اختراقات إقليمية: خيارات غزة في مواجهة حصار السلطة

يمثل تعثر إعادة إعمار غزة، بعد العدوان الإسرائيلي، أحد أوجه المعركة التي تشنها السلطة الفلسطينية على فصائل المقاومة، لكن التحولات الجيوسياسية توفر فرصا لإحداث شروخ في هذا الحصار.
201535101625145734_20.jpg
المصالحة الفلسطينية: جولات كسر الأصابع (الجزيرة)

ملخص
شكل انسداد الأفق في ملف إعادة إعمار قطاع غزة، بعد العدوان الإسرائيلي في 2014، رغم الاتفاق على تشكيل حكومة توافق وطني بين حماس والسلطة الفلسطينية حلقة في الصراع الدائر بين الطرفين. فمسألة المصالحة بالنسبة للسلطة الفلسطينية مدخلا لاستعادة التحكم في غزة إلى يد فتح، بما يتيح تفعيل كل الأدوات التي من شأنها تقليص إمكانيات حماس بل ولربما كسرها إن أمكن وإخضاعها للمنظومة القيمية التي تحكم مسار السلطة، كي لا يغدو بمقدورها لعب دور المتحكم في قرار السَّلم او الحرب داخل الساحة الفلسطينية.

أمام هذا فإن قوى المقاومة على أرض القطاع تبدو في مأزق مركَّب ناتج عن محدودية وصعوبة الخيارات المتاحة في ظل الضغط الآتي من الشارع المحاصر والقوى المحاصِرة في آن واحد. وعلى الرغم من ذلك فإن المدخل الجيوسياسي الإقليمي تحديدا يوفر فرصة لكسر هذا الحصار؛ لكن الانزلاق إلى ردَّات فعل غير محسوبة قد يفاقم من الأزمة بدل أن يحلها.

شكل انسداد الأفق في ملف إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير أزمة خانقة للمواطنين ومن ضمنهم حركة حماس؛ فالتقدم السلحفائي على الأرض لا يشي بأن السلطة الفلسطينية في رام الله معنية بالإعمار أو باستلام القطاع والمضي قُدمًا في المصالحة، وبالتالي الإسهام في التخفيف من آثار الحصار (1). بل على العكس تمامًا، هناك دلالات قوية على أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس دخل عملية مقايضة ومساومة موضوعها ومادتها وأداتها سكان القطاع، الذين خرجوا مكلومين من الحرب، بهدف إخضاع حماس ودفعها لتسليم السلطة (بالكامل حتى آخر قطعة سلاح). من هنا تبرز الحاجة لتوصيف الواقع وخلفيات الأزمة القائمة وخيارات الخروج منها والأوزان النسبية لكل خيار، إلى جانب رسم السيناريوهات المستقبلية الممكنة والتي من شأنها التأثير على الوضع القائم في المديين القريب والبعيد.

حماس وفقدان الظهير الاستراتيجي

شكَّل انقلاب يوليو/تموز من العام 2013 وسقوط حكم الإخوان في مصر نكسة استراتيجية حادة لحماس؛ فقد فقدت ظهيرًا استراتيجيًّا كان يمكنها من خلاله بناء قوتها الرسمية والشعبية بما يتيح لها القدرة على الصمود أمام كلٍّ من إسرائيل والسلطة الفلسطينية وغيرهما ممن يترصدون بها. فبفقدان هذا الظهير لم يعد لهذه الحركة من معبر طبيعي إلى العالم الخارجي وأصبح الحبل السري بين حماس-غزة والخارج منقطعًا أو شبه منقطع. فعدا الإشكالات الكبيرة المتعلقة بتدفق السلاح والمال، فإن مقومات الصمود من أدوات إعادة الإعمار وغيرها لم تعد قائمة. زاد من حالة البؤس هذه سَيْر بعض دول الخليج في ركْب عبد الفتاح السيسي وإخراجهم للإخوان المسلمين عن القانون مما ضيق من خيارات حماس وجعل ظهيرها حتى الشعبي منه في تلك الدول في حالة شبه الشلل (2).

كان اختبار هذه الوضع الجديد إبَّان حرب غزة في يوليو/تموز 2014؛ حيث بدا التفاعل العربي مع العدوان ضعيفًا وهزيلًا إن لم يكن معدومًا؛ فعدا دولة قطر أصبح الخليج إلى حدٍّ بعيد مغلقًا أمام حماس، كما أن كلًّا من سوريا والعراق واليمن ولبنان وليبيا تعاني من مشاكلها الداخلية التي تكفيها وتزيد وليس للحركة فيها سبيل. أما تونس فهي في حالة من عدم اليقين رغم تقدم العملية الديمقراطية ومن غير المنتظر أن توفر حاضنة لحماس، تمامًا كما الأمر بالنسبة لدولة السودان الخائفة والضعيفة، أو المغرب الذي لا تقوى حكومته على حمل المزيد من الأثقال.

لا شك أنه في أعقاب اندلاع ثورات الربيع العربي فإن ناقوس الخطر قد دقَّ في العديد من الدوائر العالمية لصنع القرار، لاسيما أن حقَّ تقرير المصير للشعوب العربية ديمقراطيًّا وبروز الإخوان المسلمين في الطليعة اعتبرته قوى عديدة في غاية الخطورة استراتيجيًّا على أنظمتها وأدواتها في المنطقة. من هنا فإن الواضح وجود مساعٍ حثيثة من أجل إفشال الإخوان المسلمين كمشروع وكحركة رائدة وسائر ثورات الربيع العربي، بما يكفل بقاء واستقرار أنظمة الفساد والاستبداد مزيدًا من الوقت. في هذا السياق تمامًا يأتي حصار حماس وقطاع غزة منسجمًا مع التوجه العام للأنظمة الاستبدادية تلك في إبقاء الكلمة العليا للأطراف الموالية لها والمتمثلة في الحالة الفلسطينية بسلطة رام الله.

وهكذا، فبينما لم يتم بعدُ ترميم العلاقة مع إيران بشكل كامل فإن قطر وتركيا هما اللتان لا تزالان تربطهما علاقات طبيعية بحماس وتوفران لها نوعًا من المتنفَّس الإقليمي؛ فالحركة أمام نوع من انغلاق المحيط مقرونًا بنوع قاتم من الانسداد السياسي الذي ربما لم تعشه من قبل على مدار أكثر من ربع قرن رغم محاولاتها الإفلات منه. هذا الجو الإقليمي المشحون أرخى بظلاله القاتمة على قدرة حماس على التفاعل مع المستجدات المتلاحقة بشكل يمكِّنها من تفادي الوقوع ضحية للعلاقة المتوترة بين الإخوان المسلمين والأنظمة العربية المستبدة. فنظريًّا حركة حماس ليست هي الإخوان المسلمين رغم أنها محسوبة عليهم وما يسري على الأخيرة من حظر هنا وهناك ينبغي ألا يسري بالضرورة على هذه الحركة وألا يؤثر على سائر قطاعات الشعب الفلسطيني في غزة.  لكن الديناميات الإقليمية ربطت بين الملفين.

اتفاق المصالحة ولغة الاضطرار

في إطار فترة وجيزة من المحادثات أُبرم ما أخذ يُعرف باتفاق الشاطئ للمصالحة في الثالث والعشرين من إبريل/نيسان 2014، وجرى التوقيع وتم الاحتفال رمزيًّا بين فتح وحماس على قاعدة أن تتولى حكومة تكنوقراط شؤون إدارة السلطة الفلسطينية بقيادة رامي الحمد الله (3). ولكن المصالحة تعثرت من جديد؛ إذ إن ما جرى هو شكل الاستلام والتسلُّم، أما جوهر المسألة فيما يتعلق بقطاع غزة فلم يتحقق. لم يتحقق التوافق على قضايا المصالحة ذاتها وما اتُّفق عليه بخصوص التشريعي والانتخابات والقيادة الموحدة وغيرها، كما لم يتحقق من جهة اضطلاع الحكومة الجديدة بمهامها الموكلة إليها في الضفة والقطاع (4). ففي الضفة لم تسع إلى إيجاد مناخات ملائمة للمصالحة، وفي القطاع لم تتولَّ عملية الإعمار أو تسوية أمور الموظفين. ربما ليس بالعسير الاستنتاج أن أهم ما دفع حماس إلى القبول بالشروط التي وضعتها السلطة لإتمام اتفاق المصالحة هو حالة العسر والانسداد السياسي والجغرافي المحيط بالحركة من كل جانب، وهو ما ضيَّق من إمكاناتها في إدارة القطاع حيث أصبح الأخير عبئًا تحاول حماس أن تنأى بنفسها عن الاستمرار في حمله. أمَّا الذي دفع في المقابل حركة فتح بقيادتها الحالية للاتفاق فهو محاولة الأخيرة التقاط لحظة ضعف حماس والبناء عليها لطرحها جانبًا وأخذ مكانها في غزة، إضافة إلى حالة الانسداد التفاوضي الذي تعانيه مع العدو الإسرائيلي (5). إلا أن تطورات الموقف على الأرض بعد الإضراب الذي أعلنه الأسرى الإداريون نهاية إبريل/نيسان 2014 دفعت بالأمور إلى مرحلة من التصعيد قادت إلى العدوان الصهيوني على غزة في يوليو/تموز 2014؛ وهو ما أدى إلى تكدس أحمال وتعقيدات جديدة على كاهل مختلف القوى الفلسطينية، فصائل وسلطة وأفرادًا، ودفع بعباس لإعادة حساباته بهدف الاستفادة من استحقاقات ما بعد الحرب والمناخ الإقليمي المتحامل على الإخوان المسلمين (6).  

أبو مازن وتلاشي مساحات الالتقاء

لم يكن أبو مازن يميل نحو الانسجام مع معطيات المصالحة وضروراتها سواء قبل المصالحة أو بعدها ،  وهذا ما عبَّر عنه بذاته في العديد من المناسبات التي هاجم فيها حركة حماس تصريحًا وتلميحًا متهمًا إيَّاها بأقذع الصفات ومذكِّرًا بـ (انقلابها الأسود) ومحرِّضًا وموغرًا للصدور عليها، علاوة على عدم توقف أجهزته الأمنية عن إجراءاتها القمعية بحق أبناء حماس (7). وهو ما يدلِّل على أن المناخات التي حرص أبو مازن على صناعتها ليست مناخات مصالحة أو توافق بل مناخات لمزيد من التوتر والانقسام، وليس آخرها اتهامه لحماس بالوقوف خلف التفجيرات التي جرت ضد كوادر وقيادات فتح في غزة (8). وحقيقة الأمر أن هذا ليس بموقف شخصي أو حتى رسمي من قِبل عباس فحسب بل هو التيار السائد داخل الحركة والذي يرى في حماس خصمًا لدودًا ينازعها زعامة الشارع عدا ما ارتبط في الذاكرة من أحداث العام 2007 وما بعده. وبالتالي، فإن مسألة المصالحة بالنسبة لهذا التيار هي ضرورة لإعادة زمام السلطة في كل من الضفة وغزة إلى يد فتح وبما يتيح تفعيل كل الأدوات التي من شأنها تقليص إمكانيات حماس بل ولربما كسرها إن أمكن وإخضاعها للمنظومة القيمية التي تحكم مسار السلطة، كي لا يغدو بمقدورها لعب دور المتحكم في قرار السَّلم او الحرب داخل الساحة الفلسطينية. وفي هذا السياق تأتي تصريحات راجي الصوراني لتؤكد دور عباس في حصار غزة وتجويعها ودفعها للاستسلام، حيث أكد مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن "ممثل الاتحاد الأوروبي أخبره شخصيًّا أن لا مانع لديهم في تثبيت موظفي غزة ودفع رواتبهم ومن ضمنهم العسكريون، ولكن المشكلة بقيادة السلطة الفلسطينية" (9). وعلى الرغم من نفي مكتب الاتحاد الأوروبي في القدس لمثل هذا التعهد لاحقًا إلا أن ذلك لا ينفي صدقية ما نقله الصوراني عن ممثل الاتحاد الذي تحدث إليه على ما يبدو بشكل غير رسمي (10).

انكشاف ظهر حماس

الحرب الأخيرة على القطاع تركت بصماتها على العلاقة الهشة بين حركتي فتح وحماس قبل أن يتوقف هديرها. فعلى الرغم من عدم تحقيق إنجازات عملية ملموسة على صعيد كسر الحصار إلا أن الأداء المتميز لحماس في الميدان وارتفاع شعبيتها في الداخل والخارج كان سببًا رئيسًا في توقف عجلة المصالحة أو على الأقل إبقائها في إطار المراوحة في نفس النقطة؛ فليس من مصلحة فتح الحزبية أن تجني حماس كل هذا الدعم الشعبي الذي حصدته في أوساط الفلسطينيين قبل غيرهم كما عبَّرت عن ذلك استطلاعات الرأي، ومنها الاستطلاع الشهير الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات المسحية في رام الله عقب الحرب على غزة (11). كما ليس في صالحها الحزبي أن تصب نتيجة الحرب في ميزان حماس، سواء في الانتخابات التي كان من المزمع أن يُدعى لها وفقًا لاتفاق المصالحة أو حتى بخروجها من المشهد نظيفة اليدين مُخلِية مسؤوليتها عن الإعمار أو ملقية لهذا الملف في وجه حكومة التوافق. من هنا كان تلكؤ السلطة في رام الله في المضي قُدمًا نحو تسلُّم المهام المنوطة بها في قطاع غزة؛ فأبو مازن يستفيد من إبقاء حماس وحدها تعاني مشهد ما بعد الحرب، فهو يعلم أنها لا تملك من أدوات الإعمار الكثير جرَّاء تشديد الطوق عليها من كل جانب، علاوة على أنها لا تملك إجابات على تساؤلات الناس الغاضبة والمتعلقة بـ (ماذا بعد؟)

وجود حماس في المشهد من شأنه -كما يتصور أبو مازن- أن يكسر ظهرها أو على الأقل أن يدفع نحو إفراغ الناس طاقة غضبهم في وجهها، وهو ما سيؤدي إلى التقليل من انتصاراتها المعنوية التي جَنَتها إبَّان الحرب وإبدائها تنظيمًا عاجزًا مغامرًا وفاقدًا للمسؤولية؛ فعلى الرغم من أن المسؤولية في التحرك والبدء في إعادة الإعمار هي مسؤولية الحكومة إلا أن عدم اضطلاع الأخيرة بمهامها يجعل من حماس، التي تخلَّت رسميًّا عن موقعها فيها، المسؤولة بحكم الأمر الواقع؛ فهي ما زالت السلطة الحقيقية على الأرض بحكم أن هياكلها الحكومية والأمنية ما زالت في الواجهة. بمعنى أن مزيدًا من المعاناة والتأخير في إعادة الإعمار مطلوب لغايات تتعلق بالتوجه الاستراتيجي لدى عباس في جعل السلطة سلطة واحدة والسلاح سلاحًا واحدًا (12).

بالطبع، فإن هذه المسألة في نظر عباس مرتبطة ببقاء المشهد الإقليمي على ما هو عليه، وربما تطوره ليكون أكثر فاعلية في خنق حماس وإخضاعها كما يأمل الرئيس الفلسطيني من النظام المصري في القاهرة (13).

هكذا إذن، ففي ظل أن إعادة الإعمار بما يرضي جمهور المتضررين في القطاع وفقًا لخطة (سيري) (14) المجحفة والبطيئة جدًّا غير ممكنة فلابد لمن كان طرفًا في الحرب أن يتحمل هو المسؤولية وفقًا للسلطة الفلسطينية. من هنا، ففي ظل عجز حماس عن القيام بهذه المسؤولية أو الإسهام الفاعل في رفع معاناة الناس وتعويضهم فإن من المتوقع أن يستمر هذا الضغط إلى أن تستجيب الحركة لجملة من شروط تجرِّدها من أسباب القوة، وهي المهمة التي بدأتها مصر منذ انقلاب السيسي عبر إغلاق الأنفاق وتشديد الحصار؛ فرغم أن عنصر قوة أُضيف لسجل حماس إثر أدائها العسكري المتميز (15) إلا أن انكشاف ظهرها سياسيًّا وتركها وحيدة تُعارك الميدان بعد الحرب هو عنصر ضعف، ينتظر خصوم حماس أن يتفاقم بما لا تحتمله هذه الحركة وبما يدفعها في المحصلة النهائية نحو الخروج بموظفيها وعسكرييها من المشهد، وإتاحة الفرصة لعودة قوى أمن السلطة الفلسطينية لممارسة نفوذها على الأرض مجددًا كمقدمة ضرورية لإعادة الإعمار (16).      

المأزق الإنساني

يتمثل المأزق الراهن بالمعاناة الإنسانية الشديدة الناتجة عمَّا خلَّفته الحرب من دمار وخراب ومزيد من الحصار من الجانب الإسرائيلي-المصري والفلسطيني الرسمي، وعدم قدرة حماس على النهوض بالأعباء المترتبة على عدم البدء فعليًّا بإعادة الإعمار. فعلاوة على الخنق المالي الذي تتعرض له حماس في غزة فإن المعاناة العامة شكَّلت درجة عالية من الاحتقان في الشارع الغزاوي انعكست على قطاعات مهنية وخدمية أخرى. ورغم أن الاحتمال والصبر مطلوب وطنيًّا من الشعب إلا أن المعاناة المركَّبة في عمومها تُضعف الروح المعنوية للفلسطينيين بغزة، ومن شأنها أن تفضي إلى تقديم الشخصي على العام، وفي المحصلة تبلور موقف ربما يكون رافضًا إن لم يكن معاديًا للمقاومة؛ فالناس يصبرون ويصمدون ولكنهم يريدون أيضًا أن يأكلوا ويشربوا ويشعروا بالدفء والأمان في مآوٍ توفر لهم ذلك؛ مما يحتم البحث عن متنفس لحالة الضغط التي يعيشها الشارع الغزاوي لاعتبارات تتعلق بكرامة الناس وشرفهم الوطني والعائلي. من شأن هذا المتنفس إن وجد أن يشكِّل هو الآخر متنفَّسًا لحماس وسائر الفصائل الوطنية المقاومة هناك.

حماس ومحددات الموقف

ليس بخافٍ على حماس أن تفريطها بمركز قوتها -أو تهاونها في أخذ سيناريو عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحسم بعين الاعتبار- سيكون الوصفة المؤكدة لمزيد من الأعباء والدماء. لذلك فهي حريصة كل الحرص على ألا يتقاطع أي تصالح مع فتح مع حتمية وضرورة الحفاظ على مجموعة ثوابتها المتمثلة بعدم المساس بسلاح أو رجال المقاومة، وعدم السماح بتفعيل التنسيق الأمني مع العدو  الإسرائيلي على أرض غزة مع ما يرافق ذلك من انتهاكات للحقوق والحريات (17)، ومن ثَمَّ التعامل مع موظفي حكومتها على قاعدة الاستيعاب لا الإقصاء، إضافة إلى عدم تقديم تنازلات جوهرية أو مبدئية من شأنها الإخلال بثوابتها الأيديولوجية. لضمان ذلك فإنها تحرص على الإبقاء على مستوى من التحكم في مجريات الأمور داخل غزة، لاسيما ما يتعلق منه بقطاع الأمن والشرطة والقضاء كضمانة لعدم عودة حركة فتح مجددًا إلى ممارسات ما قبل العام 2007.

الخيارات

لا شك أن كل الخيارات المتاحة للتغلب على حصار غزة غاية في الصعوبة تبعًا للكُلفة البشرية والمادية والسياسية التي يمكن أن تترتب على كل منها. 

  1. الصمود: بمقتضى هذا الخيار فإن الحال تبقى على ما هي عليه مصحوبة بارتفاع ضروري لحالة التكافل والتعاضد والصبر إلى حين أن يبادر الآخرون بالحل في الوقت الذي يحددونه. وهذا يستدعي تسخير كل ممكن لتدعيم حالة الصمود لدى أهل غزة (إلى أن تُفرَج). أما أصحاب هذا الخيار فهم في الغالب لا يرون أن هناك وضعًا إنسانيًّا أو حتى حركيًّا مختلف جوهريًّا عمَّا كانت عليه الحال طيلة فترة الحصار، أو حتى ما هو مختلف عن واقع الفلسطينيين سواء في لبنان أو سوريا؛ وبالتالي فليس هناك ما يستدعي أن تبادر حماس إلى تقديم أي تنازلات على أي مستوى. تبدو سلبية هذا الخيار -وفقًا لوجهات نظر أخرى- في نكرانه وجود أزمة استثنائية تعصف بالقطاع، عدا كونه يطيل أمد المعاناة بما يسمح باستغلال الموقف سواء من قبل عباس أو ممن يناهضون المقاومة في القطاع، علاوة على أن صبر الناس آخذ بالنفاد شيئًا فشيئًا تحت وطأة الضغط الناتج عن الحرب والحصار. لذلك فإن حظوظ تحقق هذا السيناريو ليست كبيرة لأن عوامل تغييره متزايدة وضاغطة على الفاعلين بغزة.
  2. تقديم تنازلات جوهرية تشترطها الجهات القائمة على أمر حصار غزة تحت عنوان مراجعات (18)، تقوم بموجبها حماس في غزة بالتقرب من النظام المصري والسلطة الفلسطينية وأوروبا وإسرائيل في ملفات محددة قد يكون فيها مجال للمناورة والتكتيك كالإعلان عن الانفصال التام عن الإخوان المسلمين وتعديل الميثاق. من الممكن أن يفتح هذا الخيار شهية الخصوم للضغط من أجل تحقيق المزيد من التنازلات، كما أنه غير مضمون النتائج بمعنى أن آثاره الإيجابية المتوقعة ليست أكيدة. وفي حال فشلت الجهود وبقيت الحال على ما هي عليه فسيعُدُّها البعض نكسة كبيرة في تاريخ الحركة. ولكن هذا لا يمنع بطبيعة الحال من الشروع في عملية مراجعة ونقد للأداء لاعتبارات داخلية أولًا.
    لا تبدو حظوظ هذا السيناريو كبيرة لأن تكاليفه مرتفعة جدًّا على الحركة دون أن تكون النتائج المنشودة مضمونة.  
  3. انفراط عقد المصالحة بصيغتها الحالية والعودة إلى حكم غزة أو إيجاد بدائل توافقية أخرى. وفقًا لهذا الخيار يرى البعض أنه إن لم تعد السلطة إلى القطاع فإن على حماس التراجع عن صيغة العلاقة القائمة حاليًا مع حكومة التوافق لصالح إيجاد صيغة أخرى للحكم سواء بشكل منفرد أو بالتنسيق مع فصائل أخرى (19). إذا جرى ذلك فإنه من الممكن أن يتسبب بردود فعل داخلية وخارجية غاضبة باعتبارها خطوة (انقلابية) أخرى غير مبرَّرة تضاف إلى (سابقتها) عام 2007. وفقًا للعديد من التقديرات فإن من غير المرجح أن يكون هذا الخيار حلًّا للمشكلة بل تأزيمًا وربما تأبيدًا لها -لاسيما في ظل عدم رغبة عباس في تحمل عبء غزة من الأساس- وهو ما سيؤدي إلى مزيد من الحصار والخنق. 
  4. خيار (الجنون) أو (تأزيم الأزمة بوسائل يترتب عليها تضحيات): وهو أحد الخيارات الاستراتيجية التي يمكن تفعيلها عند اشتداد الأزمات بحيث يتم خلط الأوراق وإعادة تفعيل الرأي العام بشكل يفضي إلى الخروج من المأزق. المقصود تحديدًا بهذا الخيار هو ذلك الذي يبدو في ظاهره غير عقلاني أو عملي ولكن من شأنه فرض موضوع الحصار على أجندة المجتمع الدولي بصورة أقوى مما هي عليه في الوضع الراهن. وقد عبَّر بعض الكتَّاب الإسرائيليين عن هذا التصور بعبارة ( إعمار أو انفجار) للتدليل على أن انفجار الموقف مجددًا في ظل الوضع المتأزم ممكن بل مرجح جدًا (20). يحول دون هذا الخيار حالة الإرهاق والتعب التي أصابت الناس أثناء الحرب وعدم استعدادهم لخوض حرب أخرى أو تحمل مزيد من التشريد والمعاناة أو القتل دون رؤية أفق سياسي معقول وممكن. 
  5. (التكتكة): بالنظر إلى التطورات في المشهد الاقليمي مؤخرًا تبدو العربية السعودية المدخل الأمثل  لخرق الجدار المحيط بحماس وقطاع غزة. فعلى الرغم من القطيعة التي جرت مع جماعة الإخوان إبَّان حقبة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز  تبدو تباشير المرحلة الحالية أكثر انفتاحًا وأكثر تقبلًا لإعادة النظر في مجريات ما تم. فعلاوة على أن تشكيلة من علماء الدين والسياسة الذين يكنُّون احترامًا خاصًّا لحماس ما زال يمكنهم لعب دور الوسيط مع النظام، فإن التركيبة الهيكلية للعهد الجديد تبدو أقل تشبثًا بالأجواء السلبية التي خلَّفها السابقون، وهو ما يفسح المجال لتجديد العلاقة واستثمارها للضغط على النظام المصري للتخفيف أو رفع الحصار من طرفه. أما التكتكة على الصعيد الدولي فيمكن الحديث عن كثير مما ينبغي فعله واستثماره لضمان حالة من الاستقرار داخليًّا؛ فالمقاومة استطاعت أن تؤسس لخطوط اتصال ذات شأن يمكنها اللعب من خلالها إذا أُحسن استثمارُها للتأثير في المشهد دون أن تكون هنالك تنازلات في الجوهر. يبدو هذا الخيار هو الأكثر جاذبية ومعقولية لفكِّ الحصار أو التخفيف من آثاره المأساوية على قوى المقاومة وعموم الشعب الفلسطيني في القطاع.

الخلاصة

صحيح أن الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة هو العنوان الرئيس، إلا أن السلطة الفلسطينية في رام الله برفضها التسلم الفعلي للقطاع في إطار المصالحة ورفضها تنفيذ الأجندات الأخرى لاعتبارات تتعلق بالحسابات الحزبية هي من يعطِّل بالدرجة الأولى المصالحة وإعادة الإعمار والتخفيف من الحصار أو حتى رفعه (21). أمام هذا فإن قوى المقاومة على أرض القطاع تبدو في مأزق مركَّب ناتج عن محدودية وصعوبة الخيارات المتاحة في ظل الضغط الآتي من الشارع المحاصر والقوى المحاصِرة في آن واحد. وعلى الرغم من ذلك الا أن ما أسميناه خيار التكتكة يبدو الأمثل في ظل انسداد الافق الجيوستراتيجي؛ لكن الانزلاق إلى ردَّات فعل غير محسوبة قد يفاقم من الأزمة بدل أن يحلها.
__________________________________
د. أديب زيادة - متخصص في السياسة الخارجية الأوروبية تجاه الشرق الأوسط، جامعة إكستر

هوامش
1- انظر: الرئيس: حماس وآخرون يعرقلون إعادة إعمار غزة، جريدة القدس، 14 ديسمبر/كانون الأول 2014 http://www.alquds.com/news/article/view/id/537149   دخول الموقع 14 ديسمبر/كانون الأول 2014.
2 - انظر: السعودية تعلن الإخوان المسلمين "تنظيمًا إرهابيًّا". الجزيرة نت، 7 مارس/آذار 2014م، http://www.aljazeera.net/news/arabic/2014 مارس/آذار 7/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85%D8%A7-%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D8%A7 دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014. انظر أيضًا: الإمارات تعلن قائمة بـ(83) «منظمة إرهابية». الجزيرة، 16 نوفمبر/تشرين الأول 2014، http://www.al-jazirah.com/2014/20141116/du13.htm   دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014.
3- انظر: بيان صادر عن لقاء وفد منظمة التحرير الفلسطينية مع حركة حماس لإنهاء الانقسام وتنفيذ اتفاق المصالحة الوطنية 23 إبريل/نيسان 2014. http://www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=9281  دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014.
4 - انظر: أبو مرزوق: لم نتحالف مع دحلان ضد الرئيس عباس، وإيران وعدتنا باستئناف الدعم. وكالة سما للأنباء، 22 ديسمبر/كانون الأول 2014 http://samanews.com/ar/index.php?act=post&id=222673   دخول الموقع 22 ديسمبر/كانون الأول 2014.
5 - للمزيد حول هذا الموضوع، انظر: تقدير استراتيجي (67): اتفاق الشاطئ ومستقبل المصالحة الفلسطينية. مركز الزيتونة، مايو/أيار 2014 http://www.alzaytouna.net/permalink/68611.html 
6 - انظر: عباس: لا يوجد أكذب من حماس والإخوان المسلمين، وكالة مباشر الاخبارية،  http://www.newmubasher.com/2014  ديسمبر/كانون الأول blog-post_83.html   دخول الموقع 22 ديسمبر/كانون الأول 2014.
7- الرئيس أبو مازن يشنُّ هجومًا واسعًا على حماس"، راديو المنار،   http://www.manarfm.com/ar/flash/news-det-31436.html   تاريخ دخول الموقع 22 ديسمبر/كانون الأول 2014 . انظر أيضًا، أبو مرزوق: عباس لا يترك فرصة دون الهجوم على حماس، مركز الزيتونة، http://www.alzaytouna.net/permalink/86663.html    تاريخ دخول الموقع 21 يناير/كانون الثاني 2015.
8- عباس يشنُّ هجومًا على حماس في حفل إحياء ذكرى وفاة عرفات، جريدة القدس http://www.alquds.co.uk/?p=248759    دخول الموقع 11 نوفمبر/تشرين الأول 2014.
9- انظر: الصوراني: الاتحاد الأوروبي أخبرني بأن لا مانع من تثبيت موظفي غزة لكن المشكلة بالسلطة. وكالة سما للأنباء، http://samanews.com/ar/index.php?act=post&id=221008   دخول الموقع 7 ديسمبر/كانون الأول 2014.
10- انظر: الاتحاد الأوروبي ينفي ما ورد في بيان "نقابة الموظفين" بغزة بشأن الرواتب، وكالة سما للأنباء،  http://samanews.com/ar/index.php?act=post&id=221383  دخول الموقع 10 ديسمبر/كانون الأول 2014.
11- انظر: نتائج استطلاع الرأي العام رقم – 54. المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، 9  ديسمبر/كانون الأول 2014، http://www.pcpsr.org/ar/node/506 دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014.
12- هذه شروط المصالحة كما أعلنها الرئيس عباس في اجتماع الجامعة العربية في القاهرة بتاريخ 6 سبتمبر/أيلول 2014. انظر: منير شفيق، السكوت عن حصار غزة لماذا؟  شبكة الموقف الإلكترونية، 21 ديسمبر/كانون الأول 2014  http://almawqef.com/spip.php?article11692&lang=ar   دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014.
 انظر أيضًا: عبد الباري عطوان، الرئيس محمود عباس والهجوم على حماس من منبر الجامعة العربية ودماء شهداء غزة لم تجف بعد… إنه وضع  مأساوي يحتاج إلى تصحيح فوري. جريدة رأي اليوم، 7 سبتمبر/أيلول 2014  http://www.raialyoum.com/?p=148527   دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014.
انظر أيضًا: عباس يشن هجومًا غير مسبوق على حماس في اجتماع الجامعة العربية وأبو مرزوق يدعو لتشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة لفشل «التوافق». القدس العربي،7 سبتمبر/أيلول 2014  http://www.alquds.co.uk/?p=217695   دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014.
13 - في لقاء جرى في 14 يناير/كانون الثاني 2015 بين الرئيس عباس والسيسي لم يتورع عباس عن التحريض على حماس وتحميلها مسؤولية ما يجري في سيناء. للمزيد، انظر: عباس يشكو حماس "مطولًا" للسيسي. جريدة الأخبار  http://www.al-akhbar.com/node/223839  دخول الموقع 21 يناير/كانون الثاني 2015.
14- للمزيد حول (خطة سيري)، راجع: محمد مصطفى يكشف فحوى خطة سيري لإعادة إعمار قطاع غزة. دنيا الوطن، 19 سبتمبر/أيلول 2014 http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2014/09/19/593246.html#ixzz3MjNR2nNx  دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014.
15 - انظر: محللون: الحرب على غزة تزيد شعبية حماس «مؤقتًا». شبكة الإعلام العربي محيط، 5 سبتمبر/أيلول 2014 http://moheet.com/2014/09/05/2134645/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%AA%D8%B2%D9%8A%D8%AF-%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B3-%D9%85%D8%A4%D9%82%D8%AA%D8%A7.html#.VJls5EsgKA دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014.
16- انظر: دبلوماسي مصري: لن يتم ضخ أموال إعادة الإعمار قبل تسلُّم حكومة التوافق مهامها في غزة. جريدة القدس العربي، 15 أكتوبر/تشرين الأول 2014. http://www.alquds.co.uk/?p=235151 دخول الموقع 21 يناير/كانون الثاني 2015.
17 - انظر: صالح العاروري، خسارة الاحتلال مستقبلًا ستفوق خسارته الأخيرة، جريدة الرسالة، 22 ديسمبر/كانون الأول 2014 http://alresalah.ps/ar/index.php?ajax=preview&id=105669 دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014.

18- حول حديث المراجعات انظر: أحمد يوسف، حماس والحاجة إلى مقاربات سياسية وأيديولوجية جديدة (وجهة نظر شخصية). وكالة سما الإخبارية، 15 ديسمبر/كانون الأول 2014 http://samanews.com/ar/index.php?act=post&id=221915  دخول الموقع 16 ديسمبر/كانون الأول 2014.
19- انظر: الزهار: سنبحث بدائل لـ (حكومة التوافق الفاشلة) بعد انتهاء مدتها. جريدة الشرق الأوسط، 18 سبتمبر/أيلول 2014 http://aawsat.com/home/article/184746  دخول الموقع 23 ديسمبر/كانون الأول 2014.
20 -  انظر: عاموس هرئيل، إعمار أو انفجار. القدس العربي، 21 ديسمبر/كانون الأول 2014، http://www.alquds.co.uk/?p=268326  دخول الموقع 21 ديسمبر/كانون الأول 2014.
21- انظر: الرئيس عباس: تأخر إعمار غزة بسبب عدم تمكُّن الحكومة من بسط سيطرتها والإشراف على المعابر. وكالة سما الإخبارية، 23 يناير/كانون الثاني 2015.

ABOUT THE AUTHOR