شبه جزيرة البلقان: بوابة لعودة روسيا إلى الساحة الدولية

تحاول موسكو العودة إلى الساحة الدولية عبر عدة منافذ أهمها البلقان، لا سيما وأنه يجمعها مع بعض دول هذا الأخير الأرثوذكسية، كما أن مشروعها العملاق، الخط الجنوبي لإمداد أوروبا بالغاز، الذي يستهدف تحقيق مآرب إستراتيجية في أوروبا يمرّ بالبلقان.
20133384825626734_20.jpg
 

كان البلقان -ولا يزال- يمثل منطقة مصالح حيوية وإستراتيجية مهمة لصنّاع القرار في الاتحاد السوفيتي قديمًا وروسيا حاليًا؛ فشبه الجزيرة البلقانية يقع جغرافيًا على الحدود الجنوبية الغربية لروسيا ويشكّل امتدادًا طبيعيًا لعمقها الإستراتيجي، وهو يفتح على مياه البحار الدافئة (البحر الأبيض المتوسط، البحر الأدرياتيكي، بحر إيجة) التي طالما كان لروسيا رغبة حقيقية في بلوغها، كما كانت رغبتها واضحة دائمًا في محاولاتها السيطرة على مضيق الدردنيل.

المحاولات الروسية لاستعادة موطئ قدم راسخة لها في جنوب شرق أوروبا تجدّدت مع استعادة بوتين لسدّة الرئاسة، وشعور الكرملين بأن واشنطن وبروكسل قد اقتربتا من فرض حصار خانق على روسيا، في مسعى لتحييد دورها وتحجيمه، ليس فقط في منطقة البلقان بل أيضًا في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى بشكل عام. وتعتمد موسكو في استرجاع مكانتها وتعزيز دورها على عدة عوامل قد تكون مساعدة لها في تحقيق مشروعها الإستراتيجي المتجدّد.

الأهداف الإستراتيجية الروسية في البلقان

يرتكز التأثير السياسي الروسي الأبرز في منطقة البلقان، وبالأخص في جزئه الجنوبي، على ثلاثة أسس رئيسة:

  1. تأكيد دورها الحاسم بصفتها بلدًا دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي، يمتلك حق الفيتو الذي يسمح لموسكو بالاعتراض على أي قرار دولي تتخذه المجموعة الدولية يكون متعارضًا مع إستراتيجية الكرملين ومصالحه، أو مصالح حلفائه في المنطقة. وقد رفعت موسكو الفيتو فعلاً عام 2007 أمام مشروع الاعتراف بسيادة واستقلال كوسوفو وسدّت الطريق أمام سعي الاتحاد الأوروبي وأميركا وعدد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لتبني قرار الاستقلال، وهو ما أبقى أمر هذا البلد، على المستوى السياسي وحتى على مستوى الشرعية القانونية الدولية، مسألة غير منتهية حتى اليوم.
  2. أما الأساس الثاني الذي يرتكز عليه الكرملين للعب دور مؤثر في البلقان فيتمثل في العاملين العرقي والديني، وما يستتبعهما من روابط تاريخية وثقافية تشكّل بدورها جانبًا مهمًا في سياسة روسيا في منطقة البلقان، فموسكو كانت دومًا حريصة على لعب دور أبوي تجاه البلدان البلقانية السلافية التي تدين بالأرثوذكسية، وهي: رومانيا وبلغاريا وصربيا ومقدونيا واليونان، بالرغم من انضمام بعضها إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، كما ترعى موسكو الأقليات الأرثوذكسية المتواجدة في باقي الدول. وتظل صربيا الدولة التي تعوّل عليها موسكو أكثر من غيرها في مساعدتها على تأكيد دورها في المنطقة، خاصة وأن صانعي القرار في بلغراد مستعدون للعب أدوار أساسية في منع صربيا من الولوج إلى نادي الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وبقائها وفية إلى الشقيقة الكبرى روسيا.
  3. موضع القوة الأكثر وضوحًا لروسيا في شبه الجزيرة البلقانية يبقى متمثلاً في التأثير الاقتصادي القوي، فهي المصدر الأول والأبرز للطاقة في المنطقة، كما أن روسيا شريك قوي بامتياز فيما يُعرف بمسار الخصخصة غير الشفاف الذي تنتهجه عدّة دول بلقانية لكبريات شركاتها الوطنية من خلال طرحها في مزادات دولية لخصخصة رؤوس أموال تلك الشركات.

روسيا تشعر بأن دورها آخذ في الانحسار في منطقة البلقان بعد انتهاء الحرب الباردة، وأن نفوذ أميركا المتزايد في المنطقة ضيّق عليها الحصار أكثر وسمح لواشنطن بتأكيد حضورها القوي عبر توسيع رقعة حلف الناتو، ويذهب عدد من الإستراتيجيين الروس إلى القول بأن توسيع رقعة حضور الناتو والتواجد الأميركي القوي في المنطقة يعكسان بوضوح إستراتيجية واشنطن لتحجيم أي دور روسي محتمل, ويرون أن هذا الصراع الأميركي-الروسي غير المعلن في جنوب شرق أوروبا مرتبط بالصراع الأشمل في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى. وهو ما دفع موسكو إلى بذل محاولات جديدة لاستعادة دورها المؤثر على الساحة الدولية, ويبدو من وجهة نظر روسيا أن تلك العودة إلى التأثير قد تكون أيسر إذا ما كانت من بوابة غرب جزيرة البلقان, خاصة وأن حزامًا من البلدان التي التحقت بعضوية حلف الناتو إثر انهيار الاتحاد السوفيتي يمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، يمنع روسيا من الوصول إلى البحر الأدرياتيكي، حتى وإن لجأت إلى استعمال قوتها العسكرية في سبيل تحقيق ذلك.

يظل أمل روسيا في اختراق كل تلك الحواجز مرتبطًا بقدرتها على لعب أوراق الضغط التي تمتلكها وتوظيف عناصر التأثير الثلاثة المُشار إليها في الفقرة أعلاه.

الطاقة: مدخل روسي للتأثير في المنطقة

أبرز مشاريع الطاقة التي تستهدف المنطقة وأضخمها على الإطلاق يظل المشروع الروسي العملاق المتمثل في ما يسمى بـ"يوجني توك" أو الخط الجنوبي لإمدادات الغاز الذي يمرّ عبر عدد من دول البلقان، والذي من المقرر أن يُمدّ كامل أوروبا بالطاقة التي تحتاجها. هذا المشروع لن يكون هدفًا نهائيًا في حد ذاته، فهو من دون شك له تأثير واضح على أمن المنطقة من حيث الطاقة، لكنه في عيون صانع القرار في الكرملين آلية لتحقيق أهداف إستراتيجية بعيدة المدى.

فموسكو تعتقد أن أوروبا تحمل تناقضات بين مكوناتها وترى أن ضعفها بيّن على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وقد بدا ذلك في عجزها المتواصل عن تأكيد فعالية دورها في ملفات عديدة في المنطقة ومنها المسألة البوسنية وقضية كوسوفو، كما أبانت دول الاتحاد الأوروبي عن عجز في حماية اقتصادات بلدانها الأعضاء من الانهيار ولم يكن لها مواقف سياسية واقتصادية موحدة حول أهم قضايا المنطقة. إلا أن ما يهم موسكو أكثر هو عدم تفعيل معارضة الاتحاد الأوروبي لمشروع روسيا "يوجني توك"، رغم أن بروكسل تدعم مشروع "نابوكو" للطاقة البترولية والغازية الذي ينطلق من أذربيجان ليمر عبر تركيا ويصل إلى أوروبا.

كما تعوّل موسكو بقوة على انفراط عقد الاتحاد الأوروبي وتقلص قوة حلف الناتو، وبالتالي تراجع دور أميركا وتأثيرها في منطقة أوروبا بشكل عام.

وفي هذا السياق الإستراتيجي العام، فإن منطقة شبه جزيرة البلقان قد لا تكون مركز اهتمام الكرملين الأول، وإنما سيكون هدفها الأساسي بعيد المدى هو العودة القوية إلى التأثير المباشر والفاعل في منطقة أوروبا كمركز وليس فقط البلقان كطرف، فشبه الجزيرة البلقانية يُراد له أن يكون بشكل فعلي ومباشر، منطقة حيوية تمكّن روسيا من لعب أدوار أكبر وأكثر تأثيرًا في ما يُعتبر حديقة خلفية لأوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

"مكانك راوح" في بلدان البلقان الأضعف

تحتوي الإستراتيجية الروسية الكبرى في استغلال البلقان لعودتها إلى الساحة الدولية على عدة مكونات تكتيكية، منها بالأساس عزم الرئيس الروسي القوي فلاديمير بوتين، على إبقاء عدد من القضايا الحارقة في دول ما كان يُعرف بيوغسلافيا السابقة على ما هي عليه من حالة المراوحة في المكان نفسه، وربما يسعى كذلك إلى مزيد تعقيدها، وللكرملين فرص عديدة للعب هذه الأدوار سواء فيما يتعلق بوضع كوسوفو وخاصة المنطقة الشمالية منه، أو بالوضع الداخلي المعقد في مقدونيا ومحاولة منعها من تحقيق شروط اللحاق بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وكذلك لموسكو مجال واسع للعب أدوار أخرى في كل من صربيا ذاتها وجمهورية الجبل الأسود، أما الدور الروسي الأبرز فيتجلى في دعم الكرملين المشبوه لمشروع "ريبوبليكا صربسكا" بقيادة رئيس وزرائها المثير للجدل، ميلوراد دوديك، وتهديده المتواصل بانفصال الكيان البوسني عن دولة البوسنة والهرسك، وهو ما يهدّد أمن المنطقة بأسرها ولا يزيل مخاوف جدية من إعادتها إلى المربع الأول الذي كانت عليه عام 1991 عند انطلاق أحداث حرب البلقان الأخيرة، وفي ذلك بالتأكيد تهديد أمني وسياسي أكبر سيجرّ أوروبا بأسرها إلى حالة من عدم الاستقرار والخوف من أن تصل شرارة أتون حرب بلقانية جديدة إلى قلب أوروبا، إذا ما قُدّر لها أن تندلع في المنطقة الرخوة من خاصرة القارة العجوز.

يمكن لروسيا أيضًا أن تلعب على العامل الإثني في دول البلقان لخلق فوضى جديدة تسمح لها بلعب أدوار متقدمة كوسيط لحلها، أو قد تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في تسليح بعض أطرافها ودعمه لوجستيًا واستخباراتيًا وعسكريًا، وقد فعلت ذلك خلال الحرب البلقانية الأخيرة، أو أن تقوم بدعم بعض الحكومات التي ترتضيها اقتصاديًا وسياسيًا وكسبها إلى جانبها في دعم موقعها على الساحة الدولية، أو على الأقل ضمان حيادها عند الحاجة.

إن الحفاظ على حالة الفوضى التي يعيشها أغلب دول البلقان يعني لروسيا إظهار حلف الناتو بمظهر الفاشل في تهدئة الأوضاع واستعادة الأمن في المنطقة، وبالتالي التشكيك في فكرة ضرورة حضور قوات الحلف في المنطقة، ومن ورائها واشنطن، كحلّ أوحد لمعالجة أوجاع البلقان بعد رميها بالفشل الذريع في مهامها من أجل إحلال الأمن والاستقرار في أي من مناطق أوروبا.

إن بقاء دول البلقان غير مكتملة الملامح كدول مستقرة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا، وفاقدة لمؤسسات ثابتة وسياسات واضحة، لن يقودها إلى الالتحاق بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ولن يساعدها بالتالي على التخلص من فساد الطبقة السياسية المتورطة في زعزعة الاستقرار الداخلي لعدد من دول البلقان مثل صربيا والجبل الأسود ومقدونيا وكوسوفو والبوسنة والهرسك.

فعدم استقرار هذه البلدان البلقانية وضعف باقي دول المنطقة الأخرى الاقتصادي والسياسي يؤثر بالضرورة على اكتمال المشروع الأوروبي وتعثره وربما تفككه لاحقًا، وهو ما تراهن عليه موسكو بل وتعمل على تهيئة الأسباب المؤدية إليه، خاصة وأن هناك عدة مؤشرات تشير إلى ذلك، أهمها انقسام دول الاتحاد الأوروبي حول الاعتراف باستقلال كوسوفو، أو موقف الاتحاد غير الواضح والبطيء بشأن ضم بعض البلدان البلقانية إلى الاتحاد، وفي مقدمتها دولة البوسنة والهرسك.

البوسنة والهرسك: الحلقة الأضعف

لا شك أن وضع دولة البوسنة والهرسك اليوم يجعلها الحلقة الأضعف بين دول البلقان المستقلة عن يوغسلافيا السابقة، إذا ما استثنينا كوسوفو، وهي بالتالي، كما يقدّر ذلك عدد من الإستراتيجيين والمحللين السياسيين، قد تكون البوابة الأيسر لتدخل روسي أكبر في المنطقة خاصة وأن انتخابات البوسنة الأخيرة قد صعدت بمن يُحسبون من أتباع موسكو إلى سدة الحكم أو دعّمت مواقفهم، فبناء على ما أفرزته انتخابات أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2012، وبناء أيضًا على التشكيل الحكومي الجديد الذي أفرزته معادلة الساحة السياسية الجديدة في البوسنة، يمكن القول بأن ملامح محور ينطلق عموديًا من موسكو ليمر عبر بلغراد، الحليف الطبيعي لروسيا، ثم "بانيا لوكا" عاصمة ريبوبليكا صربسكا وانخراط رئيس حكومتها الكامل في المشروع الروسي، وصولاً إلى سراييفو التي تغيرت ملامح تركيبتها الحكومية، ملامح هذا المحور إذن قد استكملت تشكلها بعد أن كانت مجرد تخمينات في دوائر استخباراتية غربية(*)، وذلك بوصول رجل الأعمال المثير للجدل ورئيس حزب (من أجل مستقبل أفضل للبوسنة)، فخر الدين رادونتشيتش، إلى سدة وزارة الداخلية واحتفاظ زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، زلاتكو لاغومدجيا، بوزارة الخارجية.

في هذا السيناريو، الذي شهد ائتلاف الحزبين المشار إليهما أعلاه واستبعاد أكبر الأحزاب البوسنية القومية وهو جبهة العمل الديمقراطي من التشكيل الحكومي؛ فإن الأجواء صارت مهيأة لتنفيذ مخطط يهدف إلى وضع كل العراقيل الممكنة أمام انضمام البوسنة والهرسك إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وإبقاء الأوضاع في البلد على ما هي عليه؛ ومن ثمّ توجيه الاتهام إلى مؤسسات الحلف بالعجز عن توفير الأمن والسلم في البوسنة والهرسك، وبالتالي إظهاره في مظهر المنظمة التي لا يمكنها لعب الأدوار الأساسية في رسم معالم مستقبل أضعف دول المنطقة وأكثرها عرضة للاختراق.

ما يجعل هذا السيناريو ممكن التنفيذ هو حالة الترهل التي عليها مؤسسات دولة البوسنة والهرسك، ووضعها الحالي كمرشح للالتحاق بحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وهذا ما يمكن أن يتيح الفرصة لنفاذ عناصر موالية للحزبين المذكورين سابقًا إلى المؤسسات الغربية: حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، عبر فرق المفاوضين والفنيين المعنيين بعمليات الإصلاح وغيرهم من الموظفين السامين.

تهديد لأمن أميركا وحلف الناتو في شقه الجنوبي

هذا المحور الذي يمتد من موسكو له طرفان مباشران يربطانه مباشرة بـ "بودغوريتسا" عاصمة دولة الجبل الأسود من جهة، ويرتبط أيضًا بطهران من جهة ثانية، وهي الحليف المدلل لروسيا، ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بل إن هناك عددًا آخر من السيناريوهات لاختراقات مشابهة تنطلق من موسكو لتشمل دولاً ومناطق أو جماعات أخرى في البلقان.

هذا التغلغل الروسي الذي يجد له متعاونين في الداخل البلقاني والبوسني على وجد التحديد، عن طريق رادونتشيتش ولاغومدجيا، سيساعد في عمليات تحويل الأموال الروسية غير المراقبة والمتأتية من مصادر غير نظيفة لتمويل مشاريع مشبوهة داخل البوسنة والهرسك، وستحظى أي هذه المشاريع بالمباركة السياسية لأعوان موسكو من السياسيين والأمنيين الموالين لها ولمشروعها التوسعي في المنطقة تحقيقًا لأهداف استعادة السيطرة على مقدّرات البلدان البلقانية واستبعاد الغربيين عن التأثير من خلال تعطيل انضمام البوسنة والهرسك إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

تحاول روسيا بقيادة بوتين وبكل الوسائل المتاحة لها العودة من بوابة البلقان لاستعادة دورها على الساحة السياسية الدولية، وقد اختارت هذا الوقت الذي تمر فيه أوروبا الغربية بأوقات صعبة مع تنامي المشكلة الاقتصادية وما أفرزته من أسئلة حول مدى متانة الاتحاد الأوروبي وقدرته على الصمود والحفاظ على الدول الأعضاء فيه، وحمايتها من الهزات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة على غرار ما تشهده اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، أو أيضًا على توحيد مواقفه من القضايا المهمة مثل قضية دعم التدخل العسكري الفرنسي في دولة مالي من عدمه، كما أن الولايات المتحدة الأميركية قد صرفت جانبًا مهمًا من تركيزها إلى قارة آسيا باعتبارها وجهتها الإستراتيجية الأهم في المرحلة القادمة كما ورد في عدة تقارير وتصريحات صادرة عن البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية.

تخلٍ غربي عن البلقان، وروسيا تملأ الفراغ

في هذا الوقت الذي تنشغل فيه القوى العظمى بملفات أخرى، يبقى الملف البلقاني غير ذي أهمية أو أولوية في سياسات بروكسل وواشنطن، وهو ما جعل روسيا بوتين ترى في الأمر فرصة سانحة تمامًا لتجديد محاولاتها في استعادة دورها وتوسعة تأثيرها في المنطقة الأضعف في القارة الأوروبية، وهي منطقة البلقان.

المكون الرئيسي لهذه الإستراتيجية الروسية، يتمثل في مشروع أنبوب الغاز المسمى "يوجني توك" أو الخط الجنوبي لإمدادات الغاز، والذي تسعى موسكو من خلاله إلى تأكيد ارتباط أجزاء من القارة الأوروبية وجعلها أكثر قربًا واعتمادًا على روسيا.

هذا ما يجعل البلقان يمثل المنطقة الرئيسية التي تحظى باهتمام الكرملين كنقطة عبور ومدخل لاختراق آمن للمنطقة الأوروبية عن طريق مدّ أنبوب الغاز "يوجني توك". وقد شهدت الأشهر الثلاث الأخيرة من العام الماضي 2012 إبرام جملة من الاتفاقيات الثنائية بين موسكو وعدد من العواصم البلقانية التي أبدت موافقتها على أن تكون أراضيها ممرًا لهذا الأنبوب الضخم.

كما عُقد اجتماع موسع في موسكو وجّه فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الدعوة إلى رؤساء الوزراء ووزراء الطاقة في البلدان الشريكة في هذا المشروع وهي إلى حدّ الآن: صربيا والمجر وسلوفينيا، ومؤخرًا التحقت بلغاريا بمجموعة الدول البلقانية الشريكة في مشروع الطاقة هذا والذي سيمرّ جزء مهم من إمداداته عبر أعماق البحر الأسود.

فالحديث اليوم عن أن خيار اللحاق بالمشروع الأوروبي الغربي للبلقان هو البديل الأوحد قد بات مشكوكًا فيه، على الأقل من وجهة نظر روسيا، وقد ظهر ذلك بقوّة خلال الدعوات التي وجّهها عدد من رجال السياسة الروس، كان أبرزهم سفير روسيا لدى صربيا، ألكسندر كونوزين، في ندوة عُقدت في بلغراد أوائل العام الماضي تحت عنوان: روسيا والبلقان: تاريخ واحد وآفاق مشتركة.

تتلخص الرؤية الروسية، كما جاءت على لسان السفير كونوزين، في أن "لحاق دول منطقة البلقان بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو يُخفي مخاطر كبيرة على شعوب المنطقة، ومقولة الوحدة الأوروبية تحمل في طياتها أكذوبة كبرى كشفها تخلّي مؤسسات الاتحاد الأوروبي عن الدول الأعضاء التي عاشت أزمة مالية واجتماعية خانقة. إن البلقان يتعرّض إلى عملية قسرية لتسريع مسار التاريخ فيه، وفي ذلك خطر داهم على أمنه واستقراره، وروسيا لن تتخلّى عن أصدقائها وحلفائها في المنطقة ولن تتركهم لقدر يُراد أن يُفرض عليهم من الدوائر الغربية المتنفذة. سنوثق علاقاتنا مع بلغراد أكثر ونقدّم للشعب الصربي مساعدات حقيقية كما فعلنا ذلك دائمًا، وسنبقى أشقاء أوفياء لهم ولن نخونهم مثلما فعل معهم الغرب وقصف مدنهم ودمّر بنية البلاد التحتية... إن روسيا هي الدولة الوحيد التي ساندت صربيا في مجلس الأمن، وهي مستعدّة لبذل المزيد من الجهد للوقوف إلى جانب صربيا...".

فالبلقان في المنظور الروسي لا يزال يمرّ بتغييرات عميقة لم تنته بعد، وما مسألة كوسوفو ومشكلات البوسنة والهرسك وأحداث مقدونيا والهزات الكبرى التي تعيشها بلغاريا، إلى جانب عدم وضوح الرؤية بشكل حاسم في خيارات القيادات الصربية وتوجهاتها المستقبلية، إلا دليلاً على أن البلقان يقع على الحدود ما بين أحداث مضت ولا تزال آثارها تتفاعل على الساحة، وبين سياسات حالية وأخرى تُصاغ  للمستقبل. وهذا ما يجعل البلقان يمثل المنطقة الرئيسية التي تحظى باهتمام الكرملين كنقطة عبور ومدخل لاختراق آمن للمنطقة الأوروبية.
__________________________
كريم الماجري - باحث متخصص في الشأن البلقاني

هامش
(*) يذهب إلى هذا التحليل عدد من المختصين الأمنيين والعسكريين من أبرزهم يانوز بوغايسكي، أستاذ الدراسات الإستراتيجية بمعهد الدراسات الإستراتيجية والسياسية في واشنطن. كما ساندت هذا التحليل، ماغاريتا أسانوفا، المختصة في العلاقات الدولية في مؤسسة جيمس تاون للدراسات الأورو-آسيوية.

ABOUT THE AUTHOR