كمال السعيد حبيب
تشهد تركيا تناميا ملحوظا في شعبية التيار الإسلامي في نسخته المتمثلة في حزب العدالة والتنمية، وقد حقق هذا الحزب منذ توليه السلطة عام 2002 انجازات على الصعيد الداخلي والخارجي جعلته يرسخ أقدامه في الحياة السياسية، وعلى الأرجح أن يستمر ذلك خلال العشرية القادمة على الأقل.
من الهامش إلى المركز
الديمقراطية المحافظة
لم يكن صعود التيار الإسلامي في تركيا بالأمر الهين نظرا لطبيعة الدولة التركية الحديثة القائمة على ضرب من العلمانية الصارمة والتي يحرّم دستورها التطرق إلى الشأن العام من منظور ديني، وقد ظلت المؤسسة العسكرية دوما هي الحارس لهذه العلمانية الجذرية، ولهذا فقد تطلب وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم عقودا طويلة من الزمن واستدعت تغيرات فكرية وتنظيمية ساعد عليها تراكم الخبرة واستخلاص الدروس خاصة من التجارب الإسلامية التي قادها الزعيم نجم الدين أربكان.
وقد تكللت هذه الجهود بانتقال الإسلام من الهامش إلى المركز ومن الاغتراب إلي الاختراق ليصبح هو الظاهرة الأهم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبلاد.
قد ظلت المؤسسة العسكرية دوما هي الحارس للعلمانية في تركيا، ولهذا فقد تطلب وصول العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عقودا طويلة من الزمن والاستفادة من تراكم خبرات من سبقوهم في العمل السياسي |
وقد ساعد على هذا استمرار التقاليد العثمانية ذات الطابع الإمبراطوري الذي يقوم علي التوفيق والتعايش بين خيارات متعددة والوصول لحلول وسط، وهو العامل الذي أدى بـ "الأتاتوركية" ذات الطابع الاستئصالي إلى عدم النجاح، كما أدى بـ "الأربكانية" ذات الطابع الإحيائي الذي يحمل نزعة جذرية إلى التراجع، بينما مهد الطريق أمام "الأردوغانية" في صيغتها الديمقراطية المحافظة المتواصلة مع الطابع العثماني (عثمانية جديدة) للوصول إلى السلطة.
والدولة في تركيا تسبق الدين بخطوة، وهذا تقليد عميق في الحياة التركية منذ اعتنق الترك الإسلام، وظل هذا التقليد هو السائد في ظل الدولة العثمانية ولا يزال حتى اليوم، وهنا يمكن القول بأن الجيل الشباب الجديد من الحركة الإسلامية من أمثال رجب طيب أردوغان وعبد الله جول وبولنت أرينغ وعبد اللطيف شنر وغيرهم، أيقنوا أنه لا بد من إدراك جديد وانتهاج خيارات مغايرة عن تلك التي نهجها نجم الدين أربكان ورفاقه القدامى.
فالجيل الذي يمثله هؤلاء الشباب هو الجيل الثالث في الحركة الإسلامية التركية، وهم يعبرون عما يطلق عليه "الإسلام المدني"، بمعنى أنهم لا يودون فرض قواعد الإسلام من أعلى وإنما يقفون في نفس النقطة التي يجاورهم فيها آخرون، وأن هؤلاء الآخرين متساوون معهم، ومن ثم فإن تقاليد التفاوض والحوار والوصول للحلول الوسط هي التي يمكن أن تكون سبيلا للحكم وليس استخدام أدوات الفرض والهيمنة من أعلى، فهؤلاء الشباب (جيل أردوغان وغول) لا يريدون أن يكونوا كمالية جديدة في ثوب إسلامي.
أدرك الجيل الجديد الذي تكونت لديه خبرة واقعية بالسياسة وعالمها من خلال ممارسة السلطة على مستوى البلديات أنه قد استوى عودهم ونضج وعيهم وخبرتهم وأن طريق أربكان الذي يحاول أن يجعل من الدين قوة فوق الدولة وأمامها خلافا للتقاليد التركية لن يصل بمشروعهم إلى منتهاه المأمول.
وعليه فقد تبنى مؤسسو حزب العدالة والتنمية ما أطلقوا عليه "الديمقراطية المحافظة" وهي نظام سياسي واجتماعي توفيقي تنسجم فيه الحداثة والتراث من جانب والقيم الإنسانية والعقلانية مع الميراث الفكري الإسلامي من جانب ثان، فهي تقبل الجديد ولا ترفض القديم والمحلي، وتحترم الآخر وتؤمن بخصوصية الذات، وترفض الخطاب السياسي القائم علي الثنائيات التي تفرض رؤية سياسية أو عرقية أو أيديولوجية أو دينية واحدة تلغي ما سواها.
حقائق التطور السياسي في تركيا تتجه لصالح دولة ديمقراطية تحترم الإسلام والمتدينين ولا تنفي العلمانية وإنما تهذبها من أجل أن تكون أكثر انفتاحا وديمقراطية وأكثر تجاوبا مع حقائق العصر |
وتتعدى أهداف ديمقراطية الحزب من الانتخابات ونزاهتها والبرلمانات وقدسيتها إلي تنشيط دور المجتمع المدني واحترام الحريات وضمان الحق في الاختلاف والمشاركة، وتوزيع واستقلال السلطات، وهي المبادئ العامة للديمقراطية المحافظة التي يسعى الحزب إلى تحقيقها في الحياة السياسية التركية.
ويهدف مشروع الحزب الحاكم في تركيا حاليا إلى تخفيف الهواجس التي يثيرها صعود الأحزاب الإسلامية من خلال التأكيد علي أن الحزب ليس قوة سياسية للتعبير عن هويات ثقافية مكبوتة تتعارض مع طبيعة النظام القائم في الدولة، ولكنه يسعي للتوفيق بين طبيعة هذا النظام وتلك الطاقات دون تصادم بين الاتجاهين طالما تهيأت البنية الداخلية لذلك ورضي الفاعلون الأساسيون في هذا النظام عن نتائج النموذج الذي يمثله حزب العدالة والتنمية.
لكن الأمور ليست ممهدة بالكامل للعدالة والتنمية، فالمشهد التركي الآن يتجاذبه خياران أحدهما يقوده الإسلاميون التجديديون في العدالة والتنمية وهو الالتزام بدولة ديمقراطية حيادية يحكمها القانون ويحترم خيار غالبية مواطنيه في احترام الإسلام وعدم استبعاده من الحياة العامة، وخيار آخر تقدوه البيروقراطية المدنية والأحزاب العلمانية الجذرية التي تسعى إلى فرض نموذج علماني تدخلي.
لكن يمكن القول إن حقائق التطور السياسي في تركيا تتجه لصالح دولة ديمقراطية تحترم الإسلام والمتدينين ولا تنفي العلمانية وإنما تهذبها من أجل أن تكون أكثر انفتاحا وديمقراطية وأكثر تجاوبا مع حقائق العصر.
_______________
باحث في شؤون الحركات الإسلامية، متخصص في حركات الإسلام السياسي التركية. النص ملخص لدراسة موسعة يمكن الاطلاع عليها بالضغط هنا.