انتهت ندوة بحثية نظَّمها مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر أمس، الأحد، 27 فبراير/شباط 2022، تحت عنوان "الحرب الروسية-الأوكرانية: السياق والمآلات" إلى أن الجيش والشعب الأوكرانيين فاجآ المراقبين بالصمود أمام آلة الحرب الروسية، وهو ما من شأنه -حال استمرار زخم المقاومة- أن يستنزف روسيا عسكريًّا واقتصاديًّا، وربما على المدى المتوسط أو البعيد يكون سببًا في تغيير النظام الروسي الحالي.
وأشار المشاركون في الندوة إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كان على علم بتعقيدات انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو وافتقادها شروط ومعايير هذا الانضمام، ومع ذلك استغل الدعوات والمطالبات الأوكرانية بالانضمام إلى هذا الحلف ذريعةً لتدخله العسكري، بُغية تحقيق عدة أهداف، أبرزها إعادة فرض السيطرة الروسية على هذا البلد الغني بموارده والمهم بموقعه الجغرافي.
وعن التوقعات بشأن مسارات ومآلات الحرب الجارية، أكد المتحدثون في الندوة أن من الصعب توقع ذلك نظرًا لأن الأمور متغيرة والأحداث متلاحقة، لكنهم أشاروا إلى احتمالية توصل المتحاربين في نهاية المطاف إلى صيغة تحفظ لهما قدرًا من ماء الوجه؛ يدَّعي فيها كل منهما أنه حقق انتصارًا ولو رمزيًّا؛ فتتعهد أوكرانيا بعدم الانضمام إلى الناتو مستقبلًا وتنسحب القوات الروسية، وبذلك تُعلن كييف أنها صدَّت الغزو الروسي عن أراضيها، فيما تؤكد روسيا على أنها حققت هدف الحرب بإبعاد الناتو عن حدودها.
وكانت الندوة سابقة الذكر قد بثَّتها قناة الجزيرة مباشر والمنصات الرقمية لمركز الجزيرة للدراسات على مواقع التواصل الاجتماعي، وشارك فيها: صفوان جولاق، رئيس تحرير وكالة أوكرانيا برس، ونيكولاي كوزهانوف، الأستاذ المشارك في مركز دراسات الخليج بجامعة قطر، ومات ديميك، الباحث المتخصص في شؤون روسيا وأوروبا الشرقية بالولايات المتحدة الأميركية، وجاستن دارجين، كبير الباحثين في الجغرافيا السياسية وشؤون الشرق الأوسط بجامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة، وأدارتها وعد زكريا، المذيعة بقناة الجزيرة مباشر.
تقديرات متباينة
في بداية الندوة، أوضح المتحدثون أن تقديرات المسؤولين الأوكرانيين بشأن خطورة التهديدات الروسية قبل الحرب كانت قائمة على حسابات متباينة ما بين الرئاسة ووزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، فالرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، كان يقلِّل من خطورتها حتى لا يتأثر الاقتصاد فيؤثر ذلك بدوره على مستقبله السياسي، بينما كانت وزارة الدفاع الأوكرانية تأخذ تلك التهديدات على محمل الجد وتتعامل معها بتكثيف التدريب وطلب المزيد من التسليح من الدول الغربية.
من جانبه، كان بوتين -كما يشير المتحدثون في الندوة- يعتقد أن الخلافات بين دول أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) ستستمر على حالها ومن ثمَّ كان ذلك دافعًا إضافيًّا نحو اتخاذه قرار الغزو، لكنه تفاجأ بتوحد صف الناتو على النحو الذي بدا عليه، كما تفاجأ بامتصاص الشعب الأوكراني وقواته المسلحة آثار صدمة الهجوم الأولى وتنظيمهم أنفسهم واستعدادهم للصمود والمقاومة؛ الأمر الذي أربك حساباته.
وعلى ذكر الصمود والمقاومة اللذين أبداهما الشعب الأوكراني، أشار أحد المتحدثين في الندوة (صفوان جولاق) إلى أنه شخصيًّا تفاجأ برد فعل الشعب الأوكراني رغم أنه يعيش بينهم منذ 22 عامًا؛ حيث تناسوا خلافاتهم ووقفوا صفًّا واحدًا، يحمون المباني الرئيسة والحيوية في العاصمة، كييف، ويكوِّنون اللجان الشعبية التي تتولى مهام المراقبة والمقاومة وتقديم الخدمات والدعم بأشكاله المختلفة للسكان.. ليخلص جولاق من ملاحظته تلك إلى أن الشعب الأوكراني سيستمر في المقاومة مهما كانت التكلفة لأنه "يرفض العودة إلى زمن الحكم الشمولي، ولأنه يتطلع إلى الارتباط بالعالم الديمقراطي الحر المتحضر"، في إشارة إلى الاتحاد الأوروبي، كما أن أغلب الأوكرانيين -والكلام لجولاق- باتوا ينظرون إلى روسيا على أنها "دولة معتدية" سواءً باحتلالها شبه جزيرة القرم، عام 2014، أو بدعمها الحراك الانفصالي شرق أوكرانيا.
تداعيات الحرب
وفيما يتعلق بتداعيات الحرب الجارية حاليًّا، أوضح المشاركون في الندوة أن تلك التداعيات ستكون باهظة على الطرفين أيًّا كان المنتصر أو المنهزم، فبالنسبة إلى روسيا سيتأثر اقتصادها بشدة على المديين، المتوسط والبعيد، بالعقوبات التي فرضها الغرب، كما أن الغرب ذاته سيتأثر بتلك العقوبات نظرًا لأهمية روسيا بالنسبة للاقتصاد العالمي. كما أن ثمة مناطق أخرى في العالم -وليس فقط القارة الأوروبية- ستتأثر سلبًا بتداعيات تلك الحرب ومآلاتها، ومنها إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولاسيما الدول المستوردة للقمح خصوصًا والحبوب عمومًا من روسيا وأوكرانيا، والتي تبلغ نسبة وارداتها حوالي 50% من هاتين الدولتين فقط، حيث سترتفع تكلفة سدِّ احتياجاتها مما يراكم مزيدًا من المشكلات الاقتصادية لتلك الدول، والتي كانت (المشكلات الاقتصادية) أحد أسباب اندلاع ثورات الربيع العربي بها.
لكن المتحدثين أشاروا في الوقت ذاته إلى أن ثمة مناطق أخرى في العالم ستتأثر إيجابيًّا من تداعيات تلك الحرب، وبالأخص فيما يتعلق بالاستثمارات التي ستُوجَّه بحثًا عن النفط والغاز واستخراجهما وتصديرهما لسد الاحتياجات الأوروبية من هذه السلعة الحيوية.
مسارات الحرب وسيناريوهاتها
أخيرًا، فيما يتعلق بكيفية انتهاء هذه الحرب والوقت المتوقع لذلك، فقد تباينت تقديرات وتحليلات المتحدثين في الندوة، لكنهم أجمعوا على صعوبة الجزم بهذا الأمر، وأرجعوا ذلك إلى سرعة تغير الأوضاع على الأرض وحالة السيولة التي تشهدها، وأن الصورة ربما تتضح أكثر خلال الأيام الثلاثة القادمة، وما إن كان الصمود الأوكراني سيستمر ويحافظ على زخمه أم ينهار ويفرض الجيش الروسي سيطرته على مفاصل البلاد.
ومع ذلك، فقد أشار المتحدثون إلى أن الحرب في نهاية المطاف ستصل إلى نهايتها، وربما يتوصل الطرفان إلى شيء يحفظ لهما ماء الوجه ويُظهرهما بمظهر المنتصر ولو رمزيًّا؛ وذلك بأن تُعلن أوكرانيا التزامها سياسة الحياد وتقديم ضمانات بعدم انضمامها إلى حلف الناتو مستقبلًا مقابل انسحاب الروس من أراضيها، فتَظهر بذلك وكأنها انتصرت بصمودها وقدرتها على إجبار الجيش الروسي على الانسحاب. وفي المقابل، توافق موسكو على هذا العرض فتبدو وكأنها حققت أهدافها بإبعاد خطر الناتو عن حدودها.. لكن متى تأتي هذه اللحظة؟ -يتساءل المتحدثون- فذلك أمر يصعب التكهن به في الوقت الراهن.
- يمكن للراغبين في متابعة الندوة كاملة (الضغط هنا).