المعروف أن شرطة الأخلاق الإيرانية قامت باعتقال الفتاة من أصول كردية، مهسا أميني (أو، جينا أميني، كما تسمى بالكردية)، مساء الثلاثاء، 14 سبتمبر/أيلول الماضي (2022)، بالقرب من محطة مترو الشهيد حقاني بالعاصمة، طهران. طبقًا للمصادر الرسمية، كان عدم التزام أميني بالحجاب هو السبب خلف اعتقالها؛ وهو شأن قانوني بحت، نظرًا لأن إيران أقرت قوانين خاصة باللباس، وفرض الحجاب، منذ 1983، بعد أربع سنوات فقط على انتصار الثورة الإسلامية. وقد ظلت مسألة الحجاب واحدة من أقانيم تعبير نظام الجمهورية الإسلامية عن نفسه طوال العقود الخمسة الماضية من عمر الجمهورية. في 2020، نُقل عن المرشد الأعلى، السيد خامنئي، قوله: "النساء المحجبات بشكل غير مناسب، يجب أن يشعرن بعدم الأمان".
كانت أميني، التي لم تتجاوز الثانية والعشرين، عند اعتقالها بصحبة شقيقها الذي أُبلغ، بعد احتجاجه على تصرف شرطة الأخلاق، أن شقيقته ستنقل إلى مركز الشرطة لأخذ إفادتها، ومن ثم يفرج عنها. بعد يومين، في 16 سبتمبر/أيلول، أُعلن رسميًّا عن وفاة مهسا أميني. ولم يلبث إعلان الوفاة، الذي لم يُستقبل بأي درجة من التصديق من عائلة الفتاة، أو قطاعات واسعة من الرأي العام الإيراني، أن أطلق حركة احتجاجية واسعة النطاق، لم تشهدها إيران منذ ما عُرف بالثورة الخضراء في صيف 2009. واجهت سلطات جمهورية إيران الإسلامية الحركة الاحتجاجية بقبضة أمنية شديدة، وبعد أن عجزت قوات الأمن عن إخماد حراك المحتجين، سارعت السلطات إلى استدعاء قوات الباسيج، شبه العسكرية.
وجدت الحركة الاحتجاجية مساندة واضحة من المعارضة الإيرانية في الخارج، ومن عدد من الدول الغربية. كما أصبحت مادة لاحتفال وسائل الإعلام الغربية، التي لم تتوقف عن نشر التقارير اليومية عن أماكن الاحتجاج، وصوره، وعن إجراءات القمع التي تنفذها أجهزة الأمن. ولم يكن غريبًا، أن تطلق الحركة، بعد أن تجاوزت شهرها الثاني، التساؤلات حول ما إن كان نظام الجمهورية الإسلامية بات مهددًا.
ارتباك وقبضة أمنية شديدة
ليس ثمة شك، لعدد كبير من الإيرانيين، والدوائر الحقوقية في الخارج، أن مهسا أميني قُتلت على يد شرطة الأخلاق، ولم تمت بصورة طبيعية، أو بمرض مزمن مسبق. نقلت أميني بعد اعتقالها إلى مركز شرطة الأخلاق؛ وتقول نساء كن محتجزات بالمركز للسبب نفسه إنهن شاهدنها تتعرض للضرب والاعتداء بعد أن ردت على عبارات الإهانة التي وجهت لها. والمؤكد، أن أميني نقلت بعد عدة ساعات من مركز الشرطة إلى مستشفى كسرى، الذي وضع على موقعه الإلكتروني خبرًا يفيد بأن الفتاة كانت بالفعل في حالة موت دماغي عندما وصلت المستشفى. ولكن إدارة المستشفى سارعت بعد ذلك، ربما بضغط من جهات حكومية، إلى إزالة الخبر برمته من الموقع.
وزارة الداخلية، التي تولت التحقيق في موت أميني، أعلنت بعد أيام من وفاتها أن ليس ثمة ما يشير إلى أنها تعرضت للتعذيب، مرجحة وفاتها بسكتة دماغية، نجمت ربما عن حالة مرضية سابقة. ولكن أهل الفتاة، سيما شقيقها، قالوا إنهم تعرضوا هم أيضًا لضغوط رسمية للقول بأنها كانت تعاني من مرض مزمن، أشاروا إلى وجود كسور وإصابات في جثمانها. كما أن مجموعة قرصنة إلكترونية حصلت على صورة أشعة للجثمان، أُخذت بعد الوفاة، تكشف عن إصابات في الرأس ونزيف في المخ.
الواضح، بالطبع، أن مقتل أميني أصاب وزارة الداخلية بالارتباك. نقت الوزارة في البداية بأن شرطة الأخلاق ارتكبت خطأ جسيمًا، ولم تأمر بمحاسبة المسؤولين عن موت الفتاة، بل سارعت إلى نشر تقرير إثر تحقيق رأى الكثير من الإيرانيين أنه لم يكن مستقلًّا بأي معيار من المعايير. ثم اعترفت بشكل غير مباشر لاحقًا، بعد ثلاثة شهور على انطلاقها، من خلال قرار تعليق عمل شرطة الأخلاق.
مهما كان الأمر، لم يلبث مقتل أميني أن أطلق ردَّة فعل شعبية واسعة النطاق، كان عمادها في الغالب الشباب والنساء. اندلعت حركة الاحتجاج في البداية في بعض أحياء طهران، وفي مدينة سقز الكردية، مسقط رأس أميني؛ ولكن سرعان ما انتشرت إلى معظم مدن إيران الأخرى، مدن كردية وفارسية وآذرية وعربية وبلوشية. ولأن الارتباك لم يزل سيد الموقف في أوساط النظام، فقد لجأت السلطات إلى الاستعمال المفرط للقوة، حسب تعبير المفوض الأممي السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك. والحقيقة أن سيرة وزير الداخلية، أحمد وحيدي، ترجح منذ انطلاق الاحتجاجات أن يلجأ إلى القبضة الأمنية. وصل وحيدي، الذي يُعرف بتصلبه، إلى وزارة الداخلية بعد تاريخ حافل في الحرس الثوري، وقيادة قوات القدس، ووزارة الدفاع. خلال عمله في الحرس وقوات القدس وُجِّهت له اتهامات بإصدار أوامر اغتيال معارضين إيرانيين في الخارج، وبالمسؤولية عن تفجير الأرجنتين الشهير.
أطلقت قوات الأمن النار على محتجين في الشوارع، حسب منظمة العفو الدولية، وليس في طهران وحسب. كما اقتحمت حرم الجامعات وبيوت نشطين عرفوا بمعارضة النظام، أو تم التعرف عليهم في التظاهرات والتجمعات، ولاحقت محتجين في محطات القطار والحافلات العمومية. مع أوائل ديسمبر/كانون الأول، تخللت الصدامات بين المحتجين وقوات الأمن والباسيج أعمال عنف، وقد أوقعت، طبقًا لمصادر المعارضة ومنظمات حقوقية، ما لا يقل عن 450 قتيلًا، أغلبيتهم العظمى من المحتجين. كما أشارت تقارير إلى أن 26 محافظة، بين المحافظات الإيرانية الإحدى والثلاثين، شهدت سقوط قتلى. كان نصيب محافظة سيستان-بلوشستان، ذات الأغلبية السنية، التي سقط فيها 128 قتيلًا، النصيب الأكبر مقارنة ببقية محافظات البلاد. كما كان عدد القتلى في يوم الجمعة 30 سبتمبر/أيلول، الذي أطلق عليه المحتجون يوم الجمعة السوداء، والذي بلغ 90 قتيلًا، الأكبر منذ اندلعت حركة الاحتجاج.
وقد ذكرت تقارير أخرى أن عدد المعتقلين زاد عن 18 ألف معتقل، بينهم 40 من غير الإيرانيين، يرجح أن أغلبهم من الإيرانيين حاملي الجنسيات الأجنبية، وأن ما يقارب الألفين من المعتقلين قُدِّموا للمحاكمة فعلًا. وكان إمام جمعة زاهدان، مولاي عبد الحميد إسماعيل، أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة في إيران، حذر السلطات في خطبة الجمعة 3 ديسمبر/كانون الأول من استخدام قانون الحرابة ضد المعتقلين، الذي يعني الحكم بالإعدام.
الذي تشير إليه جملة هذه التطورات أن الحركة التي أطلقها موت، أو مقتل، الفتاة أميني، قد تحولت بالفعل، وخلال فترة وجيزة، إلى حركة معارضة واحتجاج ذات طابع قومي. يبدو أن ثمة دوائر في النظام حسبت في البداية أن ردود الفعل ستكون محصورة بالمنطقة الكردية، كون الفتاة أميني من أصول كردية، ولكن ما حدث أن الاضطرابات شملت كافة أنحاء البلاد، بما في ذلك مناطق الأغلبية الفارسية والأذرية، والعربية والكردية والبلوشية، وبما في ذلك مدن تعرف بمحافظتها وتقاليدها الإسلامية الراسخة. وعلى الرغم من افتقاد الحركة الاحتجاجية إلى قيادة مركزية، رفع المحتجون في تظاهراتهم، أو كتبوا على الأسوار في الشوارع الرئيسة، شعارات مشتركة: "الموت للديكتاتور"، و"المرأة، الحياة، الحرية".
هذا ما دفع النظام في 4 نوفمبر/تشرين الثاني إلى تنظيم تظاهرة لأنصاره في العاصمة، طهران، لإظهار المعارضة الشعبية للحركة الاحتجاجية والأهداف التي رفعتها، والتوكيد على أن النظام لا يزال يتمتع بدعم قاعدة شعبية واسعة. ولكن، وبالرغم من أن تظاهرة التأييد كانت حاشدة بالفعل، فقد اعتبرها كثيرون داخل إيران وخارجها مؤشرًا آخر على الخوف والارتباك. وليس ثمة شك في أن تدخل المرشد الأعلى، في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، الذي عرف بحرصه على تجنب الخوض في مسائل محل انقسام وطني، وفر دليلًا آخر على شعور النظام المتفاقم بالأزمة. هاجم خامنئي المحتجين بلغة بالغة الحدة، واصفًا إياهم بمثيري الشغب، والعملاء، وتوعدهم بدفع الثمن. كما أشاد خامنئي بقوات الباسيج وتضحياتها لحماية الشعب، واعتبر أن وجود الباسيج في الساحة دليل على أن الثورة الإسلامية بخير.
توالي الحركات الاحتجاجية
لم تكن هذه حركة الاحتجاج الشعبي الأولى ضد قيادة الجمهورية الإسلامية. شهدت إيران حراكًا احتجاجيًا معارضًا واسع النطاق في 1999 وفي 2003، ولكن أحداث يونيو/حزيران-يوليو/تموز 2009 كانت ضخمة بصورة مشابهة للأزمة الحالية، دفعت أحداث 2009 أوساطًا غربية، رسمية وغير رسمية، إلى الاعتقاد بأن النظام الإسلامي في إيران أوشك على السقوط. وما إن أخذت حركة الاحتجاج الحالية في التصاعد والانتشار، لم يكن غريبًا أن تستدعى ذكرى ما عرف في 2009 بالثورة الخضراء، وما مثلته لمصير النظام وعلاقته بشعبه. الحقيقة أن ثمة خلافات جوهرية بين الأزمتين، على الرغم من بعض التشابه.
اندلعت أحداث 2009 على خلفية اتهامات وجهت للنظام بتزييف نتائج الانتخابات الرئاسية، بهدف تأمين فوز مرشح النظام آنذاك، أحمدي نجاد، بفترة رئاسية ثانية. كان أحمدي نجاد، بحساب الأصوات وتوزيعها، سيفوز على أية حال، ولكن حالة من الارتباك والخوف من الخسارة سيطرت على دوائر القيمين على العملية الانتخابية، ودفعتهم إلى التلاعب بصناديق الاقتراع في عدد كبير من المراكز الانتخابية، وبصورة مكشوفة في بعض الأحيان. بمعنى، أن ارتباك السلطات الحاكمة، أو قطاع منها، وذهابها إلى تبني قرارات وإجراءات مثيرة لاستفزاز المواطنين، كان المشترك الرئيس بين أحداث 2009 والأزمة الحالية. بغير ذلك، فليس ثمة مشتركات ملموسة أخرى.
عبَّرت أحداث 2009، التي قادها رئيس الحكومة الأسبق، حسين موسوي، ورئيس البرلمان الأسبق، حجة الإسلام مهدي كروبي، ودعمها رجل النظام التاريخي، حجة الإسلام رفسنجاني، عن انقسام بالغ الحدة في نخبة النظام الحاكمة. وعلى الرغم من مشاركة عناصر سعت إلى إسقاط النظام في تظاهرات 2009، فإن التوجه الرئيس للحركة كان إصلاح النظام وإعادة بنائه وليس إسقاطه. ولأن الحركة اندلعت على خلفية من التدافع على السلطة وقيادة البلاد، ضمت التظاهرات إيرانيين من كافة الأعراق والطوائف، ومن مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية، بمن في ذلك ذوو التوجه الإسلامي.
أما الأزمة الحالية، فلم تشهد انقسامًا فعليًّا في النخبة الحاكمة. كان الإصلاحيون أُبعدوا كلية عن مراكز القرار وخسروا معظم مقاعدهم البرلمانية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة. ولكن، وعلى الرغم من أن أصواتًا إصلاحية أعربت عن القلق للطريقة التي تصرفت بها القوى الأمنية مع المحتجين في الشهرين الماضيين، فليس ثمة دعم إصلاحي واضح وصريح للحراك الشعبي. ولأن هذا الحراك يرفع شعارات راديكالية، ويدعو إلى إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية، فمن المستبعد، حتى إن شعر الإصلاحيون بالسعادة لتأزم علاقة المحافظين بالشعب، أن تصدر عن الإصلاحيين أصوات مؤيدة للمحتجين.
ولا يقل أهمية في الاختلاف مع أحداث 2009، أن الحراك الحالي لا يزل مقتصرًا، وإلى حدٍّ كبير، على الشباب وطلاب الجامعات. سُجلت مشاركات اجتماعية وعمرية أوسع نطاقًا في بعض المدن والبلدات الكردية والبلوشية والعربية، ولكن الحراك الشعبي في مدن الثقل الإيراني الرئيسة، مثل طهران وتبريز وشيراز وأصفهان، لم يشهد مشاركة الآباء والأمهات، ولا شهد اضرابات للمهنيين وإغلاقًا للأسواق.
هل بات النظام مهددًا؟
الحقيقة، أن الحراك الشعبي الحالي، ومهما طال أمدًا، لا يشكل تهديدًا وجوديًّا لنظام الجمهورية الإسلامية. ومن المستبعد أن يؤدي هذا الحراك إلى انحدار البلاد إلى حرب أهلية مشابهة لما شهدته سوريا، كما توقع البعض. وترجع محدودية أثر هذا الحراك، حتى الآن على الأقل، إلى عدة أسباب:
أولها، بالطبع، أن هذا الحراك لا يزال شبابي الطابع، لم يجد دعمًا وتأييدًا من الشرائح الاجتماعية الأخرى ذات الثقل السياسي والاقتصادي، أو لم يجد مثل هذا الدعم والتأييد حتى الآن. إضافة إلى ذلك، فالمؤكد أن أجهزة أنظمة التحكم والقمع الرسمية لا تزال متماسكة، تمتلك القدرة والإرادة على مواجهة المحتجين في كافة أنحاء البلاد. صحيح أن النظام اضطر إلى نشر قوات الباسيج بعد أن اكتشف عجز قوات الشرطة والأمن الداخلي عن مواجهة المحتجين. ولكن الواضح، أن ليس ثمة دلائل تشير إلى تضعضعٍ ما في ولاء قوات الأمن، ولا في ولاء قوات الباسيج. في المقابل، تظهر هذه القوات تمسكًا صارمًا بالنظام، والتزامًا بالدفاع عنه وعن وجوده.
تتداول أوساط الدراسات الإيرانية تقديرات متفاوتة لتعداد قوات الباسيج؛ والأرجح، على أية حال، أنها تعد بالملايين وليس بمئات الآلاف. وكما في كافة دول الشرق الأوسط التي شهدت ثورات شعبية في العقدين الماضيين، تكشف حركة الاحتجاج الإيرانية عن انقسام حقيقي في صفوف الشعب الإيراني. ولكن، وبخلاف ما شهدته مصر أو تونس، مثلًا، فإن القطاعات الموالية للنظام في إيران تبدو أكثر استعدادًا للتضحية من أجل بقائه واستمراره. وبالنظر إلى أن عشرات الملايين من الإيرانيين ينضوون في أجهزة النظام العسكرية وشبه العسكرية والمدنية، فإن هؤلاء وعائلاتهم يقومون بدور بالغ الحيوية في تعزيز قدرات النظام على الحكم والتحكم، على السواء. بمعنى، أن سيطرة النظام ليست سيطرة فوقية، كما كان عليه الأمر في أواخر عهد الشاه، بل تتخلل مفاصل وأعراق المجتمع الإيراني.
بيد أن ذلك لا يعني أن هذه الموجة من الحراك الشعبي المعارض ستخمد وتنتهي بدون أثر يذكر. الواضح، أن الهوة التي بدأت في الاتساع بين النظام وقطاعات شعبية كبيرة في 2009، تزداد اتساعًا. وأن جيلًا بأكمله من الإيرانيين، أو بالأحرى معظم أبناء هذا الجيل، لم تعد تربطه أية علائق ولاء بنظام الحكم، ولا بقيمه ومقولاته. حاول النظام إقناع الإيرانيين بأن حركة الاحتجاج ليست سوى أداة أجنبية للضغط على الجمهورية الإسلامية وتركيعها، في الوقت الذي تواجه فيه إيران عقوبات وحصارًا غربيًّا.
ولكن، ولإدراك قادة النظام بأن خطاب المؤامرة الخارجية لم يُجْدِ نفعًا، وأن الهوة التي تفصل السلطة عن الشعب آخذة في الازدياد، ذهبوا في النهاية إلى تقديم بعض من التنازلات للحركة الشعبية، أشرنا إليها سابقًا، وهي قرار النائب العام، في 4 ديسمبر/كانون الأول، بتعليق عمل شرطة الأخلاق، وتشكيل لجنة لمراجعة معايير وطرق تطبيق قانون الحجاب.