محطات رئيسة في العلاقات الروسية–العثمانية والعلاقات الروسية-التركية

ينقسم الصراع التركي-الروسي على سوريا إلى مستويين: المستوى العارض أو الراهن، ويتعلق بتكتيكات العزل المتبادل، كاستعمال روسيا للأكراد كسياج يغلق الحدود التركية في وجه المعارضة السورية المسلحة، واستعمال تركيا لهذه المعارضة لتطويق الأكراد السوريين وإزاحة بشار الأسد.
17 December 2015
2015121717328660734_20.jpg
(الجزيرة)

روسيا هي دولة حديثة نسبيًّا. خلال حقبة التوسع العثماني الطويلة، التي استمرت منذ تأسيس الدولة العثمانية في 1298 حتى نهايات القرن السابع عشر، لم تكن هناك قوة روسية تستطيع الوقوف أمام العثمانيين. تعود جذور الدولة الروسية إلى دوقية موسكو، 1283–1527، التي عاشت معظم فترة وجودها تحت سيطرة التتار. وما إن أخذت سيطرة التتار في الضعف والتراجع خلال القرن الخامس عشر، حتى بدأت الدوقية في التوسع. ولكن ولادة الدولة القيصرية (1527–1721)، ترتبط بصعود إيفان الرابع، الرهيب، إلى الحكم وسياسته الدموية التي عزَّزت من سلطة الدولة في موسكو على حساب النبلاء. عاشت الدولة الجديدة، التي أصبحت مركز قوة معتبرًا، صراعات مستمرة ضد الليتوانيين والبولنديين والسويديين، لم تكن فيها الجانب المنتصر دائمًا. وبعد فترة من الفوضى في القرن السابع عشر، اختار كبار الدولة الروسية مايكل رومانوف، في 1613، قيصرًا، ليؤسس بذلك السلالة التي استمرت في الحكم حتى الثورة الشيوعية في 1917. الشخصية الرئيسة في تاريخ السلالة، كان بيتر الكبير (حكم 1672–1725)، الذي عمل على استعارة الأنماط الأوروبية الغربية في تحديث آلة الدولة؛ فبنى سان بطرسبوغ، باعتبارها نافذة روسيا على أوروبا، ونقل العاصمة من موسكو إلى المدينة الجديدة. ويمكن القول: إن تحول القيصرية إلى إمبراطورية بدأ منذ 1721، مواكبًا نجاح بيتر الكبير في تحييد القوى الأوروبية الشمالية-الغربية، وإطلاق عملية التوسع نحو سيبيريا والباسيفيك، ونحو وسط آسيا والقوقاز والبحر الأسود. وفي عصر بيتر، وقع أول صدام عثماني-روسي، عندما سيطرت روسيا على مدينة أزوف على البحر الأسود، ولكن هذا الصدام كان محدودًا وغير ذي أثر كبير، على أية حال.

بدأت المسيحية الأرثوذكسية في الانتشار في الفضاء الذي يُعرف اليوم باسم روسيا قبل عدة قرون من فتح العثمانيين لإسطنبول في منتصف القرن الخامس عشر ووضعهم نهاية للإمبراطورية البيزنطية. وقد رأى الأباطرة الروس أنفسهم ورثة بيزنطة، وعاصمتهم وريثة للقسطنطينية، بل وأورشليم جديدة، وتبنَّوا لقب القيصر، الذي كان أصلًا لقب الإمبراطور البيزنطي. خلال القرون القليلة التالية، وبالرغم من أن العثمانيين استمروا في التوسع في شرق ووسط أوروبا، كان القياصرة الروس يعززون من مقدرات الإمبراطورية. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وفي عهد الإمبراطورة كاثرين، بدأت المواجهة الطويلة والمريرة بين العثمانيين والإمبراطورية الروسية، التي لم تصل نهايتها إلا بعد الانهيار العثماني في الحرب العالمية الأولى، بدون أن تنتهي كلية.

في 1768، عبر أسطول البلطيق الروسي مضيق جبل طارق للمرة الأولى نحو المتوسط وخاض معركة بحرية كبرى، أوقعت خسائر باهظة بالأسطول العثماني. وبعد ذلك بأربعة أعوام، قصف الأسطول الروسي المدن السورية الساحلية، واحتلَّ الروس فعلًا مدينة بيروت لوقت قصير، دعمًا لعلي بك وظاهر العمر في حربهما ضد المركز العثماني. أَشَّر ذلك التدخل ضد العثمانيين إلى بداية الحركة الروسية نحو البحار الدافئة وسعي الروس المستمر للسيطرة على إسطنبول والمضايق العثمانية. ولأن التحرك الروسي اكتسب منذ البداية صبغة دينية، افترض الروس لأنفسهم دور الحماية للأرثوذكس العثمانيين، في الشام والأناضول والبلقان، ووفرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الغطاء الأيديولوجي لحروب القياصرة. وقد توفر لهذا الدور شيئ من المشروعية في نهاية الحرب العثمانية-الروسية في 1777 وتوقيع معاهدة كوتشك كينارجه، التي منحت الروس السيطرة على شبه جزيرة القرم وجعلتهم للمرة الأولى شركاء في ساحل البحر الأسود، وسمحت لهم بالمرور التجاري الحر عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وأسست لدورهم الكنسي في المشرق ومدينة القدس.

تعتبر معاهدة كوتشك كينارجه منعطفًا بالغ الأهمية في التاريخ العثماني، نظرًا لأنها مثَّلت نهاية حرب اضطُرَّ فيها العثمانيون للمرة الأولى في تاريخهم للتنازل عن أرض يقطنها مسلمون؛ وفي تاريخ الفقه الإسلامي، لأنها استدعت تدخل علماء الدولة لحلِّ مشكلة ولاء تبعية مسلمي القرم. قبلت روسيا بأن يكون ولاء مسلمي القرم الديني للسلطان-الخليفة، بالرغم من أنهم أصبحوا رعايا للدولة القيصرية. وفي المقابل، وافق العثمانيون على منح الروس دورًا في كنيسة القدس. عمومًا، كانت كاترين من أصول أوروبية، ونظرت إلى الروس باعتبارهم فلاحين جهلة، وشجَّعت مسلمي القرم، الذين اعتبرتهم أرقى نوعًا وأصحاب رؤية للعالم، على الاختلاط بالروس، بهدف الارتفاع بشأن الأخيرين.

في النهاية، يمكن القول: إن كوتشك كينارجه فتحت نافذة، وإن صغيرة، لتنفيذ القاعدتين اللتين تقوم عليهما إيديولوجيا التوسع الروسي جنوبًا: الدين، في تعبيره الكنسي الأرثوذكسي؛ والانفتاح على البحار الدافئة، من خلال السماح لروسيا بالنقل التجاري عبر المضايق.

في 1787–1792، خاضت الدولة العثمانية حربًا أخرى مع الروس، الذين تحالفوا هذه المرة مع النمساويين. كان جناح الحرب في إسطنبول هو الذي سعى للحرب، أملًا باستعادة القرم وردِّ الروس عن محاولات التوسع في القوقاز، ولكن الحرب كانت كارثة على العثمانيين في بدايتها، حيث تقدَّم الروس والنمساويون في مولدوفيا ورومانيا الحالية، كما في البوسنة والهرسك وما كان تبقى من هنغاريا وصربيا في يد العثمانيين. انتهت الحرب أولًا مع النمسا، التي انشغلت بتطورات الساحة الأوروبية، وقبولها بإعادة ما احتلته من الممتلكات العثمانية، ثم مع روسيا، التي تراجعت عن الأراضي التي سيطرت عليها في البلقان، ولكنها أكملت سيطرتها على شمالي القوقاز ومعظم جورجيا الحالية. الأهم في هذه الجولة، أنها أسست لنشاط العملاء الروس في إمارات البلقان الأرثوذكسية، بما في ذلك اليونان وصربيا وبلغاريا، وعزَّزت من سيطرة روسيا على سواحل البحر الأسود الشمالية، والشمالية الغربية، والشرقية.

أدَّت تجربة الحرب الخاسرة ضد روسيا والنمسا إلى أن يقود السلطان سليم الثالث (1787–1807) أول محاولة إصلاح عثماني عسكري حديث، ولكن المحاولة انتهت بالإطاحة بالسلطان وقتله على يد الانكشارية والقوى المحافظة في إسطنبول. في المقابل، شهدت هذه الفترة اندلاع الثورة الفرنسية، وسلسلة الحروب النابليونية، وولادة الفكرة القومية في أوروبا وبداية انتشارها في الجناح الأوروبي من السلطنة.

لم تستطع السلطنة الإفلات من الصراعات الأوروبية المحتدمة؛ ففي المرحلة الأولى، استطاع الضابط الفرنسي نابليون بونابرت احتلال مصر والتقدم نحو الشام في 1798، بهدف وضع قدم فرنسية في الشرق وقطع طريق بريطانيا إلى الهند. دُحِرت الحملة الفرنسية، بمساعدة بريطانية، في 1801. ولكن، وللمرة الأولى، شهدت العاصمة العثمانية انقسامًا في صفوف رجالات الدولة، بين أنصار التحالف مع فرنسا وأنصار التحالف مع بريطانيا وروسيا. بمعنى أن الدولة العثمانية لم تعد ترى نفسها لاعبًا دوليًّا مستقلًّا، وبدأت تدرك تراجعها إلى صفوف القوى الثانية، التي لا تستطيع الفعل بدون تحالف أوروبي. ويمكن القول: إن تحالف السلطنة مع نابليون في 1802، كان بداية المسألة الشرقية وبروز أسطورة الرجل المريض، الذي أصبح ميراثه محل تنازع القوى الأوروبية، وأبرز محددات توزان القوى الأوروبي.

خلال السنوات القليلة التالية، حتى 1812، حاولت بريطانيا (المتحالفة مع روسيا) احتلال مصر، ولكنها اضطرت للتراجع لعدم توفر مقدرات عسكرية كافية. وتقدمت روسيا في مولدوفيا وأجزاء من رومانيا وبلغاريا، وأخذت في تشجيع العصابات الصربية واليونانية ضد السلطة العثمانية. معاهدة الدردنيل التي أسست لتحالف بريطاني-عثماني، والغزو النابليوني لروسيا في 1812، أجبر الروس في معاهدة بوخارست، 1812، على التراجع عن الأراضي التي سيطروا عليها، ولكن الروس كسبوا موافقة العثمانيين على فتح قنصليات روسية في ولايات البلقان الأرثوذكسية، وعلى حماية روسيا للأرثوذكس في البلقان، وعلى منح الصرب استقلالًا ذاتيًّا. وبالرغم من أن السلطنة ستخسر بعضًا من ممتلكاتها في العقود التالية من القرن التاسع عشر لبريطانيا وفرنسا، لم يعد ثمة شك في إسطنبول في أن الخطر الأكبر ينبع من روسيا، الجارة الملاصقة للسلطنة في حدود برية وبحرية طويلة.

خلال العقود التالية من القرن التاسع عشر، هددت روسيا الدولة العثمانية عدة مرات، في سلسلة من الحروب، وفي انعكاس لصعود الفكرة القومية، طوَّرت القاعدة الثالثة لأيديولوجيا التوسع جنوبًا: الجامعة السلافية؛ بمعنى فرض وصاية روسيا على، ومسؤوليتها عن، شعوب البلقان السلافية، التي كانت جميعًا تحت السيطرة العثمانية.

اشتعلت الحرب في 1828-1829 بين روسيا والدولة العثمانية على خلفية من حرب الانشقاق اليونانية (1826–1830)، وقد أحرز الروس تقدمًا بالغًا في الأراضي العثمانية، سواء في جبهة البلقان أو في جبهة جنوب القوقاز باتجاه الأناضول. وقد انتهت الحرب بتنازلات عثمانية استراتيجية في منطقة الدانوب وإعطاء رومانيا وبلغاريا حكمًا ذاتيًّا وتوكيد الحكم الذاتي لصربيا. أمَّا جولة الحرب التالية، حرب القرم (1853–1856)، فقد اندلعت على خلفية متشابكة من لجوء العديد من قادة وعناصر الموجة الثورية في 1848 إلى الدولة العثمانية، والتنافس الفرنسي (الكاثوليكي)-الروسي (الأرثوذكسي) على الامتيازات الدينية في مدينة القدس، سيما بعد أن مُنح الكاثوليك مفاتيح كنيسة المهد في بيت لحم. طالب الروس الدولة العثمانية منحهم حق حماية رعايا السلطنة الأرثوذكس جميعًا؛ فرفض العثمانيون. وبتصاعد التوتر بين القوى الأوروبية، تدخلت فرنسا وبريطانيا مباشرة، سواء على صعيد سلاح الأسطول أو القوات البرية، لحماية الأراضي العثمانية من مخططات الابتلاع الروسي. كانت الموانيء الروسية على البحر الأسود هدفًا رئيسًا للحرب، وهذا ما أدَّى إلى تسميتها بحرب القرم؛ إذ إن الروس كانوا قد سيطروا على شبه الجزيرة منذ القرن الثامن عشر. بصورة من الصور، خسر الروس الحرب؛ ولكن، وفي المقابل، تبنَّت الدولة العثمانية خطوة إصلاحية واسعة النطاق، وضعت نهاية لنظام الملل وأسست لمفهوم المساواة والمواطنة في الدولة. خلال السنوات القليلة التالية، أصلحت روسيا القيصرية التعثر الذي عانت منه في حرب القرم، وعزَّزت من تحركها في البلقان، وفي صفوف أرمن الأناضول. وفي 1877–1878، عاد الروس إلى الحرب ضد العثمانيين من جديد، بعد عام واحد فقط من صعود عبد الحميد إلى السلطنة، وشهور فقط على إجراء أول انتخابات برلمانية عثمانية وانعقاد البرلمان الذي وُلد منها. كانت هذه الجولة من الحرب بالغة القسوة، خاضها الروس، كما المرات السابقة، في الجبهتين معًا، جبهة القوقاز–الأناضول، وجبهة البلقان، محرزين تقدمًا عميقًا في الأراضي العثمانية. توقفت الحرب بعد تدخل القوى الأوروبية، وانتهت رسميًّا بعقد معاهدة سان ستيفانو (يشيلكوي) بين الدولتين، التي فرضت شروطًا بالغة القسوة على الجانب العثماني، بما في ذلك استقلال رومانيا والجبل الأسود وصربيا، ومنح بلغاريا استقلالًا مشروطًا. كما وسَّع الروس من حدود جورجيا الجنوبية بصورة ملموسة. وبالرغم من أن المعاهدة تعرضت لتعديلات، عشية انعقاد مؤتمر برلين في العام نفسه، 1878، فرضتها حاجات النمسا الاستراتيجية وشعور القوى الأوروبية بأن ما حصلت عليه روسيا في الأناضول لم يكن مبرَّرًا، فليس ثمة شك في أن سان ستيفانو مثَّلت لحظة انكسار عثماني غير مسبوقة في تاريخ العلاقات مع روسيا، في دلالة لا تخفى على أن السلطنة، وبالرغم من برامج التحديث والإصلاح واسعة النطاق منذ 1840، لم تعد قادرة على تعديل ميزان القوى.

لم يكن التوسع الروسي في الأراضي العثمانية خلال القرن التاسع عشر كبيرًا، على أية حال. كان هدف الروس دائمًا التقدم في الأناضول باتجاه ميناء الإسكندرون، والتقدم في البلقان وصولًا إلى ساحل بحر إيجة. بمعنى، أنه ما دامت القوى الغربية لم تتفق بعد على تقسيم نهائي للدول العثمانية، وحصول روسيا على المضايق، فلابد من الوصول إلى البحار الدافئة من طرق جانبية. بنهاية القرن التاسع عشر، لم تكن روسيا حققت هذا الهدف، ولكن خسارة العثمانيين كانت كبيرة بالرغم من ذلك، بعد أن استقل أغلب ولايات الجناح العثماني الأوروبي، مسبِّبًا موجات هجرة ومجازر لملايين المسلمين. مكاسب روسيا، من جهة أخرى، تحققت على المستوى الاستراتيجي غير المباشر، عندما أصبحت كل دول البلقان الوليدة (ما عدا البوسنة-الهرسك، التي ذهبت للنمسا)، حليفة لروسيا، تربطها بها روابط ثقافية ودينية وإثنية.

لم تشارك روسيا مباشرة في حربي البلقان الأولى والثانية، 1912–1913، ولكنها لعبت دورًا غير مباشر في تشجيع بلغاريا وصربيا واليونان ومونتينغرو على التحالف، وبذلت جهدًا مستمرًّا لمحاولة حل المشكلات التي وُلدت بين المتحالفين. وقد أدت الحرب بين تحالف دول البلقان والدولة العثمانية إلى خسارة الأخيرة معظم ما تبقى من ممتلكاتها في أوروبا، بالرغم من النجاح المحدود الذي حققه الجيش العثماني في الحرب الثانية واستعادته أدرنة.
ثمة جدل مستمر حتى الآن حول الأسباب التي جعلت الدولة العثمانية تدخل طرفًا في الحرب العالمية الأولى، وانضمامها لدول المركز بقيادة ألمانيا. تُصوِّر الكتابات التاريخية المبكرة قرار الحرب العثماني باعتباره انعكاسًا لتهور قيادة حكومة الاتحاد والترقي في 1914، واندفاع أنور باشا، وزير الحرب وأحد أبرز قادة الاتحاد والترقي، للتحالف مع ألمانيا. ما أصبح واضحًا الآن أن الحقيقة كانت أبعد من ذلك كثيرًا. كان التوجه الأول للحكومة العثمانية يتراوح بين دخول الحرب إلى جانب الحلفاء أو اتخاذ موقف حيادي. ولكن دول الحلفاء الرئيسية، سيما بريطانيا وروسيا وفرنسا، لم تُظهر أي ترحيب بانضمام العثمانيين؛ كما أن الاستخبارات العثمانية اعترضت مراسلات بين السفارة الروسية في إسطنبول ووزارة الخارجية الروسية، تكشف بوضوح نوايا روسيا السيطرة على المضايق وإسطنبول، مهما كان الموقف العثماني في الحرب. اندلعت الحرب الأولى في بداية أغسطس/آب 1914، وظلَّت الحكومة مترددة في الالتحاق حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول، بالرغم من أنها كانت قد عقدت تحالفًا غير معلن مع ألمانيا في أغسطس/آب.

وتُظهر وثائق الحرب الأولى كيف أن الحلفاء خططوا فعليًّا لتقسيم كل أراضي الدولة؛ وأن روسيا وُعِدت بالسيطرة على إسطنبول والمضايق، إضافة إلى حصولها على المزيد من الأراضي العثمانية في شرق الدولة. بمعنى، أن سايكس-بيكو لم تكن اتفاقية على مصير ولايات الأغلبية العربية بين فرنسا وبريطانيا وحسب، بل إن مشروع تقسيم الغنيمة العثمانية شمل أيضًا روسيا وإيطاليا واليونان كذلك.

أخرجت الثورة البلشفية في أكتوبر/تشرين الأول 1917 روسيا من خضم الحرب؛ بل إن الحكومة البلشفية سارعت إلى كشف الاتفاقيات السرية بين الإمبرياليات الغربية لتقسيم الممتلكات العثمانية. أقرَّت إسطنبول بالهزيمة في الحرب ووقَّعت هدنة مهينة مع الحلفاء في مودروس في نهاية 1918؛ وسرعان ما انتشرت قوات الحلفاء في أنحاء ما تبقى من السلطنة، بعد خسارتها كل ولايات الأغلبية العربية، وشجعت اليونان على غزو إزمير والجنوب الغربي من الأناضول بأسره. وهذا ما أطلق حرب الاستقلال العثمانية، 1919–1923، التي أدَّت إلى تحرير ما تبقى من الدولة العثمانية بعد توقيع الهدنة، وإلى نهاية السلطنة وولادة الجمهورية.

وقد لعبت العلاقات بين المقاوِمين العثمانيين، بقيادة مصطفى كمال، وروسيا البلشفية، دورًا مهمًّا في حرب الاستقلال. جمع بين الطرفين صراع وجود ضد الإمبرياليات الغربية، ولم يكن غريبًا بالتالي أن تُمد موسكو قوى المقاومة في أنقرة بالسلاح والنقود الذهبية. وحتى قبل نهاية حرب الاستقلال، كانت موسكو تخلَّت عن امتيازاتها السابقة في البلاد العثمانية، وأعلنت رفضها لمعاهدة سيفر، التي وقَّعتها حكومة إسطنبول، وكافة الاتفاقيات التي عقدتها روسيا القيصرية مع الحلفاء بخصوص البلاد العثمانية. ولأن القوات العثمانية في الشرق أبلت بلاء حسنًا في الفترة بعد قيام الثورة الشيوعية وفي المراحل الأولى من حرب الاستقلال ضد الأطماع الأرمنية؛ فقد رسمت الحدود في الشرق بصورة مالت قليلًا لصالح تركيا الجديدة؛ وهي الحدود التي لم تتغير حتى اليوم، سواء مع جورجيا أو أرمينيا.

اتسمت العلاقات بين الجمهورية التركية والاتحاد السوفيتي خلال العقود التالية بقدر من الهدوء، أسس له تخلِّي تركيا الكمالية عن سياسات الجامعة الإسلامية والجامعة التركية، وانشغال الاتحاد السوفيتي بالبناء الداخلي في مناخ معادٍ من القوى الغربية. وعندما اندلعت الحرب الثانية، التزمت تركيا الحياد طوال سنوات الحرب الأربع الأولى، ولم تلتحق بصف الحلفاء إلا في نهايات الحرب، رغبة من أنقرة في تأمين موقع لها على مائدة المنتصرين، الذين لم يُخفوا خطواتهم لإقامة نطام عالمي جديد. ولكن الاتحاد السوفيتي، أحد المنتصرين الكبار، خرج من الحرب قوة عالمية هائلة، ذات نفوذ واسع النطاق في شرق ووسط أوروبا. وسرعان ما استعادت موسكو ستالين أطماع روسيا السابقة في الجنوب.

ثمة جدل مستمر حول حقيقة الدوافع التي أدَّت إلى اختيار تركيا الوقوف في المعسكر الغربي خلال سنوات الحرب الباردة، والتحاقها بحلف الناتو منذ 1952. وبالرغم من أن الجدل لم يُحسم بعد، يبدو أن المطالبات الروسية المفاجئة في 1946 باستعادة مدينتين تركيتين في الشمال الشرقي، على أساس أن المدينتين تعودان لجورجيا وأن تركيا استولت عليهما في نهاية الحرب العالمية الأولى بغير حق، وبمراجعة معاهدة مونترو (1936)، التي تنظِّم الملاحة عبر المضايق؛ بحيث يُسمح لروسيا بالاحتفاظ بوجود عسكري في مضيق الدردنيل، كانت سببًا رئيسًا في تخلي أنقرة عن سياسة الحياد وفي الانضواء في المعسكر الغربي. في العام التالي، 1947، أصبحت تركيا إحدى الدول المستفيدة من مشروع مارشال، واستلمت مساعدات عسكرية أميركية. في 1950، شاركت تركيا في الحرب الكورية إلى جانب الولايات المتحدة، وفي 1952، أصبحت عضوًا في حلف الناتو. بذلك، احتلت تركيا موقعًا بالغ الأهمية في استراتيجية الناتو، بينما وفَّر الحلف الغطاء الاستراتيجي لتركيا في خضم عواصف الحرب الباردة العاتية.

في نهاية الستينات، وبعد سحب الولايات المتحدة لصواريخها من تركيا في 1962، مقابل سحب الصورايخ الروسية من كوبا، والموقف الأميركي غير المُرضي لأنقرة من الأزمة القبرصية، أجرت تركيا مراجعة شاملة لسياستها الخارجية. ترتب على هذه المراجعة الانفتاح الحذر على الاتحاد السوفيتي منذ السبعينات، والانضمام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية.

بيد أن التطور الكبير في العلاقات بين موسكو وأنقرة بدأ بالفعل بعد نهاية الحرب الباردة بأكثر من عشر سنوات، سيما بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا. كانت حكومة العدالة والتنمية تبحث عن دور جديد لتركيا بعد نهاية دور دولة التخوم الذي فرضته الحرب الباردة وعضوية الناتو، وعن نظام علاقات إقليمي يؤسس لاستقرار البلاد ونهضتها. من جهة أخرى، كانت روسيا تحاول إعادة بناء دورها وموقعها على الساحة الدولية، بعد أن فقدت حلف وارسو والحزام الاستراتيجي الذي وفره الاتحاد السوفيتي، ولكن حادثة إسقاط الطائرة الروسية، غير المسبوقة في علاقات البلدين، بغضِّ النظر عن أسبابها، وضعت حدًّا للتطور المتسارع في علاقات البلدين، وفتحت مستقبل هذه العلاقات على مرحلة جديدة تتأرجح بين أسباب عديدة للعداء وفرص كثيرة للتعاون.
 

تقدير موقف
1 تصعيد حرج: تداعيات إسقاط المقاتلة على العلاقات التركية-الروسية
  تقارير
 1 الأزمة الروسية-التركية: محددات التاريخ والجغرافيا والتطلعات لأدوار جديدة
 2 خطة بوتين في سوريا: تناقضات استراتيجية وانسدادات سياسية
 3 خيارات السياسة الخارجية التركية ومتغيراتها الإقليمية والدولية