عزوف المصريين عن المشاركة كان أحد أهم ملامح المرحلة الاولى من انتخابات مجلس النواب (الأناضول) |
ملخص تقدم هذه الورقة قراءة في نتائج المرحلة الاولى من الانتخابات البرلمانية في مصر، والتي تعتبر الخطوة الأخيرة من خارطة الطريق التي أعلنها الجيش عقب الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي. وتوضح الورقة أن العزوف الكبير للمصريين عن المشاركة في الانتخابات كان الملمح الأهم في المشهد الانتخابي، وذلك على عكس ما كانت تأمله السلطة من مشاركة كبيرة؛ الأمر الذي طرح تساؤلات حول شعبية الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظامه. وتستعرض الورقة جملة من العوامل والأسباب التي أسهمت في تدني نسبة المشاركة في الانتخابات، وفي مقدمتها: غياب المنافسة عن المعركة الانتخابية، والقانون الانتخابي الذي أعدَّته السلطة، وعزوف الشباب، والأجواء السياسية والاقتصادية المحبطة. وتتوقع الورقة ألا تختلف نسبة المشاركة في المرحلة الثانية عن المرحلة الأولى. وتخلص إلى أن هذه الانتخابات والسياق السياسي والقانوني الذي تجري فيه لن يفضى إلا إلى برلمان ضعيف وغير متجانس، تابع للسلطة أكثر من كونه قادرًا على القيام بمهامه في التشريع والرقابة والمساءلة. |
مقدمة
انتهت المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية في مصر والتي جرت في أربع عشرة محافظة على جولتين، ومن المقرر أن تُجرى المرحلة الثانية من هذه الانتخابات في باقي المحافظات (13 محافظة) يومي 22 و23 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. وتعتبر هذه الانتخابات المرحلة الأخيرة من خارطة المستقبل التي أعلنها الجيش بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي عقب مظاهرات 30 يونيو/حزيران المناهضة للإخوان المسلمين، كما أنها تعد ثامن استحقاق انتخابي تشهده مصر منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011. وتُجرى هذه الانتخابات، التي يسعى النظام من خلالها الى استكمال الشكل المؤسسي للدولة بعد إنجاز الدستور المعدل وانتخاب رئيس للجمهورية، وفق نظام انتخابي ينص على انتخاب أعضاء مجلس النواب بنظامي القوائم والفردي؛ حيث يتم اختيار 80 في المئة من الأعضاء بالانتخاب الفردي بينما نسبة 20 في المئة بنظام القائمة الانتخابية. ويتكون مجلس النواب الجديد، الذي يخوِّله الدستور الحالي صلاحيات واسعة، وربما غير مسبوقة في تاريخ البرلمانات المصرية، من 568 عضوًا منتخبًا منهم 448 نائبًا بالانتخاب الفردي، و120 بنظام القوائم، ويحق لرئيس الجمهورية تعيين نسبة خمسة في المائة من الأعضاء على الأكثر.
كما تُعقد هذه الانتخابات في ظل غياب أو تغييب كامل لجماعة الإخوان المسلمين، والتي يعتبرها المراقبون أكبر جماعة سياسية منظَّمة في البلاد، عن المشهد الانتخابي وذلك للمرة الأولى منذ ثلاثين عامًا تقريبًا؛ فباستثناء انتخابات عام 1990 التي قاطعها العديد من القوى السياسية فإن جماعة الإخوان شاركت في كل الانتخابات النيابية التي جرت في مصر منذ عام 1984.
وقد حملت المرحلة الأولى من هذه الانتخابات رسالة قاسية لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ومؤيديه تمثَّلت في العزوف اللافت للناخبين عن الإدلاء بأصواتهم. فعلى عكس ما كانت تأمل السلطة بدا مشهد اللجان الانتخابية، وهي شبه خاوية، لافتًا وحاملًا للكثير من الرسائل المهمة بأن ثمة فشلًا سياسيًّا يقف وراء هذا التحول في موقف الناخبين من المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية. إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة في اليوم الأول من هذه المرحلة خمسة في المئة من إجمالي الناخبين، بل كانت أقل من ذلك في كثير من الدوائر حسب تقارير بعض منظمات المجتمع المدني ومراقبين مستقلين تابعوا هذه الانتخابات. وفي مواجهة هذا التدني لنسبة المشاركة سعت الحكومة ووسائل الاعلام المؤيدة لها لحشد وتعبئة الناخبين بوسائل شتى تراوحت بين الترهيب والترغيب لدرجة إقحام الدين لدفع المواطنين للإدلاء بأصواتهم(1). ورغم محاولات الحشد والتعبئة، لم تتجاوز نسبة المشاركة وفقًا للأرقام الرسمية النهائية التي أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات في المرحلة الأولى 26 في المئة. وحتى مع التسليم بصحة هذه النسبة، رغم تشكيك بعض معارضي النظام، فإنها كانت الأدنى مقارنة بكل الاستحقاقات الانتخابية العديدة التي شهدتها مصر منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني، باستثناء انتخابات مجلس الشورى التي جرت عام 2012 والتي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 12 في المئة، وذلك لأن الرأي العام في ذلك الوقت كان ضد بقاء هذا المجلس من الأساس. ويبدو الفارق شاسعًا إذا ما قورنت هذه الانتخابات مع تلك التي جرت في ديسمبر/كانون الأول 2011، والتي تجاوزت نسبة المشاركة فيها 65 في المئة، وهي أكبر نسبة في تاريخ الانتخابات المصرية تقريبًا.
وقد وضع ضعف المشاركة في هذه الانتخابات السلطة في مأزق سياسي صعب؛ إذ بدأ مؤشرًا قويًّا على عدم رضا الشارع المصري عن الطريقة التي تتم بها الانتخابات من ناحية، والأجواء السياسية الخانقة التي تُجرى فيها من ناحية أخرى. كما أن هذا العزوف الكبير جاء بالرغم من مطالبة السيسي للمصريين، عشية الانتخابات، بالمشاركة بكثافة لاختيار ممثليهم في مجلس النواب القادم؛ حيث قال: "أدعوكم إلى الاحتشاد بقوة مرة أخرى لتنفيذ استحقاقنا الأخير الذي توافقنا عليه"(2). وقد اعتبر معارضو السلطة ضعف المشاركة دليلًا على التراجع اللافت في شعبية وتأثير السيسي في الشارع المصري، وفشلًا كبيرًا لنظامه الذي يتحمل مسؤولية حالة الإحباط التي يعيشها المصريون حاليًا(3). بينما عكست تصريحات المسؤولين انزعاجًا شديدًا من الرسالة التي حملتها مقاطعة غالبية المصريين(4).
فما الأسباب والعوامل التي أدَّت إلى هذا العزوف الكبير من جانب الشعب عن المشاركة في هذه الانتخابات؟ وما الرسائل التي حملتها نسبة المشاركة المتدنية سواء للنظام أو للأحزاب أو القوى السياسية المختلفة؟ وما انعكاسات ذلك سواء على شكل البرلمان القادم ومدى قدرته على القيام بدوره التشريعي والرقابي، أو على مستقبل المشهد السياسي في مصر ككل؟
المفاجأة المتوقعة
ما بين مشهد طوابير الناخبين الطويلة أمام لجان الاقتراع في الانتخابات البرلمانية التي جرت في شتاء 2011، وبين صورة اللجان شبه الفارغة في انتخابات خريف 2015، جرت مياه كثيرة في نهر المشهد السياسي في مصر، وحدثت متغيرات عديدة أسهمت مجتمعةً في هذا التحول الكبير الذي يتمثل في انصراف قطاعات واسعة من المصريين عن السياسة وعودتهم مرة أخرى لمقاعد المتفرجين التي لم يغادروها إلا لفترة قصيرة بعد ثورة يناير/كانون الثاني، التي أنعشت آمال الكثيرين بعودة الحياة لنهر السياسة الذي كان قد جفَّ تمامًا في سنوات حكم مبارك. فقد تسببت حالة الاضطراب السياسي والأمني التي أعقبت الثورة، وما صاحب ذلك من تدهور مؤلم في الأوضاع المعيشية والاقتصادية للمصريين، في عزوف قطاعات كبيرة من المواطنين عن الاهتمام بالشأن العام، والعودة مجددًا للانشغال بلقمة عيشهم، والبحث عن الاستقرار والأمن. وقد أسهم في ذلك تعثر الفترة الانتقالية وحالة الانقسام والاستقطاب بين القوى السياسية المختلفة التي عاشتها مصر وصولًا لمظاهرات 30 يونيو/حزيران، وانتهاء بالإطاحة بمرسي. إلا أن ما فاقم عزوف المصريين عن السياسة كان محاولة السلطة الجديدة التي جاءت بعد 3 يوليو/تموز، مصادرة المجال العام وخنق الحياة السياسية وإقصاء وقمع كل معارضيها، وعلى رأسهم الإخوان المسلمون. وقد اكتملت هذه الدائرة بقوانين النظام الانتخابي التي هندستها السلطة على هواها، بما يضمن لها إجراء الانتخابات وفق حساباتها ومصالحها.
من هنا، فإن ضَعْف التصويت كأحد أبرز ملامح هذه الانتخابات كان أمرًا متوقعًا، ولم يكن فيه أية مفاجأة بأية صورة من الصور، بل هي المفاجأة المتوقعة. فكل المقدمات كانت تقود لهذه النتيجة، سواء الظروف المحبِطة سياسيًّا واقتصاديًّا التي يعيشها المصريون، أو القوانين الانتخابية؛ فقد أدَّى جميعها لحالة عامة من عدم الاكتراث لدى قطاعات واسعة من المصريين بالعملية الانتخابية، بل إن كثيرًا من المرشحين أنفسهم لم يهتموا بعمل الدعاية الانتخابية أو النزول للناخبين للترويج لأنفسهم كما كان يحدث عادة في الانتخابات السابقة، حتى في عهد مبارك، ما خلَّف شعورًا عميقًا لدى الرأي العام بأن نتيجة هذه الانتخابات محسومة سلفًا.
أسباب العزوف
مع إعلان النتائج النهائية للمرحلة الأولى من الانتخابات، وظهور ضعف التصويت، سعت السلطة والإعلام المؤيِّد لها لاعتماد رواية تقلِّل من أهمية ذلك أو تأثيره على سلامة العملية الانتخابية من الناحية الإجرائية، والقول بأن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات ليست الأقل وإنها النسبة العادية التي كانت تحدث في كل الانتخابات البرلمانية السابقة على ثورة يناير/كانون الثاني، والتي كانت دائمًا في حدود هذه النسبة. وبينما اعتبرت هذه الرواية أن نسبة المشاركة الهائلة في انتخابات 2011 هي الاستثناء الذي لا يمكن القياس عليه، فإنها حاولت تبرئة ساحة السلطة من مسؤولية ضعف التصويت الذي أرجعته لعوامل أخرى منها ضعف الأحزاب السياسية وهشاشة تأثيرها في الشارع، وترشح وجوه كثيرة غير معروفة(5).
وبغضِّ النظر عن دقة رواية السلطة لما جرى، فإن ثمة مجموعة من الأسباب والعوامل الموضوعية التي يمكن أن تفسر هذا العزوف الكبير من جانب المصريين عن المشاركة في هذه الانتخابات:
وقد دفعت هذه العودة القوية لرموز الحزب الوطني كثيرًا من القوى السياسية، المنتمية لثورة يناير/كانون الثاني، لاعتبار الانتخابات بمثابة البوابة التي ستعود منها الشخصيات المنتمية للنظام السابق مجددًا، مستغلة النظام الانتخابي الذي يفتح الباب للمال السياسي والعصبيات القبلية والنفوذ العائلي ليلعب الدور الأكبر في الانتخابات. ولا شك أن هذه العودة كانت أحد الأسباب الأساسية لضعف التصويت، خصوصًا، أنها أصابت قطاعات واسعة من المصريين ومنهم الشباب بالإحباط؛ ما دفعهم للعزوف عن المشاركة في انتخابات رأوا أنها تعيد إنتاج برلمانات ما قبل يناير/كانون الثاني 2011 بنفس وجوهها وسياساتها. وفضلًا عن عودة رموز نظام مبارك، فإن هذه الانتخابات تميزت بترشح عدد كبير من ضباط الجيش والشرطة المتقاعدين والمدعومين من السلطة، والذين قُدِّرت نسبتهم بما بين 6 و7 في المئة من المرشحين في المرحلة الأولى من الانتخابات ومعظمهم ينتمون لمحافظات الصعيد(8).
ربما يكون من المبكر الحديث عن نسبة المشاركة بشكل نهائي قبل انتهاء الانتخابات، بمرحلتيها الأولى والثانية، واكتمال المشهد الانتخابي، لكن المرجح ألا تختلف نسبة المشاركة في المرحلة الثانية كثيرًا عمَّا جرى في المرحلة الأولى، بل إن البعض يتوقع أن تكون أقل من ذلك.
مناخ سياسي مأزوم
يمكن القول إذن: إن تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات كانت نتيجة متوقعة لكل الإجراءات والتدابير السياسية والقانونية التي اتخذتها السلطة على مدار الفترة الماضية، والتي خلَّفت مناخًا سياسيًّا محبِطًا للعديد من الأحزاب والقوى السياسية وحتى للمواطن العادي، وطارِدًا لأية رغبة في المشاركة في أي استحقاق سياسي سواء انتخابات أو غيرها. فقد جاءت هذه الانتخابات في خضم حملة منظَّمة من قبل السلطة وأنصارها لقمع وملاحقة أي صوت مخالف أو معارض للسلطة. وعكست تصريحات السيسي عن ضرورة الاصطفاف الوطني حتى في الانتخابات البرلمانية توجهًا سلطويًّا واضحًا؛ إذ إن مفهوم الاصطفاف في الانتخابات بدا مفهومًا مغايرًا تمامًا لمعنى العملية الانتخابية التي يُعتبر التنافس بين المترشحين أحد أهم شروط نجاحها، ولكن على ما يبدو فإن النظام أرادها أن تكون نوعًا من الاصطفاف خلف السلطة أكثر من كونها انتخابات حقيقية. وبموازاة هذه الأجواء السياسية التي تفتقد الشروط اللازمة لانتخابات نزيهة، تصاعد الجدل بين بعض مؤيدي السلطة عن ضرورة تعديل الدستور لتقليص الصلاحيات الدستورية للبرلمان القادم لصالح الرئيس، وهو الجدل الذي فجَّره تصريح للسيسي عن أن الدستور الحالي كُتب بنوايا حسنة، ما اعتبره مؤيدوه رغبة في تعديل هذا الدستور الذي يمنح البرلمان صلاحيات واسعة. بل إن قائمة "في حب مصر" المؤيدة للسيسي تخوض الانتخابات على قاعدة تقليص صلاحيات البرلمان لصالح الرئيس، وهي مفارقة غريبة حيث يسعى نواب البرلمان لتقليص صلاحياتهم لصالح السلطة التنفيذية. وحين سُئل اللواء سامح سيف اليزل عن البرنامج الانتخابي لقائمته، قال إنه لا يوجد لها برنامج، وإنها جاءت فقط لتأييد الرئيس، وإن أولى مهامها في البرلمان الجديد ستكون العمل على تعديل الدستور والحدِّ من صلاحيات البرلمان لصالح الرئيس. ولا شك أن هذه الممارسات والمواقف حملت الكثير من الرسائل المحبطة للرأي العام في مصر وخلقت حالة من فقدان الثقة لدى الناس في جدية أو جدوى هذه الانتخابات. وكانت النتيجة أن قطاعات واسعة من المصريين أصيبت بحالة من خيبة الأمل والاحباط ولم تعد تثق كثيرًا في أن الحل لأزمات البلاد الحالية يمكن أن يكون عبر صناديق الاقتراع، لاسيما أنهم جرَّبوا من قبلُ اللجوء لهذه الصناديق في استحقاقات انتخابية عديدة لدرجة الإنهاك دون أن يتغير شيء. من هنا، يمكن القول: إن سوء إدارة النظام الحالي للمشهد السياسي، وسياسات القمع والتضييق على الخصوم السياسيين، والعمل على حصار وخنق العمل السياسي والسعي لأن تكون الانتخابات منزوعة السياسة، كانت بعض الأسباب الأساسية لحالة اللامبالاة السياسية من قِبل المواطنين والتي كان عدم اكتراثهم بالانتخابات أحد تجلياتها الساطعة(9).
شكل وتركيبة البرلمان القادم
أسفرت نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات، كما أشرنا سابقًا، عن اكتساح قائمة "في حب مصر" المدعومة من السلطة لجميع المقاعد المخصصة للقوائم الانتخابية في هذه المرحلة وعددها 60 مقعدًا، في حين فاز حزب "المصريين الأحرار" المدعوم من رجل الأعمال البارز نجيب ساويرس بأكبر عدد من مقاعد الفردي (36 مقعدًا)، وجاء حزب "مستقبل وطن" المدعوم من السلطة ورجال الأعمال، ويضم العديد من قيادات الحزب الوطني المنحل في المركز الثاني بـ 28 مقعدًا، بينما حلَّ حزب الوفد في المركز الثالث وحصد 17 مقعدًا، في حين احتلَّ حزب النور السلفي المركز الرابع بعشرة مقاعد. وهكذا ظهر واضحًا أن المنافسة بين أربعة أحزاب، هي: المصريون الأحرار، ومستقبل وطن، والوفد، والنور، التي حصلت مجتمعة على ما يقرب من نصف المقاعد المخصصة للمرحلة الأولى، بينما حصل المستقلون على النصف الباقي ومعظمهم إمَّا ضباط متقاعدون، أو أعضاء سابقون في الحزب الوطني المنحل أو شخصيات مدعومة من رجال الأعمال، أو من أبناء العائلات والقبائل الكبيرة في الريف، لكن ما يجمع هؤلاء جميعًا أنهم خاضوا الانتخابات تحت لافتة تأييد السلطة (10).
وعلى ضوء التوقعات التي تشير إلى أن نتائج المرحلة الثانية لن تختلف كثيرًا عن الأولى، فإنه يمكن الاستناد إلى ما أظهرته النتائج التي أسفرت عنها المرحلة الأولى لرسم ملامح تركيبة مجلس النواب القادم؛ إذ إن قراءة هذه النتائج توضح أننا على الأرجح سنكون أمام برلمان يضم خليطًا غير متجانس من الشخصيات السياسية والحزبية وبعض العسكريين والضباط السابقين المؤيدين للسيسي مع شخصيات ورموز تنتمي لنظام مبارك والحزب الوطني المنحل، إلى جانب قوى سياسية وحزبية مدعومة من رجال الأعمال، فضلًا عن نسبة متواضعة لحزب النور السلفي. ورغم أن القاسم المشترك بين كل هذه المكونات سيكون دعم وتأييد قرارات السلطة، فإن البرلمان المرتقب، كما تشير التوقعات، لن تتوفر له أغلبية برلمانية واضحة تستند إلى رؤية أو برنامج سياسي محدد. فالسياق الذي جرت فيه الانتخابات يقود إلى ما يصفه البعض ببرلمان معاق ومكبل وتحت سيطرة السلطة التنفيذية(11). وهكذا، فإن معظم الآراء والسيناريوهات ترجِّح أن يكون مجلس النواب المرتقب برلمانًا منزوع السياسة وبلا أنياب حقيقية تشريعية أو رقابية، في حين ستبرز بوضوح ظاهرة نواب الخدمات على حساب النواب السياسيين، وهذا يطرح سؤالًا حول قدرة برلمان بهذا الشكل على القيام بمهامه في التشريع والرقابة والمساءلة. فوفقًا للدستور الحالي يعتبر البرلمان المقبل من أهم البرلمانات بالنظر إلى الصلاحيات الكبيرة الممنوحة له؛ إذ تقع على عاتقه مسؤولية ترجمة نصوص الدستور لقوانين وتشريعات ووضع القوانين المكملة لهذا الدستور، كما أن عليه مراجعة وإقرار أو تعديل القوانين التي صدرت في غيبة السلطة التشريعية، سواء في عهد عدلي منصور أو السيسي(12). ولا تعود أهمية البرلمان القادم فقط إلى صلاحياته التشريعية بل إن الدستور يجعله شريكًا أساسيًّا في الحكم مع رئيس الجمهورية، فله حق الموافقة أو الاعتراض على شخص رئيس الوزراء والتصديق على تشكيل الحكومة ومحاسبتها، وسحب الثقة منها، بل إن الدستور يمنح هذا البرلمان حق عزل رئيس الجمهورية. ولعل ذلك ما يفسر مخاوف السيسي وأنصاره من مجلس النواب القادم، رغم أنها تبدو مخاوف غير مبررة، بالنظر إلى التشكيلة المتوقعة لهذا المجلس، والتي ستكون في أغلبيتها الساحقة من مؤيدي السيسي بل ومن الداعمين لتقليص صلاحيات البرلمان لصالح الرئيس، ما يجعله برلمانًا مواليًا بشكل شبه كامل للسلطة التنفيذية، وداعمًا لسياساتها أكثر من كونه رقيبًا عليها أو قادرًا على مساءلتها(13).
خاتمة