قانون الانتخابات النيابية اللبنانية وإعادة إنتاج النظام القائم

ترى الورقة أن قانون الانتخابات اللبنانية الذي ستُجرى الانتخابات وفقه قد تمت هندسته لإعادة إنتاج نفس القوى المشارِكة في السلطة، وإنْ بشراكات مختلفة وبحصص متفاوتة، ولن تتمكن لوائح المجتمع المدني من تحقيق نجاحات تُذكَر.
7f557da974704e4884e512009aac08d6_18.jpg
قانون لبنان للانتخابات النيابية يعيد التجديد للطبقة الحاكمة وللأحزاب المشاركة في السلطة، ويضعف من قدرة المجتمع المدني والمستقلين على التأثير (رويترز)

مقدمة 

أقرَّ البرلمان اللبناني، في يونيو/حزيران عام 2017، قانونًا نسبيًّا هجينًا للانتخابات النيابية يجمع بين اللائحة المغلقة في 15 دائرة، والصوت التفضيلي الواحد ضمن القضاء (الدائرة المصغرة)(1)، والفرز المذهبي لمقاعد المجلس الـ128 (نصفان: مسيحي ومسلم). هذا العدد المرتفع للدوائر نسبة للحجم الصغير للمجلس، يُخفِّف من آثار النسبية المعتمدة فيه، فتصير في بعض الدوائر "أكثرية مُقنَّعة"، سيما أن للمستقلين والقوى العلمانية شعبية مُوزعة جغرافيًّا وبين الطوائف، ولن ينالوا نسبًا تُخولهم دخول المجلس النيابي في دوائر قُسِّمت على أساس طائفي. كما أن النسبية في هذه الدوائر مبنية على حاصل انتخابي مرتفع (يُجاور معدله العشرة في المئة)، ويُحتسب بقسمة عدد المقترعين على عدد النواب. 

لكن إقرار هذا القانون، وهو العاشر منذ الاستقلال، مثَّل سابقة تاريخية لاعتماده النسبية كمبدأ، بعدما ساد الاقتراع الأكثري غداة استقلال البلاد عام 1943. ذاك أن النسبية مثَّلت لعقود مطلبًا للقوى اليسارية، و"الحركة الوطنية" في الحرب الأهلية، ولاحقًا لـ"حزب الله"، ردًّا على الهيمنة المارونية السائدة في البرلمان والدولة حتى إقرار المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في اتفاق الطائف(2). واقترنت المطالبة بالنسبية حينها أيضًا بالمطالبة بالدائرة الواحدة كونها تعكس الحجم الحقيقي للأحزاب والقوى العلمانية القوية حينها، والتي تتكئ على قاعدتها الشعبية الأوسع بين المسلمين، وهم أقلية في البرلمان وأكثرية سكانية. 

ومثَّلت المطالبة بالدائرة الواحدة ردًّا على ممارسة لبنانية شائعة باتت مُحرمة في أغلب ديمقراطيات العالم، وهي تشكيل الدوائر بما يتلاءم مع مصلحة السياسيين المهيمنين على البرلمان والحكومة. بيد أن تفصيل قوانين الانتخابات على مقاس الزعماء السياسيين وتوزع ناخبيهم ولإقصاء خصومهم، أي تزوير الدوائر (وهي الممارسة المتعارف عليها باللغة الإنجليزية باسم gerrymandering)، عزَّز الانقسامات الأهلية ودفع بقيادات سياسية إلى اعتبار التغيير عبر البرلمان مستحيلًا. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن حربي عام 1958 و1975، ورغم تعدد أسبابهما المحلية والإقليمية، وُلدا من رحم الاعتقاد بعدم إمكانية التغيير عبر الانتخابات والبرلمان. كان الرئيس اللبناني الراحل، كميل شمعون (رئيس الجمهورية ما بين 1952-1958)، وضع قانون انتخاب عام 1957 صُمِّمت دوائره لتأمين فوزه وإطاحة خصمه مؤسس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، كمال جنبلاط (27 دائرة، من ضمنها دائرتان للشوف في جبل لبنان)(3). واللافت دومًا في قوانين الانتخابات اللبنانية أنها غالبًا لا ترسو على قاعدة واحدة، فإن كان التصويت على أساس المحافظة، كما كانت الحال عام 2000، تطفو استثناءات في بعض الدوائر، سيما بيروت وجبل لبنان (قُسِّمتا إلى دوائر أصغر إبَّان ما يسمَّى "عهد الوصاية السورية"، في قانون عام 2000، لإضعاف رئيس الوزراء اللبناني الراحل، رفيق الحريري، وإرضاء للنائب وليد جنبلاط)(4). وإن كان القضاء القاعدة كما في قانون عام 1960، فإن الدوائر تكبر جنوبًا تلبية لرغبات "حزب الله" وحليفه حركة "أمل"، المعروفْين محليًّا باسم "الثنائي الشيعي". 

ذاك أن الدوائر الكُبرى تُذيب احتمالات الخرق، وتُشجع تشكيل تحالفات أساسها القوى اللبنانية النافذة والمشاركة في السلطة، بما لا يسمح بأي خرق لها، ما أكسبها اسم "المحادل" محليًّا للدلالة على سحقها أي أمل بإيصال مرشحين من خارج النادي السياسي اللبناني. 

الخلفية السياسية لقانون 2017: كانتونات طائفية 

من هذا المنظور بالذات، وُلد القانون الحالي، فقد جاء في أعقاب تغيير كبير في توازنات السُلطة اللبنانية، وتحديدًا بعد انتخاب حليف "حزب الله"، الزعيم السابق للتيار الوطني الحر، العماد ميشال عون، رئيسًا للجمهورية في 31 أكتوبر/تشرين الأول عام 2016. ورغم أن انتخاب عون أعقب تفاهمين مع الرئيس التنفيذي لحزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، ورئيس الوزراء الحالي، سعد الحريري، إلا أن تحالفه الأقدم مع "حزب الله"، في فبراير/شباط 2006، أسَّس لخطاب سياسي وعلاقات أكثر عمقًا واستراتيجية بين الطرفين تتجاوز السياسة إلى التمويل والعلاقات الإقليمية. هذا العمق في العلاقات بين الطرفين يبدو جليًّا في القانون الانتخابي الحالي؛ إذ إن الزعيم الحالي للتيار الوطني وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، قاد عملية إقراره، وراعى في ذلك حليفه، "حزب الله"، الرافض لقانون الستين (قانون أكثري). جنوبًا، راعى القانون الجديد الثنائي الشيعي باعتماده دائرتين كبيرتين جدًّا لجهة عدد الناخبين من أصل ثلاثة دوائر، وهما: "حاصبيا-مرجعيون-النبطية-بنت جبيل" (11 نائبًا) وصور-الزهراني (7 نواب). هاتان الدائرتان فيهما 14 نائبًا شيعيًّا، وغالبية ساحقة من الناخبين الشيعة كافية لرفع الحاصل الانتخابي بوجه المنافسين. والنسبية نفسها تعني إمكانية اختراق شخصيات سُنية متحالفة مع "حزب الله" مثل أسامة سعد في دائرة صيدا-جزين (وهي الدائرة الثالثة في الجنوب)، وعبد الرحيم مراد في دائرة البقاع الثانية (البقاع الغربي-راشيا). في المحصلة، يرى الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، أن "الانتخابات النيابية تُشكِّل فرصة جدية لإعادة إنتاج سلطة وطنية انطلاقًا من الاستقرار الذي أمَّنته المعادلة الثلاثية (جيش-مقاومة-شعب)(5)". ذاك أن الحزب حاول في أعقاب انتصاراته المتتالية في سوريا، الدفع باتجاه التطبيع الشامل بين الدولة اللبنانية من جهة، والنظام السوري من جهة ثانية، لكنه واجه عراقيل أهمها رفض رئيس الوزراء الحالي، سعد الحريري(6). في حال نجاح الحزب وحلفائه بالحصول على هذه الغالبية البرلمانية، يُرجَّح أن يعود التطبيع مع النظام بقوة إلى أجندة هذه "السلطة الوطنية". 

بالنسبة إلى تيار الرئيس عون، فإن تقسيم الدوائر حصل على قاعدة عزل الأصوات المسيحية بقدر الإمكان عن التأثيرات الإسلامية، وفقًا لوعود عون لمناصريه(7). بحسب هذا المنطق، جاء تقسيم بيروت إلى دائرتين: أولاهما مسيحية صافية (بعد نقل منطقة المدور ومقعدها للأقليات المسيحية، من الدائرة الثانية ذات الغالبية المسلمة إلى الأولى)، وثانيهما مسلمة، وذلك في استعادة للانقسام الجغرافي للمدينة خلال الحرب الأهلية اللبنانية(8). 

شمالًا، أُسِّست دائرة مسيحية خالصة (بشري-زغرتا-الكورة-البترون) بعيدًا عن محاولات جمعها بدوائر ذات غالبية مسلمة مثل الضنية في قوانين سابقة. في جبل لبنان، بقيت بعبدا، حيث هناك وجود انتخابي شيعي وازن لمصلحة "حزب الله"، دائرة واحدة، كما كانت عام 2009، في حين ضُمَّت جبيل إلى كسروان لسبب مُرجَّح هو عزل الكتلة الشيعية الناخبة ومنعها من التأثير في اختيار أحد المقعدين المسيحيين في الدائرة. والاستثناء الغريب في هذا القانون يتمثل بقضاء بعبدا وفي دائرتين ذواتي غالبية مسيحية في جبل لبنان (بعبدا وكسروان-جبيل). من المعتاد في القوانين السابقة لعام 2009 جمع بعبدا بعاليه، والخلط بين الأقضية السنية والمسيحية شمالًا. 

ومن الآثار غير المقصودة لهذا القانون، إظهاره الهوة المتسعة بين الواقع العددي والتمثيل وفقًا للمناصفة المعتمدة منذ الطائف بين المسلمين والمسيحيين. والمثال الفاقع على هذه الهوة، يتمثل بدائرة عكار حيث يتجاوز عدد الناخبين السُنة الـ180 ألفًا يُمثَّلون بـ3 نواب، فيما تُمثَّل الكتلة المسيحية الناخبة، وهي أقل من نصفهم (73 ألفًا) بعدد النواب ذاته(9). وهذا الفارق أيضًا بيِّنٌ عند المقارنة بين الدوائر؛ ذاك أن دائرة مثل صور-الزهراني لديها 304 آلاف ناخب يُمثلهم 7 نواب، تُقابلها دائرة المتن فيها 179 ألف ناخب ينتخبون 8 نواب. مثل هذه المقاربة في تصميم الدوائر على أساس طائفي، تطرح أسئلة جدية حيال ديمومة مبدأ المناصفة، سيما في ظل هيمنة خطاب التحريض المذهبي لدى أقطاب السُلطة اللبنانية(10). 

ولعل هذه المقاربة بالذات دفعت النائب وليد جنبلاط إلى الاعتراض على القانون الحالي؛ إذ قارن الإعلاميون القريبون منه التركيبة الحالية للدوائر، بما حصل مع والده الراحل كمال جنبلاط عام 1957، لجهة تقلص تأثيره في ظل تمثيل النسبية كتلتين وازنتين، مسيحية وسُنية، في دائرة الشوف-عاليه. كما يحمل إطلاق جنبلاط على قائمته في دائرة الشوف-عاليه اسم "المصالحة"، إشارة واضحة إلى حرب الجبل وتداعياتها الدموية على المنطقة(11). 

أزمة التوريث 

وما يجعل هذه الانتخابات ذات حساسية عالية أيضًا بالنسبة إلى النائب وليد جنبلاط وعشرات السياسيين والنواب الحاليين، أنها تأتي في مرحلة مفصلية يُورِّث فيها الآباء السياسيون أبناءهم وأصهارهم. جنبلاط مثلًا يُحضِّر منذ سنوات نجله تيمور لوراثة الزعامة الدرزية، ومعها "الحزب التقدمي الاشتراكي"، وتنحى عن الترشح في الشوف-عاليه لمصلحة نجله. وهذه المعركة أيضًا ستؤمِّن بدوائرها الحالية دخول وزير الخارجية اللبنانية، جبران باسيل، وهو صهر رئيس الجمهورية اللبنانية، ميشال عون، ووريثه في قيادة حزب "التيار الوطني الحر"، إلى البرلمان للمرة الأولى بعدما فشل مرتين في القانونين السابقين. ومثله أيضًا، يخوض طوني نجل زعيم تيار "المردة"، سليمان فرنجية، معركة الانتخابات لنيل مقعد والده، وربما يتولى لاحقًا الزعامة السياسية لحزبه. كما يخوض النائب الحالي، سامي الجميل، معركته الانتخابية الأولى رئيسًا لحزب الكتائب اللبنانية منذ تسلمه رئاسة الحزب من والده الرئيس السابق، أمين الجميل، في يونيو/حزيران 2015(12). 

وإلى جانب التوريث في الصف الأول من القادة السياسيين، يترشح عدد كبير من أبناء النواب السابقين إلى الانتخابات من الشباب، مثل سامي نجل النائب الحالي، أحمد فتفت، وزاهر ابن النائب الراحل، وليد عيدو (قضى في عملية اغتيال)، ومحمد طارق نجل النائب السابق، طلال المرعبي، ومن السياسيين وزير الدفاع الحالي، يعقوب الصراف (والده النائب رياض الصراف). وبعض الذين لم يتسنَّ لهم حظ تنحي الوالد لمصلحتهم، ترشح ضده، مثل وليد البعريني المرشح على قائمة المستقبل ضد والده النائب السابق، وجيه، مرشح قوى الثامن من آذار. وتداول ناشطون لبنانيون أسماء 32 مورِّثًا ووريثًا(13)، لكن فاتتهم أسماء كثيرة؛ إذ إن هناك كبارًا في السن سبق أن ورثوا المقاعد النيابية عن آبائهم، وسينقلونها إلى أبنائهم بعد حين. من المرجح أن ظاهرة التوريث تتعدى الثلث في الانتخابات؛ إذ إنها تشمل حتى من يُصنِّف نفسه "تقدميًّا" مثل النائب السابق، نجاح واكيم، الذي يترشح نجله عمر مكانه في بيروت. 

الصراع الإقليمي خارج المعادلة 

معركة التوريث الحالية جاءت أيضًا في ظل غياب التمويل الإقليمي للانتخابات. وهذا يعود أولًا إلى انعدام الاهتمام بالساحة اللبنانية، إما نتيجة لنفوذ بات واضحًا ولا ريب فيه للمحور الإيراني، أو بسبب الحربين السورية والإيرانية. يُضاف إلى ذلك غياب للقدرة المالية عن رفد القوى الحليفة على الأرض. وهذا الغياب نسبي أيضًا، مقارنة بالانتخابات الماضية، إذ إن لحزب الله مثلًا موازنة سنوية من إيران يُنفقها على مؤسساته ومقاتليه فضلًا عن مؤيديه. هذه المساعدات الإيرانية لم تتوقف قبل الانتخابات، لكن في مقابلها، يُعاني فريق رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، من شُح مالي نتيجة توقف الدعم السعودي، انعكس سلبًا على شعبيته، وربما أسهم في قراره بإبرام اتفاقات سياسية مع "حزب الله"، وذلك في مسار مُنفصل تمامًا عن منطق الصراع الإقليمي المتصاعد حينها نتيجة انقسامات النزاع السوري ومن ثم اندلاع حرب اليمن. ولا يبدو إلى الآن أن الانكفاء السعودي عن تمويل الحلفاء اللبنانيين، وعلى رأسهم الحريري، سيتغير في المدى المنظور؛ ما سينعكس سلبًا على قدرته على المناورة في الساحة اللبنانية في حال التصعيد واحتدام الصراع مع إيران. 

بيد أن عام 2009، عندما كان الانقسام العمودي قائمًا بين كتلتي 8 و14 آذار، الموالية لمحور النظام السوري-ايران والمعادية له تباعًا، شهد تمويلًا قياسيًا للانتخابات بلغ بحسب تقرير لهيئة الإذاعة والتليفزيون البريطانية (بي بي سي) نصف مليار دولار لكل طرف(14). وهو مبلغ يُوازي ما أنفقه قبل شهور من الانتخابات اللبنانية، مرشحا الرئاسة الأميركية، الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري جون ماكين، علمًا بأن حملة الأول سجَّلت رقمًا قياسيًّا في جمع التبرعات في تاريخ الولايات المتحدة. فقياسًا إلى عدد السكان، أنفق لبنان على الانتخابات حينها حوالي 70 ضعف حجم الإنفاق الأميركي. لكن انتخابات عام 2009 جاءت بعد سنوات من تكدس الاحتياطات المالية لدى الدولتين الإقليميتين الراعيتين للقوى السياسية اللبنانية نتيجة الأسعار القياسية للنفط بين عامي 2003 و2008. اليوم، وفي ظل الركود الاقتصادي والمالي والحرب السورية المتواصل، تغيب هذه القدرات التمويلية، وربما لهذا السبب بالذات، تعج قوائم القوى السياسية الرئيسية برجال الأعمال الكبار(15).    

قاعدة التمويل الخفي 

الأرقام القياسية لانتخابات عام 2009 لم تشمل عمليات الإنفاق غير المباشرة، والمتواصلة من خلال العلاقات الريعية بين السياسيين والناخبين اللبنانيين. فهذه عمليات إنفاق لم يُشِر إليها القانون الحالي للانتخابات، والذي يكتفي بوضع سقف مالي قيمته مئة وخمسون مليون ليرة لبنانية (مئة ألف دولار) للمرشح الواحد، يُضاف اليها خمسة آلاف ليرة لبنانية (3.3 دولارات) عن كل ناخب، أي إن لائحة في دائرة مثل الجنوب الثالثة تضم 11 نائبًا بإمكانها إنفاق مليون ومئة ألف دولار عن المرشحين، ومليون ونصف عن الناخبين، أي مليونين وستمئة ألف دولار. غير أن تطبيق هذا القانون دونه عثرات كبيرة منها كيفية احتساب الإنفاق، فعلى سبيل المثال، يمنع القانون منعًا "باتًّا على المرشح أو اللائحة قبول أو استلام مساهمات أو مساعدات صادرة عن دولة أجنبية أو عن شخص غير لبناني، طبيعي أو معنوي، وذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة"، والواقع أن "حزب الله" يحصل على موازنة سنوية من إيران، وفقًا لتصريحات أمينه العام، حسن نصر الله، يُسدِّد بموجبها رواتب آلاف المقاتلين والموظفين في مؤسساته، فهل تُحتسب هذه ضمن فقرة الإنفاق بما أن هؤلاء وعائلاتهم بلوك انتخابي واحد؟ لا يتطرق القانون إلى ذلك. 

المسألة الثانية وهي الإشكالية في فقرات تمويل الانتخابات في القانون، وتتمثَّل في تحديدها الإنفاق بالمال؛ فقد عرَّفه القانون في المادة 58 بـــ"مجموع النفقات المدفوعة من قبل اللائحة أو المرشح وكذلك النفقات المدفوعة لحساب أو مصلحة أي منهما برضاهما الصريح أو الضمني". وعدَّد أيضًا أنواع الإنفاق، حاصرًا إياها بالنفقات الانتخابية من الملصقات والدعايات التليفزيونية ومخصصات العاملين في الحملة إلى مصاريف نقل الناخبين من الخارج (وهذا نوع من أنواع الرشى الانتخابية المعتمدة والمشرَّعة في لبنان). 

مثل هذا التعريف للإنفاق ملائم للطبقة السياسية اللبنانية، نظرًا إلى عدم تطرقه على الإطلاق إلى النظام الريعي القائم على توزيع وظائف الدولة وخدماتها رشى انتخابية من خلال حصرها بواسطة الزعيم السياسي للطائفة. على سبيل المثال، واصلت الحكومة اللبنانية خلال السنوات الماضية تجنيد آلاف العناصر الأمنية(16) على دفعات كان آخرها قبل الانتخابات، رغم ضيق الوضع المالي والمطالبات الدولية بإصلاحات بينها ضبط النفقات. أحد المرشحين، وهو تيمور وليد جنبلاط، ذكر هذه الدورة الأمنية (التجنيد في الأجهزة الأمنية) في سياق حلقة حوار تليفزيوني، ردًّا على سؤال عن اكتظاظ دارته (قصر المختارة) بطالبي الخدمات، فأجاب بأن هذا العدد غير الاعتيادي مردُّه قرب استحداث دورة أمنية لتجنيد عناصر جدد. وهذه ممارسة معتادة في لبنان، ولا تقتصر على جنبلاط؛ إذ يزور آلاف المواطنين كل سنة زعماءهم السياسيين (ممثلي الطائفة) طلبًا للخدمات الحكومية أو للوظائف العامة وغير ذلك من القضايا. وهذا إنفاق انتخابي على حساب الدولة، لاسيما عند وقوعه قبل الانتخابات بفترة وجيزة. 

ونتيجة للبُعد الإقليمي للسياسة في لبنان، والتمويل المتوافر من الخارج، تحولت الأحزاب الرئيسية، وأغلبها من ميليشيات الحرب الأهلية سابقًا، إلى مجموعة مؤسسات تربوية وطبية واجتماعية وكشفية أيضًا. ويعتبر "حزب الله" النموذج الأكمل والأكثر صراحة بينها؛ إذ إن موازنته -مصدرها إيران- أنتجت مؤسسات خدماتية أساسية مثل "الهيئة الصحية" التي تدير مجموعة مستشفيات ومستوصفات رئيسية وخدمة إسعاف في كافة مناطق التوزع الشيعي. كما يملك الحزب مؤسستي الشهيد والجرحى اللتين توفران خدمات ومساعدات عينية لمصابي الحزب وعائلاتهم. وإن أضفنا إلى ما سبق، "مدارس المهدي" وفيها آلاف الطلاب، نكون أمام شبكة خدماتية واسعة النطاق تتفوق على الدولة في تقديماتها. 

وهذا الإنفاق الانتخابي غير المنظور ينسحب على الإعلام أيضًا، بيد أن لكل من أحزاب السلطة شبكات تليفزيونية ومواقع ومطبوعات، وأيضًا صحافيين محسوبين عليها، بما يزيد من "الدعاية الإعلامية" غير المباشرة وغير المحتسبة أيضًا في الإنفاق الانتخابي. وهذه جميعها نقاط إشكالية في التمويل لم يلحظها القانون الحالي. ففي السباق الانتخابي، يبدأ مرشحو السلطة عمليًّا حملاتهم في مرحلة متقدمة جدًّا، إعلاميًّا وماليًّا وتنظيميًّا، مقارنة بمن يُواجههم من المستقلين. 

عائق مندوبي اللوائح في الدوائر 

تُتَرجم أهمية التمويل والتنظيم في القدرة على توزيع مندوبين عن المرشحين (ممثلين لهم لمراقبة الصناديق الانتخابية) بعدد كاف على مراكز الاقتراع، وهي 5182(17) في أنحاء البلاد. في دائرة الجنوب الثالثة، أي حاصبيا-مرجعيون-النبطية-بنت جبيل، هناك 577 مركز اقتراع؛ ما يحتاج إلى حوالي 1731 مندوبًا (3 لكل مركز اقتراع)، وهو رقم هائل لأي قائمة مستقلة، سيما لو أرادت دفع راتب يوم كامل لكل مندوب، علاوة على تكاليف النقل والطعام. لكن للأحزاب الرئيسية القدرة على توفير هذا العدد الكبير في مناطق نفوذها وانتشارها، بل يُرجَّح أن تتجاوزه أيضًا من خلال شبكة أنصارها والمستفيدين من خدماتها. 

"مجتمع مدني" منقسم على نفسه 

مشكلة المندوبين ليست وحدها العائق أمام المستقلين المعترضين على الواقع السياسي والمالي والاجتماعي في لبنان، والذين يُعرفون بتسمية فضفاضة هي "المجتمع المدني". نجم هذه الكتلة كان قد سطع بعد احتجاجات أغسطس/آب عام 2015، على خلفية أزمة تكدس النفايات في شوارع العاصمة والمناطق(18). وهذه النقمة الشعبية تُرجمت في الانتخابات البلدية بفوز قائمة "بيروت مدينتي" المستقلة بحوالي ثلث الأصوات الانتخابية، في مواجهة ائتلاف شامل لأحزاب السُّلطة حمل اسم "بيروت للبيارتة" (البيارتة وصف لسكان بيروت). وهذه التجربة كررت نفسها في مدن وبلدات رئيسية أخرى مثل بعلبك(19) وبنت جبيل (في الجنوب)(20) وزغرتا (في الشمال) وغيرها، ومن ثم في انتخابات نقابة المهندسين بفوز نقيب من المستقلين هو جاد ثابت(21). 

هذه التجارب الاعتراضية أعطت زخمًا للمرشحين المستقلين، ومثَّلت تحديًا لأحزاب السلطة. لكن الحراك لم يُنتج حزبًا أو إطارًا أو حتى شخصية سياسية مستقلة قادرة على تشكيل حالة يُبنى عليها في أي استحقاق مُقبل، ولم يُتابع نشاطه بعد التظاهرات أو الانتخابات البلدية، حتى كُتلة "بيروت مدينتي" الواعدة انقسمت على نفسها حيال الانتخابات المقبلة. هذا وانسحب عدد مهم من مرشحي المجتمع المدني لعجزهم عن تشكيل لوائح، غالبًا لأسباب مبدئية تتعلق بمعارضة الترشح مع محسوبين على قوى السلطة أو ببساطة لعدم توافر مكان على لوائح مستقلة، ومنهم وجوه بارزة في الحراك مثل عماد بزي، والمرشحة السابقة في قائمة البلدية "بيروت مدينتي"، نائلة جعجع. 

في الشوف-عاليه حيث احتمال الخرق (للوائح أحزاب السلطة) وارد نتيجة التنوع الطائفي والتململ من المطامر (مدافن النفايات) والكسارات (حفارات لاستخراج الحصى ومواد البناء) المدمرة للبيئة، انقسم المستقلون إلى لائحتين تحملان التاريخ الاحتجاجي والشعارات ذاتها تقريبًا، ما يعني أن الفوز بالحاصل الانتخابي، وبالتالي الخرق بأحد المقاعد، بات أكثر صعوبة. بقي احتمال الخرق الأعلى من القوائم المستقلة في دائرة بيروت الأولى(22). 

والقضية الأساس التي واجهت القوى المستقلة في محاولة توحيد جهودها أن الانتخابات الحالية وعلى عكس البلديات، سياسية بالمقام الأول، أي يُفترض اتخاذ مواقف حيال القضايا الرئيسية في البلاد وعلى رأسها سلاح "حزب الله". أمام ذلك، انقسمت القوى المستقلة بين مجموعات ولوائح مشتتة من جهة، وبين تحالف "كلنا لوطني" اليساري المؤيد لسلاح "حزب الله" من جهة أخرى(23). كما واجهت القوى المستقلة امتحانًا على ارتباط باحتمال التحالف مع قوى سياسية مثيرة للجدل. بيد أن مبدأ اللائحة المغلقة يُشجع على مثل هذه التحالفات الهجينة، كما حصل في دوائر عدة اضطُرَّ فيها المستقلون للدخول في ائتلافات(24). 

بالمجمل، فشلت هذه القوى في الخروج بموقف موحد أو بجهد مشترك على الصعيد الوطني؛ إذ إن تشتت لوائحها في الدوائر يُوزع أصوات المعارضة المدنية والمستقلة فيحول دون فوزها بالحاصل الانتخابي المطلوب وبالتالي الخروج من المنافسة. 

خاتمة 

من الواضح أن القوى المستقلة غير قادرة على تحقيق نتيجة مرضية في الانتخابات، وقد تُتوج جهودها بخرق واحد أو اثنين على الأكثر، أي دون تشكيل حالة سياسية يُبنى عليها في أي استحقاق مقبل. والسبب في ذلك أن القانون الحالي لم يُدخل إصلاحات تُذكر في شأن التمويل الانتخابي، بل أبقى هذا الامتياز المهم للأحزاب الريعية في لبنان، وصُمِّمت دوائره بما يُلائم أبرز قوى الطبقة السياسية، بما يُقلص من احتمالات تشكيل أي تحد يُذكر لها. بل من الواضح أن القانون الحالي لن يُبدِّل كثيرًا في أحجام الكتل الرئيسية، إلا في حالة كتلة الحريري التي ستخسر جزءًا مهمًّا منها لمصلحة المعترضين على سياستها مثل اللواء أشرف ريفي، والأحزاب الأخرى، أو حتى لحلفاء "حزب الله". ومثل هذه النتيجة تؤشر إلى الإخلال بالتوازن الحالي في البرلمان لمصلحة الأخير، ما يعني أن مفاعيل القانون الحالي ستكون أشبه بحركة تصحيحية في لبنان مُلائمة للمسار الميداني في سوريا.

_____________________________

د. مهند الحاج علي، باحث في مركز كارنيغي بيروت

ABOUT THE AUTHOR

References

1- من اللافت أن الصوت التفضيلي أقل أهمية في بعض الدوائر، مثل "المنية" حيث هناك نائب سُني واحد. في هذه الحالة، تنعدم أهمية الصوت التفضيلي.

2- زعيم حركة "أمل" ورئيس مجلس النواب، نبيه بري، طالب مرات بإقرار قانون انتخابات نسبي يعتمد لبنان دائرة واحدة. 

3- البرلمان اللبناني، نص قانون انتخابات عام 1957، موقع البرلمان اللبناني، (تاريخ الدخول: 28 مارس/آذار 2018).

https://goo.gl/6QSPLB

4- تردد أن السلطات السورية المُهيمنة في لبنان أرادت من وراء هذا التصميم الخاص للدوائر في القانون إضعاف رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، وإرضاء النائب وليد جنبلاط في الجبل.

5- "السيد نصر الله يعرض برنامج حزب الله الانتخابي"، موقع التيار، 21 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول: 2 أبريل/نيسان 2018):

Goo.gl/LSHhyq

6- "انقسام لبناني بشأن التطبيع مع النظام السوري"، الجزيرة نت، 1 أغسطس/آب 2017، (تاريخ الدخول: 1 أبريل/نيسان 2018)،

Goo.gl/kb5LzA

7- "الدولية للمعلومات: نقل 5 مقاعد مسيحية الصراع على حصة الزعماء وليس صحة التمثيل"، موقع النهار، 30 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 1 أبريل/نيسان 2018):

https://tinyurl.com/y7h5rp8a

8- خلال الحرب الأهلية اللبنانية، انقسمت بيروت إلى شطرين عُرفا محليًّا باسم "شرقية" على الجانب المسيحي، و"غربية" على الجانب ذي الغالبية المسلمة.

9- "انتحار" لبنان الطوائف-دائرة الشمال الأولى، موقع الشهرية (الدولية للمعلومات)، 16 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 4 أبريل/نيسان 2018):

http://monthlymagazine.com/ar-article-desc_4576_

10- هناك اعتقاد بأن "حزب الله"، وبعد إقرار النسبية في هذا القانون كمبدأ، يرمي إلى إعادة تصميم الدوائر وتقليص عددها في المستقبل.

11- "تيمور جنبلاط أعلن لائحة المصالحة: هي الأساس لكن الإنماء يعززها ويحميها"، موقع النهار، 24 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول: 3 أبريل/نيسان 2018):

https://tinyurl.com/y76fcq2v

12- "سامي الجميل رئيسًا سابعًا للكتائب"، موقع النهار، 14 يونيو/حزيران 2015، (تاريخ الدخول: 2 أبريل/نيسان 2018):

https://tinyurl.com/y88zrmyf

13- "الانتخابات اللبنانية: 32 مورثًا ووريثًا"، موقع درج، 6 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول 31 مارس/آذار 2018):

https://tinyurl.com/y8ktzknd

14- Hage Ali, Mohanad, "Lebanon: The Greed Factor", The Guardian, 8 December, 2010, (Visited on 31 March 2018):

https://www.theguardian.com/commentisfree/2010/dec/08/lebanon-funding

15- أسطيح، بولا، " توقعات بوصول 43 متمولًا إلى البرلمان اللبناني"، الشرق الأوسط، 1 أبريل/نيسان 2018.

16- "لبنان: تجنيد 12 ألف عنصر في الجيش وقوى الأمن"، البوابة نيوز، 7 أغسطس/آب 2014، (تاريخ الدخول 1 أبريل/نيسان 2018):

https://tinyurl.com/ybdtsfkf

17- "أقلام الاقتراع: 5182 قلمًا"، موقع "القوات اللبنانية"، 5 فبراير/شباط 2018، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2018):

https://www.lebanese-forces.com/2018/02/05/election2018/

18- "لبنان: مواجهات عنيفة بين متظاهرين وقوى الأمن بسبب أزمة النفايات"، فرانس 24، 23 أغسطس/آب 2015، (تاريخ الدخول: 3 أبريل/نيسان 2018):

https://tinyurl.com/y8s5kgz4

19- تبقى النقمة الشعبية في بعلبك أساسية؛ إذ يعتبرها الحزب اليوم معركته الأولى، نظرًا لاحتمال حصول خرق شيعي لصفوفه.

20- في البلدات الشيعية، على سبيل المثال، كان الاعتراض الأساسي من الحزبيين على دعم مدنيين متحالفين معهم أو موالين للتنظيم. ربما لهذا السبب، اتخذ حزب الله قرارين في الانتخابات النيابية، أولهما: ترشيح حزبيين، وثانيهما: الفصل بين النيابة والوزارة.

21- رغم أن فوز النقيب، جاد ثابت، بالانتخابات النقابية عُزِي في جانب منه إلى دعم بعض الكتلة الناخبة للقوات اللبنانية، يبقى الخرق مهمًّا، وأعطى أملًا لمرشحين من خارج الأحزاب التقليدية.

22- في الدائرة الثانية، تنحصر المعركة الانتخابية بين قائمتي "المستقبل" و"حزب الله" و(فيها حركة "أمل" وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية المعروفة محليًّا باسم "الأحباش")، ويُحاول "حزب الله" حصد 3 مقاعد، شيعيين وسُني.

23- "شربل نحاس يُطلق "كلنا وطني": خصومنا باسيل والجميل وحردان والمر"، موقع الأخبار، 5 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2018:)،

https://al-akhbar.com/Politics/247562

24- كان أكثر التحالفات المثيرة للجدل ترشح ميشال معوض، أحد أبرز وجوه 14 آذار، مع "التيار الوطني الحر" في دائرة الشمال الثالثة.