جنوب إفريقيا والصين.. لعبة الفرص والتحديات

توفر العلاقات الصينية الجنوب إفريقية مزايا متبادلة للبلدين، فقد دعمت الصين بريتوريا في أكثر من مناسبة فضلا عن كون استثماراتها هنالك تبلغ ربع ما تستثمره بأفريقيا السمراء، غير أن إشكالات عديدة يطرحها هذا التغلغل الصيني تجعل لعبة المصالح والتحديات تطرح نفسها بحدة
1_1076143_1_34.jpg

نولوازي لمبيدي

"إن الصين فرصة كبيرة بقدر ما هي تهديد كبير"
مولتسي مبيكي

قيل الكثير من التعليقات وكتب الكثير من التحاليل لمحاولة فهم العلاقة القائمة بين جمهورية الصين الشعبية وجمهورية جنوب إفريقيا، ولعل أدقها وصف مولتسي مبيكي المذكور أعلاه(1). إن الشراكة بين الصين وجنوب إفريقيا تحفل بالتناقضات، حيث الإمكانيات فيها بقدر القيود والمعوقات. ارتفع تبادل الاستثمار الأجنبي المباشر والسلع بين الدولتين إلى حد كبير منذ بدء عهد الرئيس جاكوب زوما عام 2009. كما نجحت ضغوط جنوب إفريقيا القوية للحصول على مقعد غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة(2) فضلاً عن عضويتها في مجموعة "بريك"(3)، وكل يرجع ذلك إلى حد كبير إلى الدعم الثابت الذي تتلقاه من الصين. وفي سنة 2010، أصبحت جنوب إفريقيا أول شريك تجاري للصين في إفريقيا(4) حيث نالت بريتوريا ربع إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني بالقارة السمراء.

محاذير الشراكة.. البطالة على رأس القائمة
الصين.. عين على ثروات البلاد الذهبية
الوجود الصيني بجنوب إفريقيا.. أهو استعمار جديد

محاذير الشراكة مع الصين.. البطالة على رأس القائمة

مالوسي غيغابا، وزير الشركات العامة في جنوب إفريقيا: "إذا تركنا (الصين والهند) تدخلان إفريقيا بمفردهما... فقد نجد أن الأجانب لن يسيطروا فقط على مواردنا المعدنية، ولكن أيضاً على بنيتنا التحتية"
إن توغّل الصين في القطاعات الرئيسية لجنوب إفريقيا يزداد عمقاً مع كل اتفاقية تعاون أو شراكة جديدة. فالقطاع المالي في جنوب إفريقيا هو من بين القطاعات التي تتعرض للاكتساح من طرف الاستثمار الصيني المباشر. وتُصِر بريتوريا(5) على أن فتح رؤوس أموال شركات جنوب إفريقيا أمام شركات الاستثمار الأجنبية ما هو إلا لتحفيز النشاط الاقتصادي وخلق لفرص العمل. ففي سنة 2008، قام بنك ستاندرد في جنوب إفريقيا بتفويت أكثر من 20٪ من أسهمه لصالح البنك الصناعي والتجاري الصيني (ICBC) مقابل 5.6 مليار دولار أمريكي، مما جعل هذا الأخير أكبر مساهم في بنك ستاندرد. غير أن البطالة تبقى عائقاً في وجه الاقتصاد الجنوب إفريقي، حيث يوشك أن تبلغ نسبة المواطنين العاطلين عن العمل 40٪، ومثل هذه الإحصاءات غير الواعدة سوف تهدد بلا شك مكانة جنوب إفريقيا كقوة إقليمية، خاصة وأنها تحقق ما يمثل ثلث الناتج المحلي لبلدان منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الذي انتقل، وفقاً لصندوق النقد الدولي، من 332 مليار دولار إلى 931 مليار دولار سنة 2008(6).

وتشكل الشراكة الإستراتيجية الشاملة مع الصين بالنسبة لحكومة بريتوريا، التي يقودها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في الوقت الراه،ن محاولة لعلاج لمسألة البطالة التي تحدث عنها الحزب بشكل بارز في بيانه الانتخابي سنة 2009. غير أن واقع الحال يختلف جذرياً عن الوعود الانتخابية للحزب الحاكم، بالرغم من أن اقتصاد جنوب إفريقيا يدر 286 مليار دولار(7) وبالرغم كذلك من مساندة ثاني أكبر اقتصاد في العالم له. وربما يكون اقتصاد جنوب إفريقيا يحتل المرتبة الـ27 عالمياً، حسب صندوق النقد الدولي، ولكن كان يجب توقع النتيجة المنتظرة من الفوائد غير المتكافئة عند التعامل مع عملاق مثل الصين في السياسة الاقتصادية الخارجية لجنوب إفريقيا.

على أن هناك ما يبرر الحاجة الماسة لسياسة اقتصادية منقّحة تحمي وتُطوّر أسواق جنوب إفريقيا المحلية الناشئة من عواقب الاتفاقيات التجارية الثنائية التي انتشرت –ربما- عن سذاجة وعجلة. ووفق تشخيص مزوكيسي كوبو، رئيس برامج القوى الناشئة في معهد جنوب إفريقيا للشؤون الدولية(

AIISA) ، فإن السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا لم تُركز بما فيه الكفاية على الأولويات الداخلية ولم تستوعب بشكل كامل الآثار المترتبة عن التغييرات المرتبطة بالعولمة(8). وكعلاج لهذه المشكلة، ينصح كوبو بالدبلوماسية الاقتصادية، وهي أداة للسياسة الخارجية يمكن بواسطتها تحقيق الغايات الاقتصادية الرئيسية، والتي يتم التركيز من خلالها على تجميع الثروة المحلية عن طريق جذب الاستثمارات، مثلا، أو التوسع العابر للحدود للنشاط الاقتصادي المحلي، وتيسير نقل التكنولوجيا، والتفاوض على صفقات أفضل حول قواعد تضع معايير اقتصادية متعددة الأطراف؛ إلى جانب استخلاص نتائج أفضل مع تنازلات أقل أثناء المفاوضات الاقتصادية الدولية(9).

إذا كانت الصين قد مهّدت الطريق لمرور جنوب إفريقيا إلى تكتلات متعددة الأطراف رفيعة المستوى، وعلى وجه التحديد مجموعة "بريكس" أو بريك سابقا، فإن هذا لا يعني أن بإمكان جنوب إفريقيا التخلي عن الحذر في الاعتماد على الصين كحليف موثوق به. فحالياً، تصب التحولات العالمية في القوى السياسية والاقتصادية في صالح طموحات جنوب إفريقيا للاعتراف الدولي بها كاقتصاد ناشئ ودولة بارزة في الرزنامة الإفريقية. ومع ذلك، لا يمكن الاعتماد على موجة التغيير هذه التي تكتسح المشهد السياسي العالمي لضمان التحرك نحو الجنوب في مسار مخطط التنمية العالمي.

يحث مالوسي غيغابا، وزير الشركات العامة في جنوب إفريقيا بلاده على عدم تفويت فرصتها للتوسع داخل الاقتصادات الإفريقية من منطق: "إذا تركنا (الصين والهند) تدخلان إفريقيا بمفردهما... فقد نجد أن الأجانب لن يسيطروا فقط على مواردنا المعدنية، ولكن أيضاً على بنيتنا التحتية"(10). واقترح غيغابا أن تضطلع جنوب إفريقيا بدور تعاوني أكثر بدلاً من الدور التنافسي للحد من التوسع الصيني والهندي نحو المناجم والأسواق الإفريقية. ويمكن بسهولة تفسير اقتراح الوزير على أنه خطة طوارئ لجنوب إفريقيا التي تُقرّ بأن دورها يتضاءل بالمقارنة مع الصين والهند كمستثمرين رئيسيين في إفريقيا. ثم إن منح الصين دوراً ثانوياً هو الخيار الأكثر أماناً لجنوب إفريقيا ذات الاقتصاد الأصغر داخل مجموعة بريكس. فقيود من هذا النوع هي التي تذكي الشكوك بين منتقدي الحكمة وراء قرار حكومة زوما لتعميق العلاقات مع قوة اقتصادية تمتلك ما يكفي من رأس المال في شكل قروض ميسرة وتفضيلية لإرضاء وإسكات أي نظام للتوقيع والسيطرة على سيادتها الاقتصادية. وفي حالة جنوب إفريقيا، فإن طريق الحرير الصيني(11) نحو جنوب إفريقيا يخضع على الدوام لتدقيق شديد من قبل النقاد والنقابات لضمان أنه لا يصل إلى درجة اسنتفاد الثروات المعدنية لجنوب إفريقيا.

الصين.. عين على ثروات البلاد

بالنسبة لمجتمع جنوب إفريقيا الذي يطغى على اقتصاده الفساد وارتفاع معدلات البطالة، فإن أخلاقيات الصين التجارية القاضية بعدم التدخل في السياسة الداخلية يوفر بديلاً منعشاً للتوجيهات الرأسمالية الغربية التي تدفع باقتصاد جنوب إفريقيا لتنفيذ إملاءات الليبرالية في التنمية
يُعتبر الطلب المحلي والحاجة الاقتصادية أهم دوافع اهتمام الصين المتنامي بإفريقيا، في المقام الأول، بدلاً من إيثار إفريقيا وتحفيزها لتحقيق أهداف التنمية(12). ومن بين الافتراضات الأساسية المعيارية للسياسة الخارجية الواقعية، هناك مبدأ بقاء الدولة على قيد الحياة(13)؛ ففي عالم تسوده الفوضى والتغيرات الزئبقية للعلاقات الدولية، تعمل جميع الدول من وجهة نظر مصلحتها الذاتية. والصين لا تختلف في ذلك عن غيرها من الدول. لذلك، فإننا لا نفرط في التفاؤل أو التشاؤم حين نقول بأن بريتوريا سوف تستمتع بدعم بيكين طالما أبقت جنوب إفريقيا على أهميتها الجيوستراتيجية بالنسبة للعملاق الآسيوي. ولا يجب أن نسيء فهمنا لسعي الصين القوي وراء ولاء جنوب إفريقيا بوصفه إنجازا مثاليا لسياسة إفريقية آسيوية سلمية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تليها صداقة في إطار حركة عدم الانحياز سعياً لوضع حد لتهميش الغرب لدول العالم الثالث.

إن الحاجة إلى ضمان الأمن المعدني والطاقي والغذائي هو الحافز الرئيس لحملة التوسع الصينية، ليس فقط داخل جنوب إفريقيا بل في القارة الإفريقية بصفة عامة. ويشير ويندل رولف، خبير الأعمال والمال برويترز، إلى أن الصين ترى جنوب إفريقيا، الرائدة في الطاقة والتعدين عالمياً وفي الخدمات المالية إقليمياً، باعتبارها مصدراً حيوياً للسلع لتغذية اقتصادها وصناعاتها ذات النمو السريع وكنقطة انطلاق للوصول إلى دول إفريقية أخرى(14).

إن المزايا التي توفرها جنوب إفريقيا في مجالات التعدين والتجارة قد تكون أكثر استدامة من تصدير المنتجات الاستهلاكية نحوها، ولكنها تبقى كذلك هشة على المدى الطويل أمام التوسع الاستثماري الآسيوي(15)، فجنوب إفريقيا هي بوابة الصين نحو إفريقيا حيث يكمن مستقبل الصين.

وقد تم التوقيع بين الصين وجنوب إفريقيا على الشراكة في "إعلان وبرنامج بيكين للتعاون بين الصين وإفريقيا في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية". وكانت هذه الوثائق التأسيسية والتاريخية من مخرجات منتدى عام 2000 حول التعاون بين الصين وإفريقيا (فوكاك)، وكان المنتدى مناسبة عظيمة تؤرخ لالتزام طويل المدى من أجل تعزيز العلاقات الإفريقية الآسيوية. وفي تحليل استثنائي للنتائج المحتملة المترتبة عن علاقات الصين مع جنوب إفريقيا، يشير سانوشا نايدو في استبصار دقيق إلى أن خطاب العلاقات بين جنوب إفريقيا والصين يخفي تضارب المصالح الذي يفرض نهجاً أكثر حذراً(16). وانطلاقاً من الوضع المتفاقم للبطالة وفقدان فرص العمل في الصناعة والزراعة والتعدين والمنسوجات والملابس في جنوب إفريقيا، فإن تشخيص كوبو للحاجة الملحّة لجنوب إفريقيا إلى دبلوماسية اقتصادية وقائية قد يكون بنفس دقة تنبؤات نايدو.

إن ما يفسر جاذبية المنتجات الصينية هو ببساطة تكلفتها المنخفضة، فالسلع والخدمات والعروض الصينية أقل تكلفة ليس فقط مادياً بل معنوياً أيضاً. فبالنسبة لمجتمع جنوب إفريقيا مثلاً، الذي يطغى على اقتصاده الفساد وارتفاع معدلات البطالة، فإن أخلاقيات الصين التجارية التي تقضي بعدم التدخل في السياسة الداخلية يوفر بديلاً منعشاً للتوجيهات الرأسمالية الغربية التي تدفع باقتصاد جنوب إفريقيا ليؤيد وينفذ إملاءات الليبرالية الغربية في التنمية.

ينتقد وليام مارتن، من جامعة بينغهامتون، جنوب إفريقيا على سياساتها وممارستها لليبرالية الجديدة، مشيراً إلى أنها "استمرار لالتزام نظام الفصل العنصري أمام أوروبا وأمريكا الشمالية"، على الرغم من أن هناك تفكيكاً واضحاً وتبديلاً للهيمنة الغربية في الاقتصاد العالمي عن طريق إقامة علاقات مع الشرق والجنوب(17). وعلى الطرف الآخر من أمة قوس قزح(18)، هناك مجموعة من النقاد والنقابات والمحللين الذين يشككون في سعي الصين دون هوادة وراء ثروات جنوب إفريقيا، متجاهلة حقوق العمال المحليين والشلل الذي أحدثته واردات الصين في الصناعات المحلية في جنوب إفريقيا وبخاصة في قطاع النسيج الذي تكبد 70٪ من فقدان الوظائف كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة للواردات الصينية حتى بعد التوقيع على حصص الملابس والمنسوجات الصينية في جنوب إفريقيا.

وما بين التفاؤل والشكوك حول علاقة جنوب إفريقيا بالصين، توجد مجموعة من الاتفاقيات التجارية الثنائية والعلاقات الدبلوماسية في منتديات مجموعة "بريكس"، ومجلس الأمن الدولي، والتعاون المستمر في المجالات ذات الاهتمام المتبادل. ومازالت هذه "الشراكة الإستراتيجية الشاملة" تنتج مزيداً من أنواع التعاون، كان آخرها "العمل بشكل أوثق لمكافحة الأنشطة الإجرامية بكافة أشكالها، من تهريب المخدرات إلى الأمن الإلكتروني، وفي مجال تحسين المعلومات الاستخباراتية وتبادل المعلومات"(19).

وبالنظر إلى سجل الصين السلبي في مجال حرية التعبير والتوتر الأخير بين الحكومة وشركة غوغل، فضلاً عن الاحتكاك بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم ووسائل الإعلام الجنوب إفريقية الذي أحدثته أفكار الحزب الحاكم، فإن "قانون حماية المعلومات"(20) المثير للجدل وما يثيره من تشكيك في التعاون بشأن "الأمن الإلكتروني وتبادل المعلومات الاستخباراتية" معقول في هذه المرحلة. فقد تكفلت الحكومتان كلتاهما بإجراء رقابة صارمة لتنفيذ هذا الفرع الجديد من شراكتهما المتنامية والآثار المترتبة عليه. كما أن المحاسبة الدقيقة للحكومات لم تكن أبداً أكثر إلحاحا وضرورة مما هي عليه في الوقت الحاضر، فالحكومات لا تعمل من فوق أبراج عالية معزولة عن المجتمع المدني ومتعالية عليه. والحكومة الصينية، المعروفة بتخلف وسائل إعلامها وبسجلها القاتم في حقوق الإنسان، قد التزمت بالاستقرار في دولة جنوب إفريقيا ذات التقاليد الدستورية المحترمة. وعليه، فإن علاقة الصين مع جنوب إفريقيا فيها عنصر شخصي لا يمكن إنكاره، خصوصاً عند النظر إلى الوجهة التي تتخذها.

الوجود الصيني بجنوب إفريقيا.. أهو استعمار جديد؟(21)

وزير التجارة والصناعة الجنوب إفريقي روب ديفيس ردا على النظرة الغربية المنتقدة للدور الصيني في إفريقيا: "لم نعد مجبرين على التوقيع على ما يكتب ل

ABOUT THE AUTHOR