مبارك والإخوان.. خبرة الثلاثين عاما

على مدار العقود الثلاثة الماضية، مرت العلاقة بين جماعة "الإخوان المسلمين" ونظام مبارك بمراحل مختلفة تراوحت بين اللين والشدة، فيما يشبه "الكر والفر" بين غريمين، وتنوعت الإستراتيجيات...
7 August 2011
510f34c4f1584cf2b77b4c6e88f393cd_18.jpg
مبارك والإخوان.. خبرة الثلاثين عاما (الجزيرة)

على مدار العقود الثلاثة الماضية، مرت العلاقة بين جماعة "الإخوان المسلمين" ونظام مبارك بمراحل مختلفة تراوحت بين اللين والشدة، فيما يشبه "الكر والفر" بين غريمين، وتنوعت الإستراتيجيات التي تعاطى بها كل طرف مع الآخر، بحيث باتت قواعد اللعبة معروفة للجميع، صحيح أن النظام قد بدا دوما الطرف المتحكم فى تحديد درجة ووجهة العلاقة، ولكن الجماعة -بخبراتها السابقة- بدت أيضا قادرة على مجاراة النظام والصمود أمام محاولات الإقصاء والعزل التي مورست تجاهها طيلة ثلاثين عاما.

تقوم هذه الدراسة على فرضيتين أساسيتين، الأولى: هي أن نظام مبارك، وعلى خلاف نظامي عبد الناصر والسادات، نجح في تهذيب السلوك السياسي للجماعة وتحديد سقفها وطموحها فيما يعرف بعملية co-optation أي دفع الجماعة للتعايش مع الأمر الواقع والرضا بما هو قائم. والثانية -وهي مترتبة على الأولى: أن الهدف الأساسي للجماعة بات هو البقاء كتنظيم اجتماعي تعبوي متماسك يلبي احتياجات أعضائه ويمتص حماستهم، وليس كحركة سياسية تستهدف التغيير أو حركة دينية تسعى لإقامة الدولة الإسلامية.

وإذا كانت أي دراسة جادة عن جماعة الإخوان المسلمين وعلاقتها بنظام مبارك يجب أن تأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل والمتغيرات التي مر بها المجتمع المصري طيلة الفترة محل الدراسة، باعتبار ذلك من المحددات الحاكمة لتطور تلك العلاقة، فإنه لظروف المساحة والمقصد الأساسي من هذه الدراسة سوف يتم التركيز على اختبار متغيرين أساسيين، هما: هيكل الفرص المتاحة أو ما يعرف بـOpportunity Space Structure، وسياسات السخط أو ما يعرف بـcontentious politics.

حكمة التاريخ

لجماعة "الإخوان المسلمين" علاقة خاصة مع التاريخ، ليس فقط لأنها تعد تاريخيا واحدة من أقدم الحركات الاجتماعية والدينية في مصر، وإنما أيضا لأن علاقتها مع الأنظمة الحاكمة في مصر كثيرا ما شابها اللغط والغموض. وللحق، فإن التاريخ كان قاسيا على جماعة الإخوان منذ قيامها وحتى أوائل الثمانينيات، سواء نتيجة العسف السياسي الذي تعرضت له الجماعة في الحقبة الناصرية وما تلاها من تشتت وتفكيك للبنية التنظيمية للجماعة، أو نتيجة لتحيز الكثيرين ممن تعرضوا للجماعة خلال تلك الفترة بحثا أو تأريخا.

لذا فإنه إذا كان من الصعب منهجيا وموضوعيا أن يقيم الأداء السياسي والتنظيمي والاجتماعي لجماعة الإخوان في فترتي الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، الأول بسبب العداء الشخصي للرئيس عبد الناصر مع الحركة لأسباب كثيرة لا مجال للاستطراد فيها، والثاني بسبب قصر فترة حكمه من جهة، وعدم اكتمال النضج السياسي والتنظيمي للجماعة من جهة أخرى، ما قد يفقد أي تحليل للجماعة نزاهته وموضوعيته، فإن فترة حكم الرئيس مبارك، التي تقارب ثلاثة عقود حتى الآن تعد ملائمة من أجل تقديم رؤية موضوعية للجماعة وعلاقتها بالنظام المصري.

وكما أن للتاريخ عيوبه، فإن له أيضا حسناته، فقد استفاد كلا الطرفين، الجماعة ونظام مبارك من تجارب الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، فالأولى تعلمت الدرس جيدا وآثرت العودة لاتباع المنهج التدريجي السلمي في العمل السياسي، والقبول بقواعد اللعبة السياسية، والابتعاد عن مواجهة السلطة. والثاني تعلم من سلفيه كيفية التعاطي مع الجماعة بشكل ذكي، فلم يدخل في مواجهة شاملة تستهدف استئصال الحركة أو شلها كليا على غرار ما حاول عبد الناصر فعله وفشل، كما لم ينفتح على الجماعة بشكل غير محسوب على غرار ما فعل السادات، لذا تراوحت إستراتيجية مبارك تجاه الجماعة بين الاستيعاب الجزئي والقمع الذكي، وبين هذين الحدين دارت رحا العلاقة بين الطرفين طيلة العقود الثلاثة الماضية على نحو ما سنرى لاحقا.

خبرة الثلاثين عاما

يمكن تقسيم العلاقة بين جماعة "الإخوان المسلمين" ونظام مبارك إلى ثلاث مراحل أساسية، وهو تقسيم موضوعي يتعلق بتحولات العلاقة بين الطرفين أكثر من كونه تقسيما زمنيا.

المرحلة الأولى هي الممتدة طيلة الثمانينيات، وقد اتسمت العلاقة فيها بقدر من الاستيعاب الجزئي للإخوان، فضلا عن استغلال الجماعة للانفتاح السياسي المحدود من أجل تعظيم حضورها في البرلمان والجامعات والنقابات والمساجد المصرية.

والمرحلة الثانية هي مرحلة الصدام المبكر أو المواجهة المحدودة، وهي تمتد طيلة فترة التسعينيات، وقد حاول النظام خلالها تضييق المساحة المتاحة للإخوان خاصة في المجال السياسي مع السماح بالتواجد التنظيمي والمجتمعي.

أما المرحلة الثالثة فهي الممتدة طيلة العقد الأول من الألفية الجديدة، واتسمت العلاقة فيها بالتعقيد، وتراوحت خيارات النظام فيها بين القمع النوعي للجماعة والعمل على تحجيم طموحاتها السياسية.

أولا: مرحلة الاستيعاب الجزئي
تولى الرئيس مبارك السلطة في مصر في ظرف سياسي وتاريخي بالغ الحساسية، ففضلا عن الفراغ السياسي "المؤقت" الذي خلفه اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981، دخلت البلاد في دوامة من العنف السياسي والاجتماعي بسبب ثوران التيارات والحركات الجهادية. ولم يكن أمام مبارك من أجل تثبيت حكمه وشرعيته سوى الاختيار بين بديلين، أولهما: الدخول في مواجهة شاملة مع الإسلاميين بجميع أطيافهم بمن فيهم الإخوان من أجل نزع شوكتهم، وهو خيار غير مأمون العواقب وقد يؤدي إلى عدم استقرار الحكم. وثانيهما: أن يركز مواجهته مع الجهاديين والمتطرفين، على أن يؤجل حسم مسألة العلاقة مع الإخوان إلى مرحلة لاحقة. وقد كان الخيار الثاني هو الأكثر أمنا ورشادا للنظام في تلك الفترة.

بدورها لم تتردد جماعة الإخوان في اقتناص الفرصة من أجل إعادة بنائها التنظيمي من جديد، خاصة بعد انتهاء مرحلة اعتقالات سبتمبر/أيلول 1981 ونهاية نظام السادات الذي انقلب على الجماعة (مثلما فعل مع معظم القوى السياسية) أواخر أيامه.

وقد عملت الجماعة على زيادة حضورها السياسي والمجتمعي بعدما حسمت الكثير من القضايا التي كانت عالقة دون إجابات واضحة، وأهمها مفارقة العمل السري، والقبول بمبدأ التعددية الحزبية، وحسم خيار المشاركة السياسية كسبيل وحيد للإصلاح التدريجي.

وانطلاقا من الرؤية الجديدة للإخوان، نجحت في تطوير أدائها السياسي، وذلك بالمشاركة في انتخابات 1984 و1987 والدخول في تحالفات انتخابية مع أحزاب المعارضة، وهو ما حدث أولا في انتخابات العام 1984 التي خاضتها الجماعة على قائمة حزب الوفد، وحصلت الجماعة آنذاك على تسعة من إجمالي 58 مقعدا حصل عليها ائتلافها مع حزب الوفد. وفي انتخابات 1987 دخلت الجماعة في تحالف جديد ضم حزبي الأحرار والعمل، تحت مسمى "التحالف الإسلامي" الذي نجح في الحصول على حوالي 56 مقعدا ذهب منها 36 للإخوان، وهي الانتخابات التي شهدت ظهور شعار الإخوان الشهير "الإسلام هو الحل".

كما نجحت الجماعة في توسيع قاعدتها الاجتماعية ومد شبكتها التنظيمية من خلال الجامعات والمدارس والمساجد. وقد استفاد الإخوان من صمت النظام تجاه هذا التمدد الذي كان يصب بالأساس في مصلحة هذا الأخير في مواجتهه مع الجماعات الراديكالية العنيفة، مثل "جماعة الجهاد" و"الجماعة الإسلامية" وما تفرع عنهما من خلايا وجماعات أخرى صغيرة. وكأن ثمة اتفاقا ضمنيا بين الطرفين لمحاصرة التيار المتشدد، النظام من أجل تحقيق الاستقرار وتثبيت الشرعية، والإخوان من أجل احتكار الفضاء الديني والاجتماعي.

ومع نهاية الثمانينيات كانت جماعة الإخوان قد وصلت إلى ذروة حضورها المجتمعي، وذلك بعد فوزها الكبير في عدد من النقابات المهنية كالأطباء والمهندسين والمحامين والصيادلة والعلميين. وقد ساعد الحضور النقابي والتنظيمي للجماعة على زيادة التأثير داخل الطبقة الوسطى وشرائح من الطبقة الدنيا، وهو ما كان بمثابة جرس إنذار للسلطة بضرورة الالتفات للجماعة والعمل على الحد من نشاطها السياسي.

ثانيا: مرحلة المواجهة المحدودة
مع أواخر الثمانينيات بدأ نظام مبارك يعيد النظر في إستراتيجيته تجاه جماعة الإخوان المسلمين، وبدا أن صدره بدأ يضيق بالحضور السياسي والمجتمعي للجماعة، لذا سعى النظام إلى تحجيم هذا الحضور تدريجيا، فعلى سبيل المثال تم إصدار قرار بضم جميع المساجد كي تصبح تحت إشراف وزارة الأوقاف المصرية، كما تم إدخال تعديلات على قانون الجمعيات الأهلية (القانون رقم 32 للعام 1964) كي يعطي صلاحيات أوسع لوزارة الشؤون الاجتماعية فيما يخص مسألة إنشاء وتأسيس الجمعيات غير الحكومية والعضوية في مجالس إدارتها، وذلك من أجل ضمان السيطرة على النقابات والجمعيات الخيرية "الإخوانية" التي تقدم خدمات متنوعة للجمهور.

وقد جاءت نقطة الصدام الأولى لنظام مبارك مع الإخوان أواخر العام 1992 فيما عرف إعلاميا بقضية "سلسبيل" التي اتهمت فيها الجماعة بالعمل على إحياء تنظيمها "غير المشروع"، وقبض فيها على عدد من قيادات الجماعة، من بينهم خيرت الشاطر وحسن مالك ومحمود عزت ومحيي الدين حامد. وفي العام 1995 شهدت الجماعة أول محاكمة عسكرية في عهد مبارك، ضمن ما عرف بالقضايا العسكرية 8 و11 و13 للعام 1995 التي قبض فيها على ما يقرب من 82 من أعضاء الجماعة بتهمة العمل على إحياء تنظيم يسعى لإسقاط نظام الحكم، التي ارتبطت جميعها بالقضية 136 للعام 1995 أمن دولة عليا، تلتها قضية تأسيس حزب سياسي "الوسط" عام 1996 التي ضمت 11 شخصا أحيلوا جميعا للقضاء العسكري، وكان على رأسهم آنذاك محمد مهدي عاكف المرشد العام السابق للجماعة.

على أن القمع السياسي للجماعة لم يواكبه تراجع تنظيمي أو مجتمعي لها، فقد حافظت الجماعة على نشاطها المجتمعي والنقابي، فعلى سبيل المثال احتفظت الجماعة بتواجدها داخل معظم النقابات المهنية، مثل الأطباء والمحامين والمهندسين والصيادلة، وذلك حسبما يوضح الجدول (1).

جدول (1)

عدد الإسلاميين في النقابات المهنية المصرية عام 1995*

النقابة

إجمالي مقاعد مجلس الإدارة

    عدد الأعضاء الإسلاميين (إخوان + إسلاميين مستقلين)

النسبة المئوية

الأطباء

23

20

87%

المهندسون

61

45

74%

الصيادلة

25

17

68%

العلميون

25

17

68%

المحامون

25

18

72%

ولعل أبرز ما ميز العلاقة بين نظام مبارك والإخوان طيلة هذه المرحلة هو محاولة كل طرف تثبيت شكل العلاقة حسب مصالحه وأهدافه، فالنظام كان يدرك جيدا مخاطر بقاء الإخوان خارج نطاق السيطرة مجتمعيا وسياسيا، فكانت الوسيلة المثلى أمامه لإرباك الجماعة وشغلها هو استمرار الملاحقة الأمنية واللجوء للمحاكمات العسكرية التي وصلت إلى حوالي ست محاكمات خلال أقل من خمس سنوات.

وقد بدأت هذه المحاكمات عام 1995، كما تمت الإشارة من قبل، واستمرت حتى العام 2000، حيث حول عدد من قيادات الإخوان إلى المحاكمة العسكرية فيما يعرف بقضية "النقابيين" التي اعتقل فيها ما يقرب من 20 قياديا من أبرز رموز العمل النقابي الإخواني، وتم الحكم عليهم بمدد تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس، كان من بينهم محمد بديع المرشد الحالي للجماعة ومحمد علي بشر عضو مكتب الإرشاد الحالي. وقد ساعد النظام على ذلك نجاحه في كسر شوكة الجماعات الراديكالية، وتفرغه للتضييق على جماعة الإخوان ومحاصرة نشاطهم.

وفي هذه المرحلة تفادت جماعة الإخوان الدخول في أي صدام خشن مع النظام قد يؤدي إلى تكرار مأساة الخمسينيات والستينيات، فلم تحاول الجماعة استفزاز النظام، واضطرت للقبول بالحد الأدني الذي يسمح لها بالبقاء وممارسة العمل السياسي والنقابي.

ثالثا: مرحلة الإقصاء الذكي
كان العقد الأول من الألفية الثانية بمنزلة مرحلة فارقة سواء في علاقة نظام مبارك بجماعة الإخوان المسلمين، وذلك ليس فقط على مستوى السياسة الرسمية وإنما أيضا على مستوى الإستراتيجيات والتكتيكات، أو بالنسبة لجماعة الإخوان التي شهدت تحولات نوعية سواء على مستوى الخطاب السياسي أو الأداء التنظيمي كما سيتضح لاحقا. ويمكن القول إن حصيلة هذا العقد هو توصل النظام إلى نتيجة هامة مفادها أنه لا ضير من بقاء جماعة الإخوان بناء تنظيميا مكشوفة قواعده وهياكله ومحسوبة أنفاسه وتحركاته، ما دامت لا تمثل تهديدا حقيقيا لبقاء النظام أو تحديا جادا لسياساته.

وللتوضيح يمكن تقسيم العلاقة بين نظام مبارك وجماعة الإخوان طيلة العقد الماضي (2000-2010) إلى مرحلتين، أولاهما: ما قبل انتخابات 2005، وثانيتهما: ما بعد 2005 وحتى الآن.

في المرحلة الأولى استمرت علاقة الشد والجذب بين النظام والجماعة، فقد استمرت سياسة الملاحقة الأمنية لقيادات الجماعة على حالها، حيث شهد العام 2001 المحاكمة العسكرية الأولى في هذا العقد والسادسة تحت حكم مبارك. وقد حكم على حوالي 16 عضوا بالسجن لفترات تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس، كان من بينهم محمود غزلان عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان، وهي القضية المعروفة باسم قضية "أساتذة الجامعات". وكان تصريح الرئيس مبارك الذي أورده في حوار مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية بأن جماعة الإخوان "لها تاريخ إرهابي" بمنزلة تأكيد على استمرار سياسة القمع الأمني تجاه الجماعة.

في المقابل اتخذت جماعة الإخوان عددا من الخطوات التي مثلت محاولة للرد سياسيا على الموقف الرسمي تجاهها، ولتأكيد عدم تأثرها بمثل هذه الإجراءات القمعية، كان من أهمها:

• أصدرت الجماعة وثيقة للإصلاح السياسي في مارس/آذار 2004، كانت الأولى منذ أكثر من عقد وتحديدا منذ إصدار "وثيقة المرأة والمواطنة" عام 1994. وقد رسمت الوثيقة الجديدة الخطوط العامة للخطاب السياسي والفكري لجماعة الإخوان، وكانت بمنزلة وثيقة مبدئية طورت فيما بعد كي تصبح نسخة أولية من برنامج الحزب الذي أطلقته الجماعة في أغسطس/آب 2007. وبغض النظر عن الجدل الذي أثارته بعض نقاط المبادرة خاصة فيما يتعلق بالموقف من المرأة والأقباط، فإنها تظل إحدى محطات التحول في تاريخ الجماعة خلال عهد مبارك.

• قامت الجماعة بالتواصل مع كثير من القوى السياسية، مثل حزب الوفد والحزب العربي الناصري وحزب التجمع، بل وصل الأمر إلى حد التنسيق مع الشيوعيين من أجل الضغط على النظام وإجباره على القيام بإدخال تعديلات سياسية ودستورية تسمح بالمنافسة الحرة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

• نجحت الجماعة في الدخول في تحالفات سياسية مع عدد من قوى المعارضة الجديدة، مثل حركة كفاية وحزب الكرامة (تحت التأسيس) وحزب الغد (قبل تأسيسه أواخر 2004)، وذلك ضمن ما أطلق عليه "الجبهة الوطنية المعارضة" التي تشكلت في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2004 بمشاركة العديد من القوى السياسية، خاصة بعد إخفاق الحوار بين أحزاب المعارضة والحزب الوطني الحاكم الذي كان قد انطلق منتصف العام 2004.

أما المرحلة الثانية فهي تلك الممتدة بعد انتخابات 2005 وحتى العام الجاري 2010. وهي مرحلة اتسمت بالكثير من التحولات والتغيرات، سواء في علاقة نظام مبارك بجماعة الإخوان، أو بما حدث داخل جماعة الإخوان خاصة على المستويين القيادي والتنظيمي.

ولكن قبل الدخول في تفاصيل ذلك، تجب الإشارة إلى أنه في هذه المرحلة حققت جماعة الإخوان أكبر فوز برلماني في تاريخها وفي تاريخ المعارضة المصرية، حين فازت بحوالي 88 مقعدا أو ما يوازي 20% من مقاعد مجلس الشعب المصري.

وقد احتار كثيرون في كيفية تفسير هذا الفوز ودلالاته، بيد أنه بعد مرور خمس سنوات فإن الصورة تبدو أكثر وضوحا، فقد بدا جليا أن نظام مبارك، وفي محاولة للتماشي مع الضغوط الأميركية المتعلقة بمسألة دعم الديمقراطية والانفتاح السياسي، قد سمح بفتح نافذة "ضيقة" للإخوان يمكنه من خلالها توظيف هذا الفوز لاحقا لمصلحته. فمن جهة لم يعد خافيا أن فوز الإخوان بهذا العدد من المقاعد قد جاء في إطار صفقة باتت معروفة للجميع بعدما كشف تفاصيلها المرشد العام السابق للجماعة محمد مهدي عاكف في حواره مع جريدة "المصري اليوم" في أكتوبر/تشرين الأول 2009، وهو ما أكده أيضا عبد الحميد الغزالي المستشار السياسي لعاكف.

وهو فوز أفاد النظام أكثر مما أضره، فقد وجه نظام مبارك من خلاله رسالة قوية لإدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، مفادها أن التسرع في فرض الديمقراطية على مصر قد يؤدي إلى نتائج وخيمة ليس أقلها تهديد المصالح الأميركية في المنطقة، خاصة في ظل المواقف الأيديولوجية للإسلاميين تجاه الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل. ومن جهة ثانية، أسقط هذا الفوز أي ادعاءات إخوانية بالتضييق وعدم الدمج السياسي، فقد نجح مرشحو الجماعة في الفوز بأكثر من 60% من المقاعد التي نافسوا عليها، حيث دخلت الجماعة الانتخابات بحوالي 155 مرشحا فاز منهم 88 نائبا. ومن جهة ثالثة أعطى فوز الإخوان بهذا العدد من المقاعد شرعية ومصداقية للانتخابات البرلمانية، وهو أمر كثيرا ما حرص على تحقيقه نظام مبارك من أجل تبييض صورته فيما يخص نزاهة المنافسة السياسية وحرية المشاركة.

وبغض النظر عن ملابسات هذا الفوز يبقى المهم هو ما نجم عنه فيما يخص علاقة الجماعة بالنظام، فرغم ثبات مبدأ القمع والمطاردة الأمنية، فإنه قد اتخذ منحى جديدا من حيث الدرجة والنوع، فلم تعد هناك خطوط حمراء فيما يخص اعتقال القيادات الإخوانية.

وقد كانت البداية مع ما بات يعرف بقضية "مليشيات الأزهر"  التي اعتقل على أثرها ما يقرب من 40 قياديا من رموز الجماعة، مثل خيرت الشاطر النائب الثاني للمرشد العام للجماعة، ومحمد علي بشر عضو مكتب الإرشاد، وحسن مالك رجل الأعمال الإخواني المعروف وغيرهم. وقد حكم على حوالي 25 معتقلا بالسجن لمدد تتراوح بين 3 و10 سنوات في محاكمة عسكرية امتدت جلساتها لأكثر من سبعين جلسة تجعلها الطولى في تاريخ المحاكمات المصرية. ناهيك عن ضرب البنية الاقتصادية والاستثمارية للجماعة من خلال اعتقال عدد كبير من رجال الأعمال المحسوبين على الجماعة مثل مدحت الحداد وعبد الرحمن سعودي.

وفيما يخص تقييد النشاط السياسي للإخوان فقد أقرت في 27 مارس/آذار 2007 أكبر عملية تغيير دستوري في مصر، حيث عدل ما يقرب من 34 مادة، خص الإخوان منها مادتان، الأولى هي المادة الخامسة التي تحظر قيام الأحزاب على أساس ديني، والمادة (88) التي تقيد السلطة القضائية في مراقبة الانتخابات، بما يعني حرمان الإخوان وغيرهم من المرشحين المستقلين من أي ضمانات قد تتيح فوزهم في أي انتخابات. وقد اتضح لاحقا أن الإخوان هم الطرف الرئيسي المتضرر من هذه الانتخابات، حيث لم ينجح أي مرشح للجماعة في الانتخابات التي أجريت في السنوات الثلاث الماضية.

وأما فيما يخص التحولات داخل جماعة الإخوان فيمكن تناول أبرز تحولين حدثا في العقد الماضي، الأول هو إصدار الجماعة لوثيقة مبدئية لإنشاء حزب سياسي، وذلك في أغسطس/آب 2007، والثاني هو انسحاب المرشد العام السابق للجماعة محمد مهدي عاكف واختيار محمد بديعا مرشدا جديدا.

أما ما يخص برنامج الحزب فقد أثار من الجدل الكثير، ودون الخوض في تفاصيل هذا الجدل وتداعياته يمكن الإشارة فقط إلى ثلاث نقاط أساسية:

أولاها تتعلق بمغزى الإعلان عن البرنامج قبل أن تحسم الجماعة كثيرا من القضايا الفكرية والسياسية العالقة. وإذا كنا لا نشكك في رغبة الجماعة في إنشاء حزب سياسي، وهو ما كرره جميع المرشدين السابقين، فإن المشكلة تظل كامنة في كيفية حل إشكالية العمل الدعوي والعمل السياسي، أو بين الجماعة والحزب، وهي معضلة مؤجلة بحجة عدم موافقة السلطات على إعطاء الجماعة ترخيصا بإقامة حزب سياسي.

ثانيتها تتعلق بمدى تطور الخطاب السياسي والفكري للجماعة الذي عكسه بوضوح محتوى البرنامج الحزبي، فرغم نجاح الجماعة في إصدار وثيقة سياسية شبه مكتملة، أكدت هذه الوثيقة استمرار اللبس والغموض في موقف الجماعة من العديد من القضايا، ومنها طبيعة الدولة وسلطاتها، والموقف من المرأة والأقباط.

وثالثتها ترتبط بتوقيت إصدار برنامج الحزب الذي لا يخلو من دلالة تؤكد تحرك الجماعة بطريقة رد الفعل وليس العمل الإستراتيجي، فإلى الآن لا يوجد تفسير لإصدار الوثيقة الأولية للحزب، ولماذا سحبها وعدم إصدارها في شكلها النهائي سوى أنها كانت مناورة سياسية بهدف رفع الضغط الأمني عن الجماعة، ونقل الصراع من السياسة إلى الفكر، وهو ما أتى بأثر عكسي على الجماعة بسبب انتقادات المثقفين والنخبة لبرنامج الحزب.

أما فيما يخص مسألة اختيار مرشد عام جديد للجماعة فقد أثارت واحدة من أهم الأزمات التي واجهتها الجماعة منذ عودتها للحياة السياسية قبل أربعين عاما، فقد كان مفاجئا أن يعلن المرشد العام السابق للجماعة محمد مهدي عاكف رغبته في الانسحاب وعدم الترشح لفترة جديدة، رغم أن اللائحة الداخلية للإخوان تتيح له ذلك، لذا قرر عاكف في مارس/آذار 2009 عدم نيته البقاء في منصبه، وهو ما أثار زوابع كثيرة داخل الجماعة وخارجها.

فهي المرة الأولى التي يتنحى فيها المرشد العام للجماعة طواعية عن منصبه، حيث كانت الوفاة هي الطريق الوحيدة للتنحي مع مرشدي الجماعة الستة السابقين. وقد كان خروج عاكف من منصبه سببا أساسيا في حدوث انقسامات وصراع داخل مكتب الإرشاد حول هوية المرشد العام الجديد للجماعة، خاصة بين الأمين العام للجماعة الدكتور محمود عزت والمعروف بالرجل الحديدي الذي يهيمن على التنظيم بشكل كبير، والدكتور محمد حبيب النائب الأول السابق لمهدي عاكف.

ومن الجدير بالذكر أن مجلس الشورى العام للإخوان الذي يتكون من حوالي 100 عضو هو المسؤول عن اختيار أعضاء مكتب الإرشاد والمرشد العام للجماعة. وبعد صراع قوي بين كلا التيارين حسم الأمر وأجريت الانتخابات العامة لمكتب الإرشاد وحملت أكثر من مفاجأة، حيث أقصي النائب الأول للمرشد محمد حبيب والإصلاحي عبد المنعم أبو الفتوح من عضوية المكتب، وبذلك أقصي التيار الإصلاحي تماما في الجماعة، في حين صعد عصام العريان ليكون عضوا بمكتب الإرشاد للمرة الأولى في تاريخه.

وفي 16 يناير/كانون الثاني 2010 اختير محمد بديع كي يصبح المرشد العام الثامن بعد جدل طويل بين قيادات الجماعة وتشكيك من بعض القيادات في شرعية الاختيار ومدى قانونيته.

سياسة الأمر الواقع

بالعودة إلى الفرضية التي وضعت في مقدمة هذه الدراسة، يتضح أن نظام مبارك قد نجح في "نزع مخالب" جماعة الإخوان المسلمين، ودفعها للتعايش مع الواقع دون الجرأة على تغييره. صحيح أن النظام قد سمح للجماعة بقدر من التواجد السياسي والنشاط التنظيمي، بيد أن هذه المساحة ارتبطت دوما بظروف النظام وأهدافه في كل مرحلة من المراحل السابق الإشارة إليها. وهنا يبرز دور المتغير الأول المشار إليه في صدر الدراسة، وهو "هيكل الفرص المتاحة"، وهو مفهوم يقصد به نظريا قدرة الفاعلين السياسيين على الاستفادة من الفرص السياسية، كالانفتاح السياسي والتحولات في بنية النظام السياسي، من أجل فرض مطالبهم وتعزيز مكانتهم السياسية والاجتماعية، وهو ما فعله الإخوان في العقود الثلاثة الماضية. فقد نجحوا في الاستفادة من الانفتاح السياسي المحدود الذي سمح به نظام مبارك سواء خلال الثمانينيات أو خلال العقد الماضي، من أجل تعزيز وجودهم السياسي والمجتمعي.

ففي عقد الثمانينيات كان نظام مبارك في حاجة للإخوان -كما قلنا سابقا- من أجل دعم شرعيته السياسية الناشئة وإعطاء انطباع بأنه منفتح على جميع التيارات بما فيها الإخوان، فكانت المحصلة أن دخل الإخوان البرلمان للمرة الأولى في تاريخهم عامي 1984 و1987.

وخلال عقد التسعينيات احتاج مبارك للإخوان من أجل مواجهة جماعات العنف والتطرف، فسمح لهم بالتواجد المجتمعي من أجل سحب البساط من تحت أقدام الجماعات المتشددة، وإن حاول تقييد المجال السياسي أمام الجماعة كما حدث في انتخابات 1990 و1995. ثم عاد نظام مبارك وحاول توظيف الإخوان من أجل وقف الضغط الأميركي عليه فيما يخص الإصلاح السياسي والدمقرطة، فأعطى مساحة جديدة للإخوان للفوز بمقاعد برلمانية تذرو الرماد في العيون. وفي كلتا المرحلتين اقتنص الإخوان الفرصة من أجل تدعيم حضورهم السياسي وزيادة دورهم في الفضاء العام.

ومن خلال هذه السياسة نجح نظام مبارك في وضع حدود واضحة للسقف السياسي والاجتماعي للإخوان، وبات أقصى ما يفعله الإخوان هو العمل على الحفاظ على هذه المساحة السياسية دون القدرة على توسيعها أو الانتقال بها إلى مرحلة جديدة قد تسهم في تحقيق الأهداف الكبرى للجماعة أو إنجاز الإصلاح والتغيير الذي كثيرا ما تتخذه الجماعة شعارا لها.

وفي هذا الإطار يمكن تفسير كثير من القرارات التي اتخذتها جماعة الإخوان، وكان آخرها قرار المشاركة في الانتخابات البرلمانية 2010. وبعيدا عن كواليس هذا القرار وما أثاره من انتقادات داخل البيت الإخواني وخارجه، فإنه يعكس الحقيقة التي أشرنا إليها آنفا، وهي أن الجماعة لا تريد التفريط في المساحة التي منحها لها النظام، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال عدة مؤشرات.

أولها: تخوف الجماعة من أن تؤدي مقاطعة الانتخابات المقبلة إلى الانزواء وفقدان التواجد المجتمعي والإعلامي. صحيح أن الجماعة حاولت تغطية قرار مشاركتها بقرار مشاركة حزب الوفد، لكن ذلك يكشف عدم وجود رؤية إستراتيجية مستقلة لدى الجماعة، بقدر ما تتصرف بطريقة رد الفعل.

ثانيها: أن قرار الجماعة بالمنافسة على 30% من المقاعد أي خوض الانتخابات بحوالي 150 مرشحا، وهو نفس الرقم تقريبا الذي خاضت به الجماعة انتخابات 2005، بقدر ما يعكس قراءة ذكية جوهرها عدم استفزاز النظام، فإنه يعكس أيضا الرضا والقبول بالأمر الواقع.

وثالثها: باتت مشاركة الإخوان في الانتخابات عامة كما لو كانت طقسا روتينيا أو "أداء بيروقراطيا" لا يحمل أي رؤية إستراتيجية أو فهم للمغزى السياسي للمشاركة في الانتخابات. وهو أمر تعكسه بجلاء المقولة التي كثيرا ما ترددها قيادات الإخوان في جميع المناسبات الانتخابية بالقول إن "المشاركة في الانتخابات هي من المبادئ الثابتة لدى الجماعة". وهي مقولة تشي بأن المشاركة في الانتخابات باتت هدفا في حد ذاتها وليست وسيلة لتحقيق أهداف وغايات أخرى.

ويعكس هذا التحول نجاح نظام مبارك في تحويل جماعة الإخوان من مصدر تهديد "محتمل" إلى عامل مساعد في تجديد شرعيته، وذلك من خلال القبول بالمشاركة في اللعبة السياسية حسب قواعده وشروطه دون العمل على تغييرها.

الإخوان وغريزة البقاء

تشير الفرضية الثانية في هذه الدراسة إلى أن الهدف الأساسي لجماعة الإخوان بات مجرد البقاء تنظيما تعبويا يستجيب لاحتياجات أعضائه الدينية والاجتماعية من جهة وصياغة هوية خاصة بهم تجعلهم متمايزين عن غيرهم من جهة أخرى، وليس السعي من أجل إنجاز التغيير في مصر. صحيح أن الجماعة كثيرا ما تنفي عن نفسها صفة الخيار البديل أو الرغبة في الوصول للسلطة، لكن ذلك يضعف موقفها ويثير الكثير من التساؤلات حول جدوى انخراطها في العمل السياسي.

وقبل التدليل على صحة هذه الفرضية، وهي بالمناسبة وردت على لسان كثير من قيادات الصف الثاني بالجماعة، تجدر الإشارة إلى أنه من المحتمل ألا تكون جماعة الإخوان وقيادتها على وعي بعملية التحول التي جرت للحركة طيلة العقود الماضية، وذلك بفعل الضغوط الشديدة التي فرضها عليها النظام وجعلها ترى البقاء هدفا أصيلا وليس وسيلة لتحقيق أهداف أخرى. ويبدو أن هاجس عدم الشرعية "القانونية" يجعل الجماعة حريصة بشكل مبالغ فيه على البقاء على قيد الحياة حتى وإن كان الثمن هو الجمود والتكلس.

تستند فرضية البقاء إلى المتغير الثاني المشار إليه في صدر هذه الدراسة، وهو متغير "سياسات السخط" contentious politics، وهو مفهوم يشير إلى قدرة الحركات الاجتماعية على تحويل الغضب والسخط العام إلى فعل سياسي منظم، وذلك من خلال امتصاص من يقومون به وإعادة دمجهم وتوظيفهم في بنية التنظيم، الذي يتحول مع مرور الوقت وفي ظل الانسداد السياسي إلى هدف بحد ذاته وليس أداة لتغيير الواقع. وهو ما يكاد ينطبق على جماعة الإخوان، ليس فقط بسبب تمدد التنظيم للجماعة كما وحجما طيلة العقود الثلاثة الماضية، وما يعنيه ذلك من زيادة الأعباء الإدارية والتنظيمية على قيادات الحركة، وإنما أيضا بسبب فشل الحركة في إنجاز تغيير سياسي ملموس في هذه الفترة.

وقد بات الانضمام للإخوان هدفا بحد ذاته، وليس غاية لتحقيق أهداف أخرى، دليل ذلك أن الجماعة تولي اهتماما شديدا لمسألة التجنيد والاستقطاب والتعبئة، دون القدرة على توظيف رأسمالها المجتمعي سياسيا. وتدلل طريقة اتخاذ القرارات داخل الجماعة على غلبة مصلحة التنظيم على ما عداها، فعلى سبيل المثال يمكن تفسير قرار الجماعة بالمشاركة في الانتخابات التشريعية 2010 رغم مناشدات الكثيرين لها بالمقاطعة بأنه يخدم التنظيم أكثر مما قد يخدم مسألة الإصلاح والتغيير في مصر، فالمشاركة رغم كلفتها الباهظة تضمن للإخوان كتنظيم تنشيط قواعده، وضمان التواجد الاجتماعي والإعلامي بين مختلف الفئات.

ويمكن القول بأن الإستراتيجية التي اتبعها نظام مبارك تجاه الجماعة منذ أوائل التسعينيات وحتى الآن جعلت الجماعة حريصة على عدم استفزاز النظام بأي أفعال سياسية أو تنظيمية، وهو ما يعني فعليا عدم اتخاذ قرارات مصيرية سواء فيما يتعلق بسقف المشاركة السياسية أو تحريك الشارع المصري ضد النظام. وقد يرى البعض في ذلك ذكاء سياسيا، ولكنه في الحقيقة يعبر عن خوف مزمن لدى الجماعة من مواجهة الأنظمة المصرية حتى في أضعف حالاتها كما هو الوضع الآن.

مستقبل العلاقة

إذا كان من الصعب استشراف مستقبل العلاقة بين جماعة الإخوان والنظام المصري، وذلك بسبب حالة الغموض والجدل التي تحيط بمسألة نقل السلطة في مصر، فإنه يمكن القول إنه حتى مع وصول شخص جديد للسلطة فإن بنية النظام السياسي نفسها لن تتغير كثيرا، وبالتالي سياساته تجاه الإخوان ستظل كما هي وإن صاحبها تغير في التكتيكات فقط. وإذا كان الهدف الأساسي للجماعة بات هو البقاء بصيغة "كربلائية"، فلن يكون صعبا على أي نظام جديد أن يحقق للجماعة هذا الهدف مقابل تجميدها فكريا وسياسيا، أي أننا وصلنا في النهاية إلى علاقة يمكن أن نطلق عليها "التوظيف المتبادل"، النظام يوظف الإخوان من أجل تحقيق مكاسب عديدة ليس أقلها إبقاء حالة الجمود السياسي داخليا، وتخويف القوى الدولية من صعود الإخوان خارجيا. في حين تبدو الجماعة راضية ومستفيدة من بقاء الأوضاع على ما هي عليه ما دامت قواعدها نشطة ومكاتبها الإدارية تعمل بكفاءة.

أما فيما يتعلق بمستقبل الإخوان كقوة سياسية فاعلة، فإن ذلك يظل مرتبطا بقدرة الجماعة على تطوير خطابها السياسي كي يصبح أكثر انفتاحا وديمقراطية. وهو ما يعني أن تعيد الجماعة النظر في مشروعها الفكري برمته، وهو ما يصعب التنبؤ به في ظل عملية الإقصاء المستمرة للعناصر الإصلاحية داخل الجماعة. كذلك أيضا إعادة النظر في الثقافة التحتية والبنية التنظيمية داخل الجماعة بحيث تصبح أكثر مرونة. وهو ما لن يتحقق دون إحداث تغيير جاد في اللائحة التنظيمية الحالية التي تثير العديد من الخلافات، خاصة فيما يتعلق بنطاق صلاحيات وسلطات المستويات القيادية في الجماعة خاصة مجلس الشورى العام ومكتب الإرشاد. فضلا عن حسم بعض القضايا المعلقة، منها مثلا مسألة الحزب السياسي، ليس فقط على مستوى الأفكار والسياسات وإنما على مستوى الرغبة في التحول لحزب سياسي والفصل بين الوظيفتين: السياسية والدعوية، وهو أمر سيظل محل شك دائم.

وأخيرا يبقى مهما أن تحسم الجماعة موقفها من العلاقة بين الوطنية والأممية، فالجماعة لا تزال حتى الآن مترددة بين أن تصبح جماعة وطنية مصرية ليس لها أجندة دولية أو أممية، وأن تظل حركة دينية ذات أجندة عالمية. وإذا كان لا مانع من أن يكون للجماعة مواقف دولية مؤيدة للبلدان الإسلامية وحركات المقاومة، فإن ذلك لا يجب أن يأتي على حساب المصالح الوطنية المصرية. وقد وقعت الجماعة في أخطاء عديدة في هذا الصدد طيلة الأعوام الثلاثة الماضية.

ربما لن تضمر حركة "الإخوان المسلمين" تنظيميا أو حركيا، على الأقل في المدى المنظور، لكنها دون شك فقدت زمام المبادرة السياسية، ولم تعد قادرة على فرض نفسها بديلا مقنعا للنظام المصري، وهو ما قد يمثل خطرا وجوديا على المشروع الإخواني نفسه ما لم يتم الالتفات للنقاط السابقة.
__________________
خليل العناني، باحث في سوسيولوجيا الإسلام والحركات الدينية، ومحاضر في جامعة "دورهام" البريطانية.

ABOUT THE AUTHOR