مؤتمر حزب العدالة والتنمية الثامن ومعركة الولاية الثالثة

شَّكل إعفاء الملك لرئيس الحكومة المغربية، عبد الإله بنكيران، من منصبه وتصويت برلمان الحزب على عدم تعديل قانونه الأساسي، أي إنه لا تمديد لولاية ثالثة لبنكيران، تحديات واجهها حزب العدالة والتنمية وستكون تلك التحديات أكثر وقعًا خلال مؤتمر الحزب الثامن، وهذه التفاعلات هي ما يناقشه هذا التقرير.
821d4fe785f2417dad7864aabd67fbf1_18.jpg
أطروحتان تتجاذبان حزب العدالة والتنمية: الخوف من الاصطدام بالمؤسسة الملكية، وأطروحة رد الاعتبار للأمين العام للحزب بنكيران (الجزيرة)

مقدمة 

مع اقتراب موعد المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية يومي 9 و10 ديسمبر/كانون الأول، يحتدم النقاش داخل أوساط الحزب وخارجه حول اسم أمينه العام الجديد؛ ففي الوقت الذي أيقن فيه العديد من المراقبين من أن المسألة قد حُسمت لصالح عبد الإله بنكيران، خاصة بعد طرح تعديل المادتين 16 و37 من القانون الداخلي للحزب، بما يتيح للأمين الحالي الاستمرار لولاية ثالثة في منصبه، رفضت أغلبية برلمان الحزب في اجتماعها الأخير تعديل المادة 16من القانون الأساسي التي تسمح بتولي المسؤولية لأكثر من ولايتين متتاليتين. كما أن من شأن التعديل الآخر منع سيطرة الوزراء على قرار الحزب بسبب وجودهم بالصفة داخل أعلى هيئة تنفيذية فيه، وفكَّ ارتباط الحزب بالحكومة التي يقودها سعد الدين العثماني، ومن ثم يصبح أكثر قدرة على ممارسة أدواره في العلاقة مع التزاماته تجاه المجتمع والدولة والحكومة. من جهة أخرى، يعتقد العديد من المتابعين أن التصويت الذي تم إجراؤه داخل برلمان الحزب، وكانت نتائجه مفاجئة وغير متوقعة، قد قطع الطريق على الولاية الثالثة لبنكيران بصفة نهائية، وقد ذكر سليمان العمراني، نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، أنه "كان هناك نقاش كبير داخل مؤسسات الحزب بخصوص تعديل المادتين المذكورتين، وانتقل جزء منه للفضاءات العمومية، وخصوصًا في الملتقيات الجهوية للمؤتمِرين وفي اجتماعات الأمانة العامة وقبل ذلك في الاجتماع السابق للجنة الأنظمة والمساطر المنبثقة عن المجلس الوطني، مسجِّلًا أن "النقاش بشأن المادتين استغرق خلال الدورة الاستثنائية للمجلس الوطني، أكثر من 9 ساعات، وأدلى كل متدخل بدلوه، وكان التصويت سريًّا وكانت النتيجة التي علمها الرأي العام"(1). وفي إثر ذلك ذكر بنكيران في تصريح للصحافة أن "قرار رفض تعديل المادة 16 من القانون الأساسي للحزب، وكذلك المادة 37، قرار مؤسساتي أحترمه وألتزم به"(2). واعتبر بنكيران أن مسألة التمديد له من عدمها كانت أمرًا خلافيًّا بين فريقين في الحزب لم يكن بنكيران -وهو موضوعها الرئيس- طرفًا فيها، مضيفًا أن "المهم الآن أن يستمر الحزب بنفس النَّفَس الذي جاء به، وبذات القيم والمبادئ، هذا هو هدفنا جميعًا"(3).

ومنذ 2011، بات الحزب يواجه تحديات خارجية من أبرزها علاقته مع القصر، ومدى مقبوليته لديه، وكيف يتم "التطبيع" معه ومواجهة ما يسمى بـ"التَّحَكُّم" ومقاومي الإصلاح وقوى الفساد وأعداء استقلالية القرار الحزبي. وإلى جانب هذا التحدي أصبح يواجه تحديات داخلية عميقة أهمها تماسكه ووحدته الداخلية التي أصبحت مهددة منذ إعفاء بنكيران من تشكيل الحكومة، وتعيين العثماني بدلًا منه، وما أفرزه من انقسام داخلي جسَّده تصويت برلمان الحزب على عدم تعديل النظام الأساسي في محاولة قرأها البعض على أنها قطع الطريق مبدئيًّا أمام بنكيران نحو الولاية الثالثة، فما هي أسباب هذا الانقسام؟ وما سبب تصويت الأغلبية ضد التمديد للأمين العام؟ وهل سيربح الحزب معركته الداخلية ويصمد بعد أن راكم مجموعة من المكتسبات طيلة الفترة التي أشرف فيها على رئاسة الحكومة قبل وأثناء وبعد عقد المؤتمر الوطني؟ ثم ما هو مصير بنكيران والحزب وما هي السيناريوهات المحتملة؟

معركة الواجهتين

منذ انتقال حزب العدالة والتنمية من المعارضة إلى الحكومة عام 2011 في فترة ما بات يعرف بالربيع العربي والحزب يخوض مجموعة من التحديات والمعارك السياسية؛ بهدف تحصين وجوده في الساحة السياسية، وتحقيق مجموعة من المكاسب كان من أبرزها رهان الحفاظ على استقلالية قراره السياسي الداخلي من تدخل أجهزة الدولة وتأثيرها كما حدث مع أحزاب أخرى ما لبثت أن فقدت استقلاليتها وتعرضت للتدجين وأصبحت تابعة للإدارة. هذا، بالإضافة إلى المعارك الانتخابية المتتالية التي خاضها الحزب منذ تأسيسه أواخر التسعينات حتى الآن. لكنه مع الإصلاحات الدستورية التي تم إقرارها، وتولي الحزب رئاسة للحكومة فإنه أصبح أمام تحديات جديدة من قبيل علاقته الجديدة بالقصر، والمعارضة الحزبية وغير الحزبية، ومعركته ضد "التحكم" وقوى الفساد، ثم أخيرًا علاقته مع الناخبين الذين منحوه صدارة الانتخابات التشريعية في مناسبتين متتاليتين، ووضعوا ثقتهم في أمينه العام، عبد الإله بن كيران، لترؤُّس الحكومة، الذي بفضله يُجمع المراقبون أن الحزب ربح معظم الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها، بل وربح معركته ضد "التحكم" من خلال صموده ومقاومته وعدم استسلامه رغم النكسات المتتالية التي عرف كيف يحولها إلى انتصارات أمام الشعب. لكنَّ بنكيران بالمقابل خسر معركة الولاية الثالثة أمام برلمان حزبه بعد إعفائه من طرف الملك محمد السادس على إثر فشله أو عرقلة تشكيله للحكومة الذي استغرق عدة أشهر. لكن أكبر خسائر بنكيران كشخص -على ما يبدو طيلة مشواره السياسي- كانت الفشل في كسب رضا وثقة الملك، ربما من جرَّاء مواقفه؛ حيث كثرت انتقاداته تجاه أجهزة الدولة، فتواترت في خطاباته مفردات من قبيل: "التماسيح والعفاريت"، و"وجود دولتين" و"التحكم" في إشارة منه إلى جهات نافذة قال بنكيران إنها تعرقل الإصلاحات. وحتى وهو في منصب رئيس الحكومة وخلال جولاته ولقاءاته الحزبية، قال ذات مرة في حوار صحفي: "إن رضا الملك ليس مهمًّا بالنسبة لي وإن ما يهمني هو رضا والدتي ورضا الشعب" (4)، بعد أن سعى لكسبه لمدة طويلة. وهذا التصريح تلقَّاه القصر الملكي بكثير من الاستياء حينها، لكنه كان مصرًّا على أن علاقته بالملك تبقى ودية ومحاطة بكثير من الاحترام والتبجيل، الشيء الذي انتهى بإعفائه بطريقة اعتبرها العديد من المحللين مهينة، وبالتالي حكمت على بنكيران بالفشل في تطبيع علاقة الحزب مع القصر في عهده؛ وهو ربما ما نجح فيه سعد الدين العثماني الذي خلفه على رأس الحكومة. لقد عبَّر الملك للعثماني لحظة تعيينه لتشكيل الحكومة عن رغبته في الاشتغال مع حزب العدالة والتنمية، ولم يسبق أن عبَّر بشيء مماثل لسلفه حسب علمنا طيلة السنوات الخمس الماضية، وهو ما يطرح السؤال: هل ما يشكِّل مشكلًا بالنسبة للدولة هو الحزب أم شخص بنكيران أو بالأحرى الحزب بقيادة بنكيران؟ إن بنكيران يمتلك القدرة على التمرد في أية لحظة، ويتقن مختلف الأدوار والوظائف بقوته التواصلية والسياسية المؤثِّرة، ولغته البسيطة الماكرة، وهو شخص له العديد من التراكمات منذ أن كان طالبًا يتبنى الفكر اليساري ثم انخراطه بعد ذلك في الشبيبة الإسلامية، والحركة الإسلامية، وصولًا إلى انضمامه للحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية برئاسة عبد الكريم الخطيب، لينتهي به المسار رئيسًا لحزب العدالة والتنمية.

ومنذ تشكيل حكومة سعد الدين العثماني، استَبعد بنكيران فكرة الاستمرار على رأس الحزب، لكنه في الآن ذاته كان مستعدًّا لأن يستمر في حال ما إذا اضطرت قيادات الحزب إلى هذا الاختيار. نستنتج من ذلك أن الصراع السياسي الخارجي انعكس على الوضع الداخلي للحزب، وانتقل من صراع مع الدولة والمعارضة إلى صراع بين أعضاء الحزب خاصة منذ الإعفاء، حتى طرح مسألة الولاية الثالثة للنقاش داخل لجنة الأنظمة والمساطر. وقد عبَّرت خرجات بنكيران الأخيرة عن ذلك بشكل جلي إذ لم تخلُ من رسائل غير مباشرة بعثها الرجل في عدة مناسبات، عندما تحدث عن استقلالية القرار السياسي، وأن الحزب ضربه زلزال سياسي وأن وضعية الحزب أصبحت مقلقة، لاسيما بعد الصراعات التي تفجرت بين القيادات التي استفادت من "المناصب الوزارية"، وأخرى بقيت مساندة له طيلة مراحل محاولاته لتشكيل حكومته الثانية التي لم يتمكن من تشكيلها في النهاية، مما فتح الباب أمام إمكانية تجديد الثقة فيه لولاية ثالثة كمحاولة لرد الاعتبار للشخص الذي حقَّق الحزب في عهده إنجازات غير مسبوقة. وهذا الأمر لم يحظ بثقة أغلبية برلمان الحزب الذي رفض في اجتماعه الأخير تعديل المادة 16من القانون الأساسي التي تسمح بتولي المسؤولية لأكثر من ولايتين متتاليتين، حيث صوَّت ضد مقترح التعديل 126 عضوًا مقابل 101 صوتوا بنعم من أصل 231 مصوِّتًا. كما رفض برلمان الحزب تعديل المادة 37 بحذف عضوية وزراء الحزب من الأمانة العامة للحزب بالصفة(5).

لقد أصبح الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، وبشكل مبدئي، خارج سباق زعامة الحزب في المؤتمر الوطني المرتقب، وهذه المسألة خلقت انقسامًا حادًّا في صفوف الحزب بين مؤيد للولاية الثالثة وبين معارض لها؛ حيث اعتبر المؤيدون أن قطع الطريق على بنكيران نحو الولاية الثالثة من مؤشرات "التراجع الديمقراطي" الذي عرفه المغرب منذ إعفائه من تشكيل الحكومة بعد الانتخابات التشريعية، التي جرت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2017، وما أفرزته من حكومة تفتقد للشرعية الانتخابية، وأن الولاية الثالثة ربما تكون الحل الوحيد لإنقاذ ما تبقى من صورة الحزب خاصة بعد تراجع شعبيته في الفترة الأخيرة وخسارته في الانتخابات الجزئية، وباعتبار أن زعيم الحزب كان رمزًا للمقاومة والممانعة، وهو ما يهدد الحزب بمسار مشابه لأحزاب أخرى انتهى بها المطاف إلى أن تصبح أداة في يد "المخزن" بعد تخليها عن تجسيد إرادة الناخبين. وفي الوقت نفسه يؤكد الطرف الآخر أن رفض تعديلات القانون الأساسي أنقذت الحزب من انتكاسة ديمقراطية، كانت ستؤدي بالحزب إلى مسار ديكتاتوري يستمر فيه الزعيم في منصبه لمدة طويلة، مع التشديد على أن هذه التعديلات كانت ستعتبر خروجًا عن منهج "المشروع الإسلامي" ومبدأ التداول على القيادة. ثم إنه لم يكن لها -في نظر هذا الطرف- أي مبرر موضوعي وتم ربطها بشخص بنكيران، كما أن اعتمادها يفتقد للشرعية القانونية والأخلاقية، في حين ينسجم رفضها مع متطلبات الظرفية التي تستدعي التوافق من أجل تحصين المكتسبات وتجنيب الحزب تحديات مرتبطة بالعلاقة بين القصر وحكومة العثماني.

ويبقى خروج هذا الصراع إلى العلن مؤشرًا على أن الحزب لم يعد يستطيع تدبير واحتضان خلافاته الداخلية، بل ربما آل الأمر إلى محاولة كل طرف إضعاف الطرف الآخر في أفق التحكم في نتائج المؤتمر المقبل. ويمكن إيعاز سبب عدم ظهور هذه الخلافات فيما مضى إلى كون الحزب كان بعيدًا عن مراكز صنع القرار، لكن يبدو أنه بمجرد مشاركته في الحكم وتمكنه من مقاليد التسيير والمناصب بدأت الخلافات تكبر شيئًا فشيئًا.

ديمقراطية تحت الضغط

علَّقت إحدى الصحف المغربية على نتيجة تصويت المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية ضد التمديد لبنكيران لولاية ثالثة قائلة: "السياسي الأكثر شعبية في المغرب هزمه حزبه"، وهذه الملاحظة الواردة تدفعنا لطرح تساؤل مفاده: إذا كان بنكيران يعتبر ورقة رابحة بالنسبة للحزب، وبفضل قيادته راكم الحزب المزيد من الانتصارات وحقق المزيد من المكاسب في أصعب الظروف وحظي بشبه إجماع داخل الحزب، وقد لا يكون له بديل مماثل في الحزب في الوقت الراهن، فلماذا صوَّتت الأغلبية ضده؟ ولماذا لم يتم التجديد له لولاية جديدة؟ للجواب على هذه الأسئلة فإن هنالك مجموعة من الأسباب أدت إلى التصويت ضد الولاية الثالثة، نذكر منها:

أولًا: أن التصويت كان سريًّا بناء على ملتمس أحد أعضاء المجلس الوطني للحزب؛ الشيء الذي رفع الحرج عن بعض الأشخاص المترددين الذين عبَّروا عن موقفهم بكل أريحية، وبالتالي فالكتلة الصامتة التي لم تعبر عن رأيها في المجلس انحازت في الأخير لخيار عدم التمديد. 

ثانيًا: وقوف ما يسمى في الأدبيات الإعلامية بـ"تحالف الدعوي والسياسي" في الحزب والذي يضم تيار الوزراء وكثيرًا من قيادات حركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوية للحزب ونواته الصلبة، ضد بنكيران بشكل علني، وضد أية محاولة لإعادة النظر في المادة 16 من النظام الداخلي؛ لأن ذلك لن يتم إلا من خلال القانون وهي الوسيلة الوحيدة للوقوف ضده دون ترك الأمر حتى المؤتمر.

لقد أصبح الحزب مع بنكيران يدخل في خانة الأحزاب السياسية الخاضعة للزعامة، فإذا كان بنكيران قد ربح الرهان الأول في المؤتمر الاستثنائي قبل عام من خلال تمديد ولايته سنة إضافية تحت مبرر الانتخابات رغم أن الأمر مخالف للقانون ولم يتلقَّ أية معارضة على عكس خيار الولاية الثالثة الذي أحدث شرخًا وانقسامًا حادًّا في صفوفه منذ حدث الإعفاء، والذي وسَّع من شعبية بنكيران وزاد من نفوذه داخل الحزب على اعتبار أن هناك اعتقادًا بأن استمرار بنكيران على رأس الحزب يعتبر بمثابة تحدٍّ للدولة وفيه الكثير من المخاطرة، كما أن النمط الذي فرضه بنكيران في تسيير الحزب قد أقحم الحزب في صراعات متعددة مما جعل أزمته الداخلية تخرج للعلن.

ثالثًا: أن المؤيدين لبنكيران داخل الحزب ينتمون لقواعد الحزب من مناضلين ومتعاطفين وفئات عريضة من الشعب، وخاصة شباب الحزب الذين عبَّروا عن تأييدهم العلني لاستمرار بنكيران لولاية ثالثة. هؤلاء وإن كانوا يشكِّلون أغلبية عددية إلا أنهم ليس لديهم صوت مؤثِّر داخل أجهزة اتخاذ القرار خاصة برلمان الحزب، لكنهم في المقابل قد يشكِّلون أغلبية في المؤتمر الذي بيده كلمة الحسم في تعديل النظام الأساسي من عدمه.

رابعًا: يؤكد رفض تعديلات القانون الأساسي من قبل برلمان الحزب ميول الحزب الإسلامي نحو المحافظة، وهو ما يكرِّس التصور الذي يعتبر أن العقل الإسلامي يميل إلى الحفاظ على المكتسبات وعدم المخاطرة باتخاذ أي قرارٍ مخرجاتُه غير مضمونة؛ حيث إن الإشكالية اليوم لم تعد مرتبطة بالحزب في حدِّ ذاته بل مرتبطة بالدولة نفسها التي تمر بعدة أزمات تخص التمثيلية السياسية، والمؤسسات الوسيطة، وتدبير الاحتجاجات، إضافة إلى التحديات التي تعرفها مجموعة من القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وبالإضافة إلى كل ذلك عدم وجود بديل سياسي يعوِّض حزب العدالة والتنمية، رغم ما عرفته الأحزاب السياسية مؤخرًا من تغييرات جرَّاء استبدال قادتها وزعمائها. وهذا ما قد يثني الدولة عن محاولتها عزل حزب العدالة والتنمية بشكل مباشر، رغم أن علاقة الدولة والحزب في عهد بنكيران لم تكن مستقرة وقد طغى عليها الغموض والالتباس بل إنها مرت بلحظات شد وجذب قوية. 

ولكن الزعم بأن طرفي الصراع في الحزب قد أثبتا استقلاليتهما الفعلية عن كل تأثير خارجي هو رأي مجانب للصواب، فمن حيث المبدأ يصعب الطعن في مبدأ استقلالية القرار السياسي للحزب إلا أن فرضية التأثير الخارجي حاصلة لا محالة، لكنها تمت بشكل غير مباشر من خلال تجاوب أعضاء المجلس بشكل إيجابي مع الرسائل السياسية التي بعثها القصر في كثير من المناسبات وتجسدت بالأساس في إعفاء بنكيران(7). وبتعبير أدق كان الأمر استجابة ورضوخًا للضغط الذي يمارسه القصر، واستيعابًا لدروس التجربة الحكومية الأولى التي كانت مليئة بالتشنجات والتصادمات والحرب المعنوية والرسائل المشفرة بين الحزب الإسلامي وحلفائه من جهة وبين التيار المناوئ للحزب الاسلامي من داخل الدولة، في وقت يعرف فيه الحزب انقسامًا حادًّا لم يقبل خطًّا وسطًا بين فئة فضلت خيار المهادنة والاستجابة لمتطلبات الظرفية السياسية في محيط وطني وإقليمي مشتعل ومتأزم وتفادي أي صدام قد يقود إلى مواجهة مباشرة مع الدولة بعد أن كانت تتم بشكل ضمني وبعث رسالة إلى مؤسسات الدولة وللشركاء، مفادها الإجماع والاتفاق على العمل في إطار الثوابت الوطنية من منطلق مبدئي، وبين فئة ترهن مصير ومستقبل الحزب بشخص بنكيران مستبعدين فرضية الصدام، وبالتالي كان في تقديرهم أن مراهنتهم بالحزب بزعامة بنكيران سيقوِّي موقع الحزب ووجوده أكثر في الساحة السياسية وموقنين بأن الحزب من دون بنكيران سيشهد انقسامًا أو تراجعًا كما حدث في تجارب مماثلة.

إذن، هناك أطروحتان داخل الحزب وتياران لكل منهما تفسيره للمأزق الذي وصل إليه الحزب اليوم ولطريقة الخروج من عنق الزجاجة: فهناك أطروحة أنصار "الخوف من الاصطدام بالمؤسسة الملكية" واعتبار مسألة التمديد لبنكيران تحديًا للدولة والحكومة، من شأنه تعجيل الصدام بين الحزب والقصر، خاصة أن تجديد الولاية لبنكيران يعتبر رسالة إلى القصر مفادها أنكم إن كنتم تخيلتم أن بنكيران قد انتهى فهو باقٍ على رأس الحزب، وبالتالي فأي تفاوض مع الحزب وأي حوار معه، سيتم بالضرورة عبره كأمين عام للعدالة والتنمية. وهناك أطروحة أخرى يرى أنصارها ضرورة رد الاعتبار للزعيم الذي أُهين والتشبث بخطه السياسي الذي لا يهادن ولا يقبل التحكم، بل وضرورة فصل قيادة الحزب عن قيادة حكومة "الانقلاب". 

وفي انتظار حسم المؤتمر المقبل مسألة التعديلات بشكل نهائي يستمر شد الحبل بين قواعد الحزب التي ترى في الأمين العام الحالي، عبد الإله بنكيران، ضمانًا لاستقلالية الحزب واستمرارية شعبيته، وتيار الوزراء المدافعين عن حكومة العثماني والمزيد من التقارب مع القصر. وخلاصة القول: إن التصويت في برلمان الحزب تم تحت الضغط خوفًا من الاصطدام بالدولة ومن دحر الحزب وإعلان الحرب ضده، ويقابله خوف آخر من الاصطدام بالمجتمع وبالتالي الاضمحلال السياسي، لكن من الواضح أن الكفة قد رجحت في الأخير لصالح الطرف الأول.

انزياح عن المنهج

إن خروج صراع زعامات العدالة والتنمية إلى العلن كشف عن أن الحزب ذا المرجعية الإسلامية قد انزاح عن الإطار الأخلاقي الذي تأسَّس عليه في البداية وطبع علاقة "الإخوان" فيما بينهم. ويأتي كل هذا بعدما اتهم الوزير والقيادي في الحزب، مصطفى الرميد، في تدوينة له، بنكيران بـ"تمجيد نفسه" و"استصغار نضال الآخرين من إخوانه في قيادة الحزب"(8). وجاء ذلك في رد على كلمة ألقاها بنكيران في أحد لقاءاته؛ حيث أظهر مناضلي الحزب وكأنهم متخاذلون ومفرِّطون وغير مكترثين باستحقاقات مرحلة حاسمة من تاريخ الحزب والوطن، وتمجيده لنفسه بشكل جعله وكأنه هو الحزب والحزب هو، حسب نفس التدوينة. 

وبالإضافة إلى هذا، اندلعت الحرب الكلامية وحرب التسريبات والاتهام بالخيانة والعمالة للمخزن والزج بالحزب في خط "التحكم" بين أعضاء الحزب منذ تعيين حكومة سعد الدين العثماني؛ الشيء الذي يتنافى مع المرجعية الأخلاقية التي يتبناها الحزب، وهو أمر يمكن اعتباره بمثابة انقلاب على المبادئ التي وضعها إخوان بنكيران لأنفسهم. وهذا الأمر سيؤثر لا محالة على صورة الحزب في المستقبل، وهي صورة كانت قائمة على الخطاب الأخلاقي بالأساس، لكن انكشف العكس بعدما تضاربت المصالح وتباينت المواقف بشأن الأزمة التي يعيشها الحزب، وبالتالي فالحزب تحول من لغة المبادئ والقيم إلى البراغماتية ولغة المصالح. وقد تجسد ذلك أساسًا في محاولات التضييق على وجهات النظر المخالفة قبل الوصول إلى هذا الوضع مما يعبِّر عن أزمة قيم دخل فيها الجيل الحالي من الحزب، الذي تحول تدريجيًّا من مثقفين وسطيين، إلى محترفي سياسة نفعيين، بمبرر الواقعية والتدبير السياسي الناجع.

ومما لا شك فيه أن الحزب سيتجه إلى مؤتمره بدون "أطروحة" للمرحلة المقبلة ودون برنامج إنقاذ، ودون خطة لاستعادة المبادرة والوفاء لثقة الناخب؛ لذا فإن جُلَّ من عبَّأ للولاية الثالثة أو ضدها قد فعل ذلك بناء على تقديره ومصالحه وليس انطلاقًا من قناعته ومبادئ "المشروع الإسلامي"، وهذا حق يسمح به القانون، لكن حتمًا ستكون له كلفة سياسية مستقبلًا.

مصير بنكيران ورهانات المؤتمر

إن أمر الولاية الثالثة لم يُحسم بعد، وما زال مفتوحًا على كل الاحتمالات؛ إذ إنه من الممكن أن يعاقب المؤتمرون بنكيران مرة أخرى كما يمكن يعاقبوا معارضيه. ورغم تصويت المجلس الوطني على عدم تعديل المادتين فإن الأمور لم تُحسَم بعد؛ حيث "إن المعركة القانونية لم تنته بعد ضد الرافضين للولاية الثالثة"(9)، ولا يمكن مصادرة حق المؤتمر كأعلى هيئة تقريرية في الحزب في تعديل النظام الأساسي. 

إن لدى المؤتمر إمكانيةَ إعادة إدراج نقطة التعديل؛ وذلك طبقًا للمادة 14 من القانون المنظِّم للأحزاب السياسية(10) الذي يشترط في فقرته الأولى ضرورة مصادقة المؤتمر الوطني للحزب على أي تغيير يطرأ على النظام الأساسي للحزب. ولا شك في أن تضارب الآراء بشأن تأويل هذه المادة بين كلا الطرفين قد يمنح الغاضبين من التصويت ضد التمديد فرصة ثانية من أجل الدفاع عن موقفهم. ويملك هؤلاء أغلبية داخل أعضاء المؤتمر الألفيْن عكس برلمان الحزب الذي رجحت فيه كفة الرافضين للتمديد لبنكيران الذي دافع عن دور المجلس الوطني في اعتماد هذه المادة. وتبقى حظوظ اعتمادها في المؤتمر الوطني أكبر منها في المجلس الوطني. وقد علَّق بنكيران على نتيجة تصويت المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية على رفض تعديل المادة 16 من القانون الأساسي للحزب، قائلًا إن: "مسؤوليتي على الحكومة انتهت بإعفائي من طرف الملك ومسؤوليتي كأمين عام للحزب انتهت بقرار المجلس الوطني"(11). كما قال: إن "المهم الآن أن يستمر الحزب بنفس النَّفَس الذي جاء به، وبذات القيم والمبادئ، هذا هو هدفنا جميعًا"(12).

ويبقى حزب العدالة والتنمية اليوم أمام عدَّة سيناريوهات في أفق ما سيتمخض عنه المؤتمر، ولكل واحد منها كلفته وصعوبته وتداعياته وحدوده:

السيناريو الأول: بقاء بنكيران أو أحد مقربيه في الرئاسة: وقد يتم هذا عن طريق تعديل القانون الأساسي من طرف المؤتمر وانتخاب بنكيران للولاية الثالثة، وهو أمر مستبعد، وفي سياق نفس السيناريو يمكن لبنكيران أن يدعم مرشحًا مقربًا منه للأمانة العامة أو يحظى بتوافق كلا التيارين مما يساعد على محو ذلك الخلاف والانقسام ويقود مصالحة داخلية بينهما تصب في مصلحة الحزب.

السيناريو الثاني: الانقسام داخل الحزب: كما يمكن أن يتعرض الحزب لانقسام داخلي قد يطول أو يقصر وقد لا يفضي بالضرورة إلى انشطار في الحزب أو خروج أحزاب صغيرة من رحمه، كما حدث في تجارب مشابهة، نظرًا لطبيعة الحزب الخاصة المتمثلة أساسًا في انبثاقه من حركة إسلامية تختلف تركيبتها الاجتماعية والأيديولوجية عن الحزب السياسي وتحكمها قواعد غير قواعده، أو ربما خروج تيار تصحيحي من داخل الحزب من طرف الغاضبين.

السيناريو الثالث: انسحاب بنكيران أو اعتزاله: قد ينسحب بنكيران من حزب العدالة والتنمية نهائيًّا، ويتجه إلى تأسيس حزب جديد بهوية سياسية جديدة ومغايرة كما فعل أردوغان في تركيا؛ حيث غادر حزب الرفاه، الذي كان يقوده نجم الدين أربكان وأسس حزبًا جديدًا. وفي سياق هذا السيناريو، قد ينسحب بنكيران دون تأسيس حزب جديد بل معتزلًا للسياسة وتاركًا مكانه داخل الحزب فارغًا وشاغرًا وترك الأزمة تتعمق شيئًا فشيئًا؛ الشيء الذي سيجعل مستقبل الحزب على المحك.

إن المؤتمر الثامن للحزب إضافة إلى أنه سيكون بدون رهانات سياسية كبرى نظرًا للخلافات التي يعيشها، إلا أنه يعتبر محطة لإعادة النظر في منهج الحزب واختياراته، كما يمكن أن يفتح نقاشًا داخليًّا جديًّا في أمور من قبيل اعتماد الترشح الشخصي الحر وليس الترشيح الجماعي المعتمد من طرف الحزب "حيث يتم في عملية أولى ترشيح ثلاثة أسماء على الأكثر واثنين على الأقل لمنصب الأمين العام بطريقة سرية من قبل أعضاء المجلس الوطني القديم والجديد، إضافة إلى أن العملية الثانية هي التداول بشأن المرشحين الحاصلين على 10% على الأقل من الأصوات المعبَّر عنها"(13). ويبقى السؤال الأساسي الذي ينتظر الجواب عليه يوم مؤتمر حزب العدالة والتنمية هو: من سيقود الحزب وبأي خط سياسي وبأية أطروحة للمراحل المقبلة بغضِّ النظر عن الأشخاص؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصطفى جالي- باحث في العلوم السياسية

نبذة عن الكاتب

مراجع

1 - انظر: "العمراني: بنكيران كان زعيمًا وسيبقى زعيمًا"، موقع حزب العدالة والتنمية، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017): https://goo.gl/TNYvGC

2 – "بنكيران: قرار المجلس الوطني مؤسساتي لا غبار عليه"، موقع حزب العدالة والتنمية، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017):https://goo.gl/eVz53J

3 – حامي الدين، عبد العلي، "مواقف الكبار في سجل التاريخ"، موقع اليوم 24، 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017): http://www.alyaoum24.com/993762.html

4 – انظر: "رئيس الحكومة السيد عبد الإله بنكيران مع وكالة الأنباء الإسبانية"، إفي، موقع حزب العدالة والتنمية، (تاريخ الدخول: 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017):https://goo.gl/wWjifd

5- "برلمان المصباح يرفض حذف عضوية الوزراء من الأمانة العامة"، موقع حزب العدالة والتنمية، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2017):https://goo.gl/9qRESp

6 – انظر: "موالون لبنكيران ينقلون معركة الولاية الثالثة إلى "مؤتمر البيجيدي"، هسبرس، 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2017،(تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرينالثاني2017): 

https://www.hespress.com/politique/372958.html 

7 – "بعد رفضه للولاية الثالثة.. يتيم: بنكيران انتصر ووحدة الحزب خط أحمر"، موقع لكم، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2017):http://lakome2.com/politique/32650.html

8 - "الرميد يهاجم بنكيران ويقول: إن تمجيده لنفسه جعله وكأنه هو الحزب والحزب هو"، موقع لكم، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2017، (تاريخ الدخول: 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2017):  http://lakome2.com/politique/31934.html

9 – "القانون المنظم للأحزاب السياسية"، الجريدة الرسمية، 24 أكتوبر/تشرين الأول 2011، (تاريخ الدخول: 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017): http://adala.justice.gov.ma/production/html/Ar/176100.htm

10 – انظر: "نصوص عامة"، الجريدة الرسمية، 24 أكتوبر/تشرين الأول 2011، (تاريخ الدخول: 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017):http://www.sgg.gov.ma/Portals/1/lois/Loi_29.11_Ar.pdf؟ver=2012-10-17-104850-000

 11 – أمدوري، جمال، "بنكيران: مسؤوليتي انتهت.. والمستقبل يعلمه الله"، موقع العمق المغربي، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2017):  https://al3omk.com/249955.html 

12 – "رسائل سياسية من داخل دورة استثنائية في كل شيء"، موقع حزب العدالة والتنمية، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2017): https://goo.gl/uVnLyr

13 – "العمراني: بنكيران كان زعيمًا وسيبقى زعيمًا"، موقع حزب العدالة والتنمية"، مرجع سابق.