ديمقراطية الهند وتحديات النجاح

في الوقت الذي يقوم فيه العالم العربي ببطء، ولكن بثبات، بإعادة النظر في مؤسساته القائمة وأنماط كسب الشرعية والتحول الديمقراطي، فإن الهند تقدم دروسًا عن كيفية بناء الديمقراطية على مر الزمن بشكل تدريجي مدروس ونابع من الداخل. تناقش هذه الورقة التجربة الهندية والتحديات التي تواجهها.
1 October 2013
201310312171423734_20.jpg
تجمع لمؤيدي حزب بهاراتيا جاناتا المعارض في نيودلهي سبتمبر الماضي (أسوشييتد برس)

ما الذي يجعل الديمقراطية الهندية حيوية؟ وما هي أهمية الديمقراطية الهندية؟ وما هي التفاعلات والتحديات التي تواجه هذه الديمقراطية التي امتدت على مدى 66 عامًا في هذا البلد، صاحب السجل الحافل الذي لا مثيل له خارج نطاق الديمقراطيات الراسخة؟ هذه هي الأسئلة التي تسعى هذه الورقة للإجابة عليها. والسياق الذي يجري فيه بحث هذه القضية في غاية الأهمية، ففي الوقت الذي يقوم فيه العالم العربي ببطء، ولكن بثبات، بإعادة النظر في مؤسساته القائمة وأنماط كسب الشرعية والتحول الديمقراطي، فإن الهند تقدم دروسًا عن كيفية بناء الديمقراطية على مر الزمن بشكل تدريجي مدروس ونابع من الداخل. والهدف هو توجيه صنّاع القرار العربي والباحثين في موضوع التغيير للانتباه إلى هذا النموذج، رغم أنه لا يخلو من عيوب، باعتباره مرجعية جديرة بالاهتمام للراغبين في توسيع آفاقهم في مجال دراسة الديمقراطية -والتي غالبًا ما تنحصر في النماذج القائمة في أوروبا والولايات المتحدة. وهناك بعض الملاحظات حول أهمية الديمقراطية في الهند أدرجناها في هذه الورقة.

أهمية الديمقراطية في الهند

الديمقراطية في الهند مهمة لعدة أسباب، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالعالم العربي، فهي ديمقراطية كانت قادرة على إعادة إنتاج نفسها، وتحدي التحيز الموجود في أدبيات الديمقراطية بعمومها(1). ومن الأمثلة على ذلك وجهة النظر التي تروج لها نظريتا التنمية والتحديث، واللتان تشترطان لقيام الديمقراطية مستويات عليا من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتفترضان أن إضعاف التقاليد يسهل تحقيق التنمية السياسية، أو اكتساب الديمقراطية. وقد عززت الهند ديمقراطيتها رغم كل الصعاب، والمتمثلة في عدد السكان الضخم، والأداء الاقتصادي المتواضع لعدة عقود منذ استقلالها في عام 1947، والتنوع الفسيفسائي في مجتمعها، وهي العوامل التي كان يُعتقد أنها عوائق أمام بناء الديمقراطية. وإلى حد ما، تقف الديمقراطية في الهند، مسلحة بـ 66 عامًا من جهود ترسيخها، ندًا للديمقراطيات القائمة في أوروبا؛ حيث لجأ بعض البلدان هناك لإعادة الدمقرطة بعد الحرب العالمية الثانية -منها على سبيل المثال ألمانيا وإيطاليا. وبالنسبة للدول التي تريد التعلم من هذه التجربة في المنطقة العربية، بما في ذلك الدولة العربية الأكثر اكتظاظًا بالسكان، مصر، فإن التنوع الموجود في الهند، وتواضع الأداء الاقتصادي لم يعرقلا التطور الديمقراطي. وهذه الدروس نفسها ذات قيمة للدول العربية الفقيرة. فمن المنطقي سياسيًا بالنسبة لأي من هذه الدول التوجه إلى الهند لتعلم الديمقراطية بقدر ما تفعل لدراسة أمثلة أخرى من آسيا وأميركا اللاتينية بعناية للاستفادة من التقدم الديمقراطي فيها.

من حيث التنوع، وعلى الرغم من وجود عدم مساواة بين الطبقات الاجتماعية أو الأديان المختلفة، حيث إن الهندوسية هي الدين المهيمن، لا يمكن أن يقال: إن هذا المزيج قد أعاق التحول للديمقراطية. فإذا استطاع الهندوس والمسلمون وغيرهم التعايش في ديمقراطية الهند، ليس هناك إذن من سبب يمنع أن تكون هذه هي الحال في مصر أو الدول العربية الأخرى متعددة الأديان والأعراق (مثل العراق، سوريا، لبنان). وعلاوة على ذلك، بعد أن عززت الهند ديمقراطيتها لأكثر من 66 سنة، فإنها الآن تجني فوائد التنمية السياسية في المجال الاقتصادي، كونها واحدة من الفائزين في عالمنا الذي يتجه بازدياد نحو العولمة. وعلى وجه الخصوص، فإن استثمار الهند في رأس المال البشري والتكنولوجيا قد وضعها بين أصحاب الأداء الأفضل في مجال العولمة من حيث النمو، وجنبًا إلى جنب مع دول مثل البرازيل والصين والقوى الناشئة الأخرى، ويُتوقع لأداء الهند الاقتصادي أن يكون جيدًا جدًا على مدى العقد المقبل. ومن هذا المنظور، فإن ديمقراطية الهند -على الرغم من الثغرات والمخاوف التي يعلمها الهنود أنفسهم- قد حققت عوائد اجتماعية واقتصادية.

وتجدر الملاحظة أن اقتصاد الهند قد انتقل من القيادة المركزية إلى إدارة السوق الحر -رغم وجود بعض التنظيم الحكومي في عام 1991(2). وفي معرض تقييم الديمقراطية في الهند، من المهم أن نقدر البعد "العملي" في هذا النموذج الذي يتحدى العديد من النظريات وما وضعته من افتراضات تتعلق بالديمقراطية. وهذه الافتراضات لا تتحدث تحديدًا عن خصوصية الهند أو واقعها، كما أنها لا تخص التطورات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية لأي من البلدان النامية. ويفرق كولي ببراعة بين الأسطورة والحقيقة في وصفه للديمقراطية في الهند؛ حيث قال: "إن نجاح الديمقراطية في الهند يتحدى العديد من النظريات السائدة التي تضع شروطًا مسبقة للديمقراطية؛ فالهند ليست اقتصادًا صناعيًا ناشئًا، ورجال الأعمال الهنود والطبقة المتوسطة لا يسيطرون بشكل كامل على السياسة في البلاد، والهند أبعد ما تكون عن التجانس العرقي، وستحتل على الأرجح مرتبة متدنية إذا ما طبقنا بعضًا من معايير "الثقافة المدنية"(3).

ومع ذلك، هناك ملاحظة واحدة ذات أهمية للدول العربية التي شرعت في تعلم الديمقراطية؛ وهي أنه لا توجد ديمقراطية دون بناء مؤسسات، وهذا هو الجانب الذي ركزت عليه الهند عبر السنين لتقوية بنية نظامها السياسي القائم على فيدرالية غير مرهونة لمعايير محددة مع دوائر سلطة وحكم ذاتي متحدة المركز على مستوى الاتحاد والولاية والمنطقة المحلية، وعلى روح القومية التي تعتبر حساسة بالنسبة للتعددية (الثقافات والإثنيات والهويات،... إلخ)، وعلى التوفيق بين ضرورات التدخل السياسية والاقتصادية والتنظيمية، وعلى أساس قانوني يتم بموجبه تقاسم السلطة وتوزيع السلع والخدمات. ومن الواضح أنه لا توجد وصفة سحرية، والهنود يطالبون باستمرار بإصلاح نظام لا يستطيع دائمًا وفي كل مكان إرضاء الجميع حتى في أفضل البلاد تطبيقًا للديمقراطية. ولم يكن أحد يتوقع أن حكم ما يزيد على المليار نسمة مهمة تخلو من الصعوبة؛ وهنا تُصنّف الهند والصين في فئة خاصة من حيث صعوبة الإدارة السياسية لأنظمة حكم ضخمة.

ما وراء "أكبر ديمقراطية"!

تفتخر الهند بوصفها "أكبر ديمقراطية". بطريقة ما، فإن هذه العبارة العامة تعتّم على الكثير مما يتعلق بنموذج الهند للديمقراطية، وهذا النموذج ليس فريدًا من نوعه فقط بسبب الحجم الهائل من الناخبين الذي يصل عددهم إلى ما يقرب من 750 مليونًا. ومجموع الناخبين في الهند يساوي عددهم في جميع الديمقراطيات الراسخة والانتقالية في العالم، ويبلغ متوسط الإقبال على الاقتراع 50 بالمئة ويزيد؛ فالهنود يأخذون الديمقراطية على محمل الجد. ومع ذلك، فإن التركيز على الحجم وتجاهل التنوع تقصير في وصف النظام الديمقراطي في الهند بما يستحقه. هذه ديمقراطية تدوم وتتقدم وتتطور وتجتاز اختبار الزمان والمكان لأن التنوع الذي تمتاز به الهند ينطوي على أساس للتعددية التي تثير إعجاب العديد من البلدان في العالم الذي نعيش فيه. وديمقراطية الهند منسوجة مع مئات من اللغات والأعراق والمعتقدات ومجموعة متنوعة من العقائد والأديان. وتشكّل كل هذه عالمًا يثريه تنوع المناخ، والمناظر الطبيعية والحيوانات والنباتات. والولايات المتحدة هي أقرب ديمقراطية إلى الديمقراطية الهندية من حيث التنوع والأعراف والجغرافيا المادية والبشرية.

وسياسيًا أيضًا، هناك طبقات مؤسسية معقدة تميز النظام السياسي في الهند. وتتكون المؤسسات التمثيلية ذات المجلسين من مجلس النواب (لوك سابها) ومجلس الشيوخ (راجيا سابها). ويعكس هذا النظام إلى حد ما بصمة النظام البرلماني البريطاني على الديمقراطية في الهند. ولم تستفد أية دولة عربية كانت خاضعة للإدارة الاستعمارية البريطانية بقدر ما استفادت الهند من النظام البريطاني من حيث التكوين أو المؤسسية الديمقراطية في فترة ما بعد الاستعمار. وهذه ميزة إضافية كامنة في تطور الهند الديمقراطي، وهو تطور لم يبدأ من الصفر، بل إنه تطور مكّن التقاليد الديمقراطية الراسخة مثل الشورى والأشكال المحلية للحكم الرشيد والشرائع والقيم الروحية الساعية إلى المعرفة. وهذا النوع من التلاقح يعطي ديمقراطية الهند طابعًا مؤسسيًا وتاريخيًا جعل من السهل على هذا البلد أن يستوعب بثقة كل ما هو عالمي ويعيد تشكيله، وذلك على جميع الجبهات، بما في ذلك التكنولوجيا من خلال تمريره في فلتر المحلية. وهنا نجحت الهند بينما البلدان الأخرى، ولاسيما الدول العربية التي تميل إلى تقليد التجارب الغربية (مثل الاشتراكية والعلمانية، والعولمة، وغيرها)، لم تحقق إلا نجاحًا محدودًا أو غير ذي قيمة.

بالإضافة إلى النظام التشريعي الثنائي، فإن الفيدرالية غير الملتزمة بمعايير محددة في الهند تندمج فيها ثلاثة مستويات سياسية: الاتحادية والولايتية والمحلية. ورغم أن روح التضافر لا تسير دائمًا بسلاسة بدون مشاكل أو تحديات، إلا أنها الوسيلة التي تجعل النظام السياسي في الهند متماسكًا. وبشكل أو بآخر، هناك ثلاثة أشكال من التعددية والديمقراطية التي تذوب في بوتقة التوحد والاستقرار. والمجد الديمقراطي يتحقق عندما تشكّل هذه الطبقات الثلاث الديمقراطية بشكل فردي وجماعي. ويتم انتخاب أعضاء مجلس النواب، والذين ينبثقون من انتخابات معقدة تُستخدم فيها أحدث التقنيات، بشكل مباشر من قبل الشعب في انتخابات دورية تجرى غالبًا كل خمس سنوات. ويوكل إلى البرلمانيين المنتخبين مهمة انتخاب رئيس الوزراء وهو رئيس الحكومة ومركز السلطة الحقيقي. وفي الهند ولايات وأقاليم فيها برلمانات وأنظمة سياسية خاصة بها تضمن أن التمثيل والمساءلة وسيادة القانون جزء من السياسة المحلية. ويتم دمج هذه الأنظمة في السياسة الاتحادية بعدة طرق، وخصوصًا في تصويتهم لأعضاء مجلس الشيوخ.

تفاعلات وتحديات

تمزقت ديمقراطية الهند بين التأميم والتجزؤ، وبين السوقنة (marketisation)، أي مصالح الأقوياء والأغنياء، والمساواة (أي الاهتمام بالفقراء). وإلى حد ما، فإن هذه الاتجاهات هي ثوابت في الديمقراطية الهندية. ويُبرز كولي بدقة واحدة من السمات الأساسية للديمقراطية في الهند، ويلاحظ أهمية تحقيق التوازن في الهند لإعادة إنتاج ديمقراطيتها. ومما يعد جزءًا لا يتجزأ من هذا التوازن هو:

1- استيعاب الآراء والصراعات كما هو متوقع من أي نظام ديمقراطي فعال، و2- تحقيق درجة من العدالة في التوزيع يعيد تكوين السلطة بطريقة تمنع دفع من لا يملكون إلى مزيد من الهامشية وذلك بمنح قطعة من كعكة الاقتصاد -بما يشبه الممارسات الاشتراكية- للمحتاجين والأقل حظًا. وعلى حد تعبير كولي: "أولاً: يجب إيجاد توازن دقيق وإعادة التوازن بين قوى المركزية واللامركزية. وثانيًا: خدمة مصالح الأقوياء في المجتمع دون إقصاء الجماعات الأضعف بالكامل"(4). إذن فإن تفاعلات الديمقراطية في الهند تُعزى جزئيًا إلى قدرة منهجية على الاستجابة للتحديات التي تواجه المجتمع -الفقراء والأغنياء- من أساسها، وكذلك السماح بتوسيع هامش الوجود لكل أطياف المجتمع. وهكذا فإن كولي يصف جوهر الديمقراطية في الهند؛ حيث يحافظ مئات الملايين من الناس على "الطلب" وتحاول السلطة المركزية على الدوام أن ترقى إلى تلبية ذلك من خلال العرض: أي توزيع السلطة (الديمقراطية السياسية) إلى جانب توفير السلع الاقتصادية (مقياس الديمقراطية الاقتصادية).

وتعبّر دورتا الانتخابات الماضيتان في الهند عن جدلية التوحد الوطني والتجزؤ، والمركزية واللامركزية، والسوقنة والمساواة، والى حد ما عن قوى القومية الدينية (وربما تُفهم هذه أيضًا على أنها "أصولية هندوسية") والتعددية الدينية. ولفهم كيف تحرك هذه الجدليات ديمقراطية الهند، لابد من رسم خارطة السياسة الحزبية؛ فعلى وجه الخصوص، ظل التنافس قائمًا لبعض الوقت بين حزب المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا، وهما الحزبان الأكثر شعبية في البلاد وأوسعها حيلة، والذي أدى التنافس بينهما إلى خلق نوع من التماثل مع الديمقراطية الأميركية حيث التنافس قائم بين الجمهوريين والديمقراطيين. هناك فرق واحد، وهو أن الهند غارقة في السياسة الحزبية التي تمثل جميع أنواع الأيديولوجيات والقناعات، من الإسنادية/البدائية إلى العالمية/الحديثة، ومن اليسار إلى اليمين على طول الطيف السياسي. وبينما تتنافس هذه فيما بينها بشكل فردي على السلطة والقيادة والوظائف وتعزيز أوضاعها، فإن كلاً من المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا ينخرطان في بناء التحالفات. وفي بلد تعددي إلى حد كبير وتتنوع فيه الخلافات وتتعمق، تعمل التحالفات على سد الفجوات الأيديولوجية والجغرافية، وحتى تفاوت الثروة، بحيث تصبح السياسة لعبة لمعالجة الاختلافات، بما فيها ما يتعلق بالعرق والطائفة والطبقة والدين.

وفي مساعيهما لتنظيم وتأطير الديمقراطية في الهند، يجب على الحزبين الأكبر التوجه إلى نوعين من الدوائر الانتخابية، الأول: مزيج حزبي، أو حرفيًا "جمعية" من الأحزاب السياسية التي تشترك في تشكيل الأجندات السياسية والتنظيمية والديمقراطية؛ وثانيًا: هناك الناخبون المقترعون من الحزبيين وغير الحزبيين الذي يمكن لتأييدهم في 28 ولاية أن يقرر مصير المتنافسين السياسيين الرئيسيين الذين يتسابقون للفوز بالهيمنة والغنائم التي تأتي مع المنصب. ويعد تأييد الأحزاب لسياسات وبرامج حزب المؤتمر أو حزب بهاراتيا جاناتا عاملاً حاسمًا من الناحية السياسية بقدر أهمية حشد الجماهير عبر حدود الطائفة والدين والمعتقدات والطبقة لإعطاء أصواتهم إلى أي من الطرفين. وعندما تتخلى الأحزاب عن أي من الحزبين الكبيرين، فإن هذا يعني أن خارطة السلطة في الهند في طور إعادة الرسم.

ربما كان هذا واحدًا من العوامل الرئيسية التي أعادت حزب المؤتمر إلى سدة السلطة في الانتخابات العامة لعام 2009. حينها قام نجم سينمائي بعملية هدم قررت مصير أحد الأحزاب وهو حزب تيلوغو ديسام، متسببًا بخسارة استفاد منها حزب المؤتمر. وحقيقة أن حزب بهاراتيا جاناتا شهد انشقاقات داخل ائتلافه المسمى التحالف الوطني الديمقراطي قد تكون واحدًا من أبرز العوامل التي تفسر هزيمة هذا الحزب في الانتخابات العامة لعام 2009. ويُعتقد أن فقدان الحلفاء قد ساهم في النتيجة النهائية لتوزيع المقاعد وعزز من فرص خسارة حزب بهاراتيا جاناتا الرهان أمام حزب المؤتمر؛ والأمثلة على ذلك وفيرة.

ويمكن أن تعزى عودة حزب المؤتمر من التيه السياسي في التسعينيات، حين كان حزب بهاراتيا جاناتا يحتل مركز الصدارة، إلى دينامية "العودة للروح الوطنية" في ديمقراطية الهند. وهذه مسألة لا يمكن تجاهلها بسهولة. وفي الواقع فإن الإرث التاريخي لحزب المؤتمر بوصفه مهندس الأمة وباني الدولة وأحد المساهمين الأبرز في عملية التحديث والدمقرطة في حقبة ما بعد الاستعمار منذ الخمسينيات لا جدال فيها. وتشير عودة المؤتمر للحكم جزئيًا فقط إلى دينامية "العودة للروح الوطنية"، أي العودة إلى الشرعية، وهيبة القيادة بروح الآباء المؤسسين للهند مثل نهرو وغيره. ومما يعد جزءًا لا يتجزأ من هذه الروح عملية التوفيق بين وجهات النظر المختلفة في الهند، والتي تشكّل هذه "الفسيفساء" الإنسانية المبهرة التي تسعى الديمقراطية لتشملها.

هذا هو السبب الذي جعل حزب المؤتمر يعمل كأداة توفيق في ديمقراطية الهند بحيث يذوب فيها الفرق بين المسلم والهندوسي في بوتقة المواطنة السياسية. وينطبق الأمر نفسه على الطبقات الاجتماعية العليا والدنيا؛ مما يخلق بين الأضداد شكلاً من أشكال التضافر الحيوي، يضمن على الأقل مواطنة "متساوية" حزبيًا على الرغم من التفاوت في الدخل، وما إلى ذلك. ويركز أحد الباحثين على هذه النقطة حول قدرة حزب المؤتمر على الجمع بين القوى التي تقف على طرفي نقيض(5). وبينما قد تبدو دينامية العودة للروح الوطنية معقولة، إلا أن التصويت في الهند، مثل السياسة، رهن إلى حد كبير بـ "الفلاتر" العرقية والإقليمية.

ويتحدث شاندرا على وجه التحديد، في السياق الهندي، عن "الأحزاب العرقية"(6)؛ ففي ولاية كيرالا وولاية أندرا براديش، فإن ما يلفت الانتباه فيما يتعلق بالديمقراطية هناك ليس ما يحدث في محيط السياسة الاتحادية، بل إن القضايا المحلية تنافس على جذب اهتمام الساسة بل وحتى تشكيل آفاق تفكيرهم. وهذه التفاعلات الجدلية ليست سلبية بالضرورة، بل يمكن أن يكمن فيها سر استدامة الديمقراطية في الهند لأنها تجعل منها متعددة الطبقات ومنتشرة، وليست متركزة داخل مركز واحد، سواء كان ذلك من الناحية الجغرافية أو العرقية أو السياسية. ويمكن أن يقال: إن الديمقراطية في الهند موجودة في كل مكان.

والديمقراطية في الهند معقدة بحيث إن التفسيرات الفردية لها لا معنى لها. وحسب كولي، تفسر عودة حزب المؤتمر بأنه لم يخسر لمسته الجامعة أو قدرته على التواصل مع الأقل حظًا الذين يجب الاهتمام بهم. وهنا يجد المرء نفسه أمام نوعين من الإدارة السياسية:حزب المؤتمر، شبه "الاشتراكي"، الذي يتسم بميله تجاه المحتاجين وتقبله "للآخرين" على تعددهم من أولئك الذين قد لا يجدون أنفسهم، ناهيك عن إيجاد موطئ قدم راسخ، داخل حزب بهاراتيا جاناتا. وربما تكون السياسة في حزب بهاراتيا جاناتا "يمينية"، أي سياسة إسنادية في أحد مستوياتها وميالة إلى إرضاء الهندوس -على شاكلة حزبٍ ما تابع للإخوان المسلمين في دولة عربية يسعى لكسب المتعاطفين المسلمين أو الإسلاميين.

على مستوى آخر، فإن حزب المؤتمر يشترك في النظرة العالمية السياسية التي تبرزها العولمة في الهند، فهو يعتنق اقتصاد السوق ويحتضن الأغنياء من الفئات المحظوظة في الهند. ويتحدى حزب بهاراتيا جاناتا "التعريف" من ناحية واحدة، وهو أنه منح الهند "القنبلة" وما تنطوي عليه من هيبة للوطن بالانتماء إلى نادٍ صغير من الدول النووية، وفتح الهند أمام السوق، محققًا العديد من المنافع، والمشاكل بالطبع، للبلاد. وعلى النقيض من هذا "الانفتاح" نجد أن حزب بهاراتيا جاناتا، فيما يتعلق بالهندوسية، يضع حدودًا صارمة للهوية السياسية للحزب وقيودًا على العضوية فيه، حيث يغلقها على المسلمين وغيرهم؛ فعضوية المسلمين في حزب بهاراتيا جاناتا لا تتجاوز 4 بالمئة مقابل 30 إلى 40 بالمئة في حزب المؤتمر. هل يجعل هذا من بهاراتيا جاناتا حزبًا مقتصرًا على الأغنياء والهندوس، نقيضًا لحزب المؤتمر الذي يتكون من "الليبراليين" الأفقر والأقل تدينًا؟ لاشك أن اختصار الوضع حسب هذه المعايير يبسّط الأمور بشكل مفرط ويجعلها غير واضحة للغرباء، بمن فيهم كاتب هذه السطور.

قد تكون هناك إجابة أبسط للسبب الذي جعل حزب المؤتمر يرتقي سدة السلطة جرّاء فوزه في انتخابات متتالية في 2004 و2009. قد يكون ذلك هو سياسات الحزب للتواصل مع الناخبين والساعية لإعطاء المحتاجين، سواء كانوا فقراء أو من الطبقات الدنيا، فرصة عادلة؛ فسياسة حزب المؤتمر حول ضمان العمالة الريفية، وتأمين الناس في الريف الهندي الشاسع بالحماية، "والعناية" على شكل حد أدنى قانوني للأجور تحدده الولاية، وكذلك الالتزام بإعطاء سكان الريف مئة يوم عمل سنويًا. ويتبع الحزب نهجًا مماثلاً من خلال التمييز الإيجابي بهدف شمول الطبقات الدنيا مثل ما يُسمى بـ"الطبقات المتخلفة الأخرى"(7). هذه أمثلة من سياسات "المساواة" التي قد يكون على حزب بهاراتيا جاناتا أن يستجيب لها في السنوات المقبلة. أم لعل السبب في هذا النجاح لحزب المؤتمر يُعزى ببساطة إلى عامل تمثيلي لا هيكلي، مثل بروز القيادة الجديدة للحزب وصعود نجم راهول غاندي؟ هل عودة آل غاندي إلى حزب المؤتمر وعودة الحزب لموقع الصدارة يشيران إلى إحياء نزعة السلالات العائلية في السياسة الهندية؟

تواصل ديمقراطية الهند التطور على أكثر من مستوى، وقد تعززت على خلفية أنواع مختلفة من المنافسات، ومن ذلك النضال ضد الفساد الذي يعد مشكلة كبيرة وواحدًا من عيوب النظام التي حفزت المجتمع ككل والنقاد والمفكرين للكفاح والاحتجاج الأخلاقي بهدف معالجة هذه المشكلة. وقد برزت ظاهرة الناشط السيد هازار الذي يتخذ من جانتار مانتار مقرًا له، والذي لجأ إلى طرق سلمية مثل الصيام للاحتجاج ضد الفساد والمطالبة بإنشاء ديوان مظالم لمكافحة الفساد (لوكبال) ليلهب مخيلة الهنود الذين لا يزالون مولعين بأساليب غاندي التي أثبتت نجاعتها في المقاومة ضد البريطانيين في الأربعينيات. وعلى الصعيد نفسه، فإن العديد يعبّرون عن سخطهم على أوضاع حقوق الإنسان في الهند -بما في ذلك سوء التعاطي مع قضايا العديد من الناشطين (ومنهم على سبيل المثال بيناياك سين، وغيره). ليس هناك من شك في أن النزاعات المستعصية في ولاية جامو وكشمير وفي المنطقة الشمالية الشرقية تعقّد وضع ديمقراطية الهند وحالة التوازن المطلوبة بين الأمن-النظام والمساواة-الحرية، وتترك الكثير من الفشل في تحقيق ما هو مرغوب بهذا الشأن. فعلى سبيل المثال، يجد النقاد أن قانون صلاحيات القوات المسلحة يرجح كفة الأمن على حساب المساواة وعمل المؤسسات الديمقراطية بشكل عام، وبطبيعة الحال يعوق التوصل إلى حل سلمي يرضي الطرفين.

خاتمة

بغض النظر عن المخالفات التي تهدد حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية وتقرير المصير، فإنها تظل جزءًا لا يتجزأ من لغز الديمقراطية في الهند الكامن في نجاحها الهائل ورسوخها وكذلك في عناصر التآكل فيها. لهذه الأسباب توفر ديمقراطية الهند الكثير من غذاء الفكر -سواء من حيث الممارسات الجيدة فيها أم عيوبها- للمنطقة العربية التي يسمح تاريخها الطويل من التواصل مع شبه القارة الهندية بالتبادل الثقافي ونقل الأفكار بين الجانبين على أساس من المساواة والدعم المتبادل.
__________________________________________
العربي صديقي - أستاذ جامعي متخصص في العلوم السياسية

المراجع والمصادر
1-  Sumit Ganguly, et. al., eds., The State of India’s Democracy. Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press, 2007.
2- Atul Kohli, et. al., ed. The Success of India’s Democracy. Cambridge: Cambridge University Press, 2011, p. 129.
3-  See Kholi’s Inroduction in The Success of India’s Democracy, p. 1.
4- Ibid., See Kholi’s Inroduction in The Success of India’s Democracy, pp. 1-2.
5- Paul Brass, 1980. ‘The Politicisation of the Peasants in a North Indian State’. Journal of Peasant Studies, Vol. 8, pp.3-5.
6- Kanchan Chandra, 2004. Why Ethnic Parties Succeed: Patronage and Ethnic Head Counts in India. Cambridge: Cambridge University Press.
7-Christophe Jaffrelot, 2003. India’s Silent Revolution: The Rise of the Lower Castes in North India. New York: Columbia University Press.

ABOUT THE AUTHOR