مشاركة المرأة في الحياة السياسية السعودية

يُعَدُّ قرار السماح للمرأة بالمشاركة في مجلس الشورى والمجالس البلدية في السعودية، خطوة لها أهميتها بحسب السياق السعودي المتعطش لأية خطوة حراك ومشاركة. ولكن في نفس الوقت هو خطوة ليس من المتوقع لها أن تُعقب أثرًا عمليًّا وفاعلاً على أرض الواقع.
2011102672317825734_2.jpg

يُعَدُّ قرار السماح للمرأة بالمشاركة في مجلس الشورى والمجالس البلدية في السعودية، خطوة لها أهميتها بحسب السياق السعودي المتعطش لأية خطوة حراك ومشاركة. ولكن في نفس الوقت هو خطوة ليس من المتوقع لها أن تُعقب أثرًا عمليًّا وفاعلاً على أرض الواقع، تبعًا لأبعاد هذا الواقع المحدود والمحجّم. يضاف إلى ذلك الانطباع الشعبي والثقافي السائد بضعف أثر تجربة مجلس الشورى والمجالس البلدية في المملكة، وأنها لا تُقدم أي بُعد لمشاركة حقيقية وفاعلة في الدولة.

تباعد السياسي عن الفقيه

قرار العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي أصدره في الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول الماضي، والقاضي بإدخال المرأة السعودية كعضو في مجلس الشورى، وكمرشحة ومنتخبة في المجالس البلدية، يأتي منسجمًا مع وتيرة قرارات تغييرية متنوعة، شهدتها المملكة منذ مجيء الملك عبدالله للحكم في العام 2005، وهي تغييرات بدأت معالمها في الظهور قبل ذلك بقليل خلال سنوات ولايته للعهد.

هذه القرارات في حقبة الملك عبدالله، منها ما لامس قضية المرأة في السعودية وحرّك الراكد فيها؛ ففي هذه الفترة حصلت المرأة على بطاقة الهوية الوطنية، وتم سن تنظيمات قانونية وتشريعية جديدة تُعنى بمصالح المرأة، كما تم استحداث وظائف جديدة لها في مجالات عديدة كالجوازات، وبعض أقسام الدفاع المدني وهيئة حقوق الإنسان ووزارة التجارة والصناعة، كما دخلت المرأة للانتخابات في الغرفة التجارية وهيئة المهندسين وهيئة الصحفيين. واستطاعت أن تصل في هذه الفترة إلى منصب نائب وزير التربية والتعليم "كأول امرأة بمرتبة وزير"، وتقلدت أيضًا منصب "مديرة جامعة"، في أول جامعة مخصصة للفتيات (جامعة الأميرة نورة)، التي تمثل بدورها مكسبًا آخر للمرأة. ومؤخرًا، أصبحت الفتاة تمثل أغلب خريجي الجامعات في السعودية، بالإضافة إلى التوسع في دعم بعثاتها التعليمية إلى الخارج، فوصل الحال إلى أن أعداد المبتعثات السعوديات في مرحلة الماجستير تجاوزت أعداد الطلبة المبتعثين لذات المرحلة، بحسب تقرير صدر العام الماضي من وكالة التخطيط والمعلومات في وزارة التعليم العالي.  

هذه القرارت وأخرى من مثيلاتها لم تكن كافية لتحقق تغيير مشهود في واقع المرأة السياسي والاجتماعي. فحتى هذا القرار الجديد لإشراك المرأة في الحياة السياسية العامة في الدولة، لم يكن له أن يتم وفق السياق الحالي في السعودية لو لم يكن قد صدر كقرار قوي من الملك نفسه. فأية خطوة مقاربة تُلامس موضوع المرأة وتحاكي تغييرًا فيه كانت تلاقي ممانعة قوية من رجالات التيار الديني السائد في السعودية. فعلى سبيل المثال، تم قبل سنوات تعطيل قرار وزارة العمل بتمكين المرأة من العمل كبائعة في محلات المستلزمات النسائية، وتمّ في العام الماضي العمل على منع توظف الفتيات كمحاسبات (كاشيرات) في مراكز التسوق الكبرى، استنادًا على فتوى أصدرتها هيئة كبار العلماء بتحريم عمل الفتاة في هذا المكان "المختلط".

تدلل القرارات السياسية فيما يخص المرأة على تباعد يتجدد بين فترة وأخرى بين المؤسسة الدينية ونخبة رجال الدين من جهة، وصانع القرار السياسي في الدولة من جهة أخرى. وهذه الخطوة الجديدة مماثلة لخطوة سابقة حين أنشأت الحكومة السعودية "جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية" (KAUST)، في مبادرة قلَّل فيها السياسي من مرجعية الفقيه، وتجاوز مسألة استشارته.

هذا القرار الاستثنائي الصادر من شخص الملك بإشراك المرأة في الحياة السياسية قوبل بالتحفظ من طرف كثير من رجال الدين في السعودية، فكلمات مفتي المملكة المقتضبة تعليقًا على هذا القرار، لا يُستشف منها دعمه لما جاء بين ثنايا قرار الملك كما جرت العادة، رغم أنه تحفظَ من النقد. وهذا التحفظ يأتي من قبل قطاع واسع من رجال الدين السعوديين، خصوصًا مع وضوح قرارات للملك صدرت قبل أشهر، تجاه من ينتقد رموز النظام في الدولة. ولكن مع ذلك لم يخل الموقف من ظهور ردّات فعل رافضة من علماء دين ذوي اعتبار في المملكة السعودية، كان أبرزها موقف الشيخ صالح اللحيدان، عضو هيئة كبار العلماء والرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى، الذي صرَّح في مقابلة تليفزيونية في قناة "المجد" الفضائية أنه تمنى لو أن خادم الحرمين الشريفين لم يُشِر إلى استشارته لهيئة كبار العلماء، فهو لم يعلم بالقرار إلا بعد قراءة الملك له.

هذا الإحجام والتباعد سببه أن السياسي وجد نفسه مُجبرًا على التغيير واتخاذ خطوات توسعية، فيما بقي رجل الدين مراوحًا في مسألة التحفظ والتخوف من مسألة التغيير. وبحسب تعبير الباحث السعودي خالد الدخيل فإن رؤية الدولة تغيرت واتسعت، بينما رؤية الفقيه تجمدت ولم تعد تتسع لرؤية الدولة. هنا يكمن أكبر أثر متوقع لهذا القرار وأمثاله، وهو تباعد السياسي عن الديني. هذا التغير في طبيعة الرابطة التاريخية بينهما، يفتح الباب أمام إمكانات تغير أوسع في البلاد، على اعتبار أن بنية النظام السائدة في البلاد لن يتم إعادة انتاجها كما هي بعد تغير الرابطة التاريخية التي استندت إليها.

دوافع اتخاذ القرار

يمكن للمتابع أن يرصد ثلاثة دوافع محتملة أدت إلى خطوة اتخاذ القرار بمشاركة وانتخاب المرأة، التي تتجاوز السائد الديني والاجتماعي في المملكة السعودية اليوم، أولها: صورة المملكة خارجيًا، والضغوط التي قد تقع عليها تبعًا لانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، وتوقيعها ومصادقتها على اتفاقية "السيداو" العالمية التي تمنع أي تمييز ضد المرأة. والأمر الآخر هو وجود جهد نسوي وثقافي في المملكة ألحَّ على مطالب المرأة وانتقد باستمرار مسألة التمييز والتجاهل لحقوقها.

من المحتمل أن يخلق كلا هذين الأمرين مساحة من التأثير في هذا الصدد، ولكن لا دليل واضحًا على تأثير مباشر لهما تجاه السياسي في المملكة. وأهميتهما لا تقارن بأهمية الدافع الثالث الذي له تأُثير مباشر في هذه المسألة، وهو يتمثل في الواقع الصعب للمرأة، الذي يظهر بتجدد ووضوح في كل مرة تقدم فيها الدولة على خطوات تنموية.

لقد نجحت المرأة السعودية في أكثر من صعيد تعليمي وطبي وثقافي وغيرها من أمور فُتح لها مسار فيها، بينما في ذات الوقت لا زالت هناك أمور لا تستطيع القيام بها على الإطلاق، وهناك أمور أخرى لابد من وكيل لها فيها، فهي تحتاج إلى ورقة من ولي الأمر فيما لو أرادت استخراج بطاقة هوية على سبيل المثال. بالإضافة إلى عدم وجود صياغة قضائية ومدنية متينة لحقوق المرأة، كقضايا مثل تحديد سن رشد قانوني للمرأة يمكِّنها من المثول كفرد مسؤول ومستقل بلا محرم، ومسألة زواج القاصرات، وحقها في حضانة الأطفال والخلاف الأسري وغيرها من الأمور.

المرأة التي يفرح البعض بأنها ستدخل إلى الحقل السياسي في الدولة، لا زالت غير قادرة على قيادة سيارتها، والذهاب لفتح متجرها الخاص الذي تشتري وتبيع فيه بنفسها، وهذا حق "طبيعي" لها في مستواه الاعتيادي، لا يقل بأية حال عن حق الرجل. وأية حقوق أخرى كالقول بالمشاركة السياسية وغيرها هي "ثانوية" أمام مثل هذا الحق الطبيعي والأساسي. 

والمرأة التي تمثل نصف المجتمع السعودي، لم تتمكن حتى الآن من الحصول على تمثيل وحضور إداري رفيع في الدولة، يتجاوز منصب مساعد الوزير. والسعوديات اللاتي يمثلن أغلب خريجي الجامعات السعودية، وبمعدل 56.5 % من الخريجين، لا يمثلن سوى 14% من حجم القوى العاملة في الدولة، بحسب دراسة صادرة في العام الماضي(1). وتذكر الدراسة نفسها أن عدد العاطلات عن العمل من حملة شهادة "الدكتوراه" بلغ الألف عاطلة. وهذا ما يوضح المسألة أكثر، وهو أن القضية ليست قضية كفاءة وتعليم، بقدر ما هي مسألة انعدام وانحسار المسار أمام كيان المرأة، أي أنّ الهيكلية والبنية التي يتم إعادة انتاجها في الدولة لا تهتم بها بشكل كاف، بما يناسب حجم وجود المرأة وقدراتها.

كما أن المرأة لم تصبح فاعلة وقادرة على بلورة هوية ومسار واضح لها، لكونها افتقدت ما افتقده الرجال من قبلها، وهو القدرة على تكوين جمعيات مدنية غير حكومية تساعد الناشطين، وتبلور الجهد، وتمكّن من تواجد مجموعات ضغط وتمثيل ومتابعة، عوضًا عن الاكتفاء بمراقبة وترصد ما يصدر من قرارات حكومية، قد تأتي لصالحها حينًا، وضدها في أحيان أخرى.

هذا بعض من جملة أمور شائكة تراكمت في طريق المرأة، وصعّبت أمامها تحقيق الذات وإثبات الوجود والتفاعل المجتمعي الخلاَّق. وهذا الوضع كان واضحًا أمام الحكومة السعودية التي حاولت  التخفيف من حدَّته عن طريق بعض القرارات السياسية، من ضمنها قرار الملك الأخير، وهو القرار الذي مع الاعتراف بكونه خطوةٌ إلى الأمام، إلا أن فحص الواقع الموجود يُرجح  صعوبة أن يكون له أثر عملي فاعل بالنسبة للمرأة فيما يتعلق بقضايا المساواة والحقوق. 

الأثر العملي المتوقع لهذا القرار من الصعب أن يكون لقرار انتخاب المرأة ومشاركتها، نتاج عملي فاعل على أرض الواقع، لكونه يأتي في وقت تقلصت فيه حظوظ المرأة، وتعذر فيه وجود حيز ومسار اجتماعي وسياسي لها، يمكن أن تُستثمرَ من خلاله مثل هذه القرارات. فحتى لحظة صدور هذا القرار، أتت محفوفة بأحداث من الواقع السعودي تتناقض مع رمزية القرار وقوة دلالته التغييرية؛ فبعد يوم واحد من صدوره، أصدر أحد القضاة في السعودية حكمًا بجلد فتاة سعودية بسبب قيادتها للسيارة. وتعليقًا على القرار الملكي، قال عضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالله المنيع: إن المرأة يجوز لها أن تدخل إلى مجلس الشورى على أن تجلس في "طابق آخر"، بينما صرَّح وزير العدل السعودي محمد العيسى أن المرأة ستشارك "بالصوت" في مجلس الشورى.

ضعف الأثر العملي لهذا القرار يكون متوقعًا لسببين: ضعف مكانة المرأة في بنية وهيكل التنظيم الاجتماعي والسياسي في الدولة، وتهميش الحس الشعبي والثقافي في السعودية لمجلس الشورى والمجالس البلدية، على اعتبار أنها مجالس "شكلية" غير مستقلة، ولا تمتلك قرارات مُلزمة.

إن ضعف مكانة المرأة أخذ يشتد بمرور الزمن عبر بوابة التشدد الديني والتهميش السياسي.. وهو ضعف ارتكز إلى بُعدين تاريخيين ترسَّم حضورهما في طبيعة المملكة، وهما: علاقة السياسي برجل الدين، وتأثير النفط.

فأولاً: قامت السعودية على التحالف الوثيق بين السياسي ورجل الدين، وهو تحالفٌ ارتكز إلى الشريعة، الأمر الذي أتاح مساحة واسعة لرجل الدين لرسم أدبيات المشهد الاجتماعي في المملكة، وقد تربعت المرأة على جوهر هذا المشهد؛ فتعطلت حظوظ المرأة تبعًا لهذه المعادلة التي وُلِدت ابتداءً عبر صياغة الفقيه، وقالبه الفقهي المغرم بتفصيلات التحديد والتحجيم. يذكر الباحث السعودي عبدالعزيز الخضر أنَّ تعطُّل قضايا المرأة في السعودية وتأخرها مردُّه إلى تباطؤ السياسي وعدم حسمه لقضاياها رغبة منه في إرضاء التيار الديني المحافظ، وكسبه إلى جواره. وهو أمر يؤكد الخضر تعذر استمراره كما كان في السابق، بسبب أن وضع المرأة بشكله التقليدي هو أمر لم يعد من الممكن قبوله في المجتمع الحديث(2).

ثانيًا: نظام الاقتصاد السياسي للملكة، وتحديدًا اقتصاد الريع النفطي، قد لعب دورًا في تهميش المرأة، وتضييق المساحات المفترضة لها للعمل والمشاركة. يشير الباحث محمد الرميحي إلى تبني الخليج لنظام أبوي بعد الريع(3). ودول الخليج، عمومًا، عُرف عنها أنها ذات طابع اجتماعي "أبوي" استنادًا إلى تركيبة قبلية ممتدة في هذه المجتمعات، من نتاجها تهميش الفرد والمرأة. وقد لعبت حقبة الريع النفطي دورًا رئيسًا في دعم وتكريس هذه الأبوية والسير بها إلى مراحل أعمق. 

إن الثقافة الدينية والنفط هما أبرز ملمحين للمملكة، وتشكلان مرتكزاً لوجودها. وقد لعب هذان البعدان أكثر من دور في خدمة المرأة السعودية، ومع ذلك بقيا مغلبين لجانب استبعادها. وليس من باب المصادفة أن الجامعات المتخصصة في هذين المسارين في المملكة (الجامعة الإسلامية وجامعة البترول والمعادن) لا يمكن للمرأة الالتحاق بهما. 

في دراسة له حول النفط والمرأة، يوضح أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة كاليفورنيا، مايكل روس، وجود علاقة سلبية بين النفط وحظوظ المرأة الاجتماعية والسياسية؛ فمنطقة الشرق الأوسط تعتبر من أكثر المناطق في العالم تأخرًا في مسألة مساواة وحقوق المرأة، وهذا الأمر، كما يجادل روس، لا يعود إلى ميراث ثقافة إسلامية كما يروج له الكثير من المعلقين في الغرب، وإنما إلى النفط(4). ويستنتج بأن فكرة "التنمية تدعم المساواة" لا تصح بكل حال، وإنما يعتمد الأمر على "نوع" هذه التنمية؛ فالتنمية التي تعتمد على الريع النفطي والمعادن تعقب خلفها مجتمعًا لديه أعراف وقوانين ومؤسسات أبوية قوية. ويبين الباحث أن أثر النفط على المرأة موجود في دول نفطية، من خارج منطقة الشرق الأوسط أيضا، مثل: نيجيريا وبتسوانا وروسيا وتشيلي.  

كما يدلل الباحث على نتائج دراسته عبر بيانات إحصائية توضح الارتباط القائم بين وجود النفط والتأثير على أنساق عمل المرأة وفرص تمثيلها السياسي؛ فظهور النفط قلَّل بشكل مباشر من نسبة وجود المرأة في القوة العاملة، وقوة صناعة القرار، وهو الأمر ملحوظ في المجتمعات الخليجية؛ فقبل حقبة النفط كانت المرأة جزءًا أساسيًّا من عملية الإنتاج الزراعي، والعمل التجاري، ولم تكن معزولة اجتماعيًّا بهذا الشكل الحاد، بل وفي بعض المناطق في السعودية لم يَسُدْ وينتشر أمر تغطية وجه المرأة إلا بعد عام الثمانين من القرن الماضي، وهي الفترة التي أتت بعد الثورة الإسلامية في إيران وحادثة الحرم المكي الشهيرة، التي ألقت بظلالها وقادت إلى مزيد من التحفظ. ومن المؤكد أن تقليل حظ المرأة من قوة العمل يقلل من فرصة تأثيرها على المستوى العائلي، على اعتبار أن الدخل دومًا ما يأتي من غيرها.

وهناك سبب آخر لتوقع ضعف الأثر العملي لقرار مشاركة المرأة في الحياة السياسية في المملكة، وهو أن هذه الميادين أو المجالس التي ستدخلها المرأة في المستقبل (بعد عامين للشورى، وبعد أربع سنوات للمجالس المحلية) هي مجالس ضعيفة في الأساس، ولا يوجد حس احتفاء شعبي أو قناعة واسعة بها في المجتمع السعودي. فالكثير يرى أن مجلس الشورى، والمجالس البلدية، هي مجالس شكلية ولا يصدر عنها قرارات قوية وملزمة على مستوى الدولة، ولا تقدم مساحة مشاركة وتفاعل وتأُثير يطمح لها المواطن. وهذا ما يفسر عزوف الناخبين السعوديين عن المشاركة في الدورة الثانية لانتخابات المجالس البلدية، مقارنة بعملية التسجيل والانتخاب في الدورة الأولى، وهو الأمر الذي يشير لإدراك الناخب السعودي لفشل هذه التجربة وعدم جدواها.

كما أن مظاهر الإحجام عن المشاركة في انتخابات المجالس البلدية في السعودية، أحاطت بوضوح بالعملية الانتخابية لهذه المجالس في دورتها الثانية التي جرت في أواخر شهر سبتمبر/أيلول الماضي، بدءًا من ضعف تسجيل الناخبين الجدد، وصولاً إلى قلة أعداد المترشحين؛ فعلى سبيل المثال، بلغ عدد المترشحين في الدورة الثانية للانتخابات المحلية بجدة 124 مرشحًا فقط، بينما في الدورة الأولى كان عدد المترشحين أكثر من أربعة أضعاف هذا الرقم. كما أحجم 95% من أعضاء المجالس الحالية عن إعادة الترشح؛ مما يؤكد ضعف الإيمان بالتجربة ممن هم قريبون منها. بالإضافة إلى ضعف الإقبال على التصويت، وبحسب الإحصائيات الصادرة عن اللجنة العامة للانتخابات، فقد بلغ أعداد المصوتين في انتخابات المجالس المحلية الأخيرة 432559 ناخبًا، من إجمالي قرابة ثلاثة ملايين مواطن يحق لهم المشاركة في التصويت، مما يعني أن نسبة المشاركين في التصويت لا تتجاوز الــ 14% من إجمالي من يحق لهم المشاركة.  

مناطق إصلاحية منتظرة

إن مقاطعة انتخابات المجالس البلدية لم تكن فقط تجاهلاً من رجل الشارع العادي، أو تهميشًا من قبل قوى مثقفة وإعلامية في الدولة تبعا لضعف أثر هذه التجربة، بل كانت أيضًا مقاطعة مقصودة ومخططًا لها منذ أشهر عبر تبنيها من قبل مجموعة شبابية وثقافية ناشطة قامت بإصدار "إعلان مقاطعة الانتخابات البلدية السعودية" في مايو/أيار الماضي. وكتبت المجموعة في هذا الإعلان أنها تقاطع الانتخابات البلدية لكونها بصيغتها الحالية لا تلبي طموحات "التوسع في المشاركة الشعبية في صناعة القرار، المعبّر عنه في البيانات الإصلاحية المتعددة والذي يشمل انتخاب برلمان بكامل أعضائه، له صلاحيات تشريعية ورقابية واسعة، ويلبي التعطش الشعبي لممارسة ديمقراطية كاملة ومؤثرة".

يتركز خطاب الإصلاحيين في المملكة، كما يتضح من بيانات صدرت عنهم هذا العام، حول عدة مواضيع، من أبرزها: البطالة والإسكان والإصلاح المؤسسي والمشاركة الشعبية بالإضافة إلى قضية معتقلي الرأي والسجناء من دون محاكمة. ولا يرى هذا الخطاب الإصلاحي في كثير من القرارات السياسية التي صدرت في المملكة أنها قرارات مشاركة حقيقية؛ ولذا فالقرار الأخير تجاه مشاركة المرأة، لم يواكبه احتفاء إصلاحي في الدولة، لأن تجربة المرأة ستتجه في هذه المجالس إلى ما وصلت إليه تجربة الرجل من قبل؛ ما أدَّى إلى إدراك ضعف فاعليته. كما أن القرار قد أتى في وقت كانت هذه القوى الإصلاحية تتوق إلى توسعة صلاحيات هذه المجالس، وجعلها مستقلة ومنتخبة بالكامل.  

إن انعدام المسار والحيز التفاعلي لكيان المرأة يجعل القرارات الداعمة لها مشابهة للمركبة التي لا مسار أمامها، فلا تملك سوى خيار الوقوف والمراوحة في ذات المكان. ويبدو أنه يبقى من الصعب تفعيل القرارات الداعمة واستثمارها في واقع معطَّل، تكون النخب هي الملومة والمسؤولة عن عطالته، وبالأخص النخب السياسية والدينية.

لم تستطع المرأة السعودية أن تتكتل وتتكوّن هوية نضالية حاشدة في السعودية بسبب انعدام المسار والحيّز. والعقبة أمام المرأة في بلورة هذا المسار تتمثل في النقطتين اللتين أشرنا إليهما سابقًا: الفكر الديني في الدولة، والنظام الاقتصادي السياسي فيها.

ولتجاوز هذه العقبة، يكون الخيار الناشط والثقافي المناسب للمرأة، خيارًا إصلاحيًا في المقام الأول. فتمثل المرأة للمطالب الإصلاحية التي بدأ نشاطها يظهر بوضوح في السعودية خلال السنوات الأخيرة، سينشئ تغذية متبادلة بين الخط الإصلاحي وجهد المرأة في سبيل تحصيل حقوقها. والمطالب الإصلاحية تهدف إلى إنجاز مؤسسي وقانوني في المملكة، وتحرص على مسألة تجديد الفكر الديني، باعتباره بوابة لازمة للتغير الثقافي والمجتمعي. وخيار الملكية الدستورية، على سبيل المثال، سيمكِّن من انفتاح البِنى الثلاث على بعضها (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية)؛ مما يقود إلى إعادة مأسسة وصياغة القوانين والتنظيمات بطريقة جديدة، من الممكن جدًّا جعلها تعتمد حضور المرأة بشكل واضح ومعتبر، لا على الهامش كما هو الآن.

 نلخّص بأنّ المرأة لن تتمكن من النجاح ومن إيجاد مسار لها، مالم يكن لها صوت حاضر وفاعل مشارك من الداخل في هذه المؤسسات، يساعد على الدفع باتجاه تجديد التفكير الديني، وعلى تمثل صيغة مناسبة للاقتصاد السياسي في الدولة يتأكد من خلالها دور الفرد المواطن، رجلاً و امرأة. والنجاح للمرأة في اختراق هذين البعدين، قادر على أن يلقي بظلاله التغييرية على البعد الاجتماعي وأنظمة العلاقات فيه؛ ومن ثَمَّ، إعادة تشكيلها بطريقة جديدة يكون الجميع رابحًا من خلالها.

_______________
عبدالعزيز الحيص- كاتب وباحث سعودي

المصادر

1- Dr. Mona Almunajjed. 2008. "Women’s Employment in Saudi Arabia, a Major Challenge". Ideation center insight. إضغط هنا.
2- عبدالعزيز خضر. 2011. السعودية: سيرة دولة ومجتمع، قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية. الطبعة الثانية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر. ص 287
3- محمد الرميحي. 1995. الخليج ليس نفطًا. دار الجديد. ص 66-67.
4- Michael L. Ross. 2008. "Oil, Islam, and Women". American Political Science Review.  Vol. 102, No. 1.  February 2008 . إضغط هنا.

ABOUT THE AUTHOR