حلقة نقاشية: مستقبل المشهد السياسي في تونس بعد الانتخابات

201411117504867580_20.jpg
لطفي حجي مدير مكتب الجزيرة في تونس يتوسط د. صلاح الدين الزين مدير مركز الجزيرة للدراسات (يسار) ود. جمال نصار باحث في المركز (الجزيرة)

ملخص
بعد إجراء الانتخابات التشريعية الأولى بعد الثورة في تونس، تكون قد أنهت مرحلتها الانتقالية وعبرت بسلام إلى مرحلة المؤسسات الدائمة، وسيتم تكليف حزب "نداء تونس" بتشكيل الحكومة، باعتباره الحزب الحاصل على الأكثرية البرلمانية. وفي هذا السياق، يتأرجح الشكل المتوقع للحكومة القادمة بين سيناريوهين رئيسيين: يتمثل السيناريو الأول، في تشكيل حكومة توافق وطني ذات قاعدة سياسية واسعة بقيادة "نداء تونس" وبمشاركة "النهضة" وغيرها من الأحزاب خاصة تلك التي حلَّت في المراتب التالية مثل "الاتحاد الوطني الحر" و"الجبهة الشعبية" و"آفاق تونس".

والسيناريو الثاني، يتمثل في تشكيل حكومة ائتلافية بدون حركة "النهضة" التي ستكون حينها قوة المعارضة الرئيسية.

وعلى صعيد الانتخابات الرئاسية -في الغالب- ستكون هناك عدة احتمالات: 

  • فوز رئيس من نداء تونس، وفي هذه الحالة يكون للنظام القديم أكبر الحظوظ في المشهد السياسي.
  • فوز رئيس يُحسب على التوجه الديمقراطي ومتبنٍّ لما تبقى من مبادئ الثورة، وهذا السيناريو سيحقق نوعًا من الاستقرار وعدم الإقصاء.
  • تحالف بين النهضة ونداء تونس، وهذا الخيار -لو وقع- يضمن الاستقرار بالنسبة للسنوات الخمس القادمة.
  • عودة النهضة وحلفائها في الترويكا وغيرهم من التشكيلات السياسية إلى المعارضة، وهذا السيناريو قد يفتح المشهد التونسي على مزيد من التوتر والاستقطاب.

مقدمة

بإجراء انتخاباتها التشريعية الأولى بعد الثورة في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014 تكون تونس قد أنهت مرحلتها الانتقالية وعبرت بسلام إلى مرحلة المؤسسات الدائمة. تنافست في الانتخابات مجموعة من الأحزاب، أبرزها: حزب "نداء تونس" الذي حصل على المرتبة الأولى بـ85 مقعدًا، وحزب حركة "النهضة" في المرتبة الثانية بـ69 مقعدًا، من إجمالي مقاعد المجلس التي تبلغ 217 مقعدًا.

وبناء على هذه النتائج، سيتم تكليف حزب "نداء تونس" بتشكيل الحكومة، باعتباره الحزب الحاصل على الأكثرية البرلمانية. وفي هذا السياق، يتأرجح الشكل المتوقع للحكومة القادمة بين سيناريوهين رئيسيين: يتمثل السيناريو الأول، في تشكيل حكومة توافق وطني ذات قاعدة سياسية واسعة بقيادة "نداء تونس" وبمشاركة "النهضة" وغيرها من الأحزاب خاصة تلك التي حلَّت في المراتب التالية، مثل: "الاتحاد الوطني الحر" و"الجبهة الشعبية" و"آفاق تونس".

أما السيناريو الثاني، فيتمثل في تشكيل حكومة ائتلافية بدون حركة "النهضة" التي ستكون حينها قوة المعارضة الرئيسية. ويبقى موقف "النهضة" إزاء الانتخابات الرئاسية ودعمها لأحد المترشحين المتنافسين عاملاً أساسيًّا في ترجيح أحد السيناريوهين المذكورين.

وفي هذا السياق، نظَّم مركز الجزيرة للدراسات ندوة خاصة عن المشهد السياسي الذي أفرزته الانتخابات في تونس ومستقبل التحالفات الممكنة، تحدث فيها الزميل لطفي حجي مدير مكتب الجزيرة في تونس، ودار النقاش حول الأسئلة التالية: ما هي الخريطة السياسية المتوقعة في تونس قبل وبعد الانتخابات الرئاسية؟ وهل يمكن لهذه الخريطة أن تؤدي إلى استقرار الوضع في تونس لاسيما على الصعيدين الأمني والاقتصادي؟

لماذا فاز حزب "نداء تونس"؟

هناك جملة من الأسباب التي أوصلت تونس إلى هذه النتيجة، ولعل الانطباع العام التي تبشر به هذه النتائج لا يخلو من نوع من الخوف والتساؤل: هل اندثرت الثورة بتونس؟

ومما تجدر الإشارة إليه أن هنالك أسبابًا هيأت لفوز نداء تونس في التشريعيات الأخيرة، هي:

1- عودة رموز النظام القديم للعمل السياسي
طريقة تعامل الطيف السياسي الممثل للنظام القديم، أي: حزب "نداء تونس"، مع نتائج الاستحقاق الماضية؛ فمن الواضح أن هنالك نوعًا من الغياب العلني للنظام القديم في تلك الاستحقاقات التي كانت قد أفرزت المجلس التأسيسي. وقد ظنت القوى الثورية أنها انتصرت وتوهمت أنه لا يمكن للماضي أن يعود. فاز حزب النهضة في السابق فتغير المشهد في الظاهر، غير أن القوى السياسية التي تشكِّل استمرارًا للنظام القديم بدأت تعمل سرًّا كما عملت جهرًا بشكل متداخل. وقد اعتمدت طريقة تقوم على ثلاثة أعمدة:

  • أولاً: الأمن: وهو جهاز فعال وقديم وقد استعصى إصلاحه على حكومة النهضة.
  • ثانيًا: الإدارة التي كانت بيد النظام القادم منذ 60 سنة، بل إنها كانت جزءًا من الحزب الدستوري الحاكم في السابق.
  • ثالثًا: الإعلام: فقد وصلت تونس مع الثورة إلى حرية في التعبير لم تكن تحلم بها، لكنها حرية تتجه في غير اتجاهها المطلوب؛ فالمتصدر للمشهد الإعلامي هم في أغلبهم من كانوا يقومون بأدوار استخباراتية، وصاروا اليوم موزعين على منابر لتحقيق أجندة معينة.

2- تقصير حكومة الترويكا


جانب من حلقة النقاش (الجزيرة)

وهذا التقصير الذي أصاب حكومة الترويكا لما أفرزتها الانتخابات التي تلت نجاح الثورة حدث في تونس وحدث في دول عربية أخرى من بلدان الربيع العربي. فالواضح أن أداء الترويكا وطريقتها في استغلال الوضع ومعرفتها بتغيراته كانت محدودة؛ فالترويكا تتحمل فعلاً جزءًا من المسؤولية. إن تركيبة الترويكا تشكِّل تحالفًا نادرًا بين العلمانيين والإسلاميين، وقد استطاعوا أن يشكِّلوا حكومة مشتركة، إلا أن هذه التركيبة لم تكن متجانسة من حيث التشكيل ومن حيث التعاون البيني. ففي هذه التركيبة أشخاص ممن ليست لهم الخبرة الكافية لتولي مناصب وزارية، بل ربما غلب المنطق الحزبي في تعيينهم على الكفاءة. وكان من المناسب أن يُستنجَد بالكفاءات في حالة كهذه. إن جُلَّ الوزارات الكبرى ووزارات السيادة وبعض الوزارات الخدمية وخصوصًا ذات التأثير الاقتصادي قد أُعطيت لقيادات حزبية ليس لها بالضرورة علم بطرق إدارة أعباء الدولة. صحيح أن لهم تجاربَ نضالية، لكن النضال يختلف كثيرًا عن التجربة المهنية في التسيير الإداري.

3- غياب الاستراتيجية والتخطيط
هناك نقطة أخرى مهمة تتعلق بالترويكا وكانت بمثابة العامل التي جعل أداءها ينقلب عليها وهي عدم وضع استراتيجية لما بعد الانتخابات. من الواضح أن الحكومات التي جاءت مباشرة بعد الثورة جاءت من داخل النظام السابق الذي كان سائدًا، ولم تكن إفرازًا للثورة. بعد ذلك تم انتخاب المجلس  التأسيسي فجاءت شرعية انتخابية ذات مرجعية ثورية، وأغلب الشارع التونسي كان مع هذه الشرعية، إلا أن حكومة الترويكا التي أفرزها انتخاب المجلس التأسيسي لم تستغل ذلك. بل إن تلك الحكومة أحجمت عن اتخاذ قرارات حاسمة مما جعل البعض يصف أداءها بالأيادي المرتعشة. وقد استفاد الطيف السياسي المحسوب على النظام السابق من غياب الاستراتيجية لما بعد انتخاب المجلس التأسيسي فرصَّ صفوفه، وظهر بعد خمسة أشهر من نجاح الثورة وكان ذلك في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2011، ثم كان ظهوره العلني في 22 مارس/آذار 2012 حين نظَّموا اجتماعًا كبيرًا في المنستير، وهي مدينة الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، وكان اختيارها عائدًا إلى تلك الرمزية، فاتخذتها الجماعة المحسوبة على النظام السابق مكانًا لانطلاقة تأسيس نداء تونس. ومنذ هذا التأسيس أصبحت جماعة تونس رقمًا مهمًا في المعادلة السياسية الداخلية ولم يعد أي طرف قادرًا على عزلهم.

4- استغلال أخطاء الترويكا
استغل حزب نداء تونس بعض الأخطاء التي وقعت فيها الترويكا لتسديد ضرباته لها خصوصًا وأن بيده إعلامًا موجهًا ولديه أجندة واضحة لقصف الترويكا والتنديد بها في كل مناسبة. وقد جاءت مسألة تطور العمليات الإرهابية ليتم توظيفها من طرف الإعلام لإدانة الترويكا الحاكمة، بل وقلب الطاولة عليها وتخويف المواطنين التونسيين من خلال الإيحاء لهم بأن العمليات الإرهابية لم تأت إلا مع حكومة الترويكا، وأنها هي المسؤولة عنها، مع تجاهل تام للإطار الإقليمي الذي يغذي هذه العمليات والتي تم التحضير لها فيما يمكن تسميته بـ"غرفة العمليات"، وهي غرفة لا نعرف أين توجد، لكن هناك جهات تحركها وتخطط لإفشال الربيع العربي. فكانت العمليات الإرهابية وما ينجرُّ عنها من العنف، وكانت الاغتيالات السياسية، وكانت عملية الشعانبي ضد الجيش كلها من تدبير "غرفة العمليات" تلك. مما أدى إلى فزع التونسيين من العنف، فتونس تعيش -كما هو معروف- حالة من التجانس الفكري والديني والإثني. ولقد كان أداء الجناح الإعلامي والسياسي لنداء تونس جيدًا حيث استثمر الوقائع لتلبيس التهمة للترويكا حتى وإن لم تكن نفذت تلك العمليات، فالخطاب الشائع أن في عهد هذه الترويكا لم نَرَ إلا الإرهاب والقتل. واللافت للنظر أن حركة النهضة وإن استطاعت أن تصمد فإنها  تراجعت لكنها لم تنهزم رغم القصف الإعلامي والحملات السياسية. غير أن الأحزاب الأخرى الثورية والتقدمية لم تستطع أن تصمد، بل إن الطيف السياسي المحسوب على نظام ابن علي أراد القصاص والتشفي من هذه الأحزاب بل من كل ما هو ثوري، فكل من تمسك بمبدأ المحاسبة لابد أن يعاقب.

الآفاق والسيناريوهات المتوقعة

بالنسبة لمستقبل الوضع السياسي التونسي هناك سيناريوهات محتملة ولا أحد يمكنه أن يعطي نتائج حاسمة أو تصورات بمنتهى الدقة، وهذه السيناريوهات هي:

  • السيناريو الأول: أن تتم الانتخابات الرئاسية ويفوز رئيس من نداء تونس: وهنا سيدخل نداء تونس البرلمان كأقوى كتلة حزبية مما يعني أن رئيس الحكومة سيكون من هذا الحزب فضلاً عن رئيس الجمهورية. وفي هذه الحالة يكون للنظام القديم أكبر الحظوظ في المشهد السياسي. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني عودة ما كانت عليه الحال في عهد ابن علي؛ ذلك أن الرئيس ابن علي مرتبط في الأذهان بقمعيته، وهو أمر من المستحيل أن يعود، غير أن نظام ابن علي سيعود في صورة ناعمة، أي: اعتماد ديمقراطية شكلية تقوم على حرية التعبير المطلق، لكن القرارات المصيرية والاتفاقيات الدولية التي تحدد مستقبل تونس والتعيينات والإقصاء ستكون ملامح الحكومة المتوقعة إذا تم هذا السيناريو.
  • السيناريو الثاني: يفوز رئيس يحسب على التوجه الديمقراطي ومتبنٍّ لما تبقى من مبادئ الثورة: وهذا السيناريو سيحقق نوعًا من الاستقرار وعدم الإقصاء كما سيحقق توازنًا. هذا مع العلم بأن الرئيس في النظام الدستوري الجديد بتونس ليس كل شيء، فصلاحياته تقتصر على بعض الأمور كالدفاع والدبلوماسية وله حل البرلمان. وعائق هذا السيناريو أن الأطراف الثورية عجزت عن إيجاد مرشح توافقي، وفي نفس الوقت فإن حزب نداء تونس لن يحصد في الرئاسة أكثر مما حصده في التشريعيات. ويبقى أن هناك حساسيات بين مكونات المشهد السياسي المحسوب على الثورة ولا يوجد تنسيق بينهم.
  • السيناريو الثالث: هناك حديث عن تحالفات ممكنة وغير مستبعدة بل إن كثيرًا من الأطراف الدولية التي تريد إنجاح العملية في تونس تدفع باتجاه هذا التحالف الذي قد يكون بين النهضة ونداء تونس. وهذا الخيار -لو وقع- فسيضمن الاستقرار بالنسبة للسنوات الخمس القادمة. ولا شك أن البلاد تحتاج لهذا النوع من الاستقرار، وهذا السيناريو لا ترفضه النهضة، ولعل وجودها في الحكم سيكون أحسن منه في المعارضة، لكن العناصر الاستئصالية داخل نداء تونس ترفض هذا السيناريو.
  • السيناريو الرابع: وهو أن تعود النهضة وحلفاؤها في الترويكا وغيرهم من التشكيلات السياسية إلى المعارضة؛ وهذا السيناريو قد يفتح المشهد التونسي على مزيد من التوتر والاستقطاب.

ومع كل ما سبق ذكره يبقى المشهد التونسي محكومًا بالعديد من العوامل الداخلية والخارجية. لقد نجحت تونس في المصادقة على ترسانة من النصوص التشريعية وعلى رأسها الدستور التوافقي، وهي نصوص تضمن -على الأقل في محتواها النظري- الكثير من الاستقرار في حالة تطبيقها، لكن في حالة تجاوزها أو التلاعب بها فإنها تفتح البلاد على مصير متوتر.
___________________________________
د. سيدى أحمد ولد أحمد سالم - باحث في مركز الجزيرة للدراسات