مشترك حول مواجهة التنظيم، خصوصًا حول نوع القوات التي تملأ الفراغ في حالة إخراجه من مناطق سيطرته الحالية، وهو ما قد يسهم في إطالة عمر سيطرة التنظيم في بعض هذه المناطق، وقد يفضي إلى أن تعترف الأطراف الأخرى بتنظيم الدولة كواقع على الأرض وتتعاطى معه، أو إلى أن تجري تحولات داخلية في بنية التنظيم لصالح المكوِّن العراقي فيه، وأن يتمرد على التكوينات الأجنبية والوافدة في التنظيم بما يفضي إلى تغيير طبيعته ونشوء تنظيم جديد يتولى تقديم نفسه كقوة سُنِّية محلية. 

الثاني: أن يجري توافق بين الجانب الشيعي وقوى سنِّية محلية راغبة بمقاتلة تنظيم الدولة وغير متبنية لمشروع الأقلمة، يفضي إلى توسيع الحشد الشعبي والتشكيلات العسكرية ليشمل مقاتلين سُنَّة، دون الإخلال بمركزيته الشيعية، وتتولى هذه التشكيلات مواجهة تنظيم الدولة وطرده وإعادة فرض سيطرة الحكومة المركزية في تلك المناطق، وهو ما قد يؤدي في المدى الأبعد إلى نقل العراق من المعادلة الثلاثية (سُنَّة، شيعة، كُرْد) إلى معادلة ثنائية (عرب، كُرْد)، مع توطيد سلطة الحكومة ذات الغالبية الشيعية والقريبة من إيران.

الثالث: أن يجري الاتفاق على تشكيل قوات الحرس الوطني تحت هذا الاسم أو باسم آخر، عبر ترتيب بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة وبما يقلِّل من تأثير نفوذ الفصائل الشيعية المرتبطة بإيران، ويسمح لاحقًا بتشكيل قوات مسلحة أكثر توازنًا من الناحية الطائفية، ويُفضي أيضًا إلى مزيد من اللامركزية في إدارة شؤون البلاد على قاعدة (شيعة، سُنَّة، كُرْد).

على المدى البعيد، يظل مستقبل العراق كدولة موحدة وغير سلطوية مرهونًا بإمكانية العثور على طريق ثالث بين المنهجين التوافقي والإدماجي، وهو طريق قد يقوم على توزيع السلطة على أسس جغرافية لا طائفية، وعلى إعادة صياغة التنظيم المؤسساتي والقواعد الانتخابية لصالح تقوية الكيانات الجغرافية المحلية وتفكيك البنى الطائفية، مع إدراك ضرورة الذهاب نحو إطار جديد للعلاقة مع إقليم كردستان، قد يقوم على الكونفيدرالية باعتبارها نموذجًا وسطًا بين الانفصال الذي ينادي به بعض القوى الكردية، والشكل غير المنتظم القائم حاليًا للعلاقة بين بغداد وأربيل. 
_________________________________
حارث حسن - باحث في الشؤون السياسية العراقية

الهوامش
1-Ali, Ahmed, Calm Down. ISIS is not Winning, The New York Times, 21 May 2015, http://www.nytimes.com/2015/05/22/opinion/calm-down-isis-isnt-winning.html?_r=0
2-McGurk, “Statement for the Record: Deputy Assistant Secretary Brett McGurk,” Senate Foreign Relations Committee Hearing: Iraq at a Crossroads: Options for U.S. Policy, July 24, 2014, pp. 10–11,  http://www.foreign.senate.gov/imo/media/doc/McGurk%20Testimony%20  072414-Final%20Version%20REVISED.pdf
3- Haddad, Fanar, The Hashd: Redrawing the Military and Political Map of Iraq, Middle East Institute, 9 April 2015 , http://www.mei.edu/content/article/hashd-redrawing-military-and-political-map-iraq
-4العبيدي، مصطفى، السيستاني يوجه "الحشد الشعبي" بضرورة عدم الاعتداء على المدنيين في مناطق المعارك، القدس العربي، 13 فبراير/شباط 2015، http://www.alquds.co.uk/?p=295387 
-5 الشرق الأوسط، رئيس البرلمان العراقي: حلُّ الجيش وارد اذا لم يُحاسَب المقصرون،
http://aawsat.com/home/article/369251/%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%AD%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%AF-%D8%A5%D8%B0%D8%A7-%D9%84%D9%85-%D9%8A%D8%AD%D8%A7%D8%B3%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%B5%D8%B1%D9%88%D9%86
6-El-Hamed, Raed, Ramadi and the Debate Over Shia Militias in Anbar, Sada, 21 May 2015,
http://carnegieendowment.org/sada/2015/05/21/ramadi-and-debate-over-shia-militias-in-anbar/i8vx
-7 إذاعة العراق الحر، الحكومة تقرر ربط هيئة الحشد الشعبي بمكتب رئيس الوزراء، 8 إبريل/نيسان 2015،
http://www.iraqhurr.org/archive/news/20150408/1093/1093.html?id=26944681
8- Morris, Loveday and Mustafa Salim, Iraqi Shiite Militias Balk at Offensive if U.S. Airstrikes are Involved, The Washington Post,  26 March 2015, http://www.washingtonpost.com/world/iraqi-forces-gather-for-push-into-tikrit-after-us-airstrikes-seek-to-clear-path/2015/03/26/c4436c0e-d3a5-11e4-ab77-9646eea6a4c7_story.html
-9 السومرية، الصدر يدعو الجيش والحشد "المنصف" في تكريت لمسك الأرض وإبعاد "الميليشيات الوقحة"، 1 إبريل/نيسان 2015، http://www.alsumaria.tv/news/129536/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AF%D8%B1-%D9%8A%D8%AF%D8%B9%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B4%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%81-%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%83-%D8%A7%D8%B1%D8%B6/ar
 -10الفراجي، أحمد، أهالي وعشائر محافظة الأنبار يحذِّرون من دخول ميليشيات الحشد الشعبي إلى المحافظة، القدس العربي، 2 فبراير/شباط 2015،
http://www.alquds.co.uk/?p=289410
انظر أيضًا: الغد، شيوخ عشائر يقاتلون بعضهم البعض من أجل النفوذ، 2 مارس/آذار 2015،
http://alghad-iq.com/ar/news/22130/%D8%B4%D9%8A%D9%88%D8%AE-%D8%B9%D8%B4%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%84%D9%88%D9%86-%D8%A8%D8%B9%D8%B6%D9%87%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B9%D8%B6-%D9%85%D9%86-%D8%A7
 -11رووداو، تأييد من 13 عشيرة لمشاركة الحشد الشعبي في استعادة الأنبار،
http://rudaw.net/arabic/middleeast/iraq/110420152
Brett McGurk, op.cit.-12
-13 لتفاصيل أكثر، انظر: حسن، حارث، الحرس الوطني في العراق: العوائق الطائفية والرهانات السياسية، مركز الجزيرة للدراسات، 19 فبراير/شباط 2015،
http://studies.aljazeera.net/reports/2015/02/201521910486288544.htm

نبذة عن الكاتب