عبد الإله بلقزيز
تتوقف التوقعات في ميادين الدراسات السياسية والاقتصادية والإستراتيجية والمستقبلية, على ما تحت التصرف من معطيات وحقائق ووقائع. لا مجال للاستشراف لإنتاج فرضيات مجردة أو لاستيلاد سيناريوهات (مشاهد) افتراضية بمعزل عما يبرر بناءها من معطيات مادية.
عبد الإله بلقزيز |
حين يحيد فعل التوقع عن هذه القاعدة (وكثيرا ما حاد عنها في الأعم الأغلب مما يكتبه الاستشرافيون في بلادنا العربية), يتحول إلى تمن أو إلى رغبة, فتكون النتيجة مجانبة الموضوعية وتصنيع الأوهام.
إن أخذنا بهذه القاعدة وتحرينا الدقة في بناء التوقع على المادة الوقائية المتاحة, لن نجد الكثير مما يغرينا بالاعتقاد أن وضعنا في الوطن العربي –في العام 2007 – سيختلف كثيرا عن وضعنا اليوم أو أمس.
ومع أن هذا الحكم متفاوت في الدرجة من موضوع إلى آخر من الموضوعات التي يجري بصددها التوقع, إلا أن الحصيلة الإجمالية للواقع العربي لا تمثل اليوم بطاقة مرور مضمونة إلى غد نوعي أو مختلف. ويزيد معدل هذه الحقيقة وضوحا كلما كان الحديث (التوقع) منصرفا إلى موضوع الوضع الرسمي العربي.
الأداء المتوقع للنظام السياسي الرسمي
الأداء المتوقع لقوى المجتمع
الأداء المتوقع لحركات المقاومة
الأداء المتوقع للنظام السياسي الرسمي
أزعم أن شيئا كبيرا لن يطرأ على أداء النظام العربي في العام القادم، وسيستمر على الوتيرة نفسها: سلبيا, مترددا, مذهولا أمام ما يجري في العالم وفي قلب الوطن العربي.
وأقصى ما يقدر عليه أن يصنع قرارا ويجمده وتلك عادته التي أوفى لها منذ ثلث قرن على الأقل وما تزحزح عنها، لنقرأ سريعا سيرته اليوم كما نفهمه.
" لن يطرأ شيء كبير على أداء النظام العربي في العام القادم، وسيستمر على الوتيرة نفسها: سلبيا, مترددا, مذهولا أمام ما يجري في العالم وفي قلب الوطن العربي " |
هناك أربع أزمات أمام النظام العربي وفي قلبه تهدد أمنه وتوازنه: فلسطين والعراق ولبنان والسودان. لم يفعل شيئا للشعب الفلسطيني طيلة هذه السنوات، وافق على مبادرة في بيروت وقضى الأمر بتركها, تاركا لإدارة بوش وللرباعية أن تتصرف في القضية، وتاركا لإسرائيل أن تمارس سياحتها الدموية في شعب فلسطين.
ارتفعت أسعار نفطه فجأة إلى السماء, لكن فلسا منها لم يصل إلى أفواه ملايين الجوعى في فلسطين، وها هو الشعب وحكومته المنتخبة في حصار شديد يعجز النظام العربي عن رفعه, هذا إن لم يكن هو نفسه شريكا فيه كيف –إذن– سينتقل هذا النظام فجأة من سلبيته ولا مبالاته إلى دور فعال نشط لمصلحة قضية فلسطين؟
ولقد فرط في العراق وترك مصير شعبه وكيانه ووحدته للمجهول، كان يتحدث من بعيد عن مخاوفه مما يجري في العراق, وعلى الأرض كانت أميركا وإيران تفعلان ما تريدان.
وحين استفاق متأخرا –كعادته– على الفتنة والحرب الطائفية والتقسيم, لم يجد ما يجيب به على "النازلة" سوى التجييش ضد الخطر الإيراني الصفوي وضد الشيعة دون أن يقول شيئا عن الاحتلال.
وإذا كان مفهوما أن لدى إيران حسابات في العراق فلم لم يكن للنظام العربي حسابات -والعراق من إقليمه وأمته-؟ ولم تركه ساحة مفتوحة لإيران؟ مرة أخرى لا أجد سببا للاعتقاد بأن شيئا سيتغير في أدائه السياسي في هذه المسألة.
التفريط نفسه حصل تجاه مصير السودان، ويسير هذا البلد العربي بكل أسف نحو التقسيم بسبب السياسات الخرقاء للنظام العسكري الحاكم. لكن النظام العربي لم يبذل أي جهد لاستيعاب الأزمة السودانية ورعاية حل عربي لها يضمن المصالحة الوطنية ووحدة السودان.
لقد ترك مصير البلد لإدارتين: دولية (مجلس الأمن والإدارة الأميركية) وإقليمية (الاتحاد الأفريقي) بينما اكتفى النظام العربي بمراقبة ما يجري من بعيد، فماذا في وسعنا أن نتوقع إذن من "جديد" في أدائه العام القادم؟
امتحان لبنان"
كان لبنان صيف 2006 الامتحان الأكبر لما يسمى بالنظام الرسمي العربي، حيث ترك لبنان وحيدا أمام جحيم الموت الصهيوني
"
ولقد كان لبنان صيف هذا العام الامتحان الأكبر لما يسمى بالنظام الرسمي العربي. ترك لبنان وحيدا أمام جحيم الموت الصهيوني، وليت نظام "نا" العربي صمت واختار الحياد بل أطلق بعض أركانه لسانه في المقاومة واصفا بطولتها وشرفها بـ"المغامرات غير المحسوبة".
أما حين احتدم فيه الخلاف السياسي الداخلي حول السلطة والمشاركة وانقسم أهله بين فريقين سياسيين, فلم يخف "النظام العربي" -أركانه على الأقل- موقف الانحياز لفريق ضد آخر مغامرا بصب مزيد من الزيت على النار في الداخل اللبناني.
هذه سيرة النظام العربي الرسمي ولن تتغير أو يطرأ عليها تعديل في ما نزعم ونتوقع. سيقول قائل إن طارئا طرأ في الوضع الدولي هو بداية انكفاء الاندفاعية الهجومية الأميركية في منطقتنا, بعد انتخابات الكونغرس وتقرير بيكر–هاملتون, وإن حرية في القرار العربي –ولو نسبية – سترى النور.
ونرد بالقول إن هذا التوقع يصدق على الاتحاد الأوروبي أو روسيا أو الصين أو أميركا اللاتينية, أي على الدول والمجموعات الإقليمية التي تملك مشروعا سياسيا ورؤية سياسية, أما نظام "نا" فبعيد عن هذا حتى إشعار آخر.
وإن كان لا بد من التوقع فنحن نتوقع أن يتحرك أداء النظام العربي على النحو التالي: التحريض المتزايد على إيران وعلى الشيعة والانكفاء على خطاب سياسي مذهبي (المفارقة أن النظام العربي ضد الشيعة والسنة على السواء في العراق, ضد حلفاء إيران وضد المقاومة).
والتمسك المتزايد بخريطة الطريق والتسوية و"السلام" و"أوسلو" وسلطة محمود عباس ضد "حكومة حماس" وضد خيار المقاومة, مع مزيد من البخل المالي والاقتصادي تجاه شعب يتضور جوعا.
ثم المزيد من الاصطفاف السياسي وراء فريق في لبنان ضد فريق آخر, والمزيد من اللا مبالاة تجاه مصير السودان, والمزيد من الحرب ضد الجماعات الأصولية, والمزيد من التجاهل لدعوات الإصلاح في الداخل, فالمزيد من احتكار السلطة وهدر الثروة وإعادة إنتاج الفساد الخ.
نعم, ليس بين أيدينا من المواد ما يسمح برسم صورة أخرى وردية أو أقل قتامة، لقد انحدرنا إلى القعر لكننا كلما اعتقدنا أننا وصلنا إلى قعر نهائي, نكتشف أن للقعر قعرا آخر يدعونا إلى التمادي في الانحدار.
تعاني القوى الاجتماعية الشعبية (الأحزاب, النقابات, منظمات المجتمع المدني) م