تقليص مجال الحركة السياسية في مصر (أسوشييتد برس) |
ملخص نجحت ثورة يناير/كانون الثاني المصرية بشكل كبير في تحرير الفضاء العام، وفتحت الباب على مصراعيه أمام حرية تشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات المستقلَّة، كما أطلقت وبلا حدود حرية التعبير والرأي، وحق التظاهر والاعتصام؛ ومن ثَمَّ مهَّدت الطريق لإجراء أول انتخابات برلمانية ورئاسية حرَّة ونزيهة منذ عقود، كما أعادت أجواء الانتخابات إلى الجامعات؛ ممثَّلة في انتخاب القيادات الطلابية والجامعية بعد فترة طويلة من المنع والمحاصرة والتزوير. لكن الفشل في التوافق على أهداف الثورة وآليات تحقيقها، وتفاقم أزمة الثقة بين شركاء الثورة، وصولاً إلى مشهد 3 من يوليو/تموز والإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، وانتهاءً بانتخاب المشير عبد الفتاح السيسي رئيسًا للبلاد، جعل هذا الإنجاز الأهم للثورة موضع تهديد بالمصادرة والتأميم مجدَّدًا؛ فقد شهدت السنة الأخيرة التي تلت الإطاحة بمرسي جملة من الممارسات الشمولية تمثَّلت في الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان، والزج بالآلاف في السجون بتهمٍ مختلفة، والتضييق على حرية الإعلام، ومصادرة أيِّ صوت يُعارض السلطة الجديدة وخطابها، واعتماد خطاب إعلامي يصبُّ في اتجاه واحد، وفرض قيود هائلة على حقِّ التظاهر السلمي كأحد المكتسبات الأساسية لثورة يناير/كانون الثاني، يُضاف إلى ذلك أن خطاب ومواقف الرئيس السيسي -سواء قبل أو بعد توليه السلطة- لم تُظهر انحيازًا واضحًا لقضية الديمقراطية والحريات السياسية. |
مقدمة
شهدت سنوات حكم الرئيس السابق حسني مبارك ما أطلق عليه خبراء العلوم السياسية: "موات السياسة" في مصر؛ نتيجة عملية التجريف السياسي المستمرَّة، وانتهى عهده بتأميمٍ شبه كامل للمجال العامِّ لصالح الدولة السلطوية وحزبها الحاكم (الحزب الوطني)؛ حيث وضعت الدولة يدها على الحياة السياسية الحزبية والنقابية والإعلامية، وصارت مصدر المنح والمنع الوحيد؛ ولم يسمح النظام إلا بهامش حركة محدود أمام أحزاب المعارضة، يضيق ويتسع وفقًا لمدى رضا وتوافق السلطة معه، وقد ارتضت معظم هذه الأحزاب بتلك الصيغة وقبلت العيش في كنف السلطة، وبما تحصل عليه من مِنَحٍ وتسهيلات سياسية. في مواجهة ذلك برزت حركات سياسية وشعبية سعت للتمرُّد على هذه الصيغة التي فرضها النظام؛ مثل: كفاية، وحركة 6 إبريل/نيسان؛ ومن ثَمَّ الجمعية الوطنية من أجل التغيير. وقد استطاعت هذه الحركات -عبر حضورها في الشارع وشعاراتها المطالبة بالتغيير والتصدِّي لسيناريو توريث الحكم- تجاوز سقف وحركة الأحزاب التقليدية، وحملت راية الدعوة للتغيير؛ بل إن هذه الحركات كانت من الروافد الأساسية التي مهَّدت لثورة 25 من يناير/كانون الثاني؛ لكن نظام مبارك في أواخر أيامه -من أجل تأمين تمرير سيناريو توريث السلطة- قرَّر مصادرة حتى ذلك الهامش المحدود المسموح به لأحزاب المعارضة؛ فكانت الانتخابات النيابية التي جرت عام 2010، وشهدت تزويرًا غير مسبوق لصالح السلطة، بمثابة تأميم ما تبقَّى من الفضاء العام؛ بحيث لم تجد المعارضة الحزبية سوى الشارع لتحرُّكها جنبًا إلى جنب مع الحركات الاحتجاجية الأخرى؛ فظهر ما عُرف بالبرلمان الموازي، وهي الخطوة التي سخر منها مبارك بقولته الشهيرة: "خليهم يتسلوا". ولم تمضِ سوى أسابيع قليلة على هذه المقولة حتى اندلعت شرارة الثورة، وكانت في أحد أهم تجلياتها احتجاجًا صاخبًا على تأميم الفضاء السياسي العام، ورغبةً في استعادته من يد السلطة الاستبدادية.
وبهذا المعنى فإن ثورة يناير/كانون الثاني، وعلى الرغم من إخفاق شركاء الميدان في بناء توافق سياسي حول إدارة مرحلة ما بعد رحيل مبارك، نجحت بشكل كبير في تحرير هذا الفضاء العام، وفتحت الباب على مصراعيه أمام حرية تشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات المستقلَّة، كما أطلقت وبلا حدود حرية التعبير والرأي، وحق التظاهر والاعتصام؛ ومن ثَمَّ مهَّدت الطريق لإجراء أول انتخابات برلمانية ورئاسية حرَّة ونزيهة منذ عقود، كما أعادت أجواء الانتخابات إلى الجامعات؛ ممثَّلة في انتخاب القيادات الطلابية والجامعية بعد فترة طويلة من المنع والمحاصرة والتزوير. لكن الفشل في التوافق على أهداف الثورة وآليات تحقيقها، وتفاقم أزمة الثقة بين شركاء الثورة، وصولاً إلى مشهد 3 من يوليو/تموز والإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، وانتهاءً بانتخاب المشير عبد الفتاح السيسي رئيسًا للبلاد، جعل هذا الإنجاز الأهم للثورة موضع تهديد بالمصادرة والتأميم مجدَّدًا؛ فقد شهدت السنة الأخيرة التي تلت الإطاحة بمرسي جملة من الممارسات الشمولية تمثَّلت في الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان، والزج بالآلاف في السجون بتهمٍ مختلفة، والتضييق على حرية الإعلام، ومصادرة أيِّ صوت يُعارض السلطة الجديدة وخطابها، واعتماد خطاب إعلامي يصبُّ في اتجاه واحد، وفرض قيود هائلة على حقِّ التظاهر السلمي كأحد المكتسبات الأساسية لثورة يناير/كانون الثاني، يُضاف إلى ذلك أن خطاب ومواقف الرئيس السيسي -سواء قبل أو بعد توليه السلطة- لم تُظهر انحيازًا واضحًا لقضية الديمقراطية والحريات السياسية.
على ضوء ما سبق، يكون السؤال المركزي الآن هو عمَّا إن كانت مصر في ظلِّ السلطة الجديدة مقبلة على إعادة تأميم للفضاء السياسي العامِّ؛ الذي حرَّره المصريون بدمائهم في ثورة يناير/كانون الثاني؟ وهل النظام الجديد يسعى إلى ذلك؟ وما رهاناته في هذا الصدد؟ وما في المقابل ما هي الخيارات المتاحة أمام قوى المعارضة في مواجهة مساعي السيطرة على الحياة السياسية؟
إجراءات سلطوية
يرى كثيرون أن المعركة الأساسية الآن مع تولِّي الرئيس السيسي مقاليد السلطة في البلاد هي معركة الإبقاء على المجال العام مفتوحًا، وأن التحدِّي الأهم هو الحفاظ على مساحة التحرُّك التي فرضتها تداعيات 25 من يناير/كانون الثاني(1). وتتعاظم المخاوف من عودة الاستبداد مجدَّدًا في ضوء معطيات وإشارات عديدة تؤسس -كما يرى كثيرون- لنظام سياسي سلطوي، تعود فيه سيطرة الأمن على المجال العام من أجل إدارته، ووصاية الجيش والقضاء على المجال السياسي من أجل ترشيده(2)، وفي هذا الصدد يمكن التوقُّف عند مجموعة من المواقف والإجراءات التي اتخذتها السلطة منذ عزل مرسي؛ التي تشكل في مجملها -كما يقول المتخوفون على الديمقراطية- حصارًا للمجال العام وإغلاقه أمام حركة القوى السياسية المخالفة للسلطة، والساعية لإقامة نظام ديمقراطي؛ وأهمها:
أولاً: إصدار قانون التظاهر المثير للجدل، والإصرار على إبقائه دون تعديل على الرغم من معارضة غالبية القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني ومطالبتها بتعديله، وكانت نتيجة ذلك الزجّ بالآلاف من الشباب في السجون؛ الذين صدرت ضدَّهم أحكام قاسية؛ وصلت في بعض الأحيان إلى السجن 15 عامًا بتهمة انتهاك هذا القانون. وفضلاً عن أنه مصادرة لحقِّ التظاهر السلمي، فإن هذا القانون يتصادم بشكل واضح مع موادِّ الدستور الجديد. ويبدو الرئيس السيسي من أكثر المدافعين عن هذا القانون، وهو ما يطرح مفارقة أن هذه السلطة التي جاءت نتيجة المظاهرات التي خرجت في 30 من يونيو/حزيران 2013 ضدَّ مرسي عمدت بعد تولِّيها السلطة إلى مصادرة حقِّ المصريين في التظاهر والاحتجاج السلمي. ولا تبدو المبرِّرات التي تسوقها السلطة دفاعًا عن هذا القانون مقنعة للكثيرين؛ إذ إن هذا القانون لا يُنَظِّم حقَّ التظاهر السلمي؛ بل يُصادره بشكل شبه كامل، ويجعل كلفة التظاهر فادحة بالنظر إلى ما يتضمنه من عقوبات مغلظة.
ثانيًا: قانون مجلس النواب الجديد؛ الذي أثار اعتراضات كثيرة من قِبَل مختَلَف الأحزاب والقوى السياسية؛ بما فيها تلك التي كانت ضمن تحالف 30 من يونيو/حزيران؛ فالقانون يجعل 80% من مقاعد البرلمان القادم بنظام الانتخاب الفردي، و20% فقط بنظام القائمة المطلقة، وهذا نظام انتخابي يرى كثيرون أنه يُؤَمِّم الحياة السياسية في مصر، ويُعيد السياسة إلى حضن الدولة مرَّة أخرى(3)؛ لأنه يقود إلى إنتاج برلمان موالٍ للسلطة تابعًا لها لا رقيبًا عليها؛ وسيؤدِّي إلى تهميش وإضعاف الأحزاب السياسية لصالح سيطرة رأس المال السياسي، ونفوذ العصبيات العائلية والقبلية، وهذا ما يعني في المحصلة النهائية وقف أي تطوُّر سياسي حقيقي؛ فالنظام الفردي في الانتخابات -الذي انحاز إليه القانون، وعلى ضوء التجارب السابقة- سيضعف التعددية السياسية، ويمهِّد الطريق لبرلمان ضعيف من دون أغلبية ذات وجه سياسي محدَّد، ما يُمَكِّن لرئيس الجمهورية الانفراد بالقرار وتطويع مجلس النواب لما يُريد، وبذلك تتَّجه البلاد مرَّة أخرى إلى نوع من السلطوية(4)؛ وعلى الرغم من أن السلطة برَّرت انحياز القانون للنظام الفردي بضعف وهشاشة الأحزاب السياسية، فإن بعض هذه الأحزاب اعتبر أن ذلك تهيئة للرأي العام لتقبُّل فكرة برلمان شبيه بمجلس محلي كبير عوضًا من برلمان حقيقي يُشرِّع ويراقب(5).
ثالثًا: إلغاء نظام انتخاب القيادات الجامعية، والعودة إلى نظام التعيين؛ بما يُصادر أحد المكتسبات المهمَّة التي تحققت بعد ثورة 25 من يناير/كانون الثاني على طريق استقلال الجامعات وتحريرها من هيمنة السلطة التنفيذية؛ حيث أصدر الرئيس السيسي -بصفته يملك سلطة التشريع في غياب البرلمان- قرارًا قبل أيام بقانون يقضي بتعديل أحكام قانون تنظيم الجامعات؛ بحيث يُصبح اختيار رؤساء الجامعات وعمداء الكليات بقرار من رئيس الجمهورية(6)؛ وقد اعتبر كثيرون هذا القرار خطوة على طريق مصادرة الفضاء العام، وإلغاء الحقِّ في الاختيار، كما أن هذه الخطوة من شأنها أن تؤدِّي إلى إعادة تأميم الجامعات، وبسط سلطة أجهزة الأمن على شئونها؛ الأمر الذي يُعطي مؤشِّرًا سلبيًّا على حال ومستقبل الديمقراطية في العهد الجديد(7).
في المقابل فإن المتحمسين للعودة إلى نظام التعيين يرون أن نظام الانتخاب أفرز قيادات غير قادرة على تحمل مسؤولياتها في مواجهة العنف الذي تشهده الجامعات؛ فضلاً عن استخدام فزاعة الإخوان المسلمين بالقول: إن نظام الانتخاب مكَّن أعضاء الإخوان من الوصول إلى مناصب قيادية. لكن اللافت أن معظم هذه المبرِّرات تنطلق من رؤية لدى بعض القائمين على السلطة تعتبر أن الشعب المصري غير جاهز للديمقراطية من أجل العودة إلى الوراء بشكل كامل(8)؛ ومن هنا تشكِّل العودة إلى تعيين القيادات الجامعية -في رأي كثيرين- انتكاسة لمسيرة استقلال الجامعات؛ خصوصًا أنها تأتي تالية لخطوات أخرى؛ مثل: عودة الحرس الجامعي التابع لوزارة الداخلية تزامنًا مع إجراءات استهدفت قمع الطلاب المعارضين، وفَصْل بعضهم، وطرد بعضهم الآخر من المدن الجامعية(9).
رابعًا: تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان بشكل غير مسبوق؛ لدرجة دفعت بعض المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية إلى اعتبار أوضاع حقوق الإنسان في مصر حاليًّا هي الأسوأ في تاريخ البلاد(10)؛ حيث تعجُّ السجون بآلاف المعتقلين والمسجونين على ذمة قضايا معظمها تتعلَّق بانتهاك قانون التظاهر؛ ووفقًا للمنظمات الحقوقية فإن السلطة الحالية في مصر فرضت قيودًا مشدَّدة على حريات التعبير عن الرأي والتجمع "بشكل قوَّض المكاسب التي تحققت عقب انتفاضة 25 من يناير/كانون الثاني 2011". وقد استغلَّت السلطة بعض "الأعمال الإرهابية" التي وقعت عقب الإطاحة بمرسي، وأعمال العنف التي تخلَّلت مظاهرات ومسيرات مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين للتضييق على الحريات، وتبرير اعتقال الآلاف، وانتهاكات حقوق الإنسان في مصر.
خامسًا: التضييق على المنظمات المعنية بحقوق الإنسان في مصر؛ التي بات بعضها في مرمى الاستهداف من خلال محاولة تشويه صورتها إعلاميًّا، والتشكيك في نواياها ودوافعها، واتهامها بتهديد الأمن القومي؛ وذلك بالتزامن مع إعلان وزارة التضامن الاجتماعي عن مقترحات لمشروع قانون الجمعيات الأهلية الجديد، الذي ترى منظمات حقوق الإنسان أنه يضع قيودًا أشدَّ تعسُّفًا وقمعًا من تلك المنصوص عليها في القانون الذي صدر عام 2002؛ بل أشد من القيود التعسفية التي وردت في مشروع قانون الرئيس السابق محمد مرسي، الذي قدَّمه في مايو/أيار 2013، أي قبل شهر من الإطاحة به؛ فالقانون المقترح يمنح الجهات الأمنية الحقَّ في التحكم بنشاط المنظمات الأهلية، ويستبعد مجال حقوق الإنسان من ضمن مجالات عمل الجمعيات الأهلية(11). ولقد وصفت منظمة هيومان رايتس ووتش المشروع بأنه بمثابة خنق لهذه الجمعيات وسلب لاستقلالها، وبأنه يقضى على أحد مكونات الديمقراطية في مصر.
سادسًا: الإعلان عن مشروع لمراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، وهو المشروع الذي تقول وزارة الداخلية: إنه يهدف إلى حماية الوطن من الهدم والتخريب. ويتضمن هذا المشروع -الذي أُطلق عليه نظام "رصد المخاطر الأمنية لشبكات التواصل الاجتماعي"- عددًا من المواصفات يمكن أن تُشَكِّل في مجملها تكميمًا ومصادرة وتأميمًا للفضاء الافتراضي؛ جنبًا إلى جنب مع محاولات تأميم الفضاء العام الواقعي، وتتحدَّث مقدمة مذكرة الشروط والمواصفات -التي طرحتها الوزارة لهذا النظام، التي نشرتها صحيفة الوطن- عن مخاطر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تكتفي بحصرها في النشاط الإجرامي والجنائي وتداول معلومات، خاصة بإيذاء الأفراد، أو الدعوة إلى أعمال الإرهاب والعنف، بل تتوسَّع في هذه القائمة لتشمل ما تسميه الوزارة بالأفكار الهدَّامة؛ التي تتضمَّن عبارات فضفاضة قد تضع كثيرين من مستخدمي هذه المواقع تحت طائلة المساءلة؛ من قبيل: "ازدراء الأديان والتشكيك فيها، وإثارة النعرات الإقليمية والدينية والعرقية والعقائدية، بالإضافة إلى نشر الشائعات المغرضة، وتحريف الحقائق بسوء نية، وتلفيق التهم والتشهير والإساءة للسمعة، والسخرية المهينة واللاذعة، والقذف والسب، والدعوة إلى الخروج عن الثوابت المجتمعية، وتشجيع التطرُّف والعنف والتمرد، والحشد للتظاهر والاعتصام والإضراب غير القانوني(....)، والفسق والفجور، وإثارة القلاقل وأعمال الشغب، واجتزاء كلام من سياقه للإساءة لمن صرح به"(12).
سابعًا: تعديل قانون الإجراءات الجنائية؛ بما يُتيح تجديد الحبس الاحتياطي من دون سقفٍ محدَّد، وتحويل هذا الحبس إلى عقوبة بحدِّ ذاتها، وهو ما يحدث حاليًّا مع آلافٍ من المسجونين من أنصار الإخوان المسلمين وغيرهم من النشطاء؛ ومن شأن هذا التعديل أن يبقى سلاحًا في يد السلطة تستخدمه ضدَّ خصومها ومعارضيها؛ الذين يجدون أنفسهم محبوسين لفترات طويلة بلا سقفٍ على ذمة قضايا واتهامات قد يظهر لاحقًا أنها مفبركة وغير صحيحة.
ثامنًا: قانون عدم الطعن من طرف ثالث على العقود التي تُبرمها الحكومة مع المستثمرين، وحصر ذلك على طرفي التعاقد؛ وبذلك قطعت الطريق على بعض القوى والجهات التي كانت تُراقب الفساد وتطعن على بعض العقود التي تشوبها شبهة الفساد؛ كما حدث مع عقد (مدينتي) مع رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى، حين طعن البرلماني السابق حمدي الفخراني على هذا العقد وطالب ببطلانه؛ لأنه يُهدر مئات الملايين من الجنيهات على خزانة الدولة، والأمر نفسه تكرَّر مع صفقة بيع شركات عمر أفندي.
تاسعًا: تكريس إعلام الصوت الواحد الذي يُبَرِّر ويُؤَيِّد قرارات السلطة، ويُنكر على المعارضين لها أو حتى المختلفين معها حقَّهم في التعبير عن وجهة نظرهم، وقد بدا ذلك بوضوح في حالة التبرُّم والضيق من أي أصوات مخالفة على ندرتها في الإعلام، فجرى منع برنامج (البرنامج) للإعلامي الساخر "باسم يوسف"، وتمَّ التضييق لدرجة المنع على بعض الكتاب؛ مثلما ما حدث مع الروائي "علاء الأسواني" الذي توقَّف عن الكتابة، والكاتب "بلال فضل" الذي أدَّت ضغوط على جهات الإنتاج لمنع إذاعة مسلسل من تأليفه في شهر رمضان؛ لأن العمل يتناول فساد ضابط شرطة، ولأن بطل العمل له مواقف سياسية مخالفة للنظام الحالي.
خطاب سياسي أبوي ورهانات خطرة
ولا يبدو واضحًا لحدِّ اللحظة أن من أولويات الرئيس السيسي التراجع عن هذه الخطوات، أو إعادة النظر فيها على الأقل؛ بل إن تصريحات الرجل ومواقفه حملت في مجملها خطابًا أبويًّا تحتلُّ فيه الحقوق السياسية والديمقراطية مرتبة متأخرة(13)؛ وفي المقابل، يتضمن الخطاب الرسمي الكثير من الإشارات السلطوية من قِبَل تقسيم المعارضة إلى وطنية وغير وطنية؛ بل وتحديد شكل المعارضة التي يُريد وسقف تحرُّكها وطريقة عملها، كما سعى الرئيس السيسي إلى تقديم نفسه بوصفه حاميًا للقيم الأخلاقية والدينية في المجتمع، وهي رؤية أقرب إلى مفهوم الأب أو الأخ الكبير؛ الذي يُريد إصلاح المجتمع وتحديد مواصفاته وفقًا لتصوراته، وقدم تعريفًا فضفاضًا للحرية؛ التي قال: إنها قرينة الالتزام، وتتوقف عند حدود الآخرين، ولها إطارها المنظم، وبموضوعية ودون تجريح ودون ابتذال، ودون ذلك فهي أي شيء آخر، وهي فوضى وحقٌّ يُراد به باطل"(14). ولا تخلو أيٌّ من خطابات وأحاديث السيسي من إشارات لها دلالتها فيما يخصُّ موقفه من الحقوق السياسية؛ فكثيرًا ما تساءل أمام محاوريه الذين يُحَدِّثُونه عن حقوق الإنسان والحريات السياسية: "وماذا عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كالتعليم والصحة؟"، فيما بدا وكأنه محاولة لمقايضة هذا بذاك. وعلى الرغم من أن الحكم الجديد لا يُنكر حقَّ المصريين في الديمقراطية والحرية؛ فإنه يراه حقًّا مؤجَّلاً؛ لأن الأولوية الآن -وفقًا للنظام- لمواجهة الأخطار التي تحيط بالبلاد، والمخططات التي تهدِّد أمنها وسلامتها. ويستند النظام في ذلك إلى رؤية تنحاز إلى الاستقرار والأمن الاقتصادي والاجتماعي على ما عداه، وهي الرؤية ذاتها التي تستخدمها السلطة ذريعة للتضييق على الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان، والمحاكمات القضائية التي لا تخلو من شبهة التسييس، وغير ذلك من إجراءات قمعية للسيطرة على المجال العام بما يقود في النهاية لنظام سلطوي جديد قديم.
لكن السلطة في هذا الإطار تبدو محكومة بمجموعة من الرهانات، التي يتعين عليها مراجعتها؛ لأنها تحمل في طياتها الكثير من المخاطر والمحاذير:
-
فالمراهنة على مقايضة الحريات السياسية بالأمن والاستقرار -ولو مرحليًّا- مراهنة خاسرة كما تُشير التجارب السابقة؛ فربما يُفلح النظام في تحقيق الاستقرار عبر القمع والإقصاء؛ لكنه يبقى استقرارًا هشًّا؛ ومن ثَمَّ فإن ما يُراهن عليه الرئيس السيسي ومؤيِّدُوه -بأن تحقيق إنجاز أمني واقتصادي سريع ربما يشفع له في تأجيل الحريات السياسية- يبدو مسارًا خطرًا؛ فالحقوق السياسية جزء لا يتجزَّأ من الحقوق الأساسية للمواطن جنبًا إلى جنب مع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛ بل إن الحريات السياسية وحقوق الإنسان شرط لازم لتحقيق الاستقرار والأمن؛ الذي يقود إلى إنجاز اقتصادي واجتماعي، فلا يمكن تصوُّر وجود استقرار حقيقي دون تدعيم الحريات ووقف الممارسات القمعية، وإذا أُضيفت إلى ذلك الاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية والأزمات المعيشية المتفاقمة؛ فإن كل ذلك يجعل محاولات السلطة تأميم المجال العام مهمَّة بالغة الصعوبة؛ فعلى الرغم من كل أشكال التضييق ومظاهر عودة الاستبداد، فإنه لم يخمد الحرَّاك الاحتجاجي بالكامل في أعقاب عزل مرسي؛ فقد استؤنفت الاضطرابات العمالية في شكل إضرابات واعتصامات متتالية، ووفقا للبيانات الصادرة مؤخرا عن "مؤشر الديمقراطية" التابع للمركز التنموي الدولي في مصر، فإن البلاد شهدت 2782 احتجاجا خلال الأشهر الثلاثة الأولى فقط من عام 2013، متجاوزة بذلك الاحتجاجات التى وقعت على مدار عام 2010، والتى بلغت 2210، كما فاقت أيضا إجمالى الاحتجاجات التى وقعت طوال عام 2012، البالغة 2532 إضرابا واحتجاجا(15).
-
أما المراهنة على الأغلبية الكبيرة التي حصل عليها السيسي في الانتخابات الرئاسية؛ التي اعتبرها مؤيِّدُوه تفويضًا شعبيًّا يتيح له التصرُّف كيف يشاء؛ فإن خطورتها تكمن في تجاهلها حقائق مهمة؛ أولها: أن هذه الأغلبية كانت من بين مَنْ أدلوا بأصواتهم من الناخبين؛ وذلك في حين أن أكثر من نصف القوَّة الناخبة قاطعت هذه الانتخابات. وثانيها: أن الانتخابات كانت أقرب إلى الاستفتاء على شخص السيسي من كونها انتخابات حقيقية تنافسية؛ حيث غابت التعدُّدية، وجرى إقصاء المعارضين؛ بينما اصطف الإعلام والجيش والشرطة وراء مرشح الجيش(16). كما أنه بقدر ما كانت النسبة الكبيرة التي حققها السيسي في الانتخابات الرئاسية ميزة له؛ فإنها تفرض عليه تحديًا ضخمًا؛ لأنه جاء إلى السلطة بناء على وعود أطلقها بتحقيق الأمن والاستقرار وإنقاذ الاقتصاد من الانهيار، ما يعني أنه قد يفقد هذه الشعبية في حال فشله في تحقيق هذه التطلعات؛ ويرى بعضهم أن نجاح السيسي في الحفاظ على هذه الشعبية يتطلَّب أمرين صعبين للغاية؛ الأول: النجاح في تحقيق مكاسب مادية ملموسة لغالبية المصريين، مصحوبة بعدالة اجتماعية، والثاني: موافقة الشباب والقوى المتخوِّفة من عودة السلطة الاستبدادية على تأجيل مطالبها في الحريات والتحوُّل الديمقراطي؛ مقابل تحقيق تنمية اقتصادية وعدالة اجتماعية واستقرار(17). ولا يبدو من السهل تحقيق هذين الشرطين؛ فالظروف الاقتصادية الصعبة والقرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة برفع أسعار الطاقة، وما سيصاحبها من انفلات متوقَّع في الأسعار تخصم من شعبية السيسي، وهو ما أقر به في خطابه الأخير، كما أن الشباب والقوى السياسية المقاطعة أو المحبطة لا تبدو ستقبل بتأجيل مطالبها في الحرية والديمقراطية؛ وهذا يعني أن السيسي بحاجة لما هو أكبر من مجرَّد الفوز في الانتخابات بنسبة كبيرة للنجاح في مهمته، كما أن هذا الفوز لا يقوم سندًا لتبرير النهج السلطوي.
-
المراهنة على الإبقاء على قواعد اللعبة السياسية القديمة -وهي وجود رئيس سلطوي قوي مع مؤسسات ضعيفة؛ سواء في البرلمان أو الأحزاب- لن تكون صالحة الآن؛ فالقواعد التي انتهجها مبارك لا تصلح لإدارة المرحلة الحالية في مصر بعد كل ما جرى من تغييرات منذ ثورة يناير/كانون الثاني؛ بل قد تقود إلى نهايات مشابهة لما انتهى إليه مبارك؛ لكن السلطة الجديدة بدلاً من أن تتجنَّب أخطاء الأنظمة السابقة، وفشلها في وضع قواعد مقبولة من جميع الأطراف السياسية، تحاول فرض قواعدها الخاصة على الجميع. وقد يدفع النظام الجديد ثمن ذلك باهظًا تمامًا كما حدث مع مبارك نتيجة إدارته للدولة بقواعد السبعينات؛ بينما كانت مصر في العقد الثاني من الألفية الثالثة(18). من هنا فإن هذه المراهنة على الحفاظ على القواعد القديمة تحمل مخاطر كثيرة وتكلفتها السياسية ستكون كبيرة، كما أن رهان النظام على دعم كل مؤسسات الدولة له محفوف بالمخاطر أيضًا فنظام مبارك كان كذلك، فضلاً عن أنه كانت لديه ميزة نسبية ليست لدى نظام السيسي؛ وهي وجود ظهير سياسي متمثلاً في الحزب الوطني؛ بل إن دعم مؤسسات الدولة -وعلى رأسها الجيش والشرطة والقضاء للنظام الجديد- ربما يُغريه بمزيد من إجراءات القمع، خصوصًا في مواجهة الإخوان؛ ردًّا على محاولاتهم لإفشاله وإضعاف قدرته على إدارة شؤون الدولة، الأمر الذي سيُطيل عمر الأزمة، ويؤسِّس لنظام سياسي أمني لا يحمل من الديمقراطية إلا إجراءاتها وشكلياتها؛ لكنه سيكون في جوهره نظامًا سلطويًّا منتخبًا(19)؛ لكن على الرغم من هذه المخاطر فلا يستبعد بعضهم أن يلجأ السيسي إلى نموذج القوة الموروث من أسلافه؛ وذلك بالنظر إلى ما تواجهه السلطة الجديدة من مخاطر تتمثَّل في معارضة تهدِّد النظام وأزمة اقتصادية طاحنة وفوضى في الشارع(20).
-
المراهنة على شيطنة المعارضة أو ضعفها وتشرذمها؛ فالمعارضة إما مطاردة وملاحقة، وتتم شيطنتها ليل نهار، وهي مشتتة، أو معزولة عن غيرها كما هو الحال مع الإخوان المسلمين وأنصارهم، أو طَيِّعَة كما هو الحال مع أحزاب كثيرة ليبرالية وحتى إسلامية مثل حزب النور، أو منقسمة ومتشظية مثل الحركات الشبابية والثورية (6 إبريل/نيسان والاشتراكيون الثوريون وغيرهما). هذا الوضع ربما يسمح للسلطة أن تكون الطرف الأقوى؛ لكنه وضع مؤقَّت، فتزايد القبضة الأمنية واتساع دائرة القمع والمصادرة قد تدفع هذه القوى إلى توحيد صفوفها، ويرى بعضهم أن خطاب السلطة الحالي -الذي يقسِّم الأحزاب وفق معيار الوطنية ما بين وطني وخائن، واستخدام خطاب التخوين في مواجهة المعارضين- قد يدفع هذه المعارضة إلى البحث عن وسائل غير تقليدية للمعارضة بعيدًا عن الإطار الحزبي الرسمي، وهذا ما يعني اتساع حركات الاحتجاج، وتشتُّت النظام في مواجهة المعارض الحزبي الرسمي والمعارض غير الرسمي(21). كما أن استخدام فزاعة الإخوان المسلمين أو الحرب على الإرهاب كغطاء لمزيد من الإجراءات القمعية قد يصلح لفترة من الوقت؛ لكنه لن يكون قابلاً للاستمرار أو القبول عند الناس، لاسيما مع اتساع نطاق القمع ليشمل كل المخالفين للسلطة.
خيارات المعارضة الصعبة
أما الخيار الثاني: فهو المقاومة والتصدِّي لمحاولات تأميم الحياة السياسية لصالحها ووضع قواعد اللعبة على مقاسها ووفقًا لمصالحها، وهذا يتطلَّب منها حشد كل طاقاتها لتوحيد صفوفها، وتجاوز خلافاتها، والاستعداد لدفع ثمن هذه المعركة. وواقع الأمر أن ما يُطلق عليها المعارضة المستأنسة -التي عاشت في كنف نظام مبارك، وقد عادت لتتصدَّر المشهد لاسيما مع إقصاء الإخوان المسلمين وملاحقتهم- تبدو أكثر قبولاً بالخيار الأول، في المقابل هناك قوى المعارضة الأخرى إلى جانب الإخوان المسلمين، التي تضمُّ حركات وقوى ثورية وشبابية؛ مثل: حركة 6 إبريل/نيسان، والاشتراكيون الثوريون، والتيار الشعبي، وبعض الأحزاب المتحالفة معه؛ مثل: الدستور، والتحالف الشعبي الاشتراكي، فهذه القوى لا تبدو مستعدَّة للقبول بالعودة للصيغة القديمة، ويتوقَّع أن تقف في خندق المقاومة الرافض لإعادة النظام الاستبدادي؛ لكن هذه القوى مع تصميمها في الدفاع عن الحريات السياسية والديمقراطية ورفض المساومة تفتقد لوجود استراتيجية ورؤية موحدة لخوض معركة تحرير المجال العام. وفضلاً عمَّا تعانيه من ضعف وانقسام وغياب الرؤية الموحدة لمواجهة الاستبداد القادم، فإن هذه المعارضة تعاني حالة الاستقطاب الشديد، وأزمة ثقة فادحة بين جناحيها الإسلامي والمدني؛ لدرجة أن القوى المدنية الأكثر معارضة لممارسات النظام القمعية لا تزال في معظمها ترى أن الإخوان أكثر خطرًا على الحياة السياسية من النظام الحالي، وهذا يمثِّل عقبة كبرى أمام هذه القوى في سبيل توحيد صفوفها، وتشكيل جبهة عريضة لخوض المعركة ضدَّ تأميم الحياة السياسية مجدَّدًا؛ وبالتالي يُصبح السؤال عن مدى قدرة هذه المعارضة على التصدِّي لعودة النظام السلطوي.
واقع الأمر أن هذه القوى لديها الكثير من أوراق القوة في هذه المعركة؛ شريطة أن تحسن استغلالها، ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى عدد من هذه الأوراق:
-
اتساع وتنامي قاعدة قوى التغيير في مصر؛ ولاسيما شريحة الشباب، وهي فئة لن تقلَّ عددًا بل ستزداد مع الوقت، وهذه القوة تضع قيم الكرامة والحريات والحقوق السياسية جنبًا إلى جنب مع مطالب الاستقرار والأمن والاقتصاد، ولا ترى تعارضًا بينهما؛ بل أنهما أمران متلازمان، واللافت أن ثمة أزمة واضحة بين قطاع الشباب والحكم الجديد بدت معالمها في مقاطعة وعزوف نسبة كبيرة منهم عن المشاركة في العملية السياسية التي أعقبت 3 من يوليو/تموز.
-
صعوبة رهان السلطة على تحقيق إنجازات اقتصادية، أو استقرار أمني في ظل واقع اجتماعي وسياسي منقسم؛ فالأمن الحقيقي لن يقع بلا توافق سياسي يشمل كل التيارات السياسية والاجتماعية بما فيها الإخوان المسلمون(22).
-
وضع اقتصادي صعب جدًّا، يجعل من شبه المستحيل ربما إعادة إنتاج النهج الاقتصادي الذي جرى في العهد الناصري؛ حيث كانت الدولة تضطلع بتقديم الخدمات والوظائف للمواطنين مقابل مصادرة الحريات السياسية، لكن لا توجد حاليا الموارد الكافية لذلك؛ بل إن ملامح السياسة الاقتصادية للسلطة الجديدة تُشير إلى عكس ذلك تمامًا؛ فالإجراءات التقشفية المؤلمة وغير الشعبية التي اتخذتها الحكومة مؤخَّرًا -كرفع أسعار الطاقة والكهرباء، وتخفيض مخصصات الدعم- تبدو مناقضة للتجربة الناصرية، ما يعني عجز النظام الحالي عن تقديم الخبز مقابل الحرية، وهذه ورقة مهمة تساعد المعارضة في التصدِّي لعودة الممارسات السلطوية من خلال التأكيد على أن الأزمة الاقتصادية التي تُواجه البلاد والقرارات التقشفية وما تحمله من كلفة اجتماعية كبيرة، تقتضي إطلاق الحريات السياسية لا التضييق عليها، وتتطلب الوصول إلى توافق سياسي بين جميع الأطراف من أجل تمرير هذه الإجراءات الاجتماعية الاقتصادية الصعبة بأقل قدر من التكلفة السياسية والاجتماعية، ولاسيما أن موضوع الدعم الحكومي للسلع -خصوصًا الطاقة- سيواجه بمقاومة كبيرة من بعض القوى والجماعات المستفيدة من ذلك؛ سواء الأغنياء جدًّا أو الفقراء والمعدمين؛ الذين سيكون عليهم تحمُّل نصيب من تكلفة الإصلاح(23).
-
رأي عام دولي ينتصر للحريات والديمقراطية، ويتابع عن كثب ما يجري في مصر، ويضغط على السلطة الجديدة في باب احترام الحقوق والحريات، وفي المقابل يُدرك النظام الجديد أهمية تأكيد شرعيته في الخارج، وفي مواجهة رأي عام دولي ما زال يَنْظُر إلى ما حدث في مصر على أنه انقلاب عسكري أطاح بأول تجربة ديمقراطية منذ عقود طويلة، وبالتالي يضع ممارسات وأفعال السلطة الجديدة تحت مجهر المراقبة، وهذه فرصة أمام المعارضة، لا من منطلق الاستقواء بالخارج؛ ولكن من منطلق طرح نفسها كبديل سياسي منحازٍ لقيم الديمقراطية والحرية في مواجهة الممارسات السلطوية.
السيناريوهات المحتملة
-
السيناريو الأول: نجاح السلطة الجديدة في تحقيق إنجاز اقتصادي ملموس؛ وذلك بالتوازي مع إجراءات واضحة في اتجاه ملف العدالة الاجتماعية يساعد على توسيع مساحة التأييد لها في الشارع؛ ومن شأن ذلك أن يخفِّف الضغوط الداخلية والخارجية عن كاهل الحكومة فيما يخصُّ الممارسات القمعية، كما سيُغري ذلك كثير من المصريين بالقبول بتأجيل حقوقهم السياسية نظير الحصول على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛ وبالتالي غض الطرف ولو مؤقتًا عن الممارسات الاستبدادية، وهذا ما قد يقود البلاد إلى نوع من الاستقرار النسبي المشوب بحالة من الانتظار، وسيزيد من صعوبة مهمة القوى المدافعة عن الديمقراطية؛ لكن هذا السيناريو مرهون بمجموعة من العوامل على رأسها تحقيق استقرار أمني يساعد على تهيئة المناخ لجذب مزيد من الاستثمارات وخلق فرص العمل، كما أنه مرهون باتخاذ جملة من الإجراءات فيما يخصُّ العدالة الاجتماعية؛ بما يظهر انحيازًا حقيقيًّا للفقراء الذين يُشَكِّلون قرابة نصف المصريين، كما أن هناك عقبات كثيرة أمام هذا السيناريو وهي أن قوى التغيير -وعلى رأسها الشباب- لا تبدو مستعدَّة لتأجيل مطالبها السياسية، فضلاً عن عدم امتلاك النظام لرؤية اقتصادية واضحة الانحياز للفقراء، وغياب التوافق السياسي والمجتمعي حيال أولويات المستقبل.
-
السيناريو الثاني: هو إخفاق السلطة الجديدة في تحقيق إنجاز اقتصادي وأمني ملموس في الشارع المصري؛ وذلك مع استمرار إجراءات القمع والتضييق على الحريات السياسية، واستمرار المظالم الاجتماعية بما سيقود إلى اتساع دائرة الغضب والاحتجاجات الشعبية والسياسية للنظام في الشارع، وقد يدفع القوى المعارضة للتوحُّد فيما بينها لمواجهة خطر الاستبداد المشترك، الأمر الذي قد يؤدِّي إلى تكرار مشهد 25 من يناير/كانون الثاني.
-
السيناريو الثالث: تحقيق مصالحة وطنية وسياسية شاملة بين النظام وباقي القوى السياسية المعارضة، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين؛ بما يُعيد المسار الديمقراطي للبلاد ويخفِّف حالة الاحتقان والانقسام السياسي. ويتطلَّب هذا السيناريو جملة من الإجراءات على رأسها إطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين، وإعادة النظر في المحاكمات التي نالت من قيادات وأنصار الإخوان وغيرهم من القوى السياسية، وتعديل قانون التظاهر، واتخاذ إجراءات جريئة فيما يخصُّ ملف العدالة الانتقالية وإعمال مبدأ المحاسبة والمساءلة، ووقف خطاب التحريض والكراهية في وسائل الإعلام، وإطلاق الحريات الحزبية والنقابية، وإعادة النظر في قانون انتخابات مجلس النواب. هذا السيناريو يبدو مستبعدًا في الوقت الراهن؛ وذلك بالنظر إلى رفض كلٍّ من النظام والإخوان المسلمين لأي حديث عن المصالحة؛ فالنظام يُواصل إجراءاته التصعيدية ضدَّ الجماعة وأنصارها باعتبارهم "إرهابيين"، والإخوان من جانبهم مستمرُّون في حراكهم وحشدهم ضدَّ النظام في رهان على إنهاكه وإفشاله وإسقاطه؛ وبالتالي عودة شرعية ما قبل 3 من يوليو/تموز.