الإعلام الاجتماعي وتحولات البيئة الاتصالية العربية الجديدة

تستقصي الدراسة إشكالية التحولات المتسارعة التي فرضتها تكنولوجيا الاتصال الحديثة في مجال الاتصال بالعالم العربي. وتبحث مرتكزات البيئة الاتصالية العربية الجديدة والسياقات المفسِّرة لتحولات المنظومة الاتصالية إلى صيغتها الجديدة، وتأثير تلك التحولات الاتصالية على آلية عمل الفضاء العام في المجال العربي.
d8bcd56097624b3488b7624f0679f070_18.jpg

مقدمة 

لا شك في أن التطور التكنولوجي المتسارع لوسائل الاتصال فرض تحولات هائلة في العملية الاتصالية بجميع مكوناتها؛ إذ نَحَى بتلك العملية نحو التفاعلية والفورية والمشاركة الفاعلة في إنتاج المحتوى. ونتج عن ذلك المنحى بروز بيئة إعلامية جديدة بقيم جديدة وممارسات جديدة لم تكن بلدان العالم العربي -على غرار باقي دول العالم- بمعزل عن سيرورتها وتأثيراتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بل يمكننا الذهاب أبعد من ذلك بالقول بأن البيئة العربية كانت من أكثر البيئات تفاعلًا مع تلك التغيرات وتأثرًا بها، بحكم تعطش المجتمعات العربية للحريات، نتيجة للتداعيات السلبية لفترة ما قبل الانفتاح التكنولوجي، والتي تميزت بهيمنة الحكومات على وسائل الإعلام في أغلبية الدول العربية وفرضها لمنطق أحادية الطروحات والتوجهات، مما حَرَم تلك المجتمعات من وسائل الاستعلام النيِّر وأدوات التعبير الحر. لكن وبمجرد توفر تكنولوجيات الاتصال الجديدة، أُتِيح للشباب العربي وسائط ومنصات باتت تسمح لهم بإشباع حاجاتهم إلى الأخبار والمعلومات غير الموجَّهة، بل وإنتاجها أيضًا عبر وسائط الإعلام الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي التي أتاحت لهم التعبير الحر، وهو ما كرَّس تحولًا في السلوك الاتصالي للمستخدم العربي تجاه الإعلام الاجتماعي وشبكاته. 

إن هذا التحوُّل الذي لم ندرك منه بعد في هذه المرحلة سوى تجلياته الأولية، لجدير بالدراسة والتحليل لفهم مسبباته ومدلولاته، ولِتَوَقُّع مناحيه المستقبلية وانعكاساته اللاحقة على النظم الاجتماعية والسياسية والثقافية في الدول العربية. كما أن هذا التحوُّل وإن كان شاملًا لكل الدول العربية دون استثناء، إلا أنه لم يأخذ نفس المسار ولم يعرف نفس الوتيرة في كل الدول؛ لذا علينا معرفة الخصائص التاريخية، والاقتصادية، والتكنولوجية التي لعبت دورًا كبيرًا في خلق تفاوت في الحاجات والإشباعات بين منطقة جغرافية وأخرى في العالم العربي. ولعلنا سنسعى من خلال هذه الدراسة لفهم طبيعة تأثير تلك الخصائص على مسارات تطور استخدام تكنولوجيا الاتصال الجديدة، بقدر ما سنسعى أيضًا لتبيان إلى أي مدى كان للحَوْكَمَة الإلكترونية، من خلال انفتاح الإدارات والحكومات على استخدام البوابات والتطبيقات الإدارية الإلكترونية، دور في تشجيع المواطنين نحو الترحال إلى الفضاء الالكتروني. 

إشكالية الدراسة وتساؤلاتها 

إن دراستنا هذه تخوض أساسًا في إشكالية التحولات المتسارعة التي فرضتها تكنولوجيا الاتصال الحديثة في مجال الاتصال داخل العالم العربي وذلك لفهم مسبباتها وإدراك أبعاد وتأثيرات ظاهرة جديدة، باتت انعكاساتها تشغل بال الكثير من علماء الاجتماع والمتخصصين في علم الاجتماع الإعلامي على الرغم من الترحاب الذي قوبلت به عند الكثيرين. ونسعى من خلال هذا البحث لجمع مؤشرات كافية لفهم خصوصية البيئة الاتصالية الجديدة في العالم العربي، ثم السياقات الخاصة المُفَسِّرَة لتحولات المنظومة الاتصالية إلى صيغتها الجديدة في البلدان العربية، ثم معاني وحيثيات تحول السلوك الاتصالي عند المستخدم العربي، ثم لفهم دلالات تباين الاستخدامات ومركَّب التفضيلات عند هذا المستخدم، وانعكاسات التحولات في الممارسات الاتصالية على تَشَكُّل وعمل الفضاء العام في العالم العربي. وتطرح دراستنا هذه مجموعة من التساؤلات البحثية، أولها: ما محددات ومرتكزات البيئة الاتصالية الجديدة في العالم العربي؟ وما السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية المُفَسِّرَة لتحولات المنظومة الاتصالية إلى صيغتها الجديدة؟ ثم ما مسببات ومعاني تحوُّل السلوك الاتصالي عند المستخدم العربي؟ وأخيرًا، ما تأثير تلك التحولات الاتصالية على آلية عمل الفضاء العام في العالم العربي؟  

الإطار المنهجي والمجال الزمكاني للدراسة 

استند بحثنا هذا على أداتين أساسيتين، الأولى: هي مقابلات نوعية أُجريت عن بُعد في الفترة الممتدة من ربيع 2017 إلى صيف 2017 مع عينة من 72 فردًا من مستخدمي ونشطاء الشبكات الاجتماعية موزعين على 18 دولة عربية بواقع أربعة أفراد عن كل دولة، وهم يمثِّلون عينتنا البحثية، كما سنشير لاحقًا أثناء تحليل نتائج الاستقصاء. وقد قُسِّمت تلك الدول إلى ثلاث مناطق جغرافية، هي: المغرب العربي وشمال إفريقيا، والتي تضمنت كلًّا من المغرب، وموريتانيا، والجزائر، وتونس، وليبيا، ومصر، والسودان، ثم دول الخليج واليمن، التي تضمَّنت كلًّا من سلطنة عُمان، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، والبحرين، والكويت، واليمن، وأخيرًا، منطقة الشام التي تضمَّنت سوريا، ولبنان، وفلسطين، والأردن. أما التقسيم الديمغرافي للعينة فكان مناصفة بين الرجال والنساء ومناصفة أيضًا بين فئتين عمريتين فقط، هما: فئة من 16 إلى 25 سنة ثم فئة من 26 سنة إلى 60 سنة. أما الأداة الثانية فهي قراءة تحليلية لتقرير "وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي"(1) الذي سنستخدم بعض نتائجه الكمية لتعزيز ما توصلنا إليه في دراستنا الكيفية، على اعتبار أنها دراسة ممثِّلة لواقع حال العالم العربي كميًّا؛ حيث بُنيت على عينة واسعة النطاق شملت 7000 فرد من مستخدمي الشبكات الاجتماعية موزعة بالتساوي بين 18 بلدًا من بلدان العالم العربي، باستخدام نفس التقسيم الجغرافي الذي اعتمدنا عليه في دراستنا. 

الإطار النظري للدراسة 

نستخدم في دراسة موضوعنا هذا مقاربتين، الأولى: هي مقاربة الحتمية التكنولوجية التي كرَّس مارشال ماكلوهان (Marshall McLuham) كل طاقته لشرح سيرورتها في كتابه المعنون "مجرة غوتنبرغ" (The Gutenberg Galaxy)، وذلك ليتسنَّى لنا تفسير ما يجري حولنا من تغيرات من خلال فهم النقلات المختلفة التي حصلت في المجتمعات البشرية عبر التاريخ، بين الفترة التي كانت فيها الكتابة المطبوعة هي التي تبني القوالب الفكرية للبشرية، والفترة التي أصبحت فيها الوسائل الإلكترونية هي التي تصقل العقول. إننا نستخدم مقاربة الحتمية التكنولوجية؛ لأننا ننظر لتكنولوجيا الاتصال الحديثة كبنية مركزية مُؤَطِّرة للمجتمعات، بات يتولَّد عنها باقي البِنَى الفوقية، أي كل أشكال الإنتاجات اللامادية التي تُقدِّمها المجتمعات (الدين، الفكر، الأخلاق والمثل، الفنون). لقد كتب ماكلوهان قائلًا: "كل تكنولوجيا تسعى إلى خلق محيط إنساني جديد؛ فورق البردي والمخطوطات اليدوية هي التي خلقت المحيط الاجتماعي الذي عرفته العصور القديمة، ثم جاء السرج والعجلة لينشئوا بيئات فريدة كانت لها تأثيراتها الهامة في زمنها. إننا -يضيف ماكلوهان- نؤمن بأن البيئات التكنولوجية ليست مجرد وسائل جامدة، إنها سيرورات متحركة تعيد قَوْلَبَة الكائنات البشرية وتعيد قَوْلَبَة التكنولوجيات الأخرى أيضًا. إن النقلة الحادة التي نعيشها في عصرنا الحالي بمرورنا من التكنولوجيات الميكانيكية لعصر العجلة إلى تكنولوجيا الدارات الكهربائية -يخلص ماكلوهان- تُشَكِّل أحد أهم التغيرات التي عرفها التاريخ"(2). 

لعل ماكلوهان من خلال صياغته لفرضية التأثير الحتمي للوسائل التقنية على البشر والمجتمعات، إنما أراد منَّا أن ندرك أن "جوهرانية" الوسائل التكنولوجية تتجاوز في أهميتها وتأثيراتها الأبعاد المرتبطة باستخداماتها المجردة. وفي هذا التوجه يلتقي ماكلوهان مع ما ذهب إليه منظِّرو الجوهرانية (فيبر Weber، وهايدغرHeidigger ، وأيلولEllul ، وغرانت Grant، وبورغمان Borgmann، ومن حذوا حذوهم) في قولهم بأن التنوع الشكلي للتكنولوجيات يجب ألا يحجب عنَّا ما تفرضه علينا تلك التكنولوجيات من محدِّدات نفسية واجتماعية وثقافية(3). إن ما نقصده تحديدًا بالحتمية التكنولوجية المترتبة عن تكنولوجيا الاتصال الجديدة هو فرضية البنية الفكرية الرَّقْمِية الفريدة التي بدأت تتمخض عنها في عقول جيل الإنترنت منذ بداية القرن الحادي والعشرين، بما أصبح يُمَهِّد لقطيعة حادة مع البنية الفكرية الخطية التي رافقت البشرية في تحولاتها منذ عصر الكتابة(4). إننا نصوغ هنا مفهوم التفكير الفسيفسائي للدلالة على البنية الإدراكية والشعورية التي تميز جيل الإنترنت، وهي بنية تختلف عن التفكير الخطي المنهجي الذي ينتج عن البنية الفكرية التي ولَّدها عصر الكتب والوسائط المطبوعة عامة. 

لقد تربَّى جيل الإنترنت منذ نشأته في أحضان عالم ديزني الخيالي الذي دأبت أغلب تليفزيونات العالم على بثه للأطفال بشكل واسع ابتداء من ثمانينات القرن الماضي. وبذلك، فإن عقول جيل ديزني لم تكتشف الكتاب قبل الصورة المتحركة كما كانت الحال بالنسبة للأجيال التي سبقتها، بل اكتشفت الصورة المتحركة قبل النص المطبوع. ولعل أهم خاصية تميز الصور التليفزيونية هي طابعها الفسيفسائي المتشتت واللاخطي. إن البنية الفكرية لجيل "التلمتيكس"(5) ليست وليدة الصور التليفزيونية وحدها، بل هي نتاج سياق شامل نتج بحكم تراكم عوامل تكنولوجية متعددة كأجهزة التحكم عن بُعد في التلفاز، وألعاب الفيديو التربوية، والكتابة التشعبية في صفحات الإنترنت وغيرها. ومع أن التطورات التقنية المؤثرة تعددت، إلا أن التليفزيون، في نظرنا، كان العامل الأكثر فاعلية في إعداد تربة البذرة التي أنبتت جيل التلمتيكس ببنيته الفكرية الرَّقْمِية الخاصة، وذلك بسبب تأثيرات الصورة التليفزيونية الفسيفسائية، التي من دون أن نشعر، عملت شيئًا فشيئًا على إزاحة البنية الفكرية الخطية التي فرضتها الكتابة المطبوعة على مدى قرون. 

كما أسهم في ذلك المسعى، وسيلة تقنية أخرى مرتبطة بالتليفزيون وهي جهاز التحكم عن بعد في شاشات التليفزيون، الذي خلق لدى الأجيال الجديدة بعض المحددات النفسية التي كانت وظيفتها أن تُشعر رجل التلمتيكس بالقطيعة الفكرية التي تفصله عن جيل غوتنبرغ من خلال قدرته على الارتحال بشكل لا خطي بين المحتويات الإعلامية والترفيهية. لِيَلِيَ ذلك أدب الأطفال التفاعلي الذي حمل الصورة المتحركة ووتيرتها السردية الخاصة به إلى القراءة نفسها، لتكتمل الحلقة بالكتابة التشعبية التي فرضها الإنترنت شيئًا فشيئًا، وتكاد تقضي على النص الخطي، وتفرض نفسها كنموذج سردي وتقديمي أصبحت تحتذي به حتى الأشكال الجديدة من الكتب(6). 

أما المقاربة الثانية التي اعتمدنا عليها في هذه الدراسة فهي مقاربة الاستخدامات والإشباعات، والتي نستخدمها لتفسير سلوك ودوافع توجهات الشباب العربي والمجتمعات العربية عامة تجاه شبكات التواصل الاجتماعي. إن استخدام هذه المقاربة يفيدنا في فهم محفزات استخدام تكنولوجيا الاتصال الجديدة ومبررات التعرض لمحتوياتها من طرف الشباب العربي، وذلك عبر الربط بين دوافع الاستخدام والإشباعات التي يحصل عليها الفرد جرَّاء ذلك الاستخدام كما يقول منظِّرو الاستخدامات والإشباعات(7). إن هذه المقاربة تفرض نفسها بحكم أن مستخدمي الإنترنت أصبحوا هم من يختارون المحتويات الإعلامية التي يتعرضون لها لإشباع حاجات محددة لديهم. فالاستهلاك الإعلامي لا يكون اعتباطيًّا بل يستجيب في حقيقة الأمر لحاجات فردية أو جماعية أساسية في حياة البشر. وبحكم هذا التغير نرى أن مقاربة الاستخدامات والإشباعات هي الأنسب لفهم ماذا يفعل الناس بوسائل الاتصال. لقد قامت هذه المقاربة على مفاهيم علم النفس وعلم النفس الاجتماعي، وتتجه إلى معرفة الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع الناس لاستعمال وسائل الاتصال وذلك من خلال التعرف على الفوائد التي يجنيها الأفراد من استعمال تلك الوسائل. بالإضافة لما سبق، تتميز هذه المقاربة بأنها لا تتجاهل العوامل الاجتماعية المحيطة بالأفراد والتي قد تؤثِّر على خياراتهم وتوجهاتهم تجاه وسائل الاتصال. يقول ألان روبن (Alan Rubin): "إن مقاربة الحاجات والإشباعات هي مقاربة تركِّز على المتلقي وتنطلق من أربع فرضيات(8):

‌أ. سلوك جمهور وسائل الإعلام هو سلوك قصدي تحكمه أهداف وله دوافع.

‌ب. الأفراد يختارون المحتوى الإعلامي لإشباع حاجاتهم أو رغباتهم.

‌ج. تلعب الاستعدادات الاجتماعية والنفسية دورًا في سلوك الأفراد ذاك.

‌د. وسائل الإعلام تكون دومًا في تنافس مع أشكال اتصالية أخرى أو مع بدائل وظيفية كالتفاعل ما بين الأشخاص عند الاختيار، والانتباه، وطبيعة الاستعمال". 

نحو قطيعة بين الجيل الرقمي ووسائل الإعلام التقليدية

أظهرت المؤشرات التي جمعناها من ردود أفراد عينة الدراسة الكيفية ارتسامَ قطيعة شبه كلية بين الإعلام التقليدي وجيل التلمتيكس؛ فالتليفزيون الذي كان يحظى بأكثر أوقات الاستهلاك الإعلامي قبل ظهور الإنترنت والوسائط التكنولوجية الذكية، لم يعد يلقى ذلك الإقبال عند الشباب العربي؛ إذ لا يحظى هذا الوسيط الإعلامي سوى بمتوسط مشاهدة يتراوح بين ساعة وساعتين يوميًّا عند الفئة العمرية الأولى (فئة ما بين 16-25 سنة) علمًا بأن الجزء الأكبر من تلك المشاهدة تحتكره البرامج الرياضية المباشرة أو البرامج الترفيهية المباشرة فقط. في مقابل ذلك، يرتفع متوسط مشاهدة التليفزيون إلى مستوى أعلى عند الفئة العمرية الثانية (60-26 سنة)، بمتوسط مشاهدة يفوق الثلاث ساعات يوميًّا. كما تختلف أولويات هذه الفئة العمرية في استهلاكها للبرامج التليفزيونية عن أولويات الفئة العمرية الأولى؛ إذ تأتي البرامج الإخبارية والسياسية ضمن الأولويات، تليها البرامج الرياضية والترفيهية. كذلك جاءت وتيرة قراءة الصحف المطبوعة منخفضة جدًّا، بمتوسط مرة واحدة في الأسبوع عند الشريحة العمرية الأولى لترتفع إلى متوسط أربع مرات أسبوعيًّا عند الشريحة العمرية الثانية. أما الاستماع إلى الإذاعة فلم يعد من اهتمامات الفئة الأولى سوى عند أقلية قليلة وبنسبة لا تتجاوز الساعة أسبوعيًّا، بينما لا يزال يحظى باهتمام الشريحة العمرية الثانية بمتوسط ساعة يوميًّا، تتوزع حسب الترتيب المصرَّح به بين البرامج الإخبارية والسياسية، ثم البرامج الرياضية، ثم البرامج الترفيهية. 

الشكل رقم (1) يوضح فترات تفاعل العينة البحثية مع وسائل الإعلام التقليدية والحديثة بالساعات أسبوعيًّا  

 

كما نلاحظ أن توجه أفراد العينة نحو هجرة وسائل الإعلام التقليدية يأخذ في الانعكاس كلما زاد عمر الفرد فوق الخمسة وأربعين سنة؛ إذ نرى أن الميل لمتابعة شاشات التليفزيون، والاستماع إلى الإذاعة عبر المذياع، وكذا مطالعة الصحف الورقية يوميًّا يتزايد إلى نسب مرتفعة كلما اقترب الفرد من سن الخمسين؛ وهذا في كل الدول العربية دون استثناء. لقد برَّر من فاق الخمسة والأربعين من عمرهم تمسكهم بالوسائط التقليدية بعبارات، مثل: "وسائط جامعة وليست مُفرِّقة"، وأيضًا "وسائط غير معقدة الاستخدام"، وأنهم "يسيطرون عليها وليس العكس"، بينما برَّروا نفورهم من استخدام الوسائط الاتصالية الحديثة بعبارات مثل أنها "مضيعة للوقت"، أو "لا أريد أن أكون عبدًا لتلك الوسائط كما هم شباب اليوم" أو أنها "وسائط انقطاع اجتماعي وليست وسائل تواصل اجتماعي". في الجهة المقابلة، برَّر أغلب أفراد عينة دراستنا من الفئة العمرية الأولى (بين 16 و25 سنة) هجرتهم للوسائط التقليدية بعبارات مثل إنه "إعلام العصر الحجري"، و"محتويات لا تتماشى مع أذواقهم"، أو أنها "مجرد ساحة لإعلام رسمي كاذب ومخادع"، أو "ليس لديهم وقت كاف لتخصيصه لتلك الوسائط". أما مبررات إقبالهم على وسائط التواصل الحديثة ومنصاتها التواصلية فدارت حول تعابير مثل أنها "وسائط العصر ويجب علينا التحكم فيها"، وأيضًا "أصبحت ضرورية وعملية في وقتنا الحالي"، و"لا يمكن العيش بمعزل عن العالم الافتراضي"، و"تتيح الكثير من الفرص المهنية والاجتماعية"، وأنها "وسائط الإعلام الحر والحقيقي". 

إن القطيعة الملاحظ ارتسامها بين الجيل الرقمي والجيل القديم تعني أننا في مرحلة طفرة كبيرة في البنية الإدراكية والمعرفية للبشرية سينتج عنها لا محالة تأثيرات سيكولوجية وأيديولوجية يصعب الحكم في الوقت الراهن على ما سيترتب عنها من تداعيات على الإنسانية (بمعنى إن كانت خطوة للأمام أم خطوة للوراء فيما يخص القدرات الذهنية والمعرفية لبني البشر). فمن الناحية السيكولوجية، بدأت التكنولوجيات التواصلية الجديدة المتسببة في تلك القطيعة في فرض محددات إدراكية/معرفية كحتمية أصبحنا نلمسها في كل المجتمعات العالمية دون استثناء، تمثَّلت في بنية فكرية رقمية بصرية تشعبية، زادت من قدرات الجيل الرَّقمي على التفاعل مع المحتويات الصورية البصرية وقلَّلت من استعداداتهم للتفاعل مع المحتويات النصية الخطية. وهو ما جعل الجيل الرَّقمي يهجر وسائل التواصل التقليدية التي لم يعد قادرًا على التفاعل مع محتوياتها. ولا أدلَّ على ذلك من توجه المؤسسات التعليمية مؤخرًا نحو فرض الكتاب المدرسي الإلكتروني، الذي يراعي في بنائه تلك البنية الفكرية التشعبية من حيث الإكثار من الصور والمحتويات التفاعلية والتقليل من المحتويات الخطية، كشكل من أشكال التكيف مع الحتمية الإدراكية/ المعرفية التي فرضتها وسائط التواصل الجديدة. وليس صدفة أن اتجهت بعض الجامعات العريقة مؤخرًا نحو النظر في التوقف عن استخدام الكتابة اليدوية في الامتحانات الصفية، على غرار جامعة كامبريدج في المملكة المتحدة(9). إن ذلك القرار لم ترتجله تلك المؤسسات العريقة، بل جاء مبنيًّا على مؤشرات سبق لبعض الباحثين أن فهموا مدلولها، على غرار الخبير الفرنسي في مجال التعليم، ميريو فيليب (Meirieu Philippe)، الذي لفت انتباهنا إلى تغيرات راديكالية لاحظها على التلاميذ في السنوات الأخيرة بصفته أستاذًا في الطور المتوسط والثانوي، وهي تلك التي تخص تغير أساليب القص والسرد في كتابات التلاميذ، متأثرين في ذلك بعملية السرد البصرية التي فرضتها الصورة والكتابات التشعبية عليهم(10). لقد أصبح التلاميذ يكتبون، بحسب ميريو، ليس وفقًا لمنطق خطي له بداية ووسط ونهاية كما عهدناه عند جيل ما قبل الرقميات، بل وفقًا لمنطق تَشَعُّبِي يولِّد نصوصًا غير مهيكلة، تمامًا كما يرونه في الأفلام والنصوص التَّشَعُّبِيَّة التي يتعاملون معها يوميًّا. 

وقد أسهمت التغيرات التقنية وما نجم عنها من تغيرات سيكولوجية ذكرناها أعلاه في حدوث تغير آخر لا يقل أهمية عنه، وهو التحول الأيديولوجي الذي بات يترتب على الفضاءات الرقمية بحكم المحدِّدات النفسية، والمعرفية، والفكرية التي تفرضها تلك التقنية. فقد أصبح الجيل الرقمي يغلب عليه -في غالبيته- خيارات فكرية ذات توجهات ليبرالية، فهو أصبح يؤمن أكثر من أي وقت مضى بمبدأ الحرية الفردية، وحرية التعبير، وحرية الاختيار، وتعدُّد الطروحات، كما أنه لم يعد يحتمل أحادية الطرح والفكر المنغلق. وهو ما أثَّر بدوره بالإيجاب على طبيعة البيئة الاتصالية في الكثير من الدول التي اضطرت مع بروز هذا الواقع الجديد لتبني إصلاحات إعلامية -ولو بشكل نسبي- حتى لا تبقى وسائل الإعلام- خاصة الحكومية منها- ظلًّا لنفسها. وفي هذا السياق الاتصالي والإعلامي الجديد الذي ولَّدته تكنولوجيات الاتصال الجديدة، بات الإعلام الاجتماعي ذا أهمية قصوى بالنسبة للجيل الرقمي، كفضاء بديل للإعلام القديم. فهو منبر لمن لا منبر له في التعبير، ونادٍ للتعارف لمن لا مكان له في نوادي العالم الحقيقي، وفضاء لإبراز مختلف أشكال الإبداع الذاتي لمن لم يتسنَّ له التعريف بمهاراته في العالم الحقيقي، ومكتبة لمن لا كتب أو موسوعات في بيته، ومدرسة متعددة التخصصات لمن لا مدرسة له، ومكتب تشغيل لمن لا وظيفة له... أضف إلى ذلك أن إعلام الشبكات الجديد، اكتسب قلوب مستخدميه بفضل ميزة أخرى أصبح يتميز بها عن الإعلام التقليدي، وهو تحقيقه لمختلف شروط القيم الخبرية السبعة (الآنية، والقرب، والأهمية، والشهرة، والتأثير، والتداول، والجدل) وبشكل خاص، معيار الآنية الذي بات الإعلام الشبكي يتفوق في جزئيته على الإعلام التقليدي، بفضل سرعة إنزال الأخبار أو صورها بمجرد وقوع الحدث. وبالمثل، بات الإعلام الشبكي الأقرب إلى تناول مواضيع تغطي قيم الأهمية، والقرب، والشهرة، والتداول، والتأثير، والجدل (الصراع)، بحكم أن الشبكات الإعلامية الرقمية لا تخضع في طبيعة عملها لنفس معايير التدقيق المهنية التي تتبعها وسائل الإعلام التقليدية، وبحكم أنها متحررة من كافة أشكال الأخلاقيات ومواثيق الشرف التي عادة ما تلتزم بها المؤسسات الإعلامية العريقة. 

كما نتج عن التغيرات المذكورة آنفًا، تداعيات أخرى على المنظومة الإعلامية بكاملها (وبشكل خاص على الممارسات الإعلامية)؛ ما أصبح يؤثِّر حتى على البيئة الاتصالية الجديدة التي خلقتها تلك التكنولوجيات الجديدة. فتلك البيئة الجديدة باتت غير ثابتة المعالم كما كانت سابقًا، بل متغيرة وبوتيرة شديدة التسارع، بحكم ما تفرضه عناصر تلك البيئة من تكيفات مهنية وتكنولوجية مطَّردة في مجال الإعلام والاتصال، بهدف تمكين المؤسسات الإعلامية من مسايرة توجهات ورغبات الجمهور الجديد. لقد فتحت هذه التكنولوجيات الاتصالية الجديدة الباب أمام إعداد المحتويات الإعلامية لأي كان، بشكل جعل الشبكات الاجتماعية والمدونات تزاحم وسائل الإعلام التقليدية في صياغة المحتويات ووضع الأجندة الإعلامية. إلى درجة أن المؤسسات الإعلامية التقليدية، بل وحتى مكاتب العلاقات العامة في المؤسسات والشركات باتت تسارع الزمن من أجل التواجد في منصات تلك الشبكات الاجتماعية من خلال طرح محتويات إعلامية تفاعلية، تركز على الصورة والنصوص التَّشَعُّبِيَّة مع التقليل من المحتويات الخطية. وهو ما فرض بدوره التكيف تكنولوجيًّا من خلال اقتناء برامج حاسوبية جديدة، والتكيف مهنيًّا من خلال إعادة تأهيل الكوادر الإعلامية لبلوغ ما أصبح يسمى بالصحفي المتعدد المهارات أو المتكامل. هذا الأخير بات يتوجب عليه ليس فقط بناء النصوص الإعلامية عبر التحكُّم في مهارات كتابة النصوص كما كان متوقعًا منه سابقًا، بل أيضًا من خلال تحكمه في كمٍّ هائل من المهارات البصرية، ومهارات الكتابات التشعبية المختصرة، ومهارات التصوير وتحميل المحتويات على الإنترنت. 

استخدامات وحاجات التشبيك الافتراضي عند جيل التلمتيكس 

كما لاحظنا في الشكل رقم (1)، تستحوذ الوسائط الذكية القائمة على تكنولوجيا التلمتيكس (هواتف، ألواح، حواسب محمولة) على متوسط زمني يومي مرتفع جدًّا عند الشريحة العمرية الأولى التي تُمثِّل فئة الشباب (ما بين 16 و25 سنة)؛ إذ تُمضي هذه الفئة ما متوسطه 9 ساعات يوميًّا في استخدام تلك الوسائط، موزَّعة بين الدردشة والتشبيك الاجتماعي (ساعتين ونصفًا يوميًّا)، ثم في المكالمات الهاتفية أو التواصل عبر الفيديو (ساعة ونصفًا يوميًّا)، ثم مطالعة الرسائل والمحتويات المرسلة عبر الشبكات وإعادة إرسالها (ساعة وعشرين دقيقة يوميًّا)، ثم اللعب الإلكتروني (ساعة وخمس دقائق يوميًّا)، ثم متابعة الأخبار المصوَّرة من مواقع إخبارية (ساعة يوميًّا)، ثم مطالعة الأخبار المكتوبة من مواقع إخبارية (خمسين دقيقة يوميًّا)، ثم إنجاز الإجراءات الإدارية عبر البوابات الحكومية (نصف ساعة يوميًّا)، وأخيرًا التسوق (ربع ساعة يوميًّا). أما إذا صنَّفنا تلك الاستخدامات بهدف الغرض الذي تلبِّيه بالنسبة للمستخدم فنجد أن التعارف والتشبيك يأتي في أولوية الاستخدامات بنسبة 28%، يليه التواصل مع الأهل والأصدقاء وزملاء العمل بنسبة 18%، ثم الترفيه عبر المحتويات المصورة بنسبة 15%، واللعب الإلكتروني بنسبة 12%، ثم الاستعلام ومتابعة الأخبار 10%، ثم الأعمال 8%، ثم متابعة الإجراءات الإدارية بنسبة 6%، ثم التسوق 3%. بينما يلاحَظ انخفاض هذه الأرقام في حدتها وفي توزعها عند الشريحة العمرية الثانية (26-60 سنة)؛ إذ ينزل متوسط الاستخدام إلى 3 ساعات يوميًّا؛ تتوزع بين التواصل مع الأهل والأصدقاء وزملاء العمل في المرتبة الأولى بنسبة (21%)، يليه التعارف والتشبيك بنسبة 18%، ثم الترفيه عبر المحتويات المصورة 17%، ثم الاستعلام ومتابعة الأخبار بنسبة 15%، ثم اللعب الإلكتروني 13%، والأعمال بنسبة 8%، ثم متابعة الإجراءات الإدارية 6%، ثم التسوق بنسبة 2%. 

الشكل رقم (2) يبيِّن توزيع حاجات الشباب العربي في العينة البحثية لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي 

 

وتتقارب المؤشرات التي جمعناها مع الأرقام التي جاءت في تقرير وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي(11)، والتي تبين لنا أن الدردشة والمحادثات تستحوذ على أكثر من نصف وقت استخدام رواد الشبكات الاجتماعية (انظر الجدول أدناه). 

الشكل رقم (3) يوضح توزيع دواعي استخدام الشباب العربي للشبكات الاجتماعية في تقرير وسائل التواصل الاجتماعي بالعالم العربي 

 

كما تكشف لنا المؤشرات التي جمعناها خلال مقابلاتنا الكيفية المرتبطة أن أكثر المنصات التي تلقى رواجًا في عينتنا البحثية هي على التوالي: الفيسبوك في المرتبة الأولى، ثم الواتساب، يليه تويتر، ثم إنستغرام، ثم يوتيوب، ثم غوغل بلس، ثم لينكد- إن. 

الشكل رقم (4) يبيِّن توزيع أكثر المنصات التواصلية التي يتفاعل معها الشباب العربي في العينة البحثية 

 

ويظهر من نتائج دراستنا الكيفية أن الفيسبوك هو المنصة المفضلة للتواصل الاجتماعي عند 85% من الشباب العربي المستجوب في العينة، وجاءت أعلى نسبة تفضيل في الأردن، ثم ليبيا وفلسطين، وأدنى نسبة تفضيل في كلٍّ من السعودية ولبنان ثم البحرين، علمًا بأن 83% من أفراد العينة يستخدمونه على أساس يومي. أما الواتساب فهو الوسيلة المفضلة للتواصل الاجتماعي عند 81% من عينتنا البحثية، مع أعلى نسبة تفضيل في لبنان والسودان وأدنى نسبة تفضيل في الأردن، وبنسبة استخدام على أساس يومي بلغت 89%. من جهتها، جاءت منصة يوتيوب في المرتبة الثالثة كوسيلة مفضَّلة عند 51% من العينة المبحوثة مع أعلى معدلات تفضيل في كلٍّ من قطر والبحرين وبنسبة استخدام على أساس يومي بلغت 61% من مفضِّلي هذه المنصة. أما إنستغرام فجاء في المرتبة الرابعة كأكثر وسيلة تواصل تفضيلًا عند 35% فقط من المستجوبين، مع أعلى نسبة استخدام في الإمارات والكويت والبحرين، وأدنى نسبة استخدام في سوريا وليبيا، علمًا بأن الاستخدام على أساس يومي يمسُّ 72% من رواد هذه المنصة التواصلية، في حين جاء تويتر كأفضل وسيلة تواصل اجتماعي فقط عند 33% من أفراد العينة مع أعلى نسبة تفضيل في كلٍّ من السعودية والإمارات، وأدنى نسبة تفضيل في مصر، بينما يُستخدم على أساس يومي عند 41% من محبي هذه المنصة. 

أما غوغل+ فقد جاءت كمنصة مفضلة فقط عند 22% من العينة البحثية مع أعلى معدلات تفضيل في كلٍّ من المغرب ولبنان في حين جاءت أدنى نسبة من فلسطين. أما نسبة الاستخدام على أساس يومي لهذه المنصة عند روادها فقد بلغت 59%. وفي المرتبة الأخيرة، جاءت منصة لينكد-إن مفضلة عند 10% فقط من العينة المبحوثة، مع أعلى نسبة تفضيل في كلٍّ من الإمارات والبحرين وأدنى نسبة تفضيل في كلٍّ من السودان، وليبيا، ومصر، والجزائر، وفلسطين، ثم العراق واليمن. وكانت نسبة الاستخدام على أساس يومي بالنسبة لرواد هذه المنصة 39%. وتتطابق مؤشرات دراستنا الكيفية في هذه الجزئية إلى حدٍّ بعيد مع ما جاء في الدراسة الكمية التي وردت في تقرير وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي"(12)، والتي تكشف لنا أيضًا هيمنة الوسائط المذكورة أعلاه بنفس الترتيب الوارد من دراستنا ولو أن الأرقام اختلفت دون التأثير على التوجه العام الملاحظ، كما هو مبين في الجدول أدناه. 

الشكل رقم (5) يوضح توزيع أكثر المنصات الاجتماعية استخدامًا لدى الشباب العربي في تقرير وسائل التواصل الاجتماعي بالعالم العربي 

 

تجب الإشارة هنا إلى أن هناك فروقات -كانت كبيرة أحيانًا- بين المناطق الجغرافية الثلاثة في طبيعة المنصات المستخدمة وعادات الاستهلاك، غير أن أغلب تلك الفروقات لا تعود لميول وخيارات الأفراد الشخصية بقدر ما تعود لبعض المعطيات التقنية المرتبطة بمدى إتاحة بعض الدول لبعض من تلك المنصات من عدمه، أو لمعطيات مادية مرتبطة بالقدرة الشرائية لمواطني تلك الدول. لقد لعبت بعض المحددات التاريخية، المرتبطة بمدى لعب ورقة الإنترنت من عدمه كاستراتيجية من استراتيجيات التنمية في مختلف الدول العربية، دورًا بارزًا في طبيعة الخدمات المتاحة للمواطنين العرب، وهو ما نتج عنه تفاوت كبير بين المواطنين العرب على مستوى الاستخدامات. فتوجه الحكومات العربية تجاه تطوير الإنترنت والاعتماد عليه كأداة من أدوات التغيير والتطوير الإداري والمجتمعي لم يأخذ نفس المنحى بين مختلف الدول العربية منذ المراحل الأولى لبداية عصر الإنترنت. ففي حين تميزت دول الخليج العربي بسياسات انفتاحية تجاه الإنترنت منذ بداية القرن الحادي والعشرين، إدراكًا منها للعوائد المستقبلية المرتبطة بما كان يسمى آنذاك بمجتمع المعلومات واقتصاد المعرفة، ماطلت دول أخرى في الحذو حذوها، خاصة تلك التي كانت تعتمد على اقتصاديات موجَّهة (سوريا، العراق، مصر، الجزائر، ليبيا، اليمن، السودان)، والتي أبدت محافظة وتحفظًا جعلت تلك الدول تتأخر بسنوات سواء على مستوى البنية التحية، أو على مستوى جودة الخدمات، ما أثَّر لاحقًا حتى على طبيعة الخدمات التي تُقدَّم للمستخدمين، وبالتالي على استخدامات متعاملي الشركات الموفرة لخدمات الإنترنت. ولا أدل على هذا من تصنيف الدول التي توفر لمواطنيها أسرع خدمة إنترنت في سنة 2017 والتي لم يكن صدفة أن سادته على مستوى الدول العربية، ثلاثة بلدان خليجية، هي بحسب ترتيبها: الإمارات العربية المتحدة، فقطر ثم الكويت، وبسرعة تجاوزت معدل السرعة العالمي المحدد بـ5.6 ميغابايت في الثانية لكل من الإمارات وقطر بمعدل بلغ 6.9 ميغابايت في الثانية للأولى و6.7 ميغابايت للثانية(13) 

لقد كانت دول الخليج العربي كذلك سبَّاقة إلى إدراك أهمية اعتماد الحَوْكَمَة الإلكترونية، ليس بشكلها الصوري بل بشكلها الفعلي والفعَّال، من خلال القيام بإعادة هندسة الاستراتيجيات المعلوماتية التي كانت متواجدة سابقًا وتغيير تركيزها منذ سنة 2000 من أولوية تحسين أداء مسيرات العمل في المكاتب الإدارية والوزارات، كما كان دارجًا العمل به قبل ثورة الإنترنت، إلى تقديم الخدمات التي من خلالها ستتمكن الحكومات من تغطية حاجات المواطن والقطاع الخاص والمجتمع المدني. فظهر في هذه الفترة مصطلح "الحكومة الإلكترونية" الذي كان يركز على تغيير منظور الإدارات المعلوماتي لتركيزه على خدمة العناصر الثالثة المذكورة آنفًا، وهي: المواطن، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني(14). وبذلك أخذت بلدان الخليج العربي الريادة على المستوى العربي منذ إطلاق أول مشروع حكومة إلكترونية عربية سنة 2001 في إمارة دبي بالإمارات(15). ومنذ ذلك الوقت حذت دول أخرى، مثل: الكويت، وقطر، والمملكة العربية السعودية، والبحرين، حذو الإمارات العربية المتحدة وطوَّرت من مختلف أشكال الخدمات الإلكترونية الإدارية المقدَّمة للمواطنين والمقيمين في تلك الدول. 

لقد أساهم هذا التوجه كثيرًا في اقتحام الفرد في تلك الدول لعالم الرَّقْمَنَة على الرغم من الطابع المحافظ للمجتمعات الخليجية، خاصة أن هذا التوجه ترافق أيضًا مع تحفيزات وتسهيلات مادية لاقتناء أجهزة الحواسيب ومختلف أشكال الأجهزة الذكية والتي لم تعرف باقي الدول العربية مثيلًا لها. ناهيك عن عامل اقتصادي آخر مهم جدًّا، وهو قوة القدرة الشرائية للمواطن الخليجي مقارنة بمتوسط الدخل في باقي الدول العربية، والتي منحته القدرة على اقتناء أحدث الأجهزة وتبديلها في أوقات قياسية، ثم منحته القدرة على الاشتراك في مختلف باقات خدمات الإنترنت والهواتف المتحركة على الرغم من ارتفاع أسعار الاشتراك في تلك الخدمات. فعلى سبيل المثال، وبحسب تقرير للهيئات العربية للاتصالات، جاءت الإمارات العربية المتحدة سنة 2015 في أعلى الدول العربية تكلفة في أسعار الإنترنت ذي السرعة العالية للمنازل؛ إذ بلغ سعره 171 دولارًا شهريًّا، بينما احتلت دولة قطر وعمان المرتبة الثانية والثالثة على التوالي في ذلك التصنيف(16). 

جيل التلمتيكس من العلاقة الاجتماعية الساخنة إلى العلاقة التكنولوجية الباردة 

لقد أثَّرت تكنولوجيات الاتصال الجديدة من خلال فرضها لأنماط وسلوكيات تواصلية جديدة على طبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة داخل المجتمعات العربية؛ فالتشبيك الاجتماعي عبر الاتصال المواجهي ما فتئ نطاقه يضيق أكثر فأكثر في كل المجتمعات العربية، في مقابل اتساع نطاق التشبيك الاجتماعي الافتراضي. ويبيِّن لنا الشكل المرفق أدناه أن هذا التوجُّه يزيد أكثر عند الفئة العمرية الفتية (16-25 سنة)، وينحصر في حدته عند الأفراد المنتمين لفئة (26-60 سنة)، وهو التوجُّه الذي لمسناه بشكل خاص في مقابلاتنا مع أفراد الفئة العمرية الثانية الذين تجاوز عمرهم 45 سنة. 

الشكل رقم (6) يوضح متوسط الساعات المخصص يوميًّا للتواصل المواجهي والافتراضي 

 

لقد تبيَّن لنا من مقابلاتنا النوعية بأن جيل التلمتيكس لم يعد يقضي سوى أوقاتًا رمزية في التفاعل الاجتماعي داخل العالم الحقيقي، وقد أكد تقرير "وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي" بدوره هذا المنحى؛ حيث أورد بعض المظاهر السلبية(17) التي نشأت عن المبالغة في الولوج إلى العالم الافتراضي، نورد منها "تفكك الأسرة"، و"تزايد حالات الطلاق"، و"القطيعة مع أفراد الأسرة المقربين والوالدين والاشقاء". كما أورد الكثير من المستجوبين، في عينتنا البحثية، ظاهرة سلبية أخرى تتمثَّل في "الحضور المغيب في التجمعات العائلية أين تتواجد الأجساد في نفس المكان، بينما تظل العقول والعيون منشغلة بالهواتف الذكية للاطلاع على الرسائل المرسلة أو للرد عليها". كما ظهرت تحويرات افتراضية لسلوكيات اجتماعية كانت إلى وقت قريب تمارس في المجتمع الحقيقي عبر الاتصال المواجهي، كالمعايدات أو تقديم التعازي عبر الهواتف الذكية، وهي كلها سلوكيات ينبذها الجيل القديم ولا يتقبلها بسهولة. 

إن هذه المؤشرات تُبْرِز واحدة من الحتميات التي نتجت عن تكنولوجيات الاتصال الجديدة، وهي القطيعة التي بدأت تتشكَّل بين جيل التلمتيكس وجيل ما قبل العالم الرقمي، من خلال تباين إدراك أفراد الجيلين للأولويات الاجتماعية وطبيعة الروابط داخل المجتمع. لقد أضحى تبني العالم الرقمي بتطبيقاته، واستخداماته وثقافته من ضروريات الحياة حتى بالنسبة لأشد المقاومين لثورة الرَّقْمَنَة من الشباب العربي في عينتنا البحثية، وذلك بحكم أن هذه الأخيرة فُرضت فرضًا في السنوات الأخيرة وفي جل الأقطار العربية خاصة مع دخول البوابات والتطبيقات الإدارية والتجارية نطاق الاستخدام الواسع في الكثير من الدول، فبات لا مفرَّ للفرد، حتى وإن كان معارضًا لتلك التطورات، من تقبُّل ذلك العالم ومسايرته، وإلا بقي خارج السيرورة التاريخية. إذن بعد أن ولدت تكنولوجيا الاتصال الجيل الرقمي الذي نشأ وترعرع في أحضانها فأصبح لا يرى العالم سوى من خلالها، ها هي تلك التكنولوجيات تزيد من الضغوط حتى على الجيل القديم وبمختلف الأشكال بهدف دفعه لتبني تلك المخترعات وتطبيقاتها تحت طائل البقاء على هامش المجتمع المشبوك، الذي أصبح هو مركز الحياة الفاعلة وليس العالم الحقيقي. فإذا اعتبرنا أن "الأون-لاينيون"، كما يقول نديم منصوري، "هم الأشخاص الموجودون على الخط، أي الموصولين على شبكة الإنترنت، أبناء المجتمع الافتراضي، يصبح "الأوف-لاينيون" هم الأشخاص خارج الخدمة، أي غير الموصولين على شبكة الإنترنت، أبناء المجتمع الواقعي. بهذه المعادلة يصبح المجتمع الواقعي مجتمعًا خارج الخدمة، معزولًا عن الفضاء السايبري، مقطوعًا عن العالم الخارجي"(18). 

إن هذا التوجُّه باعتباره واحدًا من الحتميات الأساسية التي نتجت عن التقنيات الحديثة المستخدمة في التواصل قد ولَّد حتمية أخرى نشأت عنه، تتمثَّل في تغير طبيعة العلاقات الاجتماعية بتحولها من علاقات اجتماعية ساخنة إلى علاقات اجتماعية باردة. نقصد هنا بتعبير العلاقات الاجتماعية الباردة، تلك العلاقات الافتراضية التي لا تخضع في محدداتها للضوابط الساخنة لمجتمع الانتماء؛ ما يجعل أطراف الاتصال في العالم الافتراضي يتحلَّون ببرودة أكثر تجاه الضوابط التي تحكم التعبير عن الأفكار والمشاعر تجاه الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى، أو تجاه مختلف المواضيع التي تُثار في الفضاء الافتراضي بشكل عام. إن تلك البرودة أضفت على التعبير عن الذات عفوية وتلقائية لا نظير لهما، فباتت أشكال التعبير في العالم الافتراضي تنتهج طرقًا مختصرة؛ لأنها لا تخضع سوى لأدنى مستويات الرقابة من الأنا الأعلى. لذلك، بات كل شيء مسرع وإلى أقصى الحدود في العالم الافتراضي، انطلاقًا من التعبير عن مشاعر الود التي يتم الجهر بها بجرأة وسرعة قياسيتين، وصولًا إلى مشاعر الغضب أو الحقد والكراهية التي يتم التعبير عنها بفظاظة أكبر أيضًا، ما يفسر سرعة تشكُّل الروابط الاجتماعية وسرعة تفكُّكها في العالم الافتراضي(19). 

لقد وصف جوليان ريفيت (Julien Rivet) تلقائية الاندفاع نحو التعبير المفرط فيه في العالم الافتراضي بقوله: "كلنا، مهما كنَّا، ومهما كانت استعمالاتنا للإنترنت، نكون قد عشنا ذلك الانطباع الغريب والمقزز في نفس الوقت، بأن الإنترنت يعمل وكأنه محفز لانفعالاتنا بل مسرِّع للجزيئات العاطفية التي فينا. فبينما كنا متعودين على سلوكيات اجتماعية غير مفرَط فيها، ها هو الإنترنت يرغم طبيعتنا وحيويتنا على التغير وبطريقة جد سريعة"(20). إن الشبكات الاجتماعية الافتراضية باتت ببرودتها تتيح للأفراد والنشطاء في الفضاء الافتراضي حرية وجرأة لا مثيل لهما في الواقع الحقيقي للتعبير عن الذات بأفكارها وأحكامها ومشاعرها. وهذه الحرية ما هي سوى شكل من أشكال التحرُّر من الأنا الأعلى الذي غالبًا ما يُقيِّد الفرد في التعبير عما يدور في خلجات نفسه في الواقع الحقيقي، خاصة في المجتمعات العربية المحافظة، التي توارثت قيم الانضباط الجمعي عبر تقاليد السلطة الأبوية، وتقاليد التراتبية الهرمية في العلاقات الاجتماعية، داخل القبائل، ثم داخل العائلات والأسر، بل وحتى مع الجيران. لقد تبيَّن لنا من المقابلات النوعية التي أجريناها مع عينتنا البحثية بأن الدافع الأساسي للهجرة إلى العالم الافتراضي هو ما يتيحه ذلك العالم للأفراد من تجاوز أغلب الحواجز التي تمثل عائقًا أمامهم للتعبير عن ذاتهم في العالم الحقيقي؛ فالعالم الافتراضي مجرد من الأحكام المسبقة السلبية التي يوسم بها الفرد في مجتمعه الحقيقي والتي تتبعه في كل تعاملاته الاجتماعية. والوسم الاجتماعي حينما يكون سلبيًّا في قيمته يصبح صفة غير منتجة من صفات التنشئة الاجتماعية على اعتبار أننا حين نبني هويتنا الفردية في تفاعلها مع الهوية الجماعية -كما يقول إرفينغ كوفمان (Erving Goffman)- إنما نعتمد على توزيع شبه مسرحي للأدوار التي تفرض علينا من طرف من يؤطروننا في المجتمع، وهي أدوار يتوجب علينا فقط أداؤها بالشكل الذي يُتوقَّع منَّا، وكل إخلال بها يجعل الجماعة تحكم نهائيًّا علينا من خلال عملية تشبه الكي أو الوسم الذي سيلصق بشخصنا ويتبعنا في كامل تعاملاتنا الاجتماعية اليومية. وعملية الكي تلك، يضيف كوفمان، هي في حقيقة الأمر عملية إقصاء نتعرض لها عندما نظهر سلوكًا لا يتماشى مع الدور والهوية المتوقعيْن منَّا(21) 

إن العلاقة التكنولوجية الباردة تُحرِّر الفرد من مختلف أشكال الوسم الاجتماعي؛ لأن الطرف الآخر من العملية التواصلية عادة ما لا يكون من جماعة الانتماء التي أغلقت عليه في دور وهوية محددين. وحتى وإن كان الطرف الآخر من تلك الجماعة، فإن الهوية المتخفية تمكنه من المشاركة والتشبيك بهوية مستعارة. غير أن الإشكال في العلاقة التكنولوجية الباردة يكمن في ابتعادها عن مزايا الاتصال الإنساني المواجهي الساخن، الذي وإن كان فيه الكثير من العيوب المرتبطة بالوسم الاجتماعي الذي تحدثنا عنه سابقًا، إلا أنه يبقى واحدًا من أسس التنشئة الاجتماعية وبناء المجتمعات السوية، كشرط من شروط استقرار المجتمعات واستدامتها. إن واحدة من أهم الصفات السلبية للاتصال التكنولوجي البارد هو طغيان البعد التقني على البعد الإنساني في العملية التواصلية، فإنسان العالم الافتراضي الذي أسماه علي محمد رحومة بـ"الإنسوب"(22) (المركَّبة من الدمج بين كلمتي إنسان وحاسوب)، يتعامل مع الآخر كرقم من آلاف أو ملايين الأرقام. كما أنه يتعامل مع ذلك الرقم عبر وسائط تقنية وتطبيقات تفرض عليه في الكثير من الأحيان أطرًا نفسية وفكرية تحدد طبيعة ذلك التعامل. وقد عرَّف نديم منصوري ذلك الإنسوب بقوله: "هو الكائن البشري الذي يشارك كائنًا بشريًّا آخر علاقة رقمية عبر الحاسوب، وتكون هذه العلاقة اجتماعية، سياسية، اقتصادية، عاطفية...لكن هذه العلاقة ليست إنسانية بالمطلق، بل هي مركَّب من إنسان وآلة أو إنسان وحاسوب. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكائن البشري قد يجري علاقاته الإنترنتية مع برامج (برامج واقع افتراضي مثلًا) وليس مع أفراد حقيقيين؛ ما يجعل الفرد فردًا إنترنتيًّا يتمظهر في سلوكيات رقمية عبر الحاسوب"(23). 

إن إشكالية حَوْسَبَة العلاقات الإنسانية تحيلنا إلى إشكالية أوسع وهي الهيمنة الفكرية في عصر الإنترنت التي لم تعد تتحقق فقط عبر المحتويات الإعلامية كما كانت تغلب عليه الحال سابقًا، بل باتت تتم أيضًا عبر الوسائط التقنية التي تنقل تلك المحتويات بذاتها، باعتبارها وسائط تأسيسية منتجة أيضًا للأفكار ومحددة لصيغ فرضها وتلقيها بشكل حتمي كما سبق وأن شرحناه أعلاه. وهنا يكمن الإشكال بالنسبة للخصوصيات القيمية والثقافية؛ باعتبار أن تلك الوسائط باتت العامل الأكثر تأثيرًا في بناء القيم الثقافية والمعرفية وفي إدراكنا لطبيعة الكون المحيط بنا، بحكم أن الوسيلة في ذاتها مُؤَدْلَجَة(24) كما سبق وأن قلنا. وإذا جمعنا تأثير الوسيلة التي باتت "مُؤَدْلَجَة" أكثر من أي وقت مضى في زمن التلمتيكس، مع خاصية أخرى مرتبطة بإمكانية التوظيف الدعائي للمنصات التشبيكية المفتوحة، عبر صياغة محتويات إعلامية موجهة خصيصًا للتأثير السياسي، والأيديولوجي، والديني، والثقافي، أو الاجتماعي من أي مكان، ندرك الخطورة التي يمكن أن تُشكِّلها الشبكات الاجتماعية على الفعل السياسي، والأيديولوجي، والديني، والثقافي، أو الاجتماعي. ولا أدل على ذلك من فتح الكونغرس الأميركي تحقيقًا مع الشبكات الاجتماعية بشبهة التخابر مع جهات خارجية من أجل التأثير على خيارات الناخب الأميركي في الانتخابات الرئاسية(25) التي جاءت بدونالد ترامب إلى إدارة البيت الأبيض. 

الجيل الرقمي بين اهتمامات المجال العام واهتمامات المجال الخاص  

أظهرت نتائج مقابلاتنا النوعية أن تفاعل الشباب العربي مع محتويات الشبكات الاجتماعية بمختلف منصاتها ومنتدياتها، يغلب عليه طغيان المواضيع الخاصة المرتبطة بالمجال الخاص للأفراد بنسبة 87% من مجمل الاستخدامات، وهو ما يتقارب كثيرًا مع ما جاء في تقرير قمة رواد التواصل الاجتماعي العرب الذي أشرنا إليه سابقًا، والذي لاحظنا فيه أيضًا طغيان الاهتمامات الخاصة التي يُشْبِعُها الشباب العربي بشكل خاص من منصتي الفيسبوك والواتساب. فكما رأينا في الرسم البياني رقم (2)، أقرَّ أفراد عينتنا البحثية باستحواذ المحادثات الشخصية لوحدها على حيز كبير من الوقت الذي يخصصونه للعالم الافتراضي، يليها التواصل مع الأهل والأصدقاء، ثم مطالعة الصور، ثم اللعب الإلكتروني. وتتلاقى هذه المؤشرات مع ما لاحظناه في ردود أفراد عينتنا الكيفية في كون التشبيك الشخصي يتسم بالعشوائية والتلقائية في انتقاء الأشخاص المرغوب التواصل بهم عند الفئة العمرية الأولى (25-16 سنة)، مقابل ثبات أكثر في التواصل مع معارف دائمين عند الفئة العمرية الثانية. تجدر الإشارة كذلك إلى أنه حتى الاستخدامات المرتبطة بقراءة المنشورات والمواضيع التي تنشر في مدونات الآخرين، لا تكون دوافعها عند أغلبية أفراد العينة المستجوبة (81%) حبَّ الاطلاع والقراءة والنقاش، بقدر ما تكون مجرد مطية للفت انتباه الطرف الآخر في محاولة للذهاب بالعلاقة الافتراضية إلى أبعد من ذلك، خاصة حين تكون العلاقة بين فردين من جنس مختلف. أما مناقشة الأحداث العامة فهي لا تشكِّل نسبة 13% من مجمل الاستخدامات، وتتوزع بين متابعة الأخبار ومطالعة صور وتعليقات الآخرين، وهو ما يطغى بشكل خاص على استخدامات أفراد العينة لمنصتي يوتيوب وتويتر. 

الشكل رقم (7) يوضح توزيع اهتمامات العينة البحثية بقضايا المجال العام والخاص في الفضاء الإلكتروني 

 

غير أن هذا التوجُّه وإن كان توجُّهًا ثابتًا في الآراء المعبَّر عنها إجمالًا عند أفراد عينة البلدان العربية المشمولة بالدراسة، إلا أننا نلاحظ تفاوتًا ذا مدلول بين المناطق الجغرافية الثلاثة؛ حيث ترتفع نسبة مناقشة الأحداث العامة أكثر في منطقة الشام (كل من سوريا، والعراق، ولبنان، والأردن، وفلسطين). تليها منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا (خاصة مصر وليبيا والسودان)، ثم اليمن، ثم منطقة الخليج العربي. كما يُلاحظ بشكل عام أن ذلك التفاعل لا يأخذ نفس الاتجاهات؛ فشباب سوريا، والعراق، ومصر، ولبنان، واليمن، وليبيا، والجزائر، والمغرب، وموريتانيا، وتونس، والسودان، يُوَجِّه معظم اهتماماته المرتبطة بالقضايا العامة للمواضيع المتعلقة بالشأن السياسي الداخلي ثم للشأن الاجتماعي الداخلي ثم للشأن الرياضي الداخلي. في مقابل ذلك نجد أن اهتمامات شباب بلدان الخليج العربي المرتبطة بالشأن العام موجهة أكثر نحو القضايا الخارجية في المواضيع السياسية يليها الاهتمام بالقضايا الاجتماعية الداخلية، ثم الشأن الرياضي الداخلي باستثناء دولة الكويت ومملكة البحرين اللتين يغلب على شبابهما الاهتمام بالمواضيع السياسية الداخلية.  

إن تفسير ما سبق في جزئيته الأولى مرتبط أولًا بالحركية المرتبطة بمناطق النزاعات في كل من سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، والتي خلقت بطبيعة الحال جوًّا من التجاذب والاستقطاب السياسي الذي يدفع بالنشطاء والفاعلين إلى التعبير عن مواقفهم ومحاولة الـتأثير بآرائهم في سير الأحداث في دولهم أو في مناطق الجوار، ثم ثانيًا بتقاليد التعددية السياسية وتعددية الطروحات المنغرسة نسبيًّا في بعض البلدان العربية. أما تفسير الجزئية الثانية فهو مرتبط بمدى وجود مساحة معطاة للحريات السياسية والتعددية الحزبية في مختلف الدول العربية من عدمه، وهي مساحة نجدها متاحة أكثر في دول الربيع العربي، والدول التي سبقتها إلى التعددية الحزبية وحرية إنشاء الجمعيات، مثل: لبنان، والكويت، والجزائر، والمغرب، والسودان، وموريتانيا. 

وبينما جاءت أهم مواضيع المجال الخاص بحسب ترتيبها عند أفراد عينة دراستنا متمحورة حول "الصداقة، والعاطفة، والجنس"، تليها المحتويات المرتبطة بـ"الخواطر والفنون الأدبية"، ثم "الفنون الغنائية والسينمائية"، و"القضايا الدينية"، و"فنون المائدة والطبخ وزينة المنازل" ثم "الرياضة"، و"البحث عن الفرص المهنية والاستثمارية"، و"البحث عن المعلومات الطبية والصحية"، و"البحث عن المعلومات المرتبطة بـ"الحواسيب وتطبيقات الإنترنت"، ثم "متابعة أو إنجاز الإجراءات الإدارية الإلكترونية"، وأخيرًا "التسوق"، جاءت مواضيع المجال العام المرتبطة بالشأن الداخلي بحسب ترتيب عينة أفراد البحث موزعة كما يلي: "الفساد السياسي والإداري" أولًا، ثم "أزمة غلاء المعيشة"، و"البطالة"، و"غياب الإصلاحات الاقتصادية الحقيقية"، يضاف إلى ذلك عند شباب الدول التي فيها تعددية حزبية وبرلمانات، القضايا المرتبطة "بصورية التمثيل البرلماني وعدم كفاءة ممثلي الشعب"، و"عدم كفاءة المعارضة الحزبية". أما الاهتمامات المجتمعية الداخلية فقد جاءت متقاربة بين كل أفراد عينة الدول العربية على اختلاف نطاقها الجغرافي، وقد تمحورت -بحسب الترتيب الذي استنتجناه من دراستنا الاستقصائية- حول "مشاكل الزواج والعنوسة"، و"مشكلة السكن"، و"مشكلة البطالة"، و"مشكلة المخدرات"، و"مشكلة حماية البيئة"، ثم "دور الجمعيات في خدمة المجتمع". 

نلاحظ إذن أنه حتى ضمن القضايا التي تخص الشأن العام نجد أن الاهتمامات التي تخص المصلحة الشخصية للأفراد هي التي تأخذ الأولوية على حساب المواضيع التي تهم الشأن العام صرفًا. أما القضايا العامة ذات البُعد الخارجي فقد تميزت بطغيان المتغيرات السياسية الإقليمية عليها بشكل جعلها مختلفة بين منطقة جغرافية وأخرى. فبينما أعطى الشباب الخليجي، وبشكل متماثل بين عينات كل الدول، الأولوية لقضية "الحصار على دولة قطر"، ثم "الصراع السياسي بين إيران ودول الخليج"، و"حرب اليمن"، و"إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية"، و"مخططات تقسيم الأمة العربية" و"أزمة مسلمي الروهينغيا"، و"القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى"، وضع أفراد عينة العراق والشام قضية "إرهاب تنظيم الدولة" أولًا، تليها "أزمة اللاجئين"، ثم "القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى"، و"مخططات تقسيم الأمة العربية"، ثم "أزمة مسلمي الروهينغيا"، و"الصراع السياسي بين إيران ودول الخليج"، و"حرب اليمن"، ثم قضية "الحصار على دولة قطر". أما منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا فقد وضعت في أولوية الاهتمامات "القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى"، ثم "إرهاب تنظيم الدولة"، و"أزمة مسلمي الروهينغيا"، تليها "مخططات تقسيم الأمة العربية"، و"الحصار على دولة قطر" ثم "حرب اليمن". 

إذن، على ضوء ما سبق، يمكن القول: إن الانخراط الكبير لجيل التلمتيكس العربي في بناء الفضاء العام الرَّقمي، لا يتسم بالفاعلية المرجوة من ذلك الانخراط على الواقع المعيش، بدليل أن مساهماته في الفضاء الافتراضي ليست ذات تأثير كبير في تشكيل الفضاء العام في العالم الحقيقي. وتعود أسباب هذا التقاعس إلى عدة عوامل، منها: مركزية الاهتمامات الشخصية على حساب القضايا العامة في الفضاء العام كما سبق وأن بينَّا أعلاه، ثم غياب الدافعية نحو الفعل السياسي إما لأسباب مرتبطة بالرقابة وعقلية الولاء للحاكم، أو لأسباب مرتبطة بتعب العقل العربي من التحزب السياسي بسبب الصراعات السياسية والحروب، ثم غياب الأهداف والرؤى الموحدة عند النشطاء والفاعلين في شكل مشروع سياسي أو مجتمعي متفق عليه، ثم تعدد وتضارب الأيديولوجيات والقناعات الفكرية والسياسية عند أولئك النشطاء والفاعلين في الشبكات الاجتماعية. إن الفضاء العام الافتراضي يعاني من مشكلة جوهرية باتت تشكل عائقًا أمام فاعليته بقدر ما شكلت قوته في السابق، تكمن في أنه لا يعتمد على جماعات متجانسة سوسيولوجيًّا وأيديولوجيًّا. كما أنه فضاء غير مهيكل، يجمع بين ثناياه كمًّا هائلًا من المعلومات تتوزع بين الطروحات ونواقضها، بما لا يسمح بتشكُّل رأي نيِّر، فكثرة المعلومات تقتل المعلومة. 

يضاف إلى ما سبق، بروز متغير جديد بعد الثورات العربية، يتمثل في استحداث جيوش إلكترونية في الكثير من الدول العربية قامت باقتحام ساحة المعركة الرَّقْمِية، باستخدام تجهيزات حديثة(26) تسمح بتعقب آثار النشطاء والتعرف على أماكنهم، ثم بتوظيف أساليب تواصلية تعمل على كسر مختلف أشكال التعبئة في الفضاء العام الحقيقي كتقنية قرصنة المواقع والصفحات، وتقنية إغلاق المواقع أو الدخول إليها والعبث بها بعد قرصنتها، وتقنية تحوير المنتديات، ثم تقنية التأثير على الاتجاهات من خلال الدفع بالمحتويات السلبية إلى الصفحات الخلفية، ثم تقنيات كسر الإجماع من خلال مداخلات معاكسة للاتجاه الغالب، ثم تمييع الموضوع من خلال تحوير الموضوع الأساسي بمداخلات ثانوية. كما لجأ العديد من الدول العربية مؤخرًا لتشريع قوانين منظمة للتفاعل التواصلي والإعلامي على الفضاء الافتراضي، مع تحديد أوضح للمخالفات والمسؤوليات القانونية المترتبة عنها، ما أصبح يشكِّل رادعًا قلَّل كثيرًا من اندفاع الشباب والنشطاء نحو أشكال التعبير السياسي. ولا أدل على انحصار تأثير الشبكات الاجتماعية في زخمها التحريضي من فشل النشطاء على الشبكات الاجتماعية الجزائرية في الحملات الرقمية الداعية لمقاطعة الانتخابات التشريعية التي جرت في الرابع من مايو/أيار 2017. 

خلاصة 

مما سبق نخلص إلى أن محددات ومرتكزات البيئة الاتصالية الجديدة في العالم العربي تخضع، كما هي الحال في غيرها من دول العالم، لحتمية تكنولوجية ولَّدت جيلًا جديدًا مختلفًا عن الأجيال السابقة في طريقة تعامله مع المحتويات الرَّقمية والمحتويات الورقية، ونتج عن تلك الحتمية التكنولوجية بنية فكرية مختلفة تتسم بطغيان المنطق التشعبي اللاخطي عند جيل التلمتيكس، والتي كانت عاملًا حاسمًا في هجرة ذلك الجيل مختلف أشكال ووسائل التواصل التقليدية، بشكل أحدث قطيعة بين ذلك الجيل وجيل عصر الوسائط المطبوعة الذي فرض بنيته الفكرية الخطية على امتداد قرون، منذ تعميم القراءة والكتابة حتى نهاية القرن العشرين. وقد تولَّد عن تلك الهجرة الجماعية للفضاء الرقمي بروز سلوكيات اجتماعية وقيم ثقافية جديدة أصبحت تزاحم مقتضيات التنشئة الاجتماعية في المجتمعات العربية ومؤسساتها. فـ"الأون-لاينيون" لا يكون منطلقهم المعرفي، والاجتماعي، والثقافي مجتمع الانتماء الحقيقي الذي يحتضنهم، بل الجماعات المرجعية الرَّقْمِية التي يتأثر بها الفرد عبر مختلف أشكال الزخم الفكري والأيديولوجي المتداول في مختلف منصات التواصل بمختلف المرجعيات الأيديولوجية وبمختلف لغات وثقافات العالم. إن التحدي الكبير الذي سيشكِّله هذا التغير لاحقًا على المجتمعات العربية يكمن في تحول المنصات الاجتماعية إلى منصات تنشئة اجتماعية لا تنبني محتوياتها وفقًا لمقتضيات بناء المجتمع الواحد وبمقتضيات الحفاظ على تماسك ذلك المجتمع عبر إنتاج وتوارث قيم ثقافية واجتماعية وفكرية متجانسة. وبذلك ستزاحم تلك المنصات مؤسسات التنشئة التقليدية التي تخضع في محدداتها لتصور واضح المعالم والتوجه والأهداف، بينما تتضارب المحددات الرَّقمية في معالمها وتوجهاتها وأهدافها. فالمحددات الفكرية والثقافية والاجتماعية لجماعة المرجع في الفضاء الإلكتروني لا يكون منشؤها مجتمع الانتماء بالضرورة، ما يشكِّل تداخلًا بين الفعل الخارجي للتنشئة الاجتماعية والفعل الداخلي الذي قد يقوِّض أهداف هذا الأخير. 

وعلى الرغم من أن الحتمية التي خضعت لها المنظومة الاتصالية العربية في صيغتها الجديدة هي في جوهرها ذات الحتمية التقنية التي خضعت لها مختلف شعوب العالم، إلا أن بعض الخصوصيات المرتبطة باختلاف السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية بين مختلف الأقطار العربية كانت إما عوامل مسرعة أو عوامل مبطئة لحدة ولوج الشباب العربي للعالم الافتراضي. فسياسيًّا، من المفارقات التي نسجلها هي أن الدول التي انتهجت نهجًا اقتصاديًّا ليبراليًّا ونهجًا ثقافيًّا محافظًا (دول مجلس التعاون الخليجي) كانت أسرع الدول العربية انفتاحًا على تشجيع دخول الإنترنت ليصل إلى أغوار مجتمعاتها. غير أن أغلب تلك الدول وبحكم طغيان الممارسة السياسية الشمولية في أغلبها، لم تصل بذلك الانفتاح لحد السماح بالتناول الحر للقضايا السياسية الداخلية ما حدَّ من التأثير السياسي لتلك الشبكات في الفضاء العام على الرغم من أن الشباب الخليجي من أكثر الشباب العربي نشاطًا على الشبكات الاجتماعية. في مقابل ذلك، نسجل مفارقة أخرى في أغلب الدول التي نهجت نهجًا اقتصاديًّا شموليًّا، تكمن في مماطلة الحكومات في الانفتاح على الإنترنت والمنصات الاجتماعية مقابل انفتاح أكثر على تقبل تناول القضايا السياسية الداخلية على المنصات الاجتماعية، خاصة بعد الربيع العربي وبعد الانفتاح النسبي لبعض الدول الشمولية -سابقًا- على الممارسة الديمقراطية. 

أما اجتماعيًّا وثقافيًّا، فنلاحظ أن شباب المجتمعات المحافظة سياسيًّا، وثقافيًّا واجتماعيًّا (بلدان الخليج العربي) كان من أكثر الشباب إقبالًا على استخدام الإنترنت وشبكاته الاجتماعية وهو ما يتجاوز تفسيره عامل القدرة الشرائية القوية للمواطن الخليجي بشكل عام، إلى الرغبة، المعبَّر عنها بقوة في مقابلاتنا، عند الشباب الخليجي للتحرر من القيود الاجتماعية التي تكسر إرادة الفرد وتعرقله في بناء شخصيته. إن مسبِّبات تحول السلوك الاتصالي عند المستخدم العربي الشاب تحيلنا إلى محددات ترتبط بإشباع حاجات نفسية، واجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وإدارية، وتجارية... ذات طبيعة شخصية أكثر مما ترتبط بالمحددات التي تتعلق بإشباع حاجات تخص المجال العام، بدليل أن نسبة الشباب العربي الذين يمنحون الأولوية في تشبيكهم الرَّقمي لقضايا المجال العام لا يشكِّلون سوى أقلية قليلة كما سبق تبيانه سابقًا. وقد أثَّر ذلك سلبًا على مخرجات الشبكات الاجتماعية في المجال العام وبشكل خاص في الفعل السياسي الداخلي، الذي انحصر تأثيره عقب ثورات الربيع العربي بحكم تكيف الأنظمة السياسية العربية، أمنيًّا وتشريعيًّا، مع معطى الشبكات الاجتماعية من خلال اقتناء برمجيات وتقنيات تتبع جديدة، أو من خلال سنِّ قوانين تدين الفعل السياسي المعارض على الشبكات الاجتماعية بمختلف المبررات والحجج القانونية.  

إننا لا نعني مما سبق أن الشبكات الاجتماعية في العالم الافتراضي خسرت كامل أوراقها لإحداث تغييرات ثورية سبق لها أن برهنت على قدرتها على المساهمة في إحداثها، على غرار ما حدث في أكثر من دولة عربية خلال مسارات الربيع العربي منذ العام 2011، وما حدث أيضًا قبله في إيران خلال مظاهرات الانتخابات الرئاسية لسنة 2009، ثم ما عرفته الفلبين في العام 2001 حين أسهمت الثورة الشبكية في الإطاحة بالرئيس جوزيف استرادا؛ فالشبكات الاجتماعية الافتراضية ما زالت تحتفظ لنفسها بقوة لا يستهان بها على التعبئة والمناوئة من خلال قدرة ما يُسمَّى بـ"الفاعلين الجدد" على تحريك الجماهير. غير أن هذا التأثير من وجهة نظرنا، لا يكون سابقًا في العالم الافتراضي للحراك الذي ينشأ في العالم الحقيقي، بل يكون لاحقًا له، فيستمد أهميته فقط من تدخله كعامل مُسَرِّع لحراك يكون العالم الحقيقي هو منشؤه الفعلي وليس الفضاء الافتراضي. فكم من دعوة للتظاهر أو تحريض على الثورة بقي حبيس الفضاء الافتراضي، لا لشيء سوى أن المحددات الموضوعية (الفكرية منها والمادية) لقيام الثورة لم تكن موجودة في العالم الحقيقي بقدر ما تواجدت الخطابات الافتراضية الداعية لها في الفضاء السايبري! 

إن التأثير السياسي للفضاء العام الافتراضي في الفضاء العام الحقيقي، لا يكون ذا مغزى سوى في حالة الغليان السياسي الذي يرتبط بزخم الاستحقاقات الانتخابية في الدول التي تعرف بين الفينة والأخرى حملات انتخابية رئاسية، برلمانية أو محلية. كما يتزايد مقدار ذلك التأثير خلال الأزمات الكبرى، خارجية كانت أم داخلية، حين يحدث استقطاب إعلامي تنشئه وسائل الإعلام التقليدية وتغذِّيه الشبكات الاجتماعية. وبدا لنا ذلك واضحًا في الحراك الإعلامي الذي واكب تطورات الأزمة الخليجية على إثر الحصار الذي فرضته السعودية والإمارات والبحرين ومصر على قطر؛ إذ أظهر أفراد العينة القطرية، مثلًا، اهتمامًا بالموضوع تجاوز في الكثير من الحالات مجرد الدفع بهاشتاغات وتغريدات على الفضاء العام الافتراضي إلى القيام بمبادرات فعلية في العالم الحقيقي للتعبير ميدانيًّا عن رفضهم التنازل عن سيادة دولتهم ومساندة موقف الحكومة والقيادة القطرية من تلك الأزمة. كما أظهر الشباب السوري، والشباب العراقي والشباب اليمني أيضًا حراكًا سياسيًّا على المنصات الاجتماعية يخص قضايا مجتمعاتهم ومشاكلها السياسية، غير أن ذلك الحراك لم يكن بنفس حدة وفاعلية الشباب القطري في ترجمة الأفكار لمبادرات ذات تأثير فعلي في العالم الحقيقي. أما خارج أوقات الأزمات فيظل الشباب العربي في أغلبيته العظمى، مبتعدًا عن الشأن السياسي، خاصة الداخلي منه، معطيًا الأولوية في تشبيكه الاجتماعي الافتراضي للقضايا التي تخص فضاءه الخاص دون غيرها.

_________________________________

 د. كمال حميدو، أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة قطر

ABOUT THE AUTHOR

References

1- تقرير وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي، قمة رواد التواصل الاجتماعي العرب، التقرير الأول 2015، (دبي، ديسمبر/كانون الأول 2016):

http://www.arabsmis.ae/assets/frontend/images/ASMISArabicReport.pdf

2- McLuham, M. La Galaxie Gutenberg 1: la genèse de l’homme typographique, (Idées/ Gallimard, Paris, 1977), p. 19-20.

3- Barney, D. The Network Society, (Polity, 1 Ed, 2004), p. 54.

4- حميدو، كمال، "الجماعات الافتراضية على الإنترنت: نحو مجتمعات موازية أم نحو ارتسام جديد لمفهوم التواصل؟" المجلة التونسية لعلوم الاتصال، (العدد المزدوج 63-64، يوليو/تموز 2014- يونيو/حزيران 2015)، ص 111- 149.

5- نقصد بهذا المصطلح تكنولوجيا الاتصال القائمة على الجمع بين التليفون والكمبيوتر وهو مصطلح مركب من كلمتي "تيلي" التي نجدها في الجزء الأول لكلمة تليفون وماتيكس التي نجدها في الجزء الأخير لكلمة حاسوبية "Informatics"

6- Hamidou, Kamal, “New Interactive Teaching Technologies & Education Process at the UAE: what uses, obstacles and added values?”, Journal of Arab & Muslim Media Research, (Intellect, London, 2016), Vol 9, N° 2, p. 202.

7- Katz, E., Blumler, J. G., Gurevitch, M. “Utilization of mass communication by the individual”, In Blumler. J. G.; Katz, E. (Eds.), The uses of mass communications: Current perspectives on gratifications research, (Sage, Beverly Hills, 1974), p. 19-32.

8- Rubin, Alan. M., Haridakis, Paul. M., Hullman, Gwen. A., et. al, “Television Exposure Not Predictive of Terrorism Fear”, Newspaper Research Journal, (24 (1), 2003), p. 45-128.

9- "جامعة كيمبريدج تدرس إلغاء الكتابة بخط اليد في الامتحانات" بي بي سي، 9 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 22 سبتمبر/أيلول 2017):

http://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-41213557

10- Meirieu, P., Liesenborghs, J. L’enfant, l’éducation et la télécommande, (Labor Edition, Bruxelles 2005), p. 65.

11- تقرير وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي، مرجع سابق، ص 3.

12- تقرير وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي، مرجع سابق، ص 27-54.

13- “Average Internet Speeds By Country”, fastmetrics, (Visited on 15 June 2017)

https://www.fastmetrics.com/internet-connection-speed-by-country.php

14- استراتيجيات الحكومة الإلكترونية في الدول العربية: الواقع وآفاق التطور، اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، ديسمبر/كانون الأول 2013، (تاريخ الدخول 16 يوليو/تموز 2017): 

http://css.escwa.org.lb/ICTD/3233/StudyE-GovStrategies.pdf

15- شريفة، سليمان، دور الاتصال والعلاقات العامة في الحكومة الإلكترونية: دراسة حالة على إمارة دبي، (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية 2009)، ط 1، ص 54.

16- "أسعـــار الإنترنـــت في الإمارات بين الأعلى عربيًّا خلال 2015"، الإمارات اليوم، 29 مايو/أيار 2016، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2017):

http://www.emaratalyoum.com/business/local/2016-05-29-1.900954

17- تقرير وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي، مرجع سابق، ص 58.

18- منصوري، نديم، سوسيولوجيا الإنترنت، (منتدى المعارف، بيروت 2014)، ص 22.

19-  حميدو، "الجماعات الافتراضية على الإنترنت"، مرجع سابق، ص 139.

20- Rivet, Julien, "Psychologie du clash sur Internet : y a-t-il un surmoi numérique à l’heure du web social", slate.fr,10 juillet 2009, (Visited on 7July 2017):

 http://www.slate.fr/story/7929/psychologie-du-clash-sur-internet

21-Goffman, E. La mise en scène de la vie quotidienne: Tome 1, La représentation de soi, (les Editions de Minuit, 1973), p. 73

22- رحومة، علي محمد، "علم الاجتماع الآلي: مقاربة علم الاجتماع العربي والاتصال عبر الحاسوب"، عالم المعرفة، (العدد 347، يناير/كانون الثاني 2008)، ص 347.

23- منصوري، سوسيولوجيا الإنترنت، مرجع سابق، ص 22.

24- بابكر، معتصم، أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام، (مركز التنوير، الخرطوم، 2014)، ط 1، ص 51-52.

25- "الكونغرس يستجوب مواقع التواصل في قضية التخابر مع روسيا"، الأنباء، 29 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2017):

goo.gl/pJEL2R

26- "كيف باعت "بي أيه إي سيستمز" البريطانية أنظمة مراقبة متطورة لدول عربية؟"، بي بي سي، 15 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 16 يوليو/تموز 2017):

http://www.bbc.com/arabic/middleeast-40293585