السعودية وتركيا في ظل الثورات العربية

يتميز موقف المملكة العربية السعودية من دور تركيا المتنامي في المنطقة العربية بتحفط مرحلي جزئي له مبرراته المؤسساتية، في أجواء الربيع العربي، مع حضور أسباب قوية للتقارب الحذر على المدى المتوسط.
2011102581158627734_2.jpg

يتميز موقف المملكة العربية السعودية من دور تركيا المتنامي في المنطقة العربية بتحفط مرحلي جزئي له مبرراته المؤسساتية، في أجواء الربيع العربي، مع حضور أسباب قوية للتقارب الحذر على المدى المتوسط. وحسب قراءتنا للمعطيات، لا يوجد لدينا مؤشرات كافية للزعم بأن السعودية تشعر بقلق من تنامي دور تركيا في المنطقة؛ فدور تركيا المتنامي يحمل في طياته بذور عدم استمراره؛ ولذلك لا تتوفر أسباب كافية تدعو السعودية للتعامل معه بسلبية. ويبقى من الصعب تحليل الموقف السعودي من الدور المتنامي لتركيا بمعزل عن ثلاثة محاور:

عناصر الالتقاء والعناصر اللا توافقية في العلاقة بين البلدين

على الرغم من وضوح المؤشرات على التقارب بين البلدين؛ وذلك كنتيجة منطقية لعناصر التقاء سنمرُّ على ذكرها بشئ من التفصيل، إلا أن هنالك عناصر غير توافقية يمكن أن يكون لها تأثير، وسنأتي على ذكرها أيضًا.

أ- عناصر الالتقاء

الانفتاح على الشرق
عنصر الالتقاء الأول يكمن في تشابه ظروف انفتاح الطرفين على الشرق. جاءت جولات الملك عبدالله بن عبدالعزيز الخارجية في عام 2006، بُعيْد توليه العرش، والتي شملت عملاقي آسيا: الهند والصين، بدلالات بالغة؛ فقد تضمنت توجيه رسالة قوية للغرب مفادها امتلاك السعودية لخيارات أخرى، في حالة اهتزاز التحالف مع الغرب. ونحن نفهم، في هذا السياق، زيارة الملك السعودي لتركيا في عام 2006. وهو توقيت دقيق بالنسبة لتركيا، التي طال بها الانتظار للإنضمام إلى الاتحاد الأوربي والإفادة الكاملة من السوق الأوربية المشتركة.

شعر البلدان، السعودية وتركيا، في مستهل العقد الأول من الألفية الجديدة بالحاجة إلى الانفتاح على الشرق، وتوسيع دائرة التحالفات؛ وذلك لسببين رئيسيين:

الأول: هو الحصول على خيارات أكبر، سواء من ناحية الحصول على دعائم أمنية، بالنسبة للسعودية، أو على آفاق اقتصادية أرحب، فيما يتعلق بالحالة التركية؛ ففي الوقت الذي تعرضت فيه العلاقات السعودية-الأميركية لزلزال الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، تجلَّى لتركيا أن ملف انضمامها للاتحاد الأوربي سيراوح مكانه ردحًا من الزمن.

أما الثاني فيكمن في الحصول على أوراق دبلوماسية واقتصادية تمكِّن الطرفين من استثمارها في الغرب، وهو ما سيعزز بالتأكيد من مواقفهما في علاقتيهما بالغرب. ومن هذا المنطلق يتبين لنا تشابه أسباب الانفتاح على الشرق لكلا الطرفين.

نفوذ إيران
عنصر الالتقاء الثاني يكمن في التوجس من نفوذ إيران المتنامي في المنطقة العربية؛ فبينما تنظر السعودية لدور إيران في العراق ولبنان وفلسطين، وبعض الأقطار العربية الأخرى، بعين الريبة، تراقب تركيا هذا النفوذ الإيراني المتنامي بقلق. وفي الوقت الذي يعتبر فيه قادة الخليج العربي إيران دولة ذات طموحات توسعية، وملفات البحرين والجزر الإماراتية المحتلة والعراق خير مثال على ذلك، لا يتوافر لنا أي مؤشر على وجود شعور مشابه لدى الخليجيين تجاه تركيا؛ ففي الوقت الذي أكثر الإيرانيون فيه من الحديث عن تدخل عسكري إيراني في البحرين، بعد دخول قوات درع الجزيرة للمنامة، عبَّرت تركيا وبلغة صريحة عن دعمها الكامل، وعلى كافة الأصعدة، لدور مجلس التعاون الخليجي، والذي تضطلع فيه السعودية بدور بارز.

التحالف مع الغرب
عنصر الالتقاء الثالث هو في طبيعة التحالفات لكلا البلدين. يدفع اقتصاد تركيا وكذلك اقتصاد السعودية وطموحاتهما التنموية إلى توثيق ارتباطهما بالاقتصاد والخبرات الغربية وما يمتلك الغرب من تقدم تقني. وهذا له استحقاقات دبلوماسية مرتبطة بالغرب؛ فالاقتصاد التركي يتداخل مع نظيريه الأميركي والأوربي، وهذان الأخيران مرتبطان بالاقتصاد السعودي؛ ولذلك، توجد مؤشرات قوية على لعب الغرب دور نقطة التقاء، يمكن لتركيا والسعودية الاستفادة منها. وحتى في احتمالات تباطؤ التقارب، ستعمل نقطة الالتقاء هذه على ألا يتجاوز الفتور المفترض مستويات مقبولة.

وبعد استعراض هذه العوامل، نقول بوجود تقارب بين البلدين، وبأن فرص تعزيز هذا التقارب لا تزال قوية. ينطلق هذا التقارب من تشابه الظروف وتلاقي المصالح بين الدولتين. ولا شك أن في ذلك توفيرًا لأجواء مؤاتية لتعاون أكبر في مجالات أوسع. وتقودنا المؤشرات للقول بأن العلاقة بين السعودية وتركيا تسير في اتجاه النمو؛ ففي الوقت الذي انفتحت فيه تركيا على العالم العربي، تعززت التبادلات التجارية بين البلدين؛ ففي عام 2006 بلغ حجم التبادل التجاري بين السعودية وتركيا 3.3 مليار دولار. وقد قفز هذا الرقم إلى 5.5 مليار دولار في عام 2008. وينبئ هذا المؤشر عن تقارب حثيث بين البلدين. بالإضافة إلى ذلك، لم يقتصر التقارب على التبادلات التجارية فحسب، بل شمل مجالات عدة، كالتشاور الدبلوماسي، والتعاون الإعلامي والثقافي، وفي مجال المعرفة والبحث العلمي والآثار. بل إن العلاقات السعودية-التركية تعززت في المجال الأمني والعسكري، وخير دليل على ذلك مشاركة القوات السعودية في مناورات صقر الأناضول في الفترة مابين 13 و 24 يونيو/حزيران الماضي، ليس بصفة مراقب بل بصفة مشارك. كل هذه العوامل تشير إلى أن التقارب بين البلدين له ظروفه الموضوعية، وله فرصه في التعزيز والاستمرار. ولكن هذا التقارب له إطار محدد لا يخوله الحلول بديلاً عن تحالفات السعودية الدولية، وبالتالي فإنه يظل في منزلة لا تتمتع بنفس القدر من الاهتمام أو أن يكون على حساب تلك التحالفات الأخرى.

ب- عناصر غير توافقية

المؤسسات
العنصر غير التوافقي الأول هو العنصر المؤسساتي؛ فتركيا بلد ديمقراطي قائم على مؤسسات لها تاريخها وموروثها وتجاربها المؤثرة. علاقة الدين بالدولة في تركيا، على سبيل المثال، مختلفة كليًّا عن تلك الموجودة في السعودية؛ ولذلك، فإن البنية التحتية السياسية، إن صحت التسمية، والتي تؤثر في الثقافة السياسية التركية، تنعكس بطريقة مباشرة على سياسات تركيا الخارجية. فدور الرأي العام والبحث العلمي والنُّخب في تركيا مختلف تمامًا عن قرينه في السعودية؛ فالملك السعودي يتمتع بصلاحيات مطلقة، حسب النظام الأساسي للحكم، فيما يتعلق بإدارة البلاد، بما في ذلك السياسة الخارجية. وللدين دور في غاية الأهمية في السعودية، وذلك لا يرجع لارتباط الثقافة الدينية بالثقافة السياسية فحسب، وإنما لأن مكانة السعودية الدينية تؤهلها للعب أدوار مفصلية وفي غاية الأهمية في العالمين العربي والإسلامي، بل وعلى المسرح الدولي بشكل عام. وقد شهدنا في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم دورًا حاسمًا للخطاب والمؤسسات الدينية السعودية في مواجهة المد القومي.

التنمية
يعقب العنصر المؤسساتي عنصر آخر ألا وهو الفروقات التنموية؛ فتركيا دولة تتقدم على السعودية في قدراتها التنافسية على مستويات متعددة، أولها وأهمها البحث العلمي وتميز الجامعات التركية بمنتوجها المعرفي. وتمتلك تركيا معامل متقدمة وخبرات متميزة، بالإضافة إلى ذلك، فإن البنية التحتية في تركيا متطورة جدًّا، ويمتلك القطاع الخاص قدرة عالية على المنافسة. وهذا قد يخل بالموازين لصالح تركيا مما قد -وهذا مجرد احتمال- يثبط من عزيمة السعودية عن الانفتاح الكامل على تركيا خشية استفادة الجانب التركي على حساب الطرف السعودي.

الإستراتيجية والسياسة الخارجية
العنصر غير التوافقي الثالث هو الاختلاف في الإستراتيجية؛ فبينما تحرك التنمية سياسات تركيا الخارجية، في المقام الأول، ثم يأتي الأمن ثانيًا، تنقلب المعادلة فيما يخص للسعودية؛ فالمحرك الرئيس للسياسات الخارجية السعودية هو الأمن. نحن لسنا بصدد الحديث عن المفهوم الشامل للأمن، وإنما نعني التعامل المباشر مع التهديدات؛ فالسعودية تمر بمرحلة تاريخية دقيقة، داخليًّا وخارجيًّا؛ فداخليًّا لا يزال سؤال الخلافة غير محسوم، بالإضافة إلى نقل السلطة التدريجي لجيل أحفاد الملك المؤسس عبدالعزيز. كما أن السعودية منهمكة بملف الإصلاح. وخارجيًّا، تحاول السعودية جاهدة أن تتهيأ لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق، وتزايد النفوذ الإيراني، وتغيير الأنظمة الحليفة في المنطقة على أيدي الثوار. بينما تتمتع تركيا بمستوى استقرار سياسي عالٍ وازدهار ثقافي، علمي واقتصادي. فبينما تسابق السعودية الزمن، حماية لأمنها ومصالحها، سواء في العراق، أو البحرين، أو لبنان، أو في اليمن، نجد أن تركيا تحاول لعب دور في العالم العربي خدمة لمصالحها، دون أن تقع تحت ضغط الهاجس الأمني إن هي قررت ألا تتوسع في أدوارها المتعددة في العالم العربي.

وفي المحصلة، نجد أن هنالك تقاربًا جديًّا وحثيثًا بين كلٍّ من السعودية وتركيا، وذلك لأسباب استدللنا عليها بعناصر الالتقاء. ولكننا لا نغفل العناصر غير التوافقية، والتي نعتقد بخمولها في هذه المرحلة، إلا أنها قد تكون مرشحة لأن تنشط في وقت غير متوقع، وفي هذه الحالة فقد يكون لها دور وتأثير على العلاقة بين البلدين.

التعامل مع ملف ربيع الثورات العربية

هنالك تباين في وجهات النظر السعودية والتركية فيما يتعلق بملف ربيع الثورات العربية، وهذا ما يدفع السعودية للتحفظ على دور تركيا ولكنه يبقى تحفظا جزئيًّا وليس كليًّا. وما يدلل على ذلك هو تكثيف الاتصالات والمشاورات بين البلدين في شهر أغسطس/آب الماضي حيال الملف السوري، على سبيل المثال. فبينما تباينت المواقف حيال الثورة ضد نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك، نرى تقاربًا في المواقف فيما يخص سوريا والبحرين. وبالرغم من تكثيف النشاط الدبلوماسي التركي فيما يخص الملف السوري، فإننا لا نرصد النشاط والحماس نفسه لتركيا فيما يخص الملف اليمني. فهل ينبئ ذلك عن تفاهم ما بين السعودية وتركيا بخصوص الحراك في اليمن؟

كما حاولنا تبيانه في القسم الأول، يستند التقارب بين تركيا والسعودية على عناصر الالتقاء، أما التحفظ المرحلي الجزئي على دور تركيا، فهو يستند على العناصر غير التوافقية، والتي أشرنا إلى أنها ليست أكثر نشاطًا من عناصر الالتقاء. وهذه ردود فعل متوقعة إذا ما نظرنا لطبيعة كل من النظامين السياسيين في كلا البلدين؛ فتركيا تنظر إلى الربيع العربي على أنه إعلان نهاية نظام الشرق الأوسط الحالي وبداية ترتيبات جديدة. وهي بمساعيها الحثيثة تحاول تأمين مكانة بارزة لنفسها. بينما يصبح تحوُّل الدول المحيطة بالسعودية إلى أنظمة سياسية ديمقراطية، عنصر عدم استقرار لها (السعودية)، حسب وجهة نظر النظام السياسي السعودي. فتركيا الديمقراطية، ستدعم التغيير في مصر، والمظاهرات في سوريا، لأنها أقرب إلى ذلك، حسب إملاءات تركيبتها السياسية. ولا يوجد تهديد جدّي لتركيا من تغيير النظام في مصر، لا على أمنها ولا على مصالحها.

بينما تتخذ السعودية موقفا ليس بالضرورة أن يكون متناسقًا مع الموقف التركي؛ فتغيير النظام في مصر يعتبر خسارة فادحة للسعودية، التي تحاول الاستعداد لمابعد الانسحاب الأميركي المرتقب من العراق. وقد كان نظام مبارك في مصر حليفًا قويًّا للسعودية، وقد تعاونا على التعامل مع ملفات المنطقة بقدر عال من التقارب في وجهات النظر والمصالح؛ ولذلك، فإنه ليس من المستغرب أن تتحفظ السعودية على مواقف تركيا من الثورة في مصر، وعلى دعوات القيادة التركية لمبارك بالتنحي حينما اشتدت الأزمة في القاهرة. ولكن تحفظ السعودية لم يكن مقتصرًا على تركيا، بل إنه شمل أهم حلفاء السعودية الدوليين، ونعني بذلك الولايات المتحدَّة الأميركية؛ فحينما هددت أميركا بقطع المساعدات عن مصر، وقفت السعودية بقوة في وجه هذه الضغوط لتعلن استعدادها تعويض مصر عن المساعدات الأميركية؛ ولذلك، لا تتوفر المؤشرات الكافية على أن التحفظ السعودي على دور تركيا في مصر، على سبيل المثال، هو مقتصر على تركيا فقط، أو متعلق بالتخوف من أهدافها في مصر، بل إنه موقف عام من الفعل ذاته، تهديد نظام مبارك الحليف التقليدي للسعودية، وليس من الفاعل، سواء كان تركيًّا أم أميركيًّا.

بالإضافة لما سبق، فإننا نلحظ ارتباكًا في تعريف المشهد القائم في المنطقة لدى السعودية. وهذا الارتباك ساهم في التحفظ المرحلي الجزئي على دور تركيا؛ فالمنطقة تعيش مرحلة انتقالية شبيهة بالفترة التي تبعت الحرب العالمية الثانية، وهناك قوى عالمية تتنافس على النفوذ، مدفوعة بمصالحها، بالتزامن مع اهتزاز القوة الأميركية. وهناك زلزال الربيع العربي، والذي يعتبر اللاعب الرئيس في إعادة رسم خريطة المنطقة؛ ولذلك، فقواعد اللعبة القديمة، لم يعد بالإمكان الركون إليها، حتى وإن استمر استخدامها، ولكنه استخدام مسكون بقلق.

هذا التحفظ لا يبدو قادرًا على أن يكون السمة البارزة للعلاقة بين البلدين، على الأقل حسب المعطيات القائمة حاليًا. ولكن يجب عدم إغفال عدة عوامل إذا ما نظرنا إلى التحفظ المرحلي الجزئي من قبل السعودية على دور تركيا في المنطقة. أول هذه العوامل هو أن هذا الدور التركي يخدم مصالح السعودية بشكل كبير، لعدة أسباب، أهمها محاولة خلق توازن مع تنامي نفوذ إيران. وثانيها أنه يوفر إسنادًا مهمًّا لمواكبة مخاض النظام الجديد في المنطقة، على الرغم من اختلاف الأهداف والوسائل بين البلدين.

ثاني هذه العوامل، هو أن تركيا لا يمكنها الاستفادة المنفردة من الربيع العربي قبل أن يستقر غبار الثورات في المنطقة. وهذا سيستغرق عقدًا أو عقدين من الزمن حتى يستقر الحال في الدول التي مستّها رياح التغيير وتتضح ملامحها الدستورية وتوجهاتها السياسية الجديدة. بمعنى آخر، لن يكون من السهل على تركيا التعامل المباشر مع اللاعبين الجدد قبل مرور فترة زمنية معينة، تتمكن فيها السعودية من إعادة ترتيب أوضاعها الداخلية، كالخلافة والسلطة والإصلاح، وخارجيًّا، بالتعامل مع الانسحاب الأميركي من العراق وإعادة بناء تحالفاتها. وهذا يُبقي تركيا مع اللاعبين القدامى، على الأقل في الفترة الحالية.

وقد يعتقد البعض بتخوف السعودية من تقارب تركيا والجماعات الإسلامية، على سبيل المثال. ولكنه تخوف لا تدعمه معطيات الوضع الحالي. فمن ناحية، هناك منافسة إيران لهذا النوع من الدعم؛ فإيران هي الداعم الرئيسي لأبرز الحركات الإسلامية في المنطقة، خصوصًا المسلحة منها. وبسبب تركيبة تركيا الديمقراطية وتحالفها مع الغرب، فإن دعمها للجماعات الإسلامية – إن وجد فعلا- سيكون محدودًا جدًّا، وستستهلكه المنافسة الإيرانية، ولن يكون من السهل على تركيا دعم هذا الجماعات لاعتبارات موضوعية عديدة:

بداية، لأن معظم أنشطة هذه الجماعات يتعارض مع المصالح الغربية. ولكون تركيا حليفًا إستراتيجيًّا للغرب في المنطقة، فإنها ستعاني من ثقل تحالفاتها مع الغرب إذا ما فكَّرت بدعم الجماعات الإسلامية. وهذا أحد أبرز القيود التي تمنع السعودية من دعم هذه الجماعات أيضًا. ثانيًا: تركيا لها تركيبة سياسية فريدة، خصوصًا في علاقتها مع الدين، وهذا سيشكِّل عائقًا جديًّا أمام تطور العلاقة بين تركيا والجماعات الإسلامية في المنطقة، ولهذا مبرراته الموضوعية أيضًا.

إذا كانت تركيا راغبة بلعب دور أساسي في الدول التي تأثّرت بظلال الربيع العربي، فهذا يعني أنها ستستند إلى نموذجها السياسي ومحاولة تسويقه. وأهم ملامح نموذجها السياسي هو العلمانية. وبالتالي سيكون ذلك عائقًا كبيرًا أمام بلورة تعاون بينها وبين الجماعات الإسلامية. وخير مؤشر على ذلك حديث أردوغان عن العلمانية في زيارته الأخيرة لمصر؛ ما أدى إلى إثارة حفيظة الإخوان المسلمين وبعض الجماعات الإسلامية الأخرى.

أما إذا افترضنا سعي تركيا للاضطلاع بدور مع النخبة المثقفة، فعليها التعامل مع التعددية القائمة في كل بلد، وحقيقة عدم جاذبية النموذج التركي بالضرورة لجميع المثقفين. ثم إن النخب المثقفة تتطلع إلى التنمية الفكرية، العلمية والصناعية في الغرب، أكثر من تطلعها للنموذج التركي، وإلقاء نظرة سريعة على عدد المتحدثين اللغة التركية من النخبة العربية المثقفة ومقارنته مع عدد المتحدثين بالفرنسية أو الإنجليزية، يمكن أن يعطي إشارة مبدئية على انحسار اللغة التركية بين المثقفين العرب. وهذا يجعل تركيا تدخل منافستين جديتين، مع إيران في الاحتمال الأول، ومع الغرب في الاحتمال الثاني. وهذا يوفر على السعودية تكبد عناء القلق وحدها لدور تركي متنامٍ في المنطقة.

إدارة ظروف التباعد والتقارب والتوجهات السياسية

بالرغم من الإشارة إلى العوامل السابقة، فإن عالم السياسة يتميز بانفتاحه المستمر على كافة الاحتمالات. وفي هذا السياق، نقول بأهمية دور الإدارة السياسية لنقاط التقارب وكذلك للعناصر غير التوافقية.

هنالك احتمالان قد يلعبان دورًا مهمًّا جدًّا، بالنسبة لتحليلنا للسيناريوهات المستقبلية، فيما يخص إدارة العلاقات بين السعودية وتركيا، الأول: ذهاب حزب العدالة والتنمية من قمة هرم السلطة في تركيا، والثاني: قدرة السعودية على ترتيب أوراقها الداخلية خلال فترة استقرار غبار الربيع العربي، والتي نتوقع ألاَّ تتجاوز عقدًا أو عقدين من الزمن.

فالتغيير في السلطة في تركيا سيؤثر بشكل جدي على علاقة تركيا بالعالم العربي ككل، وطريقة إدارة تركيا لعلاقتها بالسعودية على وجه الخصوص. لقد تعلم الأتراك من العرب عدم وجود الرقم صفر في المشاكل السياسية؛ ولذلك، ليس بمقدور تركيا الانخراط في العالم العربي عبر تصفير المشاكل، وإنما عبر تسويتها، وذلك سيستدعي أرقامًا كثيرة، لا مكان للصفر بينها؛ ولهذا ثمن يجب أن تستعد تركيا لتسديده، وإلا أوصدت أبواب العالم العربي دونها.

ومن هنا نقول: أن تغيير الحكومة في تركيا قد يقود إلى إعادة توجيه الاستثمار في السياسة الخارجية التركية نحو بقع جغرافية أخرى غير المنطقة العربية. وهذا بالطبع سيؤثر سلبًا على تنامي العلاقة بين السعودية وتركيا.

وفيما يتعلق بالسعودية، فإن الربيع العربي قد منحها فرصة ذهبية لإعادة ترتيب أوراقها الداخلية: الخلافة والسلطة والإصلاح، وهي فترة استقرار غبار الثورات التي ما زالت تعصف بالمنطقة. ويبقى احتمال عدم استغلال هذه الفترة استغلالاً أمثل قائمًا. إن أي تأخير في معالجة أي ملف من هذه الملفات: الخلافة والسلطة والإصلاح، سوف يكون عاملاً في غاية السلبية بالنسبة لسياسة السعودية الخارجية. عندها، ستكون النقاط غير التوافقية هي الأكثر نشاطًا في إدارة علاقة المملكة بالعالم الخارجي، ومنه تركيا.

إن تعثُّر المملكة في أي من هذه الملفات الداخلية سيحجِّم من قدرتها على التفاعل الإيجابي مع المتغيرات في المنطقة؛ ومن ثَمَّ انكفاء عوامل التقارب مع اللاعبين، مثل تركيا. ولربما ستجد المملكة نفسها أقرب للاتكاء على العناصر غير التوافقية في إدارتها لعلاقتها بتركيا. فعندما تقوم بتوظيف تلك العناصر، كالاختلاف المؤسساتي، وإبراز الجانب العلماني لتركيا، على سبيل المثال، على أنه نقطة تباعد ليس مع السعودية فحسب وإنما مع الشعب العربي ككل بهدف تحقيق أهداف سياسية معينة؛ فإن ذلك سيكون مثار تباعد بين الدولتين: السعودية وتركيا، وليس تقاربًا. هذا هو أحد السيناريوهات المحتملة التي نستحضرها عند الحديث عن أهمية إدارة العلاقة بين البلدين.

وفي المحصلة، ولكل الأسباب والمؤشرات والمعطيات السابقة، فليس من السهل بمكان رصد ملامح قلق "حقيقي" سعودي من تنامي نفوذ تركيا في المنطقة، مع وجود تحفظ مرحلي جزئي، للأسباب التالية: أولاً: لاعتقاد السعودية بأن تركيا لا تمتلك طموحات توسعية. ثانيًا: أن الدور التركي المتنامي يخدم مصالح السعودية أكثر من مضرته بها. ثالثًا: أن هنالك قيودًا بنيوية على دور تركيا؛ فمن جهة دورها في احتمال دعم الجماعات الإسلامية، فإن ذلك مقيداً بقيود عديدة وسيواجه منافسة إيرانية كبيرة. ومن ناحية دورها في التأثير بالنخبة العربية المثقفة؛ فإن ذلك مرتبطًا بتوجهات هذه النخب وتطلعها نحو الغرب، ثمّ، إنّه لا يزال أمام السعودية فرصة زمنية كافية لإعادة بناء قدراتها بما يتناسب مع المرحلة الجديدة. فلا يزال الحال غير مستقر في دول الربيع الثائرة، ولا تزال قوانين اللعب القديمة سارية المفعول.
_______________
منصور المرزوقي البقمي- باحث ومحلل سياسي سعودي

 

ABOUT THE AUTHOR