تكلفة الظاهرة الترامبية في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط

تقوم سياسة الرئيس دونالد ترامب الخارجية على استراتيجية "التوازن خارج المجال"، وأحد العيوب التي تعاني منها هذه السياسة أنها تفتقر للإجماع حول مَنْ هم الأعداء ومَنْ هم الشركاء، وكرست الدور الروسي والإيراني في سوريا، وأعطت الرئيس الأسد القدرة على البقاء في سدة الرئاسة.
2c09fc4676cb47f6b9b846aa291f44e3_18.jpg
قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، ومقاربته للأزمة الخليجية، قاده إلى سلسلة من الإخفاقات

مقدمة

إن المناطق الرئيسية التي استحوذت على اهتمام الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في الشرق الأوسط منذ تنصيبه رئيسًا في 20 يناير/كانون الثاني 2017، هي العراق وسوريا والخليج وإسرائيل-فلسطين، وارتكب ترامب هفوات فيها جميعًا، حتى إنه أصدر تصريحات غريبة وناقض نفسه في عدة مناسبات ما يشي بعدم اتساق سياساته بعضها مع بعض. وعمومًا، يبدو ترامب أنه يفضِّل الاعتماد على زعامات إقليمية ودولية للعب أدوار كأدوات رئيسية في دبلوماسيته تجاه المنطقة، وخلقت هذه السياسة أوضاعًا صعبة له؛ إذ أخذ المرشحون للعب أدوار في هذه الدبلوماسية يمارسون ضغوطًا على ترامب، وعملوا على إبعاد الخصوم وكذلك الحلفاء المحتملين في هذه السياسة.

قامت السياسة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية على التدخل بشكل مباشر في حكومات الدول الأخرى وعلى إقامة قواعد كبيرة لها في الخارج حتى إنها ذهبت إلى حد تقديم مظلة نووية للحلفاء. وعلى هذا الأساس من السعي نحو السيادة العالمية أقامت واشنطن علاقاتها مع كوريا الجنوبية وبعض دول حلف شمال الأطلسي وأفغانستان منذ عام 2001 والعراق ما بين العام 2003 و2011 ومن ثم بعد 2014. وتعددت الأهداف من وراء هذه التدخلات مثل محاربة الأعداء كالاتحاد السوفيتي أو تأمين الموارد أو نشر القيم الليبرالية الديمقراطية، وكانت تكلفة هذه الاستراتيجية أحيانًا غالية أو تؤدي إلى إخفاقات عند مواجهة أية مقاومة محلية كما حدث في فيتنام وإيران والعراق(1). إلا أن ترامب كالكثيرين من الأميركيين، سئم من محاولات السعي نحو سيادة العالم وأخذ يعارضها، لأن دور الولايات المتحدة كشرطي دولي (له ثكنات حول العالم) يفيد شركاءها ويحميهم من الأعداء، وهذه الدول لا تقدم للولايات المتحدة ما يعوضها عن تكاليف حمايتها لها(2).

أما الطريقة الأخرى الممكنة لقوة عظمى في القرن الواحد والعشرين لفرض نفسها ومصالحها فتتضمن إيجاد وكيل محلي لديه الرغبة في العمل إقليميًّا لإقصاء أعداء الولايات المتحدة ودعم حلفائها، ويطلق على هذا التوجه "التوازن خارج المجال". وقد أيَّد جون ميرشايمر وستيفن وولت فكرة تحقيق الأمن من قبل الولايات المتحدة عبر وكلاء عندما يكون ذلك ممكنًا والتدخل فقط عندما يضعف الشركاء، وهما يحثان أيضًا على السماح لروسيا بالتعامل مع الشأن السوري حيث إن الولايات المتحدة ليس لديها مصالح واضحة عدا هزيمة "التشدد الداعشي"(3). ويبدو أن ترامب في مقاربته لهذا التوجه، يفضل النزعة القومية في خطابه على الرغم من أنه لم يحقق الكثير من التغييرات على الصعيد العملي.

القدس

إن أكثر التغيرات السياسية التي بادرت إليها إدارة ترامب في المنطقة دراماتيكية هي إعلان الرئيس الأميركي، في ديسمبر/كانون الأول 2017، بتوصية من عملاق الكازينو والمانح الجمهوري "شيلدون أديلسون"، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، في اعتراف بالمدينة عاصمة لـ"دولة إسرائيل". وتعتبر القدس بالنسبة للمجتمع الدولي من القضايا التي يجب التفاوض حولها في إطار قضايا الحل النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ما أثار الرئيس الفلسطيني محمود عباس ضد إدارة ترامب بعيد هذا الإعلان وقال بأنه لن يقبل الولايات المتحدة كوسيط نزيه في أية مفاوضات مستقبلية، كما طالب بعض السياسيين الفلسطينيين بالعدول عن الاعتراف بإسرائيل والانسحاب من اتفاق أوسلو. أما رد ترامب فجاء غاضبًا حيث خفض من مساهمة الولايات المتحدة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين "الأونروا" (والتي تهتم بالملايين من اللاجئين الفلسطينيين) وهدَّد السلطة الفلسطينية بقطع المساعدات الأميركية. وعندما أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا القرار بأغلبية ساحقة قام ترامب بتهديد دولها بقطع المساعدات عنها أيضًا. وهكذا، فإن قرار واشنطن بـ"نقل السفارة" تجاهل احتمال تسبب هذه الخطوة في إشعال الاحتجاجات وحتى إذكاء "الإرهاب" ضد الولايات المتحدة حول العالم الإسلامي(4).

وفي الوقت الذي تُجرى فيه الإعدادات لنقل السفارة، والاستعدادات لذكرى السبعين لتأسيس "دولة إسرائيل"، قام الفلسطينيون في غزة في ربيع عام 2018 بتنظيم سلسلة من المسيرات بالقرب من الحدود مع إسرائيل مطالبين بحق العودة، والجدير بالذكر أن حوالي 70% من سكان غزة ينحدرون من عائلات هُجِّرت في عام 1948 وصودرت بيوتها وهي تقع اليوم في "إسرائيل". وتبنَّت الحكومة الإسرائيلية سياسة استعمال جنودها للرصاص الحي ضد المتظاهرين، لثقتها على ما يبدو في أن الرئيس ترامب لن يعارض ذلك، ما أدى إلى قتل نحو 20 شخصًا خلال أول أسبوعين وجرح المئات(5).

إن دعم ترامب الشديد لمطالب إسرائيل وتقديمه لمطالبها على مطالب الفلسطينيين، والحؤول دون أية إدانة من قبل مجلس الأمن ضد قنص المحتجين العزل، مهد الطريق لما يبدو أنه مرحلة جديدة من الحراك الفلسطيني والاضطراب في المنطقة. وكذلك بعزل السلطة الفلسطينية وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية، تفقد الولايات المتحدة بعض نفوذها في بلاد الشام.

الأزمة الخليجية

زار ترامب، في ربيع 2017 وبعد شهور قليلة من توليه الرئاسة، الرياض لحضور قمة حول "مكافحة الإرهاب" وتأسس في أعقابها مركز لمكافحة "الإرهاب" في السعودية(6). وقيل: إن صهر ترامب، "جاريد كوشنر"، بنى علاقة وثيقة خلال هذه الزيارة مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان (32 عامًا)، القوة الحقيقية وراء العرش السعودي. ثم ما لبث أن قام البلدان، الإمارات العربية المتحدة والسعودية، ربما لثقتهما بعلاقتهما الجديدة مع واشنطن، بالتخطيط ضد قطر، فتلاعبا بشريط فيديو يتضمن كلمة للأمير القطري، تميم بن حمد آل ثاني، بدا فيه متهجمًا على المملكة العربية السعودية. وفي 5 يونيو/حزيران 2017، أعلنت الرياض وأبوظبي حصارًا جويًّا وبريًّا ومقاطعة واسعة النطاق لقطر، وتزعم بعض التقارير أن ولي عهد أبوظبي، الأمير محمد بن زايد، ومحمد بن سلمان، وضعا احتمال احتلال قطر عسكريًّا وتنصيب أمير جديد لها في الاعتبار. استقبل ترامب هذه الخطوة ضد قطر بحماسة مبدئية وغرَّد بأن قطر كانت مصدرًا رئيسيًّا لـ"الإرهاب" وبأنه يأمل أن يفضي هذا الضغط إلى حل المشكلة. ويبدو أن الرئيس لم يكن يدرك أن قطر كانت ولأعوام عديدة، مقرًّا لقاعدة جوية أميركية رئيسية في "العديد"، والتي انطلقت منها معظم الضربات الجوية ضد "تنظيم الدولة" و"متشددين" آخرين في أفغانستان والعراق(7).

إن الإنذار الإماراتي والسعودي الذي انضمت إليه البحرين ومصر طالب قطر بإيقاف "دعمها" للإخوان المسلمين وإغلاق قناة الجزيرة الفضائية، وكانت الاتهامات السعودية والإماراتية خليطًا من الأكاذيب وأنصاف الحقائق وطالب هذا الإنذار فعليًّا بتسليم السيادة القطرية. إلا أن أحد الأسباب التي أدت إلى تراجع كلتا الدولتين عن نواياهما العدوانية كان التدخل التركي القوي، كما تحولت العلاقة العادية بين قطر وإيران إلى علاقة دافئة بشكل كبير وتدفقت المنتجات الإيرانية على قطر.

لطالما تمتع كل من وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، ووزير الخارجية، حين الأزمة الخليجية، ريكس تيلرسون، بخبرة طويلة في منطقة الخليج، وكانا يدركان الدور الإيجابي الذي لعبته قطر كشريك فعال في حرب واشنطن ضد "الإرهاب"، ويبدو أنهما بمرور الزمن أقنعا ترامب بتبني موقف أكثر حيادية(8). واستضاف البيت الأبيض، في ربيع 2018، زيارات لمحمد بن سلمان والأمير القطري، تميم بن حمد آل ثاني، وهناك تخطيط لقمة أوسع نطاقًا ستُعقد في سبتمبر/أيلول 2018. وكان الانطباع العام للصحافة الأميركية خلال زيارة الأمير تميم بن حمد هو أن تأثير السحر القطري أدى إلى قلب الأوضاع في واشنطن وإلى عزم ترامب وفريقه على معالجة هذه الأزمة(9).

أعطى رد الفعل المبدئي لترامب، في يونيو/حزيران 2017، مدخلًا لإيران لتوسيع علاقاتها مع قطر ولتظهر بمظهر حبل النجاة للدوحة، فبينما سعت قطر بعد ذلك لإيجاد حجة أقوى لنفسها أمام محركي واشنطن فإنها بلا شك ستحاول توسيع دائرة علاقاتها الخارجية في أعقاب هذه الأزمة؛ إذ سيتم توسيع قاعدة "العديد" ولكن بإضافة منشأة عسكرية تركية إليها. إن عدم معرفة ترامب بالمنطقة وميله إلى الانقياد بسهولة عند إطرائه، بالإضافة إلى ميله للتهجم عبر تويتر، لا شك قد أضعف الموقف الأميركي في الخليج لصالح إيران.

العراق

اختلف موقف ترامب حول العراق خلال حملته الانتخابية من حين لآخر؛ فقد تمسك برفض الحرب العراقية عام 2003 إلا أن صحفيين وجدوا أدلة على أن موقفه كان أقل وضوحًا في البداية على الأقل. فهو كان يرى أن على أميركا الإصرار على نيل ثمن كبير لقاء احتلال العراق، ويجب أن "تستولي على النفط العراقي". وطالب بالقصف الكثيف ضد ما يسمى "الدولة الإسلامية في العراق والشام" حين كانت تسيطر على الموصل وأجزاء أخرى من شمال العراق، كما أنه توعد أفراد عائلات قيادات التنظيم وطالب بخطفهم.

وعند توليه منصبه، استمر وزير الدفاع، جيمس ماتيس، في تبني الاستراتيجية التي اتبعتها إدارة أوباما، أي العمل على دحر تنظيم الدولة، واستمرت الولايات المتحدة بنشر حوالي 6000 جندي في العراق من بينهم أعداد كبيرة من المدربين وقوات العمليات الخاصة، وسعت هذه القوات إلى إعادة بناء الجيش الوطني العراقي الذي انهار في عام 2014 عند مجيء تنظيم الدولة إلى الموصل. واضطر ماتيس لمحاولة تهدئة العراقيين والطبقة السياسية في بغداد بسبب تأكيد ترامب اهتمامه "بالاستيلاء" على النفط العراقي.

لعبت أميركا دورًا مهمًّا في التخطيط ووضع الاستراتيجية لحملة الموصل، حيث تم إقناع "الميليشيات الشيعية" المدعومة من قبل إيران والتي أدت دور المساعد للجيش العراقي الهزيل بالبقاء خارج المدينة والانتشار في الجهات الغربية والشمالية منها لقطع طرق الهروب أمام مقاتلي تنظيم الدولة. ويبدو أن الفرق الكبير بين تكتيكات أوباما وترامب يتجلى في قواعد الاشتباك للقصف الجوي؛ إذ تم استبعاد التعليمات بتجنب ضرب منازل المدنيين والبنى التحتية المدنية الأخرى، فارتفعت نتيجة لذلك أعداد الإصابات ضمن المدنيين بشكل كبير(10). فبعد سقوط المدينة بيد الجيش العراقي في يوليو/تموز 2017، جعلت الطبيعة الشرسة للحملة من إعادة الشرعية للحكومة العراقية في بغداد أمرًا أكثر صعوبة في الشمال ذي الأغلبية السنية.

وفي مؤتمر المانحين لإعادة بناء العراق، والذي عُقد في فبراير/شباط 2018، تسببت إدارة ترامب بعاصفة كبيرة بسبب رفضها تقديم أية مساهمة مالية، في حين أفادت بعض التقارير أن واشنطن كانت تأمل من السعودية التبرع بمبلغ كبير لجذب بغداد بعيدًا عن إيران(11). ولو صح وجود هذه الآمال لدى مسؤولي إدارة ترامب فإنها لم تكن تستند على أية خبرة بالواقع السياسي والاقتصادي للمنطقة، وبالطبع ثبت أن لا صحة لها.

سعت حكومة بغداد المنتصرة في ربيع 2018، بعد أن سقط تنظيم الدولة كحكومة في الإقليم، لدمج "الميليشيات الشيعية" في القوات النظامية بالاعتراف بها قانونيًّا ومنح قياداتها رتبًا عسكرية رسمية. وبما أن عددًا من قادة هذه "الميليشيات" كانوا قد طالبوا بمغادرة القوات الأميركية للعراق بعيد هزيمة تنظيم الدولة فإن الصحافة الأميركية رأت في تحركات رئيس الوزراء، حيدر العبادي، ميلًا نحو إيران في فترة "ما بعد تنظيم الدولة"(12). لا شك أن للميليشيات والأحزاب المدعومة منها أهمية خاصة في الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في 12 مايو/أيار 2018، فدورها يدعو للتساؤل حول الشكل الذي سيكون عليه البرلمان في المستقبل، واحتمال وجود عناصر فيه معارضة بقوة للوجود العسكري الأميركي(13).

وهكذا، بالنظر لرفض إدارة ترامب المساعدة في إعادة بناء العراق واعتمادها بشدة على السعودية (التي ينظر إليها الكثير من العراقيين بشيء من الشك)، وبعداوتها لإيران التي ترى الحكومة العراقية العلاقة والتجارة معها ضرورية، فإن مستقبل العلاقات الأميركية-العراقية يصبح غامضًا.

سوريا 

بنظرة بسيطة على سوريا تبدو وكأنها النموذج المثالي الملائم لتطبيق سياسة "التوازن خارج المجال" على الطريقة الترامبية؛ فترامب يفضِّل زعماء مثل الأسد رغم أنه قد أدان بشدة استعماله للأسلحة الكيميائية، ويرى في روسيا التي تريد من سوريا أن تكون مجالًا لنفوذها، شريكة في محاربة "التشدد والإرهاب" (فهو يراهما التحدي الأكبر للسياسة الخارجية لدولته)، وأبدى مرارًا رغبته في أن تقوم موسكو بإدارة الأزمة السورية، إلا أنه خلال السنة الأولى لرئاسته أذعن لرغبات البنتاغون وأبقى توجه إدارة أوباما السابق قائمًا تجاه ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية "الدولة الإسلامية في العراق والشام". وكانت إدارة أوباما قد أصبحت فجأة مسكونة بهزيمة التنظيم، وذلك بعد سقوط الموصل عام 2014 وبعد هجمات باريس في عام 2015. وكان لدى أوباما، وكذا لحلفائه في حلف شمال الأطلسي، القوة الجوية، لكنه كان يحتاج إلى قوات برية تملك الإرادة والقدرة على القتال بشراسة لاستعادة الأرض، وهو ما لم يره إلا في القوات العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري "وحدات حماية الشعب الكردية" (YPG)، فعمل على تجنيدها لهذه الغاية، واستطاعت القوات الكردية هزيمة تنظيم الدولة في كوباني بتنسيق وتداخل مع العمليات الخاصة الأميركية، وكذلك بمساعدة الدعم الجوي الأميركي ما جعل التقدم ممكنًا حتى إسقاط منبج.

استفاد ترامب عند توليه الرئاسة من هذا الزخم ومن استراتيجية أوباما وسمح لهذه الاستراتيجية بالمضي قدمًا. وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2017، كانت قوات وحدات الحماية الكردية قد استولت على الرقة بعد قتال عنيف جدًّا صاحبه تسوية معظم المدينة بالأرض من قبل الطائرات المقاتلة الأميركية وطائرات التحالف، وخلال الشهور التالية تقدمت الولايات المتحدة و"ميليشيا" وحدات الحماية للقتال في محافظة دير الزور في تسابق مع قوات النظام السوري المدعومة روسيًّا لنزع تلك المحافظة الشرقية تمامًا من تنظيم الدولة.

رسم ريكس تيلرسون في معهد هوفر، بتاريخ 17 يناير/كانون الثاني 2018، أثناء توليه وزارة الخارجية، الخطوط العريضة للأهداف الأميركية في سوريا. شملت هذه الأهداف هزيمة تنظيم الدولة والقاعدة وإنهاء الحرب السورية عبر مفاوضات تنتهي بقيادة جديدة غير الرئيس بشار الأسد، وتحد من التأثير الإيراني في سوريا، وتفضي إلى رجوع اللاجئين السوريين والنازحين داخليًّا إلى ديارهم، إضافة إلى إزالة جميع الأسلحة الكيميائية من سوريا(14). وقد مثَّلت هذه الأهداف التطلعات الأولية الليبرالية لمؤسسة واشنطن أكثر من تمثيلها لتفضيل ترامب لسياسة "التوازن خارج المجال".

سعى تيلرسون أيضًا لطمأنة الحكومة التركية القلقة جدًّا بسبب التقارير التي أفادت بخطط البنتاغون لتدريب 50,000 كردي ليكونوا حرس حدود(15)، إلا أن محاولته باءت بالفشل، ما يبين التناقض والاختلاف الشديد في سياسة التحالف إزاء أكراد ما بعد الشيوعية في شمال سوريا لاسيما في ربيع عام 2018. وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد تدخل عسكريًّا في فبراير/شباط 2018، في محاولة لعرقلة هذا المسعى، وأدخل الجيش التركي إلى جانب الجيش السوري الحر للسيطرة على قرية عفرين، وهي أبعد الأقاليم الكردية السورية باتجاه الغرب؛ ما أغضب مقاتلي وحدات الحماية من الولايات المتحدة لعدم اعتراضها على الخطوة التركية، وتخلى كثير منهم عن عمليات التطهير العسكري التي كانوا يخوضونها ضد تنظيم الدولة وتوجهوا إلى عفرين لدعم قواتهم هناك ولكن دون جدوى. واستعدت تركيا بعد عفرين للتحرك شرقًا باتجاه منبج، وهي المنطقة التي شجعت واشنطن "الميليشيا الكردية" على الاستيلاء عليها، وتوجد فيها قوة أميركية للعمليات الخاصة. في غضون ذلك، استغل النظام السوري وحليفه الروسي عدم اهتمام إدارة ترامب بقضايا حقوق الإنسان وقبول المعارضة السورية باتفاق "مناطق خفض التصعيد"، وذلك لإسقاط الغوطة الشرقية في مارس/آذار-أبريل/نيسان 2018، وهي المنطقة المحاذية للعاصمة دمشق، وتهجير المقاتلين والآلاف من السكان شمالًا إلى إدلب.

أخذ ترامب، في أوائل أبريل/نيسان عام 2018، يتحدث عن تحقيق الانتصار الحاسم على تنظيم الدولة، وعزز لدى مساعديه في مجلس الأمن القومي ووزارة الدفاع أن هناك حاجة لانسحاب أميركي من سوريا، وجمد 200 مليون دولار من المساعدات المخصصة لإعادة الإعمار في شرق سوريا. ولكن يبدو أن وزير الدفاع، جيمس ماتيس، قد أقنع ترامب بتأجيل الانسحاب الأميركي حتى أكتوبر/تشرين الأول 2018، أي إلى قبيل الانتخابات النصفية البرلمانية، لتوفير مزيد من الوقت لعمليات التمشيط ضد تنظيم الدولة ولإنجاحها بشكل حاسم(16).

وبتفادي واشنطن المواجهة العسكرية في سوريا، بدا لبعض الوقت وكأن هذا التوجه للسياسة الأميركية قد تبدل؛ ففي 7 أبريل/نيسان 2018، تم اتهام النظام السوري باستعمال خليط من الكلور وغاز السارين ضد مقاطعة دوما في الغوطة الشرقية، حيث معاقل جيش الإسلام "المدعوم من قبل السعودية"، وسقط في هذا الهجوم العشرات من المدنيين، فأصر حينها ترامب على ضرب سوريا مرة أخرى، وليس واضحًا إذا ما كانت تلك الضربات رمزية أم أن ترامب قد غيَّر رأيه حول الانسحاب من سوريا.

وإلى حين كتابة هذه الورقة، كان ترامب لا يزال يلتزم استراتيجية "التوازن خارج المجال" في سوريا، حيث ترك بموجبها روسيا والدولة البعثية تواجه بقايا تنظيم الدولة في شرق سوريا. وأحد مزايا هذه الخطة أنها خففت التوترات مع موسكو وأنقرة بشكل كبير. أما سلبياتها فهي كثيرة أيضًا؛ فالأكراد حتمًا سيخلصون إلى أن واشنطن استعملتهم عند الحاجة ثم تجاهلتهم، كما أن الرئيس أردوغان قد يتابع عملياته العسكرية في سوريا وربما تنعكس تكديرًا للأجواء في شرق الأناضول. فضلًا عن أن العرب السنة المهزومين والقاطنين في وسط وشمال سوريا لا يبدو أنهم سيقبلون بالوضع الراهن كما يعتقد الأسد والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ما يعني أن الوضع في سوريا سيبقى هشًّا. وهكذا يبدو أن المزيد من الاضطرابات والتحركات "الإرهابية" قادمة في المشهد السوري وقد تشكل مخاطر أمنية شديدة على حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.

استنتاجات

أحد أبرز المشاكل ذات الصلة باستراتيجية "التوازن خارج المجال" الأميركية، أنه لا يوجد إجماع فيها على من هم الأعداء ومن هم الشركاء، فعلى سبيل المثال، يرى ترامب أن "التشدد الإسلامي" هو العدو ويرى في روسيا الفيدرالية بمقابله صديقًا محتملًا، وبالتالي يطبق هذه الاستراتيجية (التوازن خارج المجال) بشكل مختلف عن أولئك السياسيين الذين يرون في روسيا بوتين تهديدًا رئيسيًّا للمصالح الأميركية، فهؤلاء مستعدون للتحالف مع "اليمين الإسلامي".

وهناك سؤال آخر حول ما إذا كان يجب السعي لاعتماد طرف واحد أو أكثر من طرف لتحقيق التوازن في المنطقة وفق هذه الاستراتيجية، وهذا الأخيرة أي اعتماد أكثر من طرف كانت هي السائدة منذ عام 1945 لدرجة أن الولايات المتحدة حاولت حشد اليونان وتركيا ضد الاتحاد السوفيتي رغم الاختلافات الشديدة بين هاتين الدولتين. إلا أن ترامب واعتمادا على حدسه فحسب يسعى للوقوف إلى جانب أحد الأطراف في النزاعات الإقليمية وبناء قوة إقليمية رئيسية ومن ثم تكليفها بحماية المصالح الأميركية، ولهذا السبب، زعزع ترامب التفاهم القائم بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ذا الصلة بأمن المشرق العربي. فوضع كل البيض في السلة الإسرائيلية ونقل السفارة الأميركية إلى القدس وأهمل كليًّا مطالب الفلسطينيين، ومسح بهذا آخر ما بقي من مصداقية أميركا في ادعائها أنها وسيط نزيه في العملية السلمية. أضعفت هذه الخطوة منظمة التحرير الفلسطينية ودفعت حماس في غزة إلى إطلاق مسيرات ضخمة على الحدود مع إسرائيل، وردت حكومة هذه الأخيرة بقنص المحتجين العزل فقتلت صحفيين ومصلين وأطفالًا، فضلًا عن إصابة المئات بالرصاص الحي، وهو ما لم تكن لتفعله هذه الحكومة لولا ثقتها بتأييد ترامب لها.

وعلى نفس المنوال، فإن رغبة ترامب في اعتماد محمد بن سلمان كوكيل رئيسي لأميركا في الخليج ومن ثم المشاركة في الإساءة لقطر ساعدت واشنطن في ذلك على تدمير مجلس التعاون الخليجي كمنظمة أمنية، وعلى بسط يد إيران في المنطقة. من الواضح أن إدارة ترامب بالغت في تقدير القوة الحقيقية للسعودية وتريد أن توكل إليها مهمة الدور الموازِن في العراق، ولم تدرك جيدًا قلة شعبية "الوهابية" وخطها المتشدد لتفسير الإسلام، وعلى وجه الخصوص بين الشيعة من المسلمين. إن هذه الآمال الخائبة التي تسعى لها واشنطن، تؤكد أنها لا تريد أن ترى الدور الرئيسي الذي لعبته إيران في هزيمة تنظيم الدولة في العراق، ولا ترغب أن ترى بطريقة موضوعية، في إيران فاعلًا مفيدًا -أحيانًا- من أجل المصالح الأميركية في المنطقة. فالعداء تجاه إيران من قبل وكلاء ترامب الإقليميين، السعودية وإسرائيل، أعمى الإدارة الأميركية عن هذه الرؤية، ومن وجهة نظر السياسة الخارجية، هذا العناد هو أشبه بالذيل الذي يحرك الكلب.

إن اعتماد ترامب على روسيا لتكون الموازن الخارجي ضد تنظيم الدولة في سوريا كان يعني حُكمًا استعادة دور الرئيس الأسد والقبول باستمرار نفوذ إيران حليفة روسيا هناك، إلا أن استعمال الأسد للأسلحة الكيميائية لتعويض صغر جيشه في مواجهة الجماعات المسلحة كبيرة، دفعه لقصف سوريا من حين لآخر. ويبقى الجواب على سؤال ما إذا كان ترامب سيبقى حليفًا لروسيا مع مرور الوقت أم أن المجمع العسكري– الصناعي الأميركي سيقنعه بالبقاء في شرق سوريا والعمل على الأرض ضد إيران والأسد، برسم المستقبل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جون كول - أستاذ كرسي ريتشارد ميتشل الجامعي للتاريخ بجامعة ميتشيغان، ومدير مركز دراسات شمال إفريقيا والشرق  الأوسط بالجامعة.

ملاحظة: أُعد النص في الأصل باللغة الإنجليزية لمركز الجزيرة للدراسات، وترجمه يوسف جودة إلى اللغة العربية.

References

1. For the failures of U.S. global primacy attempts in the George W. Bush administration with regard to the Middle East see Juan Cole, Engaging the Muslim World, (New York: St. Martin, 2009).

2. Lin, Shaohan, “The Public Costs of Grand Strategy in the Trump Era”, World Affairs 179, no. 3 (2016), p. 4-23.

3.  Mearsheimer, John and Walt, Stephen, “The Case for Offshore Balancing: A Superior U.S. Grand Strategy”, Foreign Affairs 95, no. 4 (July/August 2016).

4.  White, Jeremy, “Palestinian leaders call on PLO to suspend recognition of Israel in latest fallout from Trump Jerusalem decision”, The Independent, 15 January 2018; Wasserstein, Bernard, “Trump’s Jerusalem Embassy Move: A Busted Flush?”, Foreign Policy Research Institute, 2 April 2018.

https://www.fpri.org/article/2018/04/trumps-jerusalem-embassy-move-a-busted-flush/

5.Israel: Gaza Killings Unlawful, Calculated: Officials Green-Light Shooting of Unarmed Demonstrators”, Human Rights Watch, 4 April 2018.

https://www.hrw.org/news/2018/04/03/israel-gaza-killings-unlawful-calculated

6.  Jett, Dennis, “Trump’s Saudi Arabia speech confirms massive shift in U.S. foreign policy”, The Conversation, 23 May 2017.

https://theconversation.com/trumps-saudi-arabia-speech-confirms-massive-shift-in-us-foreign-policy-78168

7.   Filkins, Dexter, “A Saudi Prince’s Quest to Remake the Middle East”, The New Yorker, 9 April 2018.

8. Cole, Juan, “David and Goliath: How Qatar Defeated the Saudi and UAE Annexation Plot”, The Nation, 16 February 2018.

9.   Harris, Gardiner and Landler, Mark, “Qatar Charm Offensive Appears to Have Paid Off, U.S. Officials Say”, New York Times, 9 April 2018.

10.  Hussain, Murtaza, “Civilian Casualties Soared in Iraq and Syria in 2017. Was Trump’s Bloodthirsty Rhetoric to Blame?”, The Intercept, 22 February 2018.

https://theintercept.com/2018/02/22/civilian-casualties-soared-in-iraq-and-syria-in-2017-was-trumps-bloodthirsty-rhetoric-to-blame 

Human Rights Watch, “Iraq: Civilian Casualties Mount in West Mosul”, 6 June 2017.

https://www.hrw.org/news/2017/06/06/iraq-civilian-casualties-mount-west-mosul 

11.  Chmaytelli, Maher and Hagagy, Ahmed, “Allies promise Iraq $30 billion, falling short of Baghdad's appeal”, Reuters, 14 February 2018.

12.  O’Connor, Tom, “U.S. Soldiers Under Threat as Iran Allies Join Iraq Military With Plans to Kick Americans Out”, 19 Newsweek March 2018.

13.  Abdul-Zahra Muhanad Al-Saleh, Qassim, “Iraq grapples with Iranian influence ahead of May elections”, Philadelphia Tribune, 6 April 2018

14. Cole, Juan, “Trump Admin Commits to Forever War in Syria against Iran,” Informed Comment, 18 January 2018.

https://www.juancole.com/2018/01/trump-commits-forever.html 

15.  Pennington, Matthew, “Amid spat with Turkey, Tillerson denies Syria border force”, Associated Press, 18 January 2018.

16. Syria war: Trump 'persuaded not to pull out immediately”, BBC, 4 April 2018.

 http://www.bbc.com/news/world-middle-east-43644633