مستقبل الصراع في إفريقيا الوسطى

الصراع في إفريقيا الوسطى قابل إما للتسوية، أو التصعيد الطائفي، والأمر يتوقف على رغبة الأطراف الداخلية في ذلك، وعلى الرغبة الدولية تحديدًا؛ خصوصا دول الجوار التي تعد الأداة التنفيذية لتلك الرغبة والأهداف، وما لم يتم التحرك السريع لاحتواء الصراع، قد تكون العواقب وخيمة على الداخل والخارج.
201432591545844734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
قد تكون حلحلة أزمة إفريقيا الوسطى تتطلب شروطا منها: انسحاب القوات الفرنسية بسبب تحيزها السافر ضد المسلمين وأن يُعهد بالقيادة الدولية للقوات الأوروبية المعروفة باسم يوفور-إفريقيا الوسطى- أو أن يتم تشكيل قوات دولية بموجب قرار من مجلس الأمن تندرج تحتها القوات الإفريقية التي ثبت عدم فاعليتها منذ انتشارها عام 2008..

ومن الضروري كذلك نزع سلاح ميليشيا أنتي بلاكا أسوة بالسيليكا، مع محاولة دمج عناصرهما في جيش وطني موحد بسبب غياب دور الجيش في الآونة الأخيرة لأن استمرارها في حمل السلاح مقابل السيليكا منزوعة السلاح قد يدفع الأخيرة إلى البحث عن تسليح جديد وبالتالي اندلاع الحرب ثانية. كما قد يتطلب الأمر فرض عقوبات على البلاكا في حالة رفضها ذلك.

وهذا يعني أيضا تشكيل لجنة تقصي حقائق فورية، وتقديم المتهمين للعدالة، وربما يكون تفعيل المحكمة الجنائية أمرًا مطلوبًا في هذا الشأن لاسيما في ظل توثيق هيومان رايتس ووتش للمجازر.

وتحقق هذه الأهداف الثلاثة يستدعي تشكيل حكومة وحدة وطنية من كل الأطياف السياسية يكون الهدف منها التمهيد لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة العام القادم.

تصاعدت وتيرة الأحداث في جمهورية إفريقيا الوسطى بصورة كبيرة خلال الآونة الأخيرة، وتحول الصراع من صراع سياسي إلى صراع ديني؛ حيث شهدت البلاد أعمال تصفية جسدية من قبل قوات ميليشيات الدفاع الذاتي المسيحية المعروفة باسم: "مناهضو السواطير" "أنتي بلاكا"، والتي تضم جنودًا وأفرادًا تابعين للرئيس المخلوع فرانسوا بوزيزيه، ضد المسلمين في البلاد وكذلك ضد قوات تحالف سيليكا(1) الداعمة للرئيس المستقيل محمد ضحية المعروف باسم: ميشال جوتوديا، بالرغم من أن ضحية قام بحل السيليكا في سبتمبر/أيلول الماضي.

هذا التصاعد دفع مجلس الأمن إلى استصدار قرار أوائل ديسمبر/كانون الأول الماضي يتيح للقوات الفرنسية مضاعفة عددها، وتنسيق الجهود مع  القوات الإفريقية الموجودة هناك منذ عام 2008، كما فرض المجلس حظر السلاح على الأطراف المتحاربة. وبالفعل بدأت فرنسا في مضاعفة عدد قواتها من 600 جندي الى 1400 جندي، كما زعمت باريس أن مدة العملية ستتراوح بين أربعة وستة أشهر، وأن الهدف منها استعادة الأمن في العاصمة بانجي والمدن المحيطة بها، تمهيدًا لتوصيل المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها من ناحية، وتهيئة الأجواء للانتخابات المقررة العام القادم. وإن كانت الجمعية الوطنية الفرنسية، واستشعارًا للحرج، قررت في الخامس والعشرين من فبراير/شباط زيادة عدد القوات بمقدار 400 جندي لتصبح ألفي جندي، مع تمديد مدة بقائها أربعة أشهر أخرى.

طبيعة الصراع

اختلفت الرؤى بخصوص طبيعة الصراع: هل هو صراع ديني بالأساس، أم صراع سياسي، أم أنه صراع متعدد الأبعاد؟

فهناك فريق من الباحثين يرى أن الصراع طائفي بين الأغلبية المسيحية، والأقلية المسلمة التي لا تشكّل سوى 15% من حجم السكان لاسيما بعد نجاح حركة سيليكا في الانقلاب على بوزيزي في مارس/آذار 2013؛ وهو ما ترتب عليه ظهور ميليشيات الدفاع المدني المسيحية من العناصر التابعة للرئيس المخلوع. ويدلّل هؤلاء بتعرض الكثير من المواطنين المسلمين الى أعمال ذبح بالسواطير وغيرها من قبل الميليشيات المسلحة التي تزعم أن هذه التصرفات تأتي كرد فعل على ممارسات السيليكا، كما يدللون أيضًا بوجود حالة من الحقد بين الأغلبية المسيحية الفقيرة التي تعمل في مجال الزراعة، على الأقلية المسلمة الغنية التي تعمل في مجال الرعي والتجارة خاصة تجارة الماشية، كما أن تجارة الذهب والألماس التي تشكّل 80% من حجم اقتصاد البلاد في أيدي المسلمين.

وربما سعى القس السابق بوزيزيه إلى إكساب الصراع هذه الهوية الطائفية للهروب من الاستحقاقات السياسية والاقتصادية التي قطعها على نفسه مع السيليكا التي دعمته حتى وصل للحكم  عام 2003؛ فقد استعان بالسيليكا، ثم تنصل منهم بعد الوصول للحكم، بل قام باضطهادهم؛ حيث رفض الاعتراف بحقوق المسلمين وحرمهم من المشاركة في السلطة أو الثروة وأهمل مناطقهم في الشمال، كما عمل علي إثارة الفتن بين قبيلتين مسلمتين كبيرتين في الشمال الشرقي للبلاد، هما: رونجا وقولا، وكلتاهما كان لهما دور كبير في وصوله للحكم، كما كان لهما كوادرهما في السلطة لكن بوزيزي عمل على إثارة الخلافات بينهما من أجل شغلهما عن مطالبهما الخاصة بتقاسم الثروة، والمشاركة السياسية في الحكم، والتنمية؛ مما أشعل بينهما صراعًا دمويًا، راح ضحيته عشرات الآلاف من القبيلتين، لكنهما اتحدتا بعد ذلك في مواجهته، كما قامت إحداهما بالتوقيع على اتفاق معه يتضمن تسديد الحكومة المستحقات المالية للجنود التابعين للحركات المعارضة، ودمج هؤلاء الجنود في الجيش الوطني، وإطلاق سراح المعتقلين من العسكريين وغيرهم، لكن بوزيزي لم يلتزم بتنفيذ بنود الاتفاق، بل ساهم في تأجيج الصراع الديني من خلال قيام قواته بالاعتداء على ممتلكات المسلمين، ولعل أشهر تلك الحوادث ما جرى عام 2010، وراح ضحيته المئات من المسلمين وغيرهم.(2) ولقد دفعهم هذا إلى توحيد صفوفهم من أجل الإطاحة به، وتوجههم صوب العاصمة، إلا أن الجهود الإقليمية والدولية دفعت إلى التوصل إلى اتفاق ليبرفيل "الجابون" 11 يناير/كانون الثاني 2013، والذي كان من أهم بنوده:

  1. قيام المعارضة بتشكيل الحكومة برئاسة نيكولا تشانغاي رئيس أكبر الأحزاب المعارضة في البلاد، مع تعيين وزير الدفاع من المعارضة أيضًا، على أن تكون حكومة تضم كل الأطياف، وتستمر لمدة عام مقابل تخلي المعارضة عن طلب تنحي بوزيزي.
  2. حل الجمعية الوطنية، على أن تقوم الحكومة المؤقتة بمهامها، مع إجراء الانتخابات البرلمانية خلال عام. 
  3. عودة القوى الأجنبية إلى بلادها "في إشارة إلى قوات جنوب إفريقيا الداعمة له".
  4. إطلاق سراح كل المحبوسين سياسيًا خلال الصراع.(3)

هذا، وقد رفض بوزيزي اقتراحات أخرى بخصوص المسلمين، منها: أن يكون للإسلام مكانة حقيقية بين الأديان المعترف بها في الدولة، وأن يُحتفل رسميًا بعيدي: الأضحى والفطر على أن يتم إدراجهما ضمن أعياد الدولة الرسمية، وعدم التعرض أو اضطهاد المسلمين، خصوصًا في ما يتعلق بالأوراق الثبوتية.

ومرة ثانية لم ينفذ بوزيزي الاتفاق، بل عمل على إثارة النعرات القبلية ثانية؛ مما جعل القبيلتين تتحدان في "السيليكا" أي: التحالف بلغة "السانجو"، وانضمت إليها مجموعات أخرى غير مسلمة. كما حظي السيليكا بدعم كل من المتمردين في جنوب السودان وتشاد، مقابل مساعدتهما بعد الوصول للحكم.

ثم بعد الإطاحة به عام 2013 من قبل السيليكا قام بتشكيل "مناهضو السواطير" أو "أنتي بلاكا" من أجل الإطاحة بهم.

أما الفريق الثاني من الباحثين فيرى أن هذا البعد الديني قد يكون مهمًا، لكنه ليس الأساس في الصراع، لاسيما أن ممارسات العنف ليست ممنهجة، كما أن السلطة الحاكمة لم تكن تدعمها؛ فالبلاد حكمتها أنظمة مسيحية منذ الاستقلال عن فرنسا أوائل ستينات القرن الماضي، ولم يحكمها أغلبية مسلمة إلا منذ مارس/آذار الماضي. ويُلاحَظ أن ممارسات هذه الأنظمة المتعاقبة تشير إلى أن الصراع كان سياسيًا واقتصاديًا بالأساس؛ "حيث تمتلك البلاد موارد طبيعية هائلة؛ فهي تعد مركزًا تجاريًا عالميًا للألماس، وتمثل صادرات الألماس نحو 60% من الدخل القومي لهذا البلد، وتحتل بهذه النسبة موقع الريادة إفريقيًا في هذه التجارة". لذا حرصت هذه الأنظمة المتعاقبة على الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها من ناحية، والحفاظ على مصالحها الاقتصادية عبر نهب موارد البلاد من خلال صفقات مع الشركات الأجنبية ومع بعض رجال الأعمال المحليين من ناحية ثانية؛ ففي عهد بوزيزي برزت طبقة جديدة من رجال الأعمال درج الناس على تسمية أصحابها بـ"الألماسيين" أو "الأثرياء الجدد"، وحدث تزاوج بين رجال السلطة ورجال الأعمال، وكان الشعب هو الضحية. وقد مارست هذه الأنظمة المتعاقبة عمليات القمع ضد المسلمين والمسيحيين على حد سواء، بل إن البلاد شهدت خمسة انقلابات كان أبطالها شخصيات مسيحية باستثناء الانقلاب الأخير.

ويدلل هذا الفريق على أن الصراع سياسي واقتصادي -وليس دينيًا بالأساس- استنادًا لعدة أمور:

  1. أن فرنسا الدولة المستعمرة الأم هي التي دعمت وصول السيليكا إلى الحكم في مارس/آذار الماضي بعدما رفضت تقديم العون الى حليفها السابق بوزيزي، بل وأصدرت تعليماتها إلى دول الجوار خاصة تشاد بعدم التدخل لمساندته، علمًا بأن تشاد كانت إحدى الدول الداعمة لوصوله للحكم عام 2003 بعد الإطاحة بالرئيس أنج فيليكس باتاسي عام 2003، كما أنها تدخلت عام 2010 لمنع الانقلاب ضده. وبالتالي قد يكون من غير المنطقي أن تقوم باريس بدعم حركات إسلامية أصولية تعادي المصالح الفرنسية، بل إن موقفها الداعم لدوجوتا يرجع إلى اعتبارات سياسية واقتصادية، لاسيما بعدما أقدم بوزيزي على منح عقود للتنقيب عن النفط لشركات صينية وجنوب إفريقية على حساب الشركات الفرنسية. لذا كان أول تصريح لدوجوتا بعد وصوله للحكم أن حكومته ستراجع عقود التعدين والنفط التي وُقّعت في عهد الحكومة السابقة.
  2. التوجهات العلمانية للرئيس المسلم دوجوتا، والذي أعلن بعد توليه الحكم أن "إفريقيا الوسطى دولة علمانية؛ يعيش المسيحيون والمسلمون في دولة علمانية. صحيح أنني مسلم لكن من واجبي خدمة وطني، وخدمة جميع مواطني إفريقيا الوسطى".
  3. التداخل والتسامح بين أبناء الديانات في البلاد، بل والتداخل بين الأسر في هذا الشأن؛ حيث يمكن أن تضم الأسر بروتستانت وكاثوليك ومسلمين في آن واحد.
  4. أن سلوكيات جنود السيليكا لا تشير الى التزامهم الديني؛ حيث إنهم كانوا يقومون بأعمال قتل وتعذيب، فضلا عن الاغتصاب واحتساء الخمور.. 
  5. المطالب السياسية للسيليكا لم تكن تتضمن أية إشارة إلى البعد الديني؛ حيث كان جُلّ تركيزهم الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية بعد حالة التهميش التي عانتها البلاد في ظل حكم بوزيزي، بل إن تمردهم عليه كان نتيجة لعدم التزامه بالاتفاقيات الموقعة في هذا الشأن، والتي كانت تنص على تشكيل حكومة وطنية تضم المعارضة، لحين إجراء الانتخابات في البلاد.

وإذا حاولنا الجمع بين وجهتي النظر هاتين، فيمكن القول بأن الصراع أساسه سياسي اقتصادي، وأن بوزيزي عمل على إضفاء الصبغة الدينية الطائفية عليه لأغراض سياسية. وبالتالي تحول الصراع من كونه سياسيًا بالأساس إلى كونه طائفيًا في الآونة الأخيرة. وربما يتضح هذا الموقف عند الحديث عن التآمر الداخلي والخارجي -الفرنسي تحديدًا- للإطاحة بدوجوتا.

مؤامرة الإطاحة بدوجوتا

أثار وصول السيليكا للحكم، وتشكيل حكومة من 28 وزيرًا نصفهم من المسلمين، حفيظة بعض القوى الداخلية المحلية "المسيحية"، وكذلك القوى الإقليمية كالكاميرون، وجنوب السودان"، فضلاً عن فرنسا؛ لذا كان التخطيط للإطاحة به وبالسيليكا عبر محاولة انقلابية بدأت في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الماضي -تاريخ تفجر الصراع الذي أطاح بدوجوتا- عندما قامت عناصر من الأنتي بلاكا بدعم من الكنيسة وبتأييد فرنسي-كاميروني-جنوب إفريقي، بعملية قتل المسلمين في حي بوينغ تضليلاً للجيش الوطني للتحرك بعيدًا عن مقاره حول القصر، وإفساح المجال أمام هذه الميليشيات والمرتزقة لاقتحام القصر والإذاعة والتليفزيون، وإعلان الانقلاب مباشرة بتغيير الحكومة، لتأتي القوات الفرنسية لاستكمال اللازم وفرض الأمر الواقع. على أن يتزامن ذلك مع قيام مجلس الأمن باستصدار قرار دولي بتدخل قوات فرنسية لتحقيق الاستقرار في البلاد. ويُلاحَظ أن القوات الفرنسية قد وصلت إلى إفريقيا الوسطى قبل موافقة المجلس، وركزت تواجدها في مدينتي: بوار، وبربرتي الغنيتين بالألماس والذهب، وعندما أدركت باريس فشل محاولتها الانقلابية بدأت تعلن أن هناك حربًا أهلية تجري بين المسلمين والمسيحيين، وأنها ما جاءت إلا لوقف هذا الاحتراب، وأن على المجتمع الدولي دعمها في هذه الجهود. وفي 9 ديسمبر/كانون الأول 2013 أقدمت القوات الفرنسية بالتعاون مع القوات الإفريقية الموجودة في البلاد على نزع أسلحة أكثر من سبعة آلاف من مقاتلي سيليكا، ووضعهم في ثكنات مختلفة بالعاصمة، وهو إجراء أغضب المسلمين، باعتبار أن هذه القوات كانت تمثل لهم شيئًا من الحماية في مواجهة الميليشيات المسيحية التي لم يتم نزع سلاحها؛ لذلك نظّم المسلمون احتجاجات في بعض شوارع العاصمة، منددين بالانحياز الفرنسي لصالح المسيحيين، وأقاموا المتاريس بالإطارات والحجارة، احتجاجًا على انتشار القوات الفرنسية، وقالوا إن هذا الأمر يترك المسلمين عزلاً من دون حماية من ميليشيا "أنتي بلاكا".(4) وقد كانت هذه التصرفات بمثابة نقطة النهاية للرئيس دوجوتا الذي أُجبر على الاستقالة في يناير/كانون الثاني الماضي، أي: بعد حوالي شهر من اندلاع الأحداث. وهنا يثور السؤال حول دوافع التدخل الفرنسي!

دوافع التدخل الفرنسي في إفريقيا الوسطى

تعد إفريقيا الوسطى إحدى مناطق النفوذ الفرنسي، وكان لباريس حتى وقت قريب قاعدة عسكرية بها، لكنها قامت بغلقها ترشيدًا للنفقات، والاكتفاء بوجود 250 جنديًا لتوفير الحماية للجالية الفرنسية هناك. وبالرغم من هذا الانسحاب، إلا أن باريس هي صاحبة اليد الطولى في مجريات الوضع الداخلي في البلاد، ولا يقع أي انقلاب إلا بدعم منها؛ فهي التي ساعدت بوزيزي على الوصول للحكم -عبر تشاد- عام 2003، وهي التي أصدرت أوامرها لانجامينا، وكذلك ياوندي "الكاميرون" بعدم التدخل لمساندته في مواجة السيليكا في مارس/آذار الماضي، معتبرة ما يحدث في البلاد شأنًا داخليًا. وقد تزامن ذلك  مع تدخل فرنسا العسكري السريع في مالي من أجل دعم الحكومة في مواجهة تمرد الطوارق ذوي الهوية الإسلامية بعدما باتوا يسيطرون على شمال البلاد؛ وهو نفس ما حدث في تدخلها في ساحل العاج للإطاحة بحليفها السابق جباجبو لصالح الحسن واتارا. إذن ما يحكم باريس هو مدى محافظة النظم على المصالح الفرنسية من ناحية، ومدى استمرار التبعية السياسية لها من ناحية ثانية.

لذا فإن التدخل الفرنسي في إفريقيا الوسطى استهدف تحقيق عدة أهداف:

  1. الحيلولة دون استتباب الأوضاع لصالح دوجوتا في ظل الضغوط الداخلية "الكنيسة"، والإقليمية "الكاميرون، جنوب السودان، أوغندا" لعدم وجود نظام إسلامي في البلاد يؤثر على هذه الدول، ناهيك عن إمكانية دعمه لقوى المعارضة بهما خاصة بعدما تردد عن وجود جوزيف كوني زعيم ميليشيا جيش الرب الأوغندية في إفريقيا الوسطى، فضلاً عن إمكانية رد الجميل لمتمردي جنوب السودان، وتشاد.
  2. حماية مصالح الشركات الفرنسية العاملة هناك؛ حيث تعمل مجموعة «أريفا» الفرنسية في مجال الطاقة النووية من خلال استخراج اليورانيوم في منطقة باكوما، "وهي أكبر المصالح التجارية لفرنسا في مستعمرتها السابقة".
  3. مواجهة النفوذ الاقتصادي الصيني وجنوب الإفريقي؛ فقد حصلت مؤسسة البترول الوطنية الصينية وشريكتها السودانية علي امتياز التنقيب عن النفط في شمال شرقي البلاد حيث مناطق المسلمين، وكانت النتائج مثمرة، وفي المقابل اضطرت شركة أميركية إلى وقف عمليات البحث عن النفط، إثر تعرضها لهجمات مسلحة في شمال البلاد. ورغم تمتع فرنسا بامتيازات وافرة لشركاتها، خاصة في مجال الطاقة والنقل والاتصالات وكونها أكبر مستثمر في البلاد، إلا أن الشركات الصينية دخلت في مختلف القطاعات، خاصة في مجال الطاقة والبناء والاتصالات. لذا فإن أحد أبعاد التدخل الفرنسي هو انتزاع هذه السيطرة الصينية، والإشراف على آبار البترول واليورانيوم.
  4. الخوف من التداعيات الإقليمية للصراع على دول الجوار الخاضعة للهيمنة الفرنسية خاصة تشاد والكاميرون.(5)

ومن هنا، يمكن فهم أسباب التأييد الدولي لهذا التدخل؛ فمجلس الأمن أصدر قرارًا وفقًا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يخوّل القوات الإفريقية والفرنسية الحق في استخدام القوة لاستعادة الأمن وتحقيق السلام، كما فرض حظر سلاح على الفرقاء المحليين، وفي المقابل أعلنت واشنطن عزمها تقديم مساعدات تقدر بأربعين مليون دولار في صورة معدات وتدريب ودعم لوجيستي للقوات الإفريقية المتمركزة هناك.

 ملاحظات ختامية

هناك عدة ملاحظات ينبغي الإشارة إليها، بل والتأكيد عليها قبل الحديث عن مستقبل الصراع، أبرزها ما يلي:

  1. أن الصراع، وإن لم يكن دينيًا "طائفيًا" في الأساس بل وتم توظيفه من قبل بوزيزي تحديدًا، إلا أنه تحول إلى صراع ديني قابل للتصعيد بسبب مشاعر العداء والكراهية بين أبناء الوطن الواحد. ولعل خطورة الصراع تكمن في بروز بعض المطالب الانفصالية لدى الطرف المسلم، لاسيما بعد عملية التهجير القسري لهم إلى دول الجوار؛ وهو ما جعل الأمم المتحدة تحذر من خطورة تصاعد الموقف، خاصة بعدما أعلنت أنتي بلاكا أن إفريقيا الوسطى دولة مسيحية، وهو ما دفع في المقابل بعض قيادات المسلمين إلى تشكيل كيان جديد يُعرف باسم «قوى المقاومة الجديدة» برئاسة أبي بكر سابون يهدف إلى انفصال المسلمين في شمال البلاد، فضلاً عن التهديد الأخير لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب بإلحاق الأضرار بفرنسا بسبب ممارساتها في إفريقيا الوسطى.
  2. أن الوضع الأمني في إفريقيا الوسطى كان أقل خطورة من نظيره في مالي التي شهدت محاولة انفصالية من حركات الطوارق المسلحة في الشمال، ومع ذلك نجحت فرنسا في احتواء هذه الحركات والقضاء عليها بصورة سريعة غير متوقعة، لكنها في المقابل -ووفق المعايير الأمنية- فشلت في إنهاء الصراع في إفريقيا الوسطى بسبب عدم رغبتها في إنهائه من ناحية، ولرغبتها في إحكام السيطرة على مناطق الذهب واليورانيوم الواقعة في النطاق الجغرافي للمسلمين  من ناحية ثانية.
  3. أن استمرار عملية التطهير العرقي "على أساس ديني" وفق ما صرّحت به هيومان رايتس ووتش، يطرح عدة تساؤلات عن جدوى القوات الإفريقية والفرنسية، فضلاً عن إمكانية تحقيق التعايش الوطني ثانية، ثم ماذا عن تحالف السيليكا، هل ستتم عودته من جديد أم ماذا؟ وفي المقابل، هل سيعود بوزيزي أيضًا للساحة من جديد باعتباره الداعم الرئيسي للسيليكا؟
  4. أن الرئيسة الحالية سامبا بانزا والتي لعبت دورا مهمًا في قيادة ونجاح الحوار الوطني بعد انقلاب بوزيزي 2003 لكونها مستقلة غير حزبية، فضلاً عن كونها شخصية توافقية، تدرك حقيقة الصراع، وكيف أنه تم تسييس الدين لصالح رجال السياسة، كما أنها حظيت بتأييد كل من البلاكا والسيليكا في عملية ترشيحها للرئاسة بالرغم من كونها مسيحية؛ وبالتالي فهي مطالبة باستغلال شخصيتها، وكل هذا الدعم لتحقيق عدة أمور لعل من أبرزها الحرب ضد البلاكا لنزع أسلحتهم من ناحية، وتحقيق المصالحة الوطنية وتهيئة الأجواء للانتخابات التي ستُجرى العام القادم من ناحية ثانية؛ وذلك من خلال جمع قادة الجانبين على مائدة واحدة. فهل ستكرر نفس إنجاز 2003 خاصة في ظل وجود تأييد فرنسي لها؟
  5. أن المشكلة معقدة من مختلف الجوانب، وقد يكون من الخطأ الاعتقاد بأنها يمكن أن تنتهي بإجراء الانتخابات؛ وهنا يبرز دور المجتمع الدولي في عملية التسوية لاسيما الولايات المتحدة فيما يتعلق بإمكانية زيادة القوات الدولية من ناحية وزيادة المساعدات الإنسانية من ناحية ثانية.
  6. يرتبط بما سبق الأوضاع الاقتصادية السيئة في ظل هروب السكان خاصة التجار المسلمين من البلاد، ناهيك عن المزارعين؛ وهو ما قد يصيب قطاع الزراعة العماد الأساسي للاقتصاد بضرر بالغ لاسيما مع قرب موسم الزراعة، وخشية المزارعين من العودة لعدم توفر الأمان من ناحية، ولعدم وجود الأدوات اللازمة من ناحية ثانية، ناهيك عن أن هذه المنتجات تحتاج إلى عملية تسويق، ومعروف تاريخيًا أن التجار المسلمين هم الذين يقومون بذلك. وبالتالي، في حالة عدم العودة السريعة لهؤلاء، فإن البلاد ستواجه مشكلة غذائية من ناحية، فضلاً عن زيادة أسعار السلع الغذائية من ناحية ثانية.(6)
  7. دور دول الجوار المنضوية في إطار الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا "إيكاس" في إجبار دوجوتا على الاستقالة السريعة في قمة الجماعة المنعقدة في 10 يناير/كانون الثاني، بل وقيام تشاد بنقل أعضاء البرلمان المؤقت في إفريقيا الوسطى بالطائرة للموافقة على استقالة الرئيس وتعديل الدستور المؤقت، يشير إلى حجم الضغوط الدولية بل والإقليمية التي مُورست عليه ودفعته للاستقالة بعد أقل من عشرة أشهر.
  8. أن الحكومة الجديدة والتي يرأسها شخصية اقتصادية هي: André Nzapayeke، والتي تتشكّل من 20 وزيرًا ويغلب عليها التكنوقراط تضم ثلاثة من السيليكا، وواحدًا من البلاكا، مطالبة بتحقيق عدة أمور على مختلف الأصعدة الاقتصادية والأمنية والسياسية؛ حيث "70% من السكان تحت خط الفقر، وترتفع النسبة بالمناطق الريفية إلى 80%".

مستقبل الصراع

لكي يعود الاستقرار إلى البلاد من جديد فلابد من عدة أمور:

  1. انسحاب القوات الفرنسية بسبب تحيزها السافر ضد المسلمين -أو أن يُعهد بالقيادة الدولية للقوات الأوروبية المعروفة باسم يوفور-إفريقيا الوسطى- والتي ستتشكّل من قرابة 900 جندي، ويُفترض أن يكون مقر قيادتها في اليونان، أو أن يتم تشكيل قوات دولية بموجب قرار من مجلس الأمن تندرج تحتها القوات الإفريقية التي ثبت عدم فاعليتها منذ انتشارها عام 2008. وربما تكون تهديدات القاعدة الأخيرة بالنيل من فرنسا بسبب هذه الممارسات عاملاً مهمًا في انسحاب القوات الفرنسية، كما أن تصريحات قائد القوات الفرنسية بشأن عدم معرفة حقيقة أنتي بلاكا أو قائدهم تدعو للدهشة من ناحية، وتجعل بقاء وفاعلية هذه القوات أمرًا غير ذي جدوى من ناحية ثانية.
  2. نزع سلاح ميليشيا أنتي بلاكا أسوة بالسيليكا، مع محاولة دمج عناصرهما في جيش وطني موحد بسبب غياب دور الجيش في الآونة الأخيرة لأن استمرارها في حمل السلاح مقابل السيليكا منزوعة السلاح قد يدفع الأخيرة إلى البحث عن تسليح جديد وبالتالي اندلاع الحرب ثانية. كما قد يتطلب الأمر فرض عقوبات على البلاكا في حالة رفضها ذلك. وهنا، فإن الولايات المتحدة مطالبة بتنفيذ تهديدات وزير خارجيتها جون كيري للمتمردين في 26 يناير/كانون الثاني الماضي بشأن توقيع عقوبات عليهم ما لم يتوقفوا عن أعمال القمع بحق المسلمين.
  3. تشكيل لجنة تقصي حقائق فورية، وتقديم المتهمين للعدالة، وربما يكون تفعيل المحكمة الجنائية أمرًا مطلوبًا في هذا الشأن لاسيما في ظل توثيق هيومان رايتس ووتش للمجازر؛ لأن بدون المحاكمات العادلة قد تبرز الرغبة في الانتقام.
  4. تشكيل حكومة وحدة وطنية من كل الأطياف السياسية يكون الهدف منها التمهيد لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة العام القادم.

إن الصراع في البلاد قابل إما للتسوية، أو التصعيد الطائفي، والأمر يتوقف ليس فقط على رغبة الأطراف الداخلية في ذلك، بل على الرغبة الدولية تحديدًا؛ تلك الرغبة التي تعبّر عن ذاتها من خلال دول الجوار التي تعد الأداة التنفيذية لتلك الرغبة والأهداف، وما لم يتم التحرك السريع لاحتواء الصراع، قد تكون العواقب وخيمة ليس على الداخل فحسب، وإنما على دول الجوار أيضًا، ناهيك عن إمكانية تعرض مصالح الدول الكبرى للخطر.
____________________________________
د. بدر حسن شافعي - خبير الشؤون الإفريقية - جامعة القاهرة.

الهوامش
1- تعني السيليكا بلغة سانغو، وهي اللغة المشتركة في البلاد، "التحالف"، وهي حركة تضم أحزابًا سياسية، بينها: اتحاد القوى الديمقراطية من أجل التجمع بقيادة ميشيل دجوتوديا، ومعاهدة الوطنيين من أجل العدالة والسلام، والمعاهدة الديمقراطية لخلاص كوردو. وقد وقعت هذه الأحزاب معاهدة مشتركة في ديسمبر/كانون الأول 2012 وشكّلت جناحًا عسكريًا يتكون من مجموعات من المتمردين هم مجمل منتسبي أحزابها.
2- حول هذا البعد، انظر: رأفت صلاح الدين، ماذا يحدث في إفريقيا الوسطى؟، الجزيرة نت:
http://www.aljazeera.net/opinions/pages/c7cc390a-e10c-44b3-8dd9-e441267b587a
3- حول هذه الاتفاقية، انظر:
Central African Republic conflict (2012–present),
http://en.wikipedia.org/wiki/Central_African_Republic_conflict_(2012%E2%80%93present)
4- رأفت صلاح الدين، مرجع سابق.
5- لمزيد من التفاصيل، انظر: د. بدر حسن شافعي، الصراع في إفريقيا الوسطى.. دوافع اقتصادية وأبعاد طائفية، وكالة أنباء الأناضول، ديسمبر/كانون الأول 2013.
6- لمزيد من التفاصيل، انظر:
Six Questions on the Crisis in the Central African Republic,
http://www.brookings.edu/blogs/africa-in-focus/posts/2014/02/14-crisis-central-africa-republic-sy

ABOUT THE AUTHOR