تحولات الحركة الإسلامية في اليمن

تتميز الحركة الإسلامية اليمنية بتغليب التوافق السياسي، مع السلطة أو المعارضة، على المواقف الإيديولوجية، فشاركت في السلطة وتحالفت مع المعارضة، وساهمت في إسقاط الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، ومرشحة لأن تكون القوة الرئيسية في النظام الجديد.
201231110392173734_2.jpg

أحدثت  الثورة اليمنية تحولات ملموسة في البنية الفكرية والتنظيمية والحركية للحركة الإسلامية اليمنية (الإخوان المسلمين)، غير أنها -بطبيعة الحال- لن تكون بمستوى التحولات التي أحدثتها الثورات العربية في الحركات الإسلامية المناظرة في كلٍّ من تونس ومصر وليبيا، ويعود ذلك إلى أن الثورة اليمنية لا زالت في مرحلة صيرورة، ولم تكتمل فصولها بعد بالشكل الذي يتضح معه حجم ومستوى تلك التحولات، وبسبب خصوصية نشأة وتطور الحركة الإسلامية اليمنية، التي نمت وتطورت في ظروف طبيعية، وانتقلت إلى العمل العلني منذ ما يزيد على عقدين، علاوة على الواقع السياسي والاجتماعي الذي تُوجد فيه، والذي يعتبر المرجعية الإسلامية من الثوابت والمسلمات الأساسية، لكن في الوقت ذاته يُفرز تحديات مختلفة ذات طبيعة عملية وليست فكرية. أما السبب الأكثر أهمية فيتمثل في أن الحركة الإسلامية اليمنية، اعتمدت تحولات مبكرة في خياراتها وعلاقاتها وخطها السياسي، مكَّنتها من الانتقال من العمل الفردي إلى العمل في إطار تحالفات واسعة، ومن العمل التنظيمي إلى العمل الجماهيري.

خط تطور الحركة الإسلامية اليمنية

تأسست الحركة الإسلامية (الإخوان المسلمون)، بشكل فعلي في شطري اليمن، خلال العقد السادس من القرن الماضي (القرن العشرين) على أيدي عدد من الطُلاب اليمنيين الذين التحقوا بالجامعات والمعاهد المصرية، غير أنها تعرضت للإقصاء في الشطر الجنوبي بعد وصول التيار الماركسي إلى السلطة هناك في أواخر ذلك العقد.

وفي ظل الظروف التي كانت تعيشها اليمن -والمنطقة العربية عمومًا- خلال عقد السبعينات، كان من الطبيعي أن تهيمن على الحركة الإسلامية الاتجاهات الفكرية المتصلة بالتركيز على حسم الهوية الإسلامية الكاملة للدولة والمجتمع في الشطر الشمالي، وتثبيتها في النصوص الدستورية، والتشريعات القانونية، ووسائل التثقيف والإعلام والتنشئة العامة، وأن تتجه جهود الإخوان وتحالفاتهم إلى تحصين المجتمع والدولة تجاه الأفكار والتنظيمات اليسارية والقومية، ومواجهة المخاطر الأمنية والفكرية والسياسية القادمة من دولة الحزب الاشتراكي في الجنوب، وفرعه في الشمال فيما عُرِف "بحرب المناطق الوسطى"، إلى جانب خطاب دعوي يركز على القضايا الأخلاقية وأحوال المسلمين في بقاع العالم المختلفة.

شاركت الحركة الإسلامية اليمنية في السلطة وتحالفت مع المعارضة، وساهمت في إسقاط الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، ومرشحة لأن تكون القوة الرئيسية في النظام الجديد (الجزيرة)

وبعد تراجع المخاطر التي تحملها التنظيمات اليسارية والقومية في أوائل عقد الثمانينات، استمر الخطاب الإخواني التقليدي الذي يركز على القضايا الأخلاقية، وهموم المسلمين في أصقاع المعمورة، مع وجود تنوع في هذا الخطاب، ومسحة سلفية محافظة اقتضتها البيئة الاجتماعية اليمنية شديدة التدين، وحالة التداخل والحراك السكاني بين اليمن والمملكة العربية السعودية بفعل هجرة اليمنيين للعمل والإقامة في المملكة بصورة مؤقتة أو دائمة.

وفي الجانب السياسي، دخل الإسلاميون مع نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح في تحالف استمر حتى عام 1997، فكان لهم تواجد معتبر في السلطة التشريعية، والمجالس المحلية، وتنظيم المؤتمر الشعبي الحاكم، ونشاط كثيف في مؤسسات الدولة المختلفة، وخاصة تلك المعنية بالتعليم، والتنشئة العامة.

وفي مقابل التحالف مع النظام والدفاع عنه، حصل الإسلاميون على الأمن ومشروعية العمل شبه العلني طوال عقد الثمانينات، وهو ما وفر لهم حرية الحركة، ومكنّهم من النمو الطبيعي، وخلّصهم من العُقد والهواجس الأمنية التي تعرض لها الإسلاميون في معظم الدول العربية، وسمح لهم بالتمدد الفكري والتنظيمي والنشاط الحركي.

تحولات ما بعد الوحدة

مثلما كان قيام الوحدة في مايو/أيار 1990 متغيرًا إستراتيجيًّا بالنسبة لليمن بشكل عام، فقد كان كذلك بالنسبة للحركة الإسلامية، فقد فتح لها أبواب المحافظات الجنوبية التي صُدَّت أمامها طويلاً، ومكنّها من الحصول على الشرعية القانونية، والانتقال من العمل السري إلى العمل العلني الكامل، من خلال الحزب الذي شكَّلته مع حلفائها التاريخيين، وهو حزب "التجمع اليمني للإصلاح".

وباستثناء الفترة الممتدة بين عامي 1990-1994، التي اتسمت بالاستقطاب الفكري بين الحركة الإسلامية من جهة وقوى الحداثة بقيادة الحزب الاشتراكي من جهة ثانية، حول الهوية السياسية والدينية للدولة، والتي انتهت بتثبيت الهوية والمرجعية الإسلامية في التعديلات الدستورية التي أعقبت حرب عام 1994، بنص المادة الثانية من الدستور على أن "الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعًا"، فإن خط تطور الحركة الإسلامية سار باتجاه تغليب الاتجاه الواقعي الذي يركز على القضايا العملية في الجوانب السياسية والاقتصادية والحقوقية.. الخ.

كما أن حالة التنقل السريع في المواقع السياسية للحركة الإسلامية، "التجمع اليمني للإصلاح"، أفضى إلى انغماسها بشكل كبير في تقلبات الواقع السياسي ومتطلباته العملية؛ فقد تصدى حزب الإصلاح لمهام المعارضة السياسية أثناء الفترة الانتقالية (1990 – 1993)، وشارك بعد انتخابات 1993 في حكومة الائتلاف الثلاثية، إلى جانب المؤتمر الشعبي العام ( أي الحزب الحاكم) والحزب الاشتراكي اليمني، ثم في حكومة الائتلاف الثنائي مع المؤتمر الشعبي العام بعد حرب 1994، وعاد إلى مربع المعارضة بعد انتخابات 1997، والتأم مع أحزاب المعارضة في تكتل واحد منذ عام 2000. ومعظم القرارات المرتبطة بتلك  التحولات كانت تُتخذ لاعتبارات واقعية، وفي ضوء معايير عملية أكثر منها فكرية وأيديولوجية، وهو ما وسّع كذلك من مساحة الاتجاه الواقعي داخل الحركة.

اتجه النظام بعد إخراج الحزب الاشتراكي من السلطة بقوة السلاح نحو الاستفراد، والتمدد على حساب المكونات السياسية والاجتماعية الأخرى، فاختل معه التوازن السياسي، واتسع بعد إخراج الإسلاميين من الحكومة على إثر نتائج انتخابات 1997، وعلى الفور اتجهت الحركة الإسلامية إلى التقارب مع أحزاب المعارضة الرئيسية: الحزب الاشتراكي اليمني، والتنظيم الوحدوي الناصري، وحزب البعث القومي، وحزبي الحق واتحاد القوى الشعبية. وبعد تعثر البدايات الأولى، التأمت تلك الأحزاب في تحالف أُطلِق عليه "تحالف اللقاء المشرك".

وقد مثَّل انضواء أحزاب المعارضة في تكتل واحد، "اللقاء المشترك"، منذ عام 2000، تجربة فريدة ليس في اليمن فحسب، وإنما في الوطن العربي أيضًا، فقد غلّبت تلك الأحزاب الجوانب العملية والقواسم المشتركة في العمل السياسي على خلافاتها الفكرية، وصراعاتها التاريخية، ومصالحها الضيقة، كما أنها تمكنت من تجاوز  محاولات النظام التي لم تتوقف لإعاقة وإفشال هذه التجربة، أو التشويش عليها؛ وبقدر ما كان لهذه التجربة تأثير مباشر في ترشيد المعارضة السياسية اليمنية، ومنحها البعد الوطني والجمعي، كان لها كذلك تأثير مباشر وعميق على الحركة الإسلامية اليمنية، فقد أكسبتها قدرًا كبيرًا من المرونة والاعتدال، والقبول بالآخر المختلف، والتعاون معه، وتقديم التنازلات المتبادلة كأساس لبناء السياسات والرؤى واتخاذ القرارات وتحديد المواقف.

وفي اتجاه مواز، اتسم الخطاب الرسمي للحركة الإسلامية طوال العقدين الأخيرين، بالتركيز على قضايا: الانتخابات، والحقوق والحريات، ومستوى المعيشة ومعدلات الفساد والفقر والبطالة، والإصلاحات الاقتصادية، ونقد السياسات الحكومية، وشهد في المقابل تراجعًا واضحًا في المضامين الدعوية والوعظية، ومعه اقترب "التجمع اليمني للإصلاح" من أن يكون حزبًا مدنيًّا ذا مرجعية إسلامية، أكثر من أن يكون غطاء لحركة إسلامية، وبقدر ما أفاد هذا الخطاب في التركيز على القضايا العملية والحياتية التي تهم الناس، وتجذير الاتجاه العملي في التعامل مع الواقع، فإنه أخلّ بالاهتمامات التقليدية للحركة الإسلامية ( الدعوية، والاجتماعية...الخ)، وأوجد فراغًا، نشأت بفعله القوى السياسية والاجتماعية التي تنافس الإسلاميين اليوم: الحوثيون، وفصائل الحراك، ونشطاء السلفيين، وتنظيم القاعدة.

ومنذ عام 2000 تقريبًا، بدأت إجراءات النظام لتوريث السلطة إلى النجل الأكبر للرئيس السابق "علي عبد الله صالح"، ونقل المواقع القيادية في المؤسسات الحيوية إلى الجيل الثاني من عائلته، فاستفحلت معه الأزمة الشاملة التي يواجهها اليمن، وتجلَّت مظاهرها في الجولات الست من الحروب بين الحوثيين وقوات الجيش في صعدة، وتصاعد الاحتجاجات في المحافظات الجنوبية، وتحولها إلى مطالب سياسية مناهضة للاندماج الوطني، وتدهور حاد في موارد الدولة الاقتصادية، مع إمكانية لنضوب موردين حيويين: المياه والنفط، ونشاط ملحوظ لتنظيم القاعدة تجاوز اليمن، ليصل إلى عمق بعض الدول العربية والغربية، وتراجع ملحوظ في سلطة الدولة ومستوى الخدمات الحكومية، وأزمة حادة بين أحزاب اللقاء المشترك والسلطة.

وبسبب ذلك كله، تصدرت قضايا الإصلاح السياسي أولويات الحركة الإسلامية؛ فاتجهت منذ عام 2005 إلى اعتماد إستراتيجية جديدة في تعاملها مع السلطة، أطلقت عليها "إستراتيجية النضال السلمي لانتزاع الحقوق والحريات"، فشرعت في تهيئة أنصارها والشارع للعمل الجماهيري، من خلال حملات إعلامية وتوعوية واسعة للتعريف بمبررات وماهية النضال السلمي، ومتطلباته، وغاياته، وآلياته (الاعتصامات، والوقفات الاحتجاجية، والمظاهرات.. الخ)، مع التأصيل الشرعي لكل منها، وحرصت على تمتين وتفعيل تكتل أحزاب اللقاء المشترك، والذي أعلنت أحزابه في العام ذاته "مشروعها الوطني للإصلاح الشامل"، واللائحة التنظيمية لتكتل اللقاء المشترك، والتي تنظم عمله، وتحدد مؤسساته القيادية على المستويين المركزي والمحلي.

اتجهت علاقة أحزاب اللقاء المشترك مع السلطة نحو التنافس الحاد، ولاسيما أثناء الانتخابات الرئاسية التي تمت عام 2006، حيث خاضتها بمرشح واحد هو "فيصل بن شملان"، وخلالها وصلت العلاقة بين الإسلاميين والرئيس السابق "علي عبد الله صالح" إلى ذروة التوتر، تبادل الطرفان فيها حملات انتخابية قاسية، وقصفًا إعلاميًا غير مسبوق(*).

تعمق الانقسام السياسي بين أحزاب اللقاء المشترك والسلطة بعد الانتخابات الرئاسية، ودخلا في معارك سياسية وإعلامية دارت حول إصلاح آليات العملية الانتخابية، والإصلاح السياسي، والحقوق والحريات العامة، والمواقف من الأزمات السياسية والأمنية والتحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد.

وفي سياق الضغوط التي قامت بها أحزاب المعارضة لتنفيذ برامجها المعلنة حول إصلاح النظام السياسي، نزل أنصارها إلى الشارع، ونظموا مسيرات ومظاهرات في صنعاء ومعظم المحافظات والمديريات، واتجهت أحزاب المعارضة إلى توسيع جبهتها بتشكيل "لجنة الحوار الوطني"، التي استوعبت الشخصيات الخارجة من عباءة النظام، وعددا من مشائخ القبائل وبعض مؤسسات المجتمع المدني، والحوثيين وبعض فصائل الحراك.

وعلى إثر مبادرات قدمها وسطاء محليون ودوليون، بهدف إقامة حوار بين أحزاب اللقاء المشترك، والمؤتمر الشعبي، وبعد أن توصل الطرفان إلى أكثر من اتفاقية، انتهت جولات الحوار بانسحاب حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم، والإعلان عن عزمه إعادة انتخاب الرئيس السابق علي عبد الله صالح برغم انتهاء الفترة المحددة له دستوريًّا فيما عُرِف إعلاميًّا بـ "تصفير وخلع العداد"، ومُضى منفردًا في تنفيذ مشروع التعديلات الدستورية، والمشاركة منفردًا في الانتخابات النيابية، فيما استمرت أحزاب المعارضة، بما في ذلك الحركة الإسلامية، في ممارسة الضغوط الشعبية من خلال المظاهرات الشعبية الواسعة.

يعني هذا أن الثورة في اليمن، سبقها تنافس سياسي حاد بين أحزاب المعارضة والحزب الحاكم، استُخدِمت فيه الأوراق السياسية والإعلامية والجماهيرية، وتوفر معه مناخ قريب من مناخ الثورة، باستثناء أن العنوان في تلك المرحلة كان "الإصلاح السياسي" وليس "التغيير السياسي". وبمجرد نجاح الثورتين الشعبيتين في تونس ومصر، انسحب المناخ الثوري إلى اليمن، ونزل معه اليمنيون إلى الشارع لرفع المطالب ذاتها التي رفعها ثوار تونس ومصر.

عام من المرابطة في الشارع

بعد مضي ما يزيد على عام من انطلاق الثورة اليمنية، يبدو أنها تركت أثارًا ملموسة على الحركة الإسلامية اليمنية. فقد أخذت الثورة اليمنية شكل الاعتصامات الدائمة في أكثر من (سبع عشرة) ساحة وميداناً، في العاصمة صنعاء ومعظم محافظات الجمهورية، رابط فيها اليمنيون منذ تأسيس أول ساحة للاعتصام في 11 فبراير/شباط 2011.

وهكذا دفعت الثورة بالإسلاميين إلى الخروج من محاضنهم التنظيمية، ونمط حياتهم اليومي الذي يتسم بقدر من الاعتزال، وألزمتهم بالمرابطة في الشارع، والاختلاط بكل مكونات العمل الثوري، بتنوعاته وتناقضاته المختلفة لشهور طوال. ولا شك أنها تجربة من العمل الجماهيري غير مسبوقة في تاريخ الإسلاميين اليمنيين.

وفي المقابل، فإن الاحتكاك المباشر بين الإسلاميين وبقية الثوار، وتعايشهم اليومي وجهًا لوجه كل تلك المدة، يُرجَّح له أن يترك انطباعات مختلفة كذلك لدى الثوار عن الإسلاميين، وأن يُغيّر بعض قناعاتهم وانطباعاتهم السابقة عنهم.

وبفعل ذلك كله يُتوقع أن تترك الثورة الشبابية تحولات تلامس البنية التنظيمية والفكرية والأداء السياسي للحركة الإسلامية اليمنية؛ إذ من المتوقع أن يزداد تمثيل المكون الشبابي في المؤسسات القيادية للحركة في المستقبل القريب؛ فقد دفعت الأحداث اليومية للثورة بالقيادات الشبابية إلى تصدر المشهد الثوري والإعلامي، وساهمت في فرز نخبة من القيادات الشبابية، قد يتصدرون المواقع القيادية في الحركة بالمستقبل، ويُتوقع كذلك زيادة المكون النسائي في البنية القيادية للحركة ومؤسسات الدولة، ذلك أن الدور والحضور النسائي الواسع في الثورة سيُضعف إلى حدٍ كبير أية ممانعة قد تعترض تصدر النساء لقيادة العمل العام داخل الحركة وخارجها.

وفي حدود المحددات التي سنشير إلى بعضها عند استعراض السيناريوهات المتوقَّعة لمستقبل التحولات في الحركة الإسلامية، يُرجح أن تتجه هذه الأخيرة إلى إعادة النظر في برامجها الفكرية والثقافية وخطابها العام بالشكل الذي يستوعب الشعارات والمطالب التي رفعها شباب الثورة: الدولة المدنية وسيادة القانون والمواطنة المتساوية ومحاربة الفساد؛ ذلك أن الحالة الثورية أوجدت مناخًا عامًّا ضاغطًا لن يكون بمقدور الإسلاميين ولا غيرهم تجاهله، وبخاصة أن أداء ومواقف الإسلاميين سيكون محلاً للرقابة والتقييم من قِبل شباب الثورة المستقلين ونشطاء مؤسسات المجتمع المدني والأطراف السياسية الأخرى.

وعلى المستوى السياسي، يمكن القول بأن الثورة اليمنية وضعت الإسلاميين، باعتبارهم الطرف المحتمل لتولي السلطة أو المشاركة فيها خلال المرحلة القادمة، على المحك، فيما يتعلق بقدرتهم على التعامل مع التحديات التي يواجهها اليمن، وفي مقدمتها: الحفاظ على كيان ووحدة الدولة، والتحديات الاقتصادية، والانقسامات السياسية والاجتماعية والمناطقية، والتعامل مع المشاريع الانفصالية والطائفية، وهي تحديات عميقة ومركبة.

تشغيل الديمقراطية، واستيعاب الجنوب والحوثيين

يتحدد مستقبل الحركة الإسلامية في اليمن بثلاثة عوامل أسياسية، هي:

  1. المسار الذي سيتجه إليه التغيير في اليمن (إعادة هيكلة الجيش، والحوار الوطني، ومعالجة القضايا الملتهبة)، وعما إذا كان سيسير وفق ما هو مرسوم له في المبادرة الخليجية، أم أنه سيفلت من ذلك، كأن تحدث تصدعات كبيرة في البنية السياسية للنظام القديم، أو أن تحدث انتكاسة تعوق عملية التغيير أو توقفها عند حدود معينة.
  2. الحدود التي سينتهي إليها تطور المشروعات الثلاثة: الحوثيون، وفصائل الحراك، وتنظيم القاعدة، ونمط العلاقة الذي سيستقر بينها وبين سلطة الدولة، وهي مشاريع يتمدد نفوذها ويتسع على حساب الحركة الإسلامية وسلطة الدولة على حدٍ سواء.
  3. الوضع العام التي ستتجه إليه الدولة اليمنية في ضوء التحديات والمخاطر التي تواجهها؛ إذ لابد من التأكيد على أن مصير الإخوان وجودًا وتوجهًا سيكون مرتبطًا بمصير اليمن نفسه بعللهِ وتعقيداتهِ وأزماته وتحدياته.

وبالأخذ في الحسبان التفاعل بين العوامل السابقة، مع وضع حد أعلى وأدنى لذلك التفاعل، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل الحركة الإسلامية في اليمن:

السيناريو الأول (السيناريو المتفائل): يقوم هذا السيناريو على أن التطورات التي سيشهدها اليمن في المرحلة القادمة، ستسير في الاتجاه الإيجابي( بالنسبة للحركة الإسلامية)؛ حيث سيتمكن الرئيس الجديد "عبد ربه منصور هادي" من الإمساك بزمام السلطة، في ظل تهاوي قبضة بقايا النظام على مؤسسات الدولة، وإتمام إعادة هيكلة القوات المسلحة، وسحب سلطة القرار فيها من أقرباء الرئيس، وانخراط القوى السياسية -بما فيها فصائل الحراك والحوثيون- في حوار وطني واسع، ويُتوقع أن تساعد مثل هذه الأجواء الطبيعية على حدوث حد أعلى من التحولات في البنية الفكرية والتنظيمية والسياسية للحركة الإسلامية بالصورة التي المحنا إلي بعضها في السابق، وبما يحررها نسبيا من ضغط الأزمات الملتهبة والانهماك في التعاطي مع المخاطر القائمة، ويمنحها فرصة للانتقال من فكر الجماعة والحزب إلى التعامل بعقلية الدولة القائم على الفكر الاستيعابي الواسع، ويساعدها على ترجمة رؤاها الفكرية في شكل سياسات عامة تتعامل مع التحديات الاقتصادية والسياسية التي توجهها البلاد.

السيناريو الثاني (السيناريو الواقعي): ويشير إلى حدوث تدافع بين العوامل التي تضغط باتجاه حدوث تحولات واسعة في الحركة الإسلامية وبين العوامل التي تكبح ذلك؛ فالتحولات التي راكمتها سنة كاملة من العمل الثوري، والمناخ العام الذي أوجدته الثورة، ومشاركة الإسلاميين في حكومة الوفاق، تشكِّل قوة دفع باتجاه إحداث تحولات واسعة في التوجه الفكري والبناء التنظيمي والأداء السياسي للحركة، فيما تؤدي مقاومة بقايا النظام لعملية التغيير، وتفجُّر المشاكل الأمنية والسياسية، والمخاطر التي يواجهها كيان الدولة جرّاء التمدد القائم على العنف لكل من تنظيم القاعدة والحوثيين والحراك الجنوبي، إلى إبقاء الحركة الإسلامية في حالة استنفار وتأهب دائم لمواجهة التحديات والمخاطر المختلفة، وستكون الحصيلة النهائية لمثل هذا الوضع تحقق بعض التحولات وتأجيل البعض الآخر إلى أن يتحقق لليمن قدر من الوفاق الوطني والاستقرار السياسي.

السيناريو الثالث (السيناريو المتشائم): يشير هذا السيناريو إلى إمكانية حدوث تغير مفاجئ يؤدي إلى إرباك المشهد السياسي، كأن تتعثر عملية إتمام التغيير لسبب مفاجئ، أو حدوث مخاطر عملية تهدد كيان الدولة اليمنية، وفي كل الأحوال فإن اليمن، والقوى السياسية، وفي مقدمتها الحركة الإسلامية ستكون في ظروف استثنائية، ويُتوقَّع لهذه الأخيرة أن تتحمل عبئًا ليس بقليل في مواجهة تلك التطورات الطارئة.
_____________________________
ناصر علي الطويل-خبير في الحركة الإسلامية اليمنية

هامش
(*) للإطلاع بشكل مكثف على تلك التحولات ينظر في: ناصر محمد علي الطويل، الحركة الإسلامية والنظام السياسي في اليمن من التحالف إلى التنافس، صنعاء مكتبة خالد ابن الوليد، 2009.

ABOUT THE AUTHOR