"ثمة عدد قليل من الدول، خارج إقليمنا المباشر في جنوبي وشرقي إفريقيا، حظي بزياراتنا المتكررة منذ إطلاق سراحنا من الاعتقال، في مقدمته الجماهيرية العربية اللييبية الشعبية الاشتراكية العظمى. وقد جاءت تلك الزيارات المتكررة لتعكس مشاعرنا تجاه فخامة الأخ القائد وتجاه شعب ليبيا العظيم. فلن ننسى أبدا المساندة الليبية المادية والمعنوية لكفاحنا ضد نظام الفصل العنصري. وسيظل هذا في ذاكرتنا داعما لتخفيف مأزق أشقاءنا في ليبيا".
نيلسون مانديلا(1)
لم يحتفظ شعب جنوب إفريقيا بأي قدر من المشاعر السلبية تجاه القذافي، بل اعتاد احترامه كأخ ورفيق كفاح. فقد لعب القذافي دورا كبيرا في تحرير شعب جنوب إفريقيا من قهره. فقد كانت مساعداته العسكرية والمالية تبث الروح والعزم في ثورة جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصري. وبالنسبة لمواطني جنوب إفريقيا ممن عانوا من ممارسات الحزب الوطني ذي النزعة النازية الجديدة، كان يصعب عليهم فهم إيجاد موائمة بين موقف بلادهم التي كانت تقدم الشكر الواجب لليبيا من قبل زعماء حكومة المؤتمر الوطني الإفريقي، وبين موقفها الجديد تجاه قرار مجلس الأمن 1973 حين وافقت بلادهم على فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا، وهو الأمر الذي كان يعني ضمنيا الموافقة على إتاحة الفرصة لتسلل غير قانوني لقوات أجنبية عبر حدود دولة ذات سيادة.
وفي الورقة التي بين أيدينا لن نتعرض لتصويت جمهورية جنوب إفريقيا لصالح فرض منطقة حظر جوي قبل أن نلقي نظرة على ما تجاهله بعض المحللين من مواقف لا تقل أهمية، في مقدمتها ذكريات التضامن المشترك، التي ألمح إليها الرئيس السابق نيلسون مانديلا.
يحسن بنا في البداية أن نأخذ في الاعتبار تحليل تصويت جنوب إفريقيا لصالح فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا ضمن سياق تاريخ هذه الدولة مع نظام الفصل العنصري. ففي خضم كثير من التحليلات لم يلتفت كثيرون لهذا الموقف خلال تقييمهم لردود الأفعال التي اتخذتها جمهورية جنوب إفريقيا تجاه الأزمة في ليبيا، وليس منطقيا الاستمرار في هذا التجاهل في ظل هذا الهجوم الخارجي المفرط على التراب الإفريقي وما أدى إليه من نتائج كارثية على دولة إفريقية تمثلها ليبيا وما له من تداعيات على الأمن الإقليمي والقاري.
فعندما اتخذت جنوب إفريقيا هذا الموقف الذي ساهم في صنع قرار مجلس الأمن، كانت تناقض نفسها وتعرض نفسها لمخاطرة تجاهل سياساتها الخارجية لذلك التقدير والاعتراف بالجميل لما تلقته من دعم من جيرانها وأصدقائها الأفارقة. لقد كانت نقطة انطلاق جنوب إفريقيا إلى المقعد غير الدائم في مجلس الأمن رفيع المستوى تتمثل في المشاركات متعددة الأطراف مع الدول الإفريقية ومع دول الجنوب، وليس مع الغرب. حيث تدين جنوب إفريقيا بولائها لهذه الدول، وليس لعلاقاتها مع الدول الغربية سريعة التدهور.
لقد أعد مؤتمر باندونغ في 1955، وما ترتب عليه من ظهور حركة عدم الانحياز، جنوب العالم للمرحلة التي نعيشها اليوم، التي تنتقل فيها مراكز القوى والنفوذ إلى العالم النامي. ونحن الآن في أمس الحاجة إلي تلك الشجاعة التي تعامل بها ما كان يسمى حينئذ بالعالم الثالث مع قضايا العالم في مؤتمر باندونج، وليس التراجع إلى حالة الخضوع الذي رأيناه في موقف جمهورية جنوب إفريقيا ونيجيريا والغابون في مجلس الأمن، حين وافقت على فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا، وما أدى إليه ذلك من تداعيات.
وينبع خطر انحياز هذه الدول الإفريقية إلى الثلاثي الاستعماري الذي تمثله فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة من حقيقة أن مصالح القوى الثلاثية تعلو دوما فوق أي عمل من الأعمال التي يزعمون أنها ذات هدف إنساني. ولسنا في حاجة لأن نتذكر أن الإمبراطوريات الغربية قد بنيت على أكتاف وجماجم المستعمَرين، ولا تزال تبعاتها مستمرة. ويمثل "تحقيق السلام والديمقراطية" الأدوات الفاعلة للإمبراطورية الساعية إلى ترسيخ أقدامها في السلطة.
لقد كانت ليبيا فرصة ذهبية لم تفوتها الإمبريالية، ويجب أن تكون جنوب إفريقيا حريصة ألا ينتهي الأمر بتدمير شامل لتلك الدولة. فلا بد أن يعود الحنين، ونشعر بافتقاد رفقاء السلاح القدامى والحاجة الماسة إليهم، عندما يبدأ الغرب في إشباع شرهه الذي لا يشبع من موارد الطاقة في الدول الأخرى. وسيكون هذا بمثابة نقطة انطلاق للكثير من الحوارات المقبلة، عندما يصبح تكوين الشراكات الإفريقية الإستراتيجية ضروريا للحماية من المزيد من تدخل الغرب، حين يكون تدخله أسهل وأسرع في الأقاليم الأضعف عسكريا من ليبيا.
لقد أصبح الوقت متأخرا جدا لمناقشة دور جمهورية جنوب إفريقيا كدولة رائدة ومتزعمة لجدول أعمال مستقبل القارة الإفريقية. بل ومن المتأخر للغاية أن نعتبر أن هناك في الأساس جدول أعمال إفريقي. إذ أن عدم وجود سياسة خارجية محكمة لأكبر منظمة إفريقية ـ الاتحاد الإفريقي ـ وفقدان جنوب إفريقيا لبوصلة اتجاهها داخل مجلس الأمن قد أبطل جدوى الرابطة الإفريقية. وتُرجم كل ما سبق في الأزمة الليبية التي تحولت معها ليبيا إلى مجرد مدفن للديون العسكرية للولايات المتحدة وأوروبا الغربية. قد تنجح الحرب في ليبيا في وضع قناع المساعدة الإنسانية، ولكن مع مرور الزمن وتكشف الأحداث، سيسقط ذلك القناع، وستندلع الثورة الحقيقية.
وبدهي أن المصلحة الذاتية التي تنطلق منها جميع الدول هي الدافع الرئيس لغزو الغرب لليبيا وإفريقيا، وللأسف كانت هذه المصلحة هي أيضا التي تحرك الجامعة العربية كما حركت جمهورية جنوب إفريقيا. وقد لا يدرك الشعب الليبي ولا الشعب الإفريقي خبايا هذا الأمر حاليا، ولكن بمجرد أن تطأ أولى أقدام المؤسسات الأوروبية الغربية والأمريكية الأرض وحقول النفط، وإخضاع الشباب الليبي القادر والمتحمس واستلابه في إعادة البناء بعد الحرب، فسوف تظهر الحقيقة، وعندئذ فقط "لن يتم الإعلان عن الثورة في وسائل الإعلام"(2)، بل ستلتهم الثورة كل شيء.
وقد بدأت بوادر الأزمة تظهر بين الأفارقة السود والعرب. ولدينا من ذكريات التاريخ ما يسرد لنا كيف حدث مثل هذا الغزو من قبل، عندما قامت القوى الاستعمارية السابقة(فرنسا وبريطانيا، وحتى أمريكا) بحفر قبور جماعية وملأتها بجثث السود والعرب في حوادث ووقائع أخرى.
وغني عن البيان أن الحروب ليست سوى مشروعات لديها القدرة على تجديد نفسها تلقائيا، حيث يتم تصميمها وإدارتها من أجل استغلال الوقت والفرص وضمان الحاجة إلى الدول التي تشعلها. وعلى نحو ما يذهب محمود ممداني فإن "الحرب تدعم مصالح عديدة" كما أن "لكل حرب معمل اختبار لجيل جديد من الأسلحة".(3) والحرب في ليبيا لا تختلف عن ذلك. فقد استخدمت الإمبراطورية الحرب من زمن بعيد لتفرض على العالم الحاجة إليها، وخاصة العالم الثالث.
وقد دبر ساركوزي حرب ليبيا بغطرسة مطلقة. وتعتبر حجج محمداني بشأن دوافع الرئيس الفرنسي حججا بالغة الدقة. إذ يذهب محمداني إلى أن ساركوزي بعد محاولات فاشلة في مساعدة زين العابدين بن علي في إخضاع الجماهير التونسية الثائرة، قام بتوفير "نفس خبرات قوات الأمن الفرنسية(التي كانت تقمع التونسيين من قبل) لإنقاذ المواطنين المتمردين في بنغازي أثناء ذروة غزو الناتو".(4).
ومن جانبه، هيأ أوباما الفرصة للحرب ليثبت أنه أيضا يستطيع حمل رسالة أسلافه، تلك الرسالة المتمثلة في فرض الحاجة إلى الوجود الأمريكي على العالم. ولم تكن أمريكا تستطيع تحقيق ذلك إلا من خلال إدارة حالة الحرب. فالولايات المتحدة تحتاج إلى اختراع عدو حتى تثبت وجودها. وكان القذافي شيطانا بديلا مناسبا للأعداء الذين لم يعد لهم وجود الآن، كصدام حسين في العراق والقاعدة في أفغانستان. وطالما أن أوباما قد يبدو بطلا لدى من يؤمنون بالأسطورة المتكررة لشجاعة أمريكا وحلفائها الأوروبيين الغربيين، سيكون هناك سود وعرب يذكرونه على أنه أول رئيس أمريكي أسود يشن حربا على قارة أغلب سكانها من السود وثلثي سكانها من المسلمين لكي يضمن الحاجة إلى البيض وخططهم الشيطانية تجاه الشعوب صاحبة البشرة السوداء.
وكذلك يراهن الساسة الأفارقة والعرب على الحاجة إليهم، من خلال نفس الأساليب التي تفضي إلى اغتيال السلام. ولا تمثل جمهورية جنوب إفريقيا استثناء من نفس النقد الموجه إلى هؤلاء الساسة وتلك الدول. لقد كان من المتوقع أن تتزعم حكومة جنوب إفريقيا ـ من مقرها في مدينة تسواني(5) ـ تكوين جماعة ضغط سياسية لإصلاح مجلس الأمن(ذي التوجه والخطط الغربية)، غير أن هذا المسعى تعثر في اختباره الأول في الأزمة الليبية حين فشل في حماية الأمن الإفريقي من الاعتداءات الغربية.
وطالما أن جنوب إفريقيا ستحاول الاعتراف في المستقبل بأخطائها من أجل الخلاص، ولو حتى لإنقاذ سمعتها كصانع للسلام ووسيطه الأول في إفريقيا، فلن تغفر لها كتب التاريخ أنها كانت مزود وقود لحرب الناتو، بتأييدها للقرار 1973 الذي خوّل الغرب ضرب ليبيا وانتهاك سيادة أراضيها.
وبعد موقفها في الاصطفاف الموسمي العابر مع بريطانيا وفرنسا وأمريكا في استهداف دولة ذات سيادة تحت قناع حماية المدنيين، سنحتاج إلى مصادر من سجلات السير الذاتية للحروب الإفريقية والعربية لتخبرنا بمدى الحاجة الماسة التي تعوزها جنوب إفريقيا لإثبات جدارتها من جديد في السياسة الإفريقية والعالمية.
ومع ذلك، لا تعتبر السياسات الليبية إفريقية فحسب، وبالتالي لا يمكن حلها عن طريق "حل إفريقي". فقد لاحظ فيستوس أبواجيي من معهد الدراسات الأمنية أن "الاضطرابات في إقليم اتحاد المغرب العربي تفرض أعظم تحد أمام شرعية وملاءمة الاتحاد الإفريقي"(6). ولذلك يجب على جنوب إفريقيا والاتحاد الإفريقي أن يتساءلا عن مدى ملاءمة ما لديهما من خرائط طريق لتحقيق السلام والاستقرار في دولة عربية مقسمة سلفا على أسس قبلية بالغة الحساسية.
ولكن ما حجم الدور الذي ترى جمهورية جنوب إفريقيا أنه بوسعها أن تلعبه في صنع السلام في ليبيا، بالرغم من تباعد البلدين، ليس جغرافيا فحسب، ولكن أيضا من حيث مستويات الهوية الاجتماعية السياسية والمصالح الوطنية؟ إذا اعتبرنا الإجابة حاضرة في مساندة جنوب إفريقيا لمجلس الأمن في القرار 1973، فإن هذا الدور ضعيف أو منعدم في أحسن الظروف، وتخريبي في أسوئه. وهكذا أدت محاولة جنوب إفريقيا لفرض وجودها في مجلس الأمن إلى نزع الشرعية عنها كرائدة لمسيرة الركب الإفريقي، ولكنها يمكن أن تكون قد ضمنت لها مقعدها المؤقت المرغوب في مجلس الأمن، والذي يمكن أن يتحول إلى مقعد دائم، ولكنه سيكون عديم الجدوى رغم ذلك.
لقد وضعت مجريات التاريخ حكومات جنوب إفريقيا الثلاث، منذ القضاء على نظام الفصل العنصري، أمام حتمية التعامل مع القذافي بدرجة أو بأخرى. وكانت إستراتيجية كل حكومة منها فريدة وتعتمد على أولويات آنية تراعي مصالح جنوب إفريقيا.
ونأمل في المقال الذي بين أيدينا أن نلقي بعضا من الضوء على الاتجاه الذي يجب أن تسلكه جنوب إفريقيا في علاقاتها مع شمال إفريقيا والشرق الأوسط في سعي هذه الأقاليم نحو المسار الديمقراطي الجديد. وفي هذا المقال، سيعتمد تحليلنا للنهج الدبلوماسي لجمهورية جنوب إفريقيا على مراجعة المسار الذي اتخذته حكومتا مانديلا ومبيكي على مقال علمي كتبه في 2004 البروفيسور إقبال جهازبهاي من جامعة جنوب إفريقيا. إذ أنه خبير في السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا تجاه شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
مانديلا وليبيا.. رفقاء السلاح
بذل الرئيس الأسبق نيلسون مانديلا جهدا حثيثا لتخطي الحواجز الجيوسياسية الكبيرة المفروضة بسبب الحدود الاستعمارية، وامتداد الصحارى الكبرى بين شمال القارة وجنوبها، والعلاقات الوثيقة لليبيا مع إيطاليا وبقية أوروبا. ويوضح جهازبهاي ـ في دراسته المشار إليها سلفا ـ أن التقريب بين دول تقع على طرفي القارة الشمالي والجنوبي يتطلب "مقاربة حذرة وحساسة تجاه أية مخاوف من الغطرسة أو الاستعلاء".(7) ولذلك يبدي جهازبهاي إعجابه بمنهج مانديلا الذي كان "مولعا بإزعاج الولايات المتحدة عبر الإبقاء على ولائه لأصدقائه من غير المرغوب فيهم من قبل واشنطن. وكان القذافي في مقدمتهم".
ويشير جهازبهاي أيضا إلى إسهام مانديلا في رفع عقوبات الأمم المتحدة على ليبيا، عقب تفجير لوكريي في 1988، وفي بناء اتحاد وثيق العرى مع ليبيا. بل إنه يوضح أيضا المدى الذي قطعه مانديلا لكي "يخرج" ليبيا من العزلة الدولية. ويعدد جهازبهاي جهود مانديلا على النحو التالي:
تعيين جاك جيرويل للتفاوض المكثف مع القذافي للتوصل إلى حل لقضية لوكريي؛ التعاون مع المملكة العربية السعودية لإيجاد مخرج من الأزمة، وهو التعاون الذي نجح في النهاية في إقناع القذافي بتسليم المتهمين، عبد الباسط المقرحي والأمين خليفة فحيمة، لمحاكمتهما في لاهاي؛ الإصرار على أن ترفع الأمم المتحدة عقوباتها عن ليبيا خلال تسعين يوما من تسليم المتهمين، وضمان حماية الحقوق الإنسانية للمقرحي وفحيمة خلال فترة احتجازهما.
وتعكس دبلوماسية مانديلا تجاه ليبيا ـ كما وضحها جهازبهاي ـ العرفان الحقيقي من جانب حزب المؤتمر الوطني الإفريقي تجاه طرابلس لمساندتها في كفاحه ضد نظام الفصل العنصري. وقد بدأت مساعي حكومة مانديلا نحو الوحدة الإفريقية في وقت كانت فيه جمهورية جنوب إفريقيا تعيد تقديم نفسها إلى المجتمع الدولي وتحولها من دولة منبوذة معادية إلى دولة تضع احترام حقوق الإنسان في صميم سياستها الخارجية.
على هذا النحو كانت دبلوماسية مانديلا تجاه ليبيا تتجاوز مجرد المواقف التي تبرر التحالف بين الدول. ورفعت هذه المواقف الشجاعة والجريئة الدعوة إلى الوحدة التي كان يحظرها المستعمرون المتخوفون من إمكانات هذه الوحدة وقدرتها على زعزعة أسس الإمبراطورية.
مبيكي وليبيا: للسفينة ربان واحد (8)
"بينما نقف هنا اليوم ... فإننا لا نحتاج إلى أن يعلمنا أحد أن ما شهدناه ولا نزال نشهده في دولة ليبيا الإفريقية لا يعدو أن ينبئنا بالمستقبل التعيس البائس لشعوب إفريقيا، والتي ضحى أسلافنا بأرواحهم للدفاع عنها، عندما استغلت القوى الأوروبية في قرن سابق تفوق أسلحتها لإخضاعنا، والاستيلاء على ممتلكات بلادنا وقارتنا، مؤكدين ادعاءهم بأن يكونوا سادتنا الإمبرياليين والاستعماريين".
ثابو مبيكي(9)
لعل أحسن وصف لعلاقة مبيكي بالقذافي هو اعتبارها علاقة صراع على من يملك زمام الاتحاد الإفريقي. إذ كان صراع القوة الذي نشب بين القائدين واضحا لدى السياسيين التابعين لهما، كما صرح مبيكي مؤخرا. فعندما كان مبيكي يتحدث عند إزاحة الستار عن النصب التذكاري لقبر المفكر والمناضل الجنوب إفريقي تيو سوجا Tiyo Soga، اعترف بقوله: "كانت علاقتي سيئة جدا مع القذافي عندما كنت رئيس جنوب إفريقيا، والسبب هو أن الليبيين كانوا يقومون بأعمال خاطئة في كل أنحاء القارة".(10) ومن الجدير بالذكر أن مبيكي لم يكن يتحدث عن عامة الشعب الليبي، بل كان يشير إلى القذافي وحاشيته.
وكانت برودة العلاقات بين ليبيا وجنوب إفريقيا في ظل إدارة مبيكي بسبب الاتحاد الإفريقي نابعة من محاولات مبيكي صد دبلوماسية "دفتر الشيكات" عند القذافي، والتي كان يستخدمها "ملك ملوك إفريقيا" الطموح كوسيلة لتحقيق نفوذ تراكمي قوي لحفر هذا اللقب المزعوم كنقش على الصخر. وكذلك كان التوتر القائم بين رئيسي هذين البلدين المشهورين بالعناد نابعا من الرغبة الأنانية البحتة للاستئثار بمتعة المديح على أنه مهندس الأطر والسياسات والأهداف الجديدة للاتحاد الإفريقي. فبينما كان مبيكي يطرح "النهضة الإفريقية" واتفاقية نيباد، كان القذافي يحشد الدعم لمشروع "الولايات المتحدة الإفريقية" والعملة الإفريقية الموحدة، التي كان لا بد أنه سيسيطر عليها لاحقا.
ويقول جهازبهاي عن توتر العلاقات بين جنوب إفريقيا وليبيا بعد خروج إدارة مانديلا إن "أفضل مثال لوصف المقاربات المختلفة لدى مبيكي ومانديلا يتمثل في ثنائية "الترغيب والترهيب" حيث كان مانديلا يروض القذافي ويعيده إلى المجتمع الدولي بسلاسة، بينما كان مبيكي يخوفه من بعض الحقائق الداخلية المرتبطة بالتداعيات السلبية على إفريقيا جراء رطانة خطبه الثورية وسلوكياته غير المتوقعة ".(11)
وبالطبع لم يتقبل القذافي "الكلام الصريح" من مبيكي بصورة ودية، مما جعل مبيكي يحتل رأس قائمة مشاكسي القذافي باعتباره "العدو رقم واحد". وبالرغم من الاختلافات بين الاثنين، وقد أصبح كلاهما خارج السلطة، إلا أن مبيكي كان يحاول أن يستشرف الغد من خلال الستار الذي فرضه الثلاثة الكبار في مجلس الأمن والناتو، والذي كان يؤشر على أن الاحتلال الجماعي الغربي الفعلي لليبيا المستقلة يلوح في الأفق.
ويرى مبيكي أن النظام العام الذي سمح للقذافي بالاستمرار في الحكم لاثنتين وأربعين سنة كان نظاما معيبا، ودوما ما كان مبيكي يطالب بحق الشعب الليبي في تقرير مصيره السياسي. ومع ذلك، كان مبيكي يقول إبان غارات الناتو على ليبيا "إن ادعاء الأمم المتحدة بأن القذافي كان يخطط لإبادة آلاف المدنيين في بنغازي كان "كذبة" استخدمت لتبرير فرض حظر طيران فوق ليبيا ... فقد تم الترويج لقصة تدعي أن القذافي كان سيقوم بالهجوم على بنغازي وقتل آلاف الناس. وهناك الآن منظمات دولية موثوقة السمعة تقول إن كل هذا كان ضربا من "الكذب".
ويثير العديد من النقاد في جمهورية جنوب إفريقيا شكوكا حول القرار 1973 بنفس قدر الشكوك التي تجمعت لدى مبيكي بشأن المعلومات التي قدمتها وسائل الإعلام، واعتمدت عليها وتبنتها الدول الثلاث الكبار في مجلس الأمن والناتو لتبرير قصف ليبيا. ومع ذلك، يبدو أن التصويت لصالح عمل عسكري بهذه الطبيعة التدميرية والتخريبية يعني ضمنيا أن الدبلوماسيين في المستويات العليا وكأنهم يملكون معلومات غير متاحة للعامة مثل مبيكي وبقية مواطني جنوب إفريقيا.
زوما وليبيا: إمساك العصا من المنتصف
لا يزال الناس في جنوب إفريقيا منقسمين حول المسألة الليبية. إذ أن رئيسة المؤتمر الوطني الإفريقي، باليكا مبيتي،(12) كانت من بين الذين يمدحون تصويت جمهورية جنوب إفريقيا لصالح فرض منطقة حظر جوي استجابة إلى النداء العاجل لمنع المذابح المتوقعة من قوات القذافي.
وتدافع مبيتي عن الحكومة التي يقودها المؤتمر الوطني الإفريقي ضد الانتقادات التي يوجهها المحللون في جنوب إفريقيا، لإيجاد مفر من تداعيات اتباعها سياسة خارجية مضطربة تتناقض مع مبادئ وأهداف واستراتيجيات مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقي.
وكان رد مبيتي الحاسم على هذا الانتقاد كما يلي:
"كانت مساندة جنوب إفريقيا لقرار فرض منطقة حظر جوي على ليبيا مبنية على حقيقة أن هذا القرار جاء بناء على طلب من الجامعة العربية التي تعتبر شريكنا التاريخي والأخوي في كفاحنا المستمر من أجل تأسيس نظام عالمي يقوم على العدل والمساواة".(13)
وانتقدت مبيتي بنفس الطريقة "ضعف اتحاد المغرب العربي(14)" الذي أدت مواقفه الواهنة إلى ضياع ليبيا"، مضيفة أنه "لو كان لدى شمال إفريقيا مجموعة اقتصادية إقليمية تعمل بكفاءة واقتدار، لاستطاعت هذه المؤسسة أن تقود القارة والعالم في التعامل مع مواقف الأزمات في ذلك الجزء من العالم، وفي مقدمته ليبيا".
وتتسم عبارات مبيتي بالتناقض، وتمثل نموذجا للإحباط الأكبر الذي يواجهه من يتناول السياسة الخارجية المهتزة لجنوب إفريقيا. وكذلك فإن إشارات مبيتي إلى الشرق الأوسط على أنه "ذلك الجزء من العالم" وكذلك اعتبارها ليبيا ضمن "ذلك الجزء من العالم"(أي الشرق الأوسط) تشير إلى التباعد السياسي الذي تدركه هي والحكومة في تسواني بينهم وبين ليبيا.
ويبدو أن هذا الانفصال يوفر ملاذا آمنا لجنوب إفريقيا عندما تصبح حكمة سياستها الإفريقية موضع تساؤل. إذ أن ليبيا تنتمي إلى الشرق الأوسط أكثر من انتمائها لإفريقيا، ولذلك لا يمكن لومنا على أي شيء يحدث "هناك". وهكذا فإن مفهوم "نحن وهم" يبدد مباشرة أسطورة الوحدة الإفريقية التي أعادت جنوب إفريقيا وضعها ثانية في مقدمة سياستها الإفريقية عند إصدارها مؤخرا للورقة البيضاء لوثيقة سياستها الخارجية.
ويستند الجنوب إفريقيون المناهضون لتبني حلف الناتو تدخله في دولة ذات سيادة مثل ليبيا على موقف ينطلق من شكوك مؤكدة ومبررة تجاه الخطط المستقبلية للغرب تجاه إفريقيا. حيث تساءل آدم حبيب ـ نائب مستشار البحث والتطوير بجامعة جوهانسبرغ ـ عن مدى تجانس رد فعل جنوب إفريقيا تجاه الأزمة، خاصة أن جنوب إفريقيا أيدت القرار في البداية، ثم عادت تنتقد التحالف بعد ذلك"(15). فكما فعلت مبيتي، أشار حبيب أيضا إلى رواندا والعراق على أنهما حالتان شعرت تسواني بالتزامها بمراعاتهما عند تأييد القرار 1973.
وتبرر مبيتي وحبيب فرض منطقة حظر جوي بأنه كان الوسيلة الوحيدة المتاحة لجنوب إفريقيا وشركائها في مجلس الأمن لمنع النتائج الكارثية التي شهدتها رواندا عندما فشل المجتمع الدولي في العمل ضد أنظمة تقضي على مواطنيها بصورة منهجية. ومع ذلك، نجد أنهما يعترفان بأن هناك قلقا من احتمال أن تعاني ليبيا من نفس حقائق العمليات الأرضية في العراق.
ولا يزال اتحاد شباب المؤتمر الوطني الإفريقي حتى الآن واحدا من أشد نقاد مساندة المنظمة الأم ـ المؤتمر الوطني الإفريقي ـ لفرض الحظر الجوي. حيث يتساءل الاتحاد عن أسباب عدم اتخاذ جنوب إفريقيا لموقف حلفاؤها في مجلس الأمن(روسيا والصين) ، بالامتناع على الأقل عن التصويت.
وكان العنصر الآخر الذي أثاره اتحاد شباب المؤتمر الإفريقي هو اتهام حكومة بلاده بالرياء والتملق، فلماذا سكتت بلادهم عما جرى من حملات ضد الإنسانية في حالات مشابهة، على نحو ما حدث من قمع الثورات الشعبية في البحرين واليمن؟ والتي تجاهلها مجلس الأمن، كما فعل في مصر.
وكانت وجهات نظر الاتحاد كما يلي:
"من الواضح أن قوى معينة، خاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، تريد فرض حكومة صورية في ليبيا حتى تستطيع السيطرة على مصادر الطاقة والاحتياطيات النفطية في تلك البلاد، كما فعلت الولايات المتحدة من خلال حرب غير شرعية شنتها ضد العراق في 2003"(16).
وتعهد الاتحاد بأن يثير مخاوفه من السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا مع قسم العلاقات الخارجية والتعاون الدولي، لكي يتأكد من أسباب قيام الدولة بالإضرار عمدا بموقفها في القارة لدرجة اعتبارها وسيطا للإمبرياليين.
وفي السابع عشر من مارس 2011، أي يوم تبني مجلس الأمن القرار 1973 بامتناع الصين وروسيا عن التصويت، ادعت جنوب إفريقيا أنها "لم تستطع أن تقف صامتة، أو أن تظهر على أنها لا تفعل شيئا في مواجهة الأعمال الخطيرة للعنف الذي ترتكبه الحكومة الليبية ضد المدنيين الأبرياء.
وبمجرد أن عصفت الضربات الأولى بليبيا، انطلق زوما في رحلة إلى العاصمة طرابلس بصفته رئيس بعثة الاتحاد الإفريقي إلى ليبيا لترويج خطة الاتحاد الإفريقي(17) التي تشمل اقتراح وقف إطلاق النار لحل الصراع. وخلال أربع وعشرين ساعة من الاجتماع مع القذافي وإعلان "نجاحه الضخم" في مؤتمر صحفي، قال قائد المتمردين مصطفى عبد الجليل في مؤتمر صحفي عقب المناقشات في بنغازي: "إن مبادرة الاتحاد الإفريقي غير مقبولة لأنها لا تشمل رحيل القذافي وأبنائه من الساحة السياسية الليبية".(18)
وفي محاولة لإنقاذ ماء الوجه، اجتمع الاتحاد الإفريقي في مالابو في غينيا الاستوائية من أجل قمته السابعة عشر(19) ليعلن "أن محادثات بشأن الأزمة الليبية وشيكة الانعقاد"، كما ورد في بيانه الصحفي.
ويعتبر عقد محادثات للإعداد لمحادثات أمرا تقليديا في حالة الأزمات في الاتحاد الإفريقي. حيث يقوم الحكام الطغاة بإصدار تصريحات بدون مضامين، وينتظرون أيضا رياح التغيير الباردة التي تطيح بهم في غياهب النسيان.
وندد تيودور أوبيانغ ـ رئيس غينيا الاستوائية، ورئيس الاتحاد الإفريقي في دورته الحالية ـ بالتدخل العسكري للناتو لأنه "يسبب كارثة شاملة" و"يؤدي إلى تعقيد وتدهور الصراعات العالمية". وبعد قمة الاتحاد الإفريقي غير المثمرة، أكد مكتب زوما في الثالث من يوليو 2011 التحضير لعقد لقاء في موسكو بين الرئيس زوما والرئيس الروسي دميتري ميدفيديف لمناقشة خطة سلام ليبيا. وعاد زوما من موسكو بأخبار إيجابية كالعادة عن اجتماع "ناجح"، إذ أنه هو ورفيقه "اتفقا على أن الحل العسكري لا يمثل الطريقة الصحيحة لحل تلك المعضلة".(20)
وعندما كان نكوانا ماشاباني ـ وزير العلاقات الدولية والتعاون بجمهورية جنوب إفريقيا ـ يتحدث في مؤتمر صحفي أسبوعي في السادس من يوليو 2011، طرح أيضا أنباء طيبة مليئة بالمتناقضات تقول إن القذافي "لا يريد أن يقف في طريق الحل السلمي للأزمة في بلاده ... وأنه مستعد للتنحي" وذلك بعد أن قرر أن "الاتحاد الإفريقي ليس لديه خطة لخروج القذافي من البلاد ... ونحن نريد أن يبقى الرئيس في بلده".
ولم تتوقف التناقضات عند هذا الحد، ولكنها استمرت عندما انتقد زوما قصف الناتو المتوقع لليبيا خلال مؤتمر صحفي في بريتوريا بحضور رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون(21).
ولم تكن جنوب إفريقيا مستعدة لكابوس السياسة الخارجية والعلاقات العامة الذي ستحدثه ليبيا. حيث يذهب جهازبهاي ـ في دراسته المشار إليها سلفا ـ إلى أن شراكة جنوب إفريقيا مع "ليبيا كانت تتطلب صبرا، بل وتتطلب دبلوماسية على أعلى مستوى"(22). ولم يكن يعرف أن كلماته ستكون حقيقة في 2011، وهو العام الذي انطلق فيه الربيع العربي. وتعرض مكتبا الرئيس زوما والوزير نكوانا ماشاباني للانتقاد الشديد لتسهيلهما قصف دولة إفريقية.
لقد فعل الرئيس كل شيء من التبرير والأسف وحتى إدانة الثلاثة الكبار على تخطي التفويض الممنوح للقرار "بحماية المدنيين". ولكن مع توجيه ضربة للقذافي من أجل فدية ضخمة وتغيير النظام بسرعة، اتضح لجنوب إفريقيا أن الغرب ظل محافظا على صورته واستغل تصويت جنوب إفريقيا لتوسيع أهدافه الخاصة بموارد ليبيا.
ولم يتحقق تغيير النظام في ليبيا بدون قتال من جيش القذافي، ولكن الناتو وأعضاء من جامعة الدول العربية كانوا يمدون المقاتلين بالذخيرة الكافية ليقضي كل منهما على الآخر، وكان الوضع على الأرض يقضي على أية فرصة للسلام وإعادة البناء في ليبيا. وتصر جنوب إفريقيا الآن فقط على أن رحيل القذافي، وتعطيل الاقتصاد الليبي، وتدمير البنية التحتية في ليبيا، لم يكن منصوصا عليه في التفويض الذي منحه مجلس الأمن للناتو ووقعت على إقراره. ومع إدراك هذا الخطأ في الحكم، قام الرئيس زوما بدور تشاوري آخر داخل الاتحاد الإفريقي للتوصل إلى حل سلمي للفوضى التي ضربت الحياة اليومية حاليا في ليبيا.
وللأسف، فإن منتقدي دبلوماسية جنوب إفريقيا في ظل هذه الإدارة يشعرون بالأسى من الضرر الذي لحق بصورة جنوب إفريقيا محليا وعلى مستوى القارة وفي الشرق الأوسط نتيجة لسياستها الخارجية غير المتكاملة.
أما الآن فيبدو أنه ليس هناك في الأفق سوى قليل من الجهود التي يمكن بذلها، وحتى إن تمت فستأتي بعد فوات أوانها. وبعد الانتقاد الحاد الذي تعرضت له في طريق عودتها من مجلس الأمن، أخضعت جنوب إفريقيا نفسها للاتحاد الإفريقي، قائلة إنها ستتلقى توجيهاتها من الجهة القارية، والتي أصبحت أيضا بلا جدوى في شئون شمال إفريقيا.
وهكذا تحتاج سمعة جنوب إفريقيا لفترة حتى تستعيد مكانتها. ومع استمرار الصراع على ليبيا، ومع قيام الدول الأعضاء في مجلس الأمن بتقديم نماذجها لصنع السلام في ليبيا إلى المائدة المستديرة، ستقوم جنوب إفريقيا بعمل جيد بوقوفها ضد إصدار بيانات عن حلها السحري للصراعات بين الدول، ذلك الحل المنادي دوما بتشكيل حكومة ائتلاف وطني(23).
وبديهي أن ليبيا ليست جنوب أفريقيا، وبديهي أيضا أن التهديد الأكبر الذي يواجه ليبيا ليس بقاء أو رحيل أو مقتل القذافي، بل الأطماع المهلكة التي يتطلع بها الغرب إلى الثروات الليبية. على هذا النحو انزلقت جنوب إفريقيا في المساهمة في خلق مستنقع قتل جماعي في ليبيا، وتكوين صديق ليبي مخدوع، والوقوف عاجزة أمام مجموعة من البلطجية الغربيين، وجسم ضخم أقرب إلى فيل أبيض يسمونه الاتحاد الإفريقي. وفي خضم كل ذلك تصعب السيطرة على تلك المعطيات.
لقد ودعت ديمقراطية جنوب إفريقيا مرحلة المراهقة لتدخل مرحلة النضج في 2012. ويمكن أن تكون هذه الديمقراطية قد بدأت قاصرة، لكنها وصلت إلى سن الرشد الآن وتحتاج إلى تطوير سياسة خارجية تعكس الموقف الواعي الطموح الذي يدافع عن إيمانها بحق تقرير المصير وحقوق الإنسان، ولا ينحني للظلم والهيمنة الغربية. إنه الوقت المناسب تطوير السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا.
تداعيات مصرع القذافي
أصبح القذافي مثار جدل الكثيرين في جنوب إفريقيا سواء في حياته أو حتى بعد مصرعه(24). حيث طبعت صور القذافي ـ المقتول بشكل وحشي وتظهر على جثته آثار العنف المتعمد ـ في الصحف المحلية في جنوب إفريقيا كقصة الخبر الرئيس لصفحة الغلاف(25).
وبالرغم من أن صور مصرعه انتقلت عبر أرجاء العالم وأثارت مشاعر البهجة والانتصار بالإضافة إلى أشياء أخرى، إلا أن رد الفعل كان يبدو مختلفا في مجتمع جنوب إفريقيا. إذ أن مواطني جنوب إفريقيا الذين قابلتهم خدمة إذاعة الأخبار التابعة لتلفزيون الدولة(26) عبروا عن قلقهم من نشر صور بهذه الطبيعة العنيفة، والتي يمكن أن يصبح عرضها بهذا الشكل ضارا بصغار السن.
ووجدت السلطة الرابعة أخلاقياتها موضع تساؤل البعض، ودفاع البعض الآخر. إذ يقول باتريك كرافن من مؤتمر اتحادات عمال جنوب إفريقيا ـ شريك التحالف الثلاثي مع المؤتمر الوطني الإفريقي ـ "يجب على وسائل الإعلام أن تظهر حدا أدنى من الاحترام للأفراد بغض النظر عن هويتهم. إذ أن عرض لقطات قريبة لشخص يحتضر أو مات للتو يجب ألا يظهر على شاشات التليفزيون أو وسائل الإعلام المطبوعة".(27) وعلى العكس، فإن موشوشو مونير من صحيفة ستار دافع عن ذلك بقوله "في ظل هذه الظروف يجب أن نخجل ونتجنب استخدام صور من هذا النوع على الصفحة الأولى نظرا لحساسيتها، ومع ذلك، نجد في هذه الحالة أنه كان لصالح المصلحة الوطنية العامة والجدل الدائر حول طريقة مصرعه".(28)
وجاء رد الفعل الأقوى على قتل القذافي من اتحاد شباب المؤتمر الوطني الإفريقي واتحاد عمال جنوب إفريقيا، والمطران ايميريتوس توتو، في حين أن قسم العلاقات الخارجية لجنوب إفريقيا ومكتب الرئيس تناولا الموضوع بغير كثير اكتراث، في بيانات متطابقة غامضة.
لقد مجد اتحاد شباب المؤتمر القذافي في بيان عاطفي على أنه "شهيد مناهضة الإمبريالية، والجندي والمحارب الشجاع الذي وقف في وجه إعادة استعمار القارة الإفريقية" قائلا إنه "قتل بلا رحمة على أيدي المتمردين المسلحين بقوات الناتو الذي اجتاح ليبيا طمعا في اغتصاب مواردها الطبيعية"(29).
وبالرغم من أن اتحاد عمال جنوب إفريقيا أعلن دعمه للتحرك الديمقراطي للشعب الليبي، إلا أنه شجب الغزو العسكري الغربي الذي أدى في النهاية إلى قتل القذافي، قائلا إن "هذا الانتصار يعتبر مثالا على البربرية الإمبريالية في أسوأ صورها"(30). وأدان المطران ايميريتوس قتل القذافي قائلا: "كان يجب على الشعب الليبي أن يظهر قيما أعلى تسمو على ما مارسه قاهرهم السابق".
ولكن الرئيس زوما لم يدن ولم يؤيد قتل القذافي وقال ببساطة "كنا نتوقع أسره، وذلك في ظل أن الجميع يعرفون أن هناك مذكرة اعتقال صدرت بحقه" واقتصرت تصريحات مكتبه ومكتب وزارة الخارجية على القول بأنهم "يتابعون التطورات الأخيرة في سرت والتي انتهت بقتل القائد الليبي السابق ...".(31) وجاء تصريح المؤتمر الوطني الإفريقي ليقول "إنه من المؤسف أن الصراع الليبي انتهى بالقتل البشع للقائد الليبي ... وكان يمكن تجنب ذلك لو تبنت الأطراف خريطة الطريق التي طرحها الاتحاد الإفريقي".
على هذا النحو أصبح القذافي مثيرا للجدل بعد مصرعه كما كان طيلة حياته. وكان يجب أن يتوقع أن يكون مقتله عنصرا حاسما في إعادة بناء العلاقات بين جنوب إفريقيا وليبيا، ليس على مستوى الدولة فحسب، ولكن على المستوى الإنساني أيضا. فهناك انفصال كبير بين جنوب إفريقيا وليبيا أكبر من مجرد الانفصال الجغرافي. ولذلك يحتاج البلدان إلى إعادة بناء جسور التفاهم تجاه بعضهما البعض، بحيث يمكن التغلب على الخوف والقلق من التحالفات، خاصة التحالفات الغربية. أما في الوقت الراهن، فإن إحدى القوى الكبرى التي تشكل مستقبل جنوب إفريقيا تتمثل في اتحاد شباب المؤتمر الوطني الإفريقي، وهو يتساءل عن الثورة الليبية التي أتت بالغرب إلى إفريقيا، قائلا : على من يحين الدور؟"(32).
____________________
نولوازي لمبيدي-كاتبة من جنوب إفريقيا
الإحالات
1- جاءت تلك الكلمات حين كان الرئيس نيلسون مانديلا يتحدث إلى المؤتمر الشعبي في العاصمة الليبية طرابلس في التاسع عشر من مارس 1999. ولمزيد من المعلومات يمكن زيارة الموقع: http://www.anc.org.za/ansdocs/history/mandela/1999/nm0319.html .
2- إشارة إلى قصيدة جل سكوت هيرون "الثورة لن يبثها التليفزيون".
3- Mamdani, M.(2011) "Libya: politics of humanitarian intervention". Published in: http://english.aljazeera.net/indepth/opinion/2011/03/31
4- Mamdani, M.(2011) "Libya after the NATO invasion". Published at:
http://english.aljazeera.net/indepth/opinion/2011/04/09
5- تسواني هي المدينة الكبرى التي تضم داخلها "بريتوريا" عاصمة جنوب إفريقيا، حيث يوجد مقر الحكومة(الرئاسية). وكانت تعرف سابقا ببريتوريا، وإن كان اسم بريتوريا لا يزال مستخدما على نطاق واسع.
6- Aboagye, F. B.(2011)"The AU's policy on Libya isolates it". Institute of Security Studies. Available at:
http://www.iss.co.za
7- Jhazbhay, I.(2004). “South Africa-North Africa relations: bringing a continent’. South African of International Affairs 11(2): 157.
8- "للسفينة ربان واحد" أو حرفيا "ذكران في قفص واحد" أحد تعبيرات شعب الزولو، ويستخدم لوصف صراع القوة بين فردين على نفس المستوى من العناد على السلطة، والمقصود في هذه الحالة مبيكي والقذافي.
9- رئيس جنوب إفريقيا السابق ثابو مبيكي يتحدث أثناء إزاحة الستار عن النصب التذكاري لقبر المفكر والمناضل تيو سوجا في سبتمبر 2011. انظر مقال:
“Mbeki: I was Gaddafi’s no.1 enemy”, published in the Sunday Times newspaper Politics section, pg 4.
10- نفس المصدر السابق.
11- Jhazbhay, I. p. 158.
12- Mbete, M.(2011). “We can’t take a neutral stance: a South African view on the conflict in Libya”.
13- Mbete, M.(2011) "We can't take a neutral stance: a South African view on the conflict in Libya", pg. 2.
14- Mbete, M.(2011) "We can't take a neutral stance: a South African view on the conflict in Libya", pg. 4.
15- Habib, A.(2011) "Is SA at the foreign policy in Libya?". Published in The New Age newspaper on 04/27/2011. Accessible at http://www.thenewage.co.za .
آدم حبيب هو نائب مستشار شئون البحوث والابتكار والتطوير بجامعة جوهانسبرغ.
16- بيان صحفي أصدره اتحاد شباب المؤتمر الوطني الإفريقي في الحادي والعشرين من مارس 2011 بعنوان:
"ANC Youth League is concerned by the role played by South Africa in the United Nations Security Council on the Libyan situation".
17- اشتملت خطة الاتحاد الإفريقي على إجراء مفاوضات بين حكومة القذافي والمجلس الوطني الانتقالي، بالإضافة إلى قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات تنظمها الأمم المتحدة.
18- “Zuma’s Libyan pax implodes” Tripoli, Libya April 2011 20:22 at http://mg.co.za/2011-04-11-zumas-libyan-pax-implodes
19ـ انظر البيان الصحفي للاتحاد الإفريقي تحت عنوان:
"Official presentation by the AU to the Libyan parties of a proposal framework agreement for a political solution to the crisis in Libya". Available at:
http://www.Africa-union.org
20- Shatai, G. “South Africa-Russia on Libya was ‘successful’-Zuma” in The Business Day. Published on 2011/07/05 Available at: http://www.businessday.co.za/articles
21ـ كانت الزيارة في الثامن عشر من يوليو 2011، وتم اختصارها عندما واجه كاميرون أنباء عن الوضع العالمي المتأزم، وقطع زيارته عائدا إلى بلاده. وكانت زيارة كاميرون إلى جنوب إفريقيا من أجل تشجيع إفريقيا على فتح أسواقها بدرجة أكبر أمام التجارة الحرة.
22– Jhazbhay, I. p. 156.
23ـ استخدم هذا النموذج من حل الصراعات في جنوب إفريقيا لتسهيل الانتقال السلس للسلطة من الحزب الوطني(العنصري) إلى حكومة المؤتمر الوطني الإفريقي. وقد وصفت جنوب إفريقيا هذا النموذج لدول أخرى تعاني من صراعات، مثل الصدامات التي اندلعت بين الزعيمين جوزيف موبوتو ولوران كابيلا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وفي أنغولا لتسوية الصراع بين الزعيمين دوس سانتوس وجوناس سافمبي. ولم يحظ هذا النموذج بالقبول في أي من الحالتين واستمر اندلاع الحرب في الدولتين حتى اليوم.
24ـ انتقلت صور مصرع القذافي بعد يوم من نشرها في الصحافة الدولية إلى أبرز صحف جنوب أفريقيا خاصة صحيفة "ذي سويتان The Sowetan" و"ذي سيتيزن The Citizen". وللإطلاع على غلافي عددي الحادي والعشرين من مارس، انظر:
http://www.sabc.co.za/news/a/images-of-Gadafi's-death-raise-questions-on-media-ethics-2011-10-21
25 – SABC(South African Broadcast Corporation). http:// www.sabc.co.za/news/a/images-of-Gadafi's-death-raise-questions-on-media-ethics-2011-10-21
26- http://www.sabc.co.za/news/a/images-of-Gadafi's-death-raise-questions-on-media-ethics-2011-10-21
27- http://www.sabc.co.za/news/a/images-of-Gadafi's-death-raise-questions-on-media-ethics-2011-10-21
28- http://www.ancyl.org.docs/pr/2011/pr1021a.html
29- http://www.ancyl.org.docs/pr/2011/pr1021a.html
30- www.thepresidency.gov.za
31- www.anc.org.za
32 ـ أنظر التصريح بأكمله على الرابط التالي:
http://www.ancyl.org.za/docs/pr/2011/pr1021a.html