السياسة الخارجية التركية الجديدة بين الشرق والغرب

هل التوجهات السياسية الجديدة لتركيا هي عملية تحول من المحور الغربي-الأطلسي إلى المحور الشرق الأوسطي بشكل خاص؟

برهان كور أوغلو


هل التوجهات السياسية الجديدة لتركيا هي عملية تحول من المحور الغربي-الأطلسي إلى المحور الشرق الأوسطي بشكل خاص؟





التوجهات التركية الجديدة تأتي في إطار عملية إعادة البناء التي تبناها حزب العدالة والتنمية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي إطار القيام بأدوار فاعلة تجاه الأحداث والمشكلات التي وقعت بعد الحرب الباردة.
أكدت التوجهات الإستراتيجية التركية جميعها منذ بداية عهد الجمهورية على تبني الدولة التركية للمحور الغربي. وقد بدا ذلك أولا في أفكار التغريب والتقرب من النمط الأوروبي، ثم في توطد العلاقات التركية الأمريكية اعتبارا من منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، واندراج أنقرة الإستراتيجي ضمن سياسات المحور الغربي منذ عقد السبعينيات لظروف سياسية مختلفة، خاصة بعد أن جعلت تركيا انضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي هدفا استراتيجيا لها منذ الستينيات.

لقد فرضت أوضاع الحرب الباردة آثارها على العلاقات السياسية الخارجية التركية، فكان من نتائج التحاق أنقرة بالمعسكر الغربي الانقياد للسياسات الغربية ولاسيما لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، والوقوف بجانبها في وجه المعسكر الاشتراكي.


وساهمت عوامل متعددة في حدوث نوع من الجفاء في العلاقات التركية - الشرق أوسطية بعد انهيار السلطنة العثمانية، تأتي في مقدمتها العوامل النفسية التي خلفتها الحرب العالمية الأولى في دول الشرق الأوسط وتركيا بشكل خاص، وضعف التوجهات الاقتصادية التركية، وغياب الوعي الاستراتيجي الذي يزن أهمية هذه المنطقة للأمن التركي، إضافة إلى وقوع غالبية مناطق الشرق الأوسط تحت الوصاية الغربية.


الميراث التاريخي والدور الراهن
رهانات التوجه الجديد


الميراث التاريخي والدور الراهن 


ثم شهدت السياسة الخارجية التركية نشاطا وفاعلية ملحوظة على كافة المستويات بعد انتهاء الحرب الباردة، وخصوصا بعد عام 2002؛ حيث شهد الاقتصاد التركي نموا ملحوظا، كما تسلمت قيادة الدولة نخبة سياسية تدرك جيدا أهمية الثراء التاريخي والعمق الإستراتيجي للدولة. وبدأت الملامح العملية للسياسة الخارجية التركية الجديدة بالظهور من خلال السعي إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة والتخلص من عناصر النزاع، فسعت إلى إنشاء علاقات طيبة مع كافة دول الجوار بما فيها الدول العربية، حيث أقامت أنقرة علاقة طيبة مع دمشق، وتوسطت بين سوريا وإسرائيل من خلال إجراء مفاوضات غير مباشرة بينهما، قبل العدوان الإسرائيلي الأخير على أهالي غزة، وعارضت الاحتلال الأمريكي للعراق، وساهمت في حل المشكلات الداخلية الناتجة عن الغزو، وألغت التأشيرات مع عدد من الدول العربية، فضلا عن توجيهها انتقادات لاذعة للسياسات والممارسات الإسرائيلية في المنطقة، والانتقادات التي وجهها رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان لإسرائيل في قمة دافوس. وبهذه الكيفية والحيوية السياسية والدبلوماسية ظهرت تركيا دولة ناقدة ومقيّمة للأوضاع وصاحبة توجهات أصيلة.


ونتيجة لهذه الفاعلية والديناميكية، فسّر البعض هذه التوجهات التركية الجديدة باعتبارها عملية تحول رئيسي في السياسة الخارجية التركية. والحقيقة أن التوجهات التركية الجديدة تأتي في إطار عملية إعادة البناء التي تبناها حزب العدالة والتنمية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي إطار القيام بأدوار فاعلة تجاه الأحداث والمشكلات التي وقعت بعد الحرب الباردة.


كما اتجهت تحليلات أخرى إلى تقييم هذه التوجهات الجديدة باعتبارها توجهات نابعة من أصول دينية أو وصفها بكونها توجهات جيوسياسية أوراسية أو شرقية، لكن تحليل هذه التوجهات يكشف أن تركيا قد طورت سياسة خارجية متماسكة ومتكاملة، يمكن ووصفها بأنها "سياسة خارجية واقعية ذات محور قيمي".


رهانات التوجه الجديد 





العامل الذي يقوي من وضع تركيا الدولي، ويوفر لها الدينامية المستمرة هو تراثها التاريخي، وإرادتها السياسية التي تجعل منها عاملا فاعلا ومؤثرا في مختلف قضايا المنطقة.
غير أن بعض الأطراف لم تستطع إدراك حقيقة هذه السياسة؛ فحصرتها في زاوية واحدة، بل ونظرت بعض الأوساط إلى تاريخ العلاقات التركية السلبي مع الدول الأخرى في السابق على أنه حقيقة ومسلمة لا يمكن تغييرها، وقللوا من أهمية التوجهات الجديدة لتركيا تجاه العالم الخارجي، وفضلوا بقاء الأوضاع على ما هي عليه. وهذه الأطراف تحاول التركيز على فكرة أن هناك صراعا في السياسة التركية بين العلمانية – والتوجهات الإسلامية، وتحاول إثارة الأزمات حول هذه القضية، وتركز على فكرة التحول المحوري في السياسة التركية من أجل تحقيق مكاسبها الخاصة. حيث يمكن لمثل هذه التوترات الداخلية، إذا ما تفاقمت، أن تهيئ المناخ لتغيير الحكومة القائمة أو وقوع انقلاب عسكري.

وتأتي في مقدمة الجهات التي تسعى لإشاعة فكرة تغيير تركيا لمحورها في السياسة الخارجية، إسرائيل، واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، وبعض الأحزاب التركية المنافسة لحزب العدالة والتنمية، والتي تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية من خلال طرح هذه القضية، بالإضافة إلى بعض الأطراف الأوروبية التي لا تقدر دور تركيا الديناميكي الجديد.


ومن جهة أخرى، فإن التحليلات التي تتحدث عن التحول المحوري لتركيا ما هي إلا تحليلات ما زالت حبيسة منطق الحرب الباردة؛ فالوضع الدولي الحالي لم يعد مرتبطا بقطبين اثنين كما كان في فترة الحرب الباردة، بل أصبح وضعا ديناميكيا يتطلب من الدول أن تتخذ خطوات تتناسب مع هذا الوضع وإلا أصبحت دولا حبيسة توجهات جامدة.


وقد أجاب وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو على سؤال حول المزاعم والنقاشات التي تثار حول تغيير تركيا لمحورها السياسي، بأن "فكرة تغيير المحور هي فكرة قديمة كانت مرتبطة بما تحدده الدول العظمى من أوضاع سياسية تلتزم بها الدول الأخرى، وهو وضع استمر في ظل فترة الثنائية القطبية"، وأضاف داود أوغلو: " أن الوضع الدولي، في تلك الفترة، كان يشمل دولا كبرى وقوى عالمية، وكنا نتكيف بناء على نماذج التغييرات المحددة. أما الآن، فيجب علينا أن تكون لنا كلمة، وأن يكون لنا وضع خاص في النظام الدولي، وذلك هو محورنا الخاص بنا، وبعد أن نجد محورنا الخاص بنا، تتضح رؤيتنا ونتشاور مع حلفاءنا ونعمل على تحديد أوضاعنا الدولية المشتركة". (مجلة غوروش).


والحقيقة أن توجهات تركيا الجديدة لم تنحصر في العالم الإسلامي أو العربي بل عملت تركيا على إقامة علاقات إيجابية مع روسيا، والاشتراك معها في مشاريع إستراتيجية متنوعة مثل مشاريع نابوكو وباكو وجيهان، كما لعبت تركيا دورا في المفاوضات السلمية بين البوسنة والصرب، واتخذت خطوات إيجابية لتطبيع علاقاتها مع أرمينيا، وغيرها من دول الجوار. وهكذا، فقد استثمرت تركيا عناصرها التاريخية المتمثلة في ميراث السلطنة العثمانية من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة.


ومن هنا فإن العامل الذي يقوي من وضع تركيا الدولي، ويوفر لها الدينامية المستمرة هو تراثها التاريخي، وإرادتها السياسية التي تجعل منها عاملا فاعلا ومؤثرا في مختلف قضايا المنطقة.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات