الحركات الإسلامية وإشكالية الإرهاب الدولي

تهدف هذه الأطروحة إلى تفكيك الجدل القائم حول طبيعة عمل الحركات الإسلامية؛ بين من يعتبره مقاومة شرعية وبين من يرى أنه فعل إرهابي منبوذ، بالتطبيق على حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" وحزب الله اللبناني، وذلك باستخدام معايير علمية تفصل بين العمل المقاوم والفعل الإرهابي.
(الجزيرة)

تعتبر شؤون الحركات الإسلامية وقضايا الإرهاب الدولي من الملفات الساخنة لتميزها بالتعقيد والحركية، إذ تثير جدلا واسعا على الساحة الإقليمية والدولية، نظرا للتباين في الآراء والاختلاف في وجهات النظر عند الكثير من الباحثين والدارسين حول طبيعة كل واحد منهما وحدود الفصل والتقاطع بينهما خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر2001، أين وصلت درجة التعقيد والتشابك إلى أخدهما كمترادفتين في الكثير من الأحيان، وهذا رغم نقاط الاختلاف البارزة بينهما، بل ويتفاعل الأمر ليمس المقدس الديني في سياق مدخل جديد قائم أساسا على اتهام صريح للإسلام والمسلمين بمسؤوليتهم في تلك الهجمات هذا من جانب، من جانب آخر لا يمكن أن نغفل الدور الذي يلعبه المتشددين الإسلاميين في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، نتيجة ممارستهم للعنف والإرهاب، هذا بغض النظر عن دوافع ومسببات ذلك، الأمر الذي انعكس سلبا عن صورة الإسلام كديانة تدعو إلى التسامح ونبد العنف.

       كما يزداد الأمر تعقيدا وسوءا عندما تنتقل "لغة التطرف" من المستوى المجتمعي إلى مستوى صناع القرار السياسيين الدين يحاولون توظيف ما يطلق عليه "بالإرهاب الاسلاموي"، أو "الاسلاموفوبيا" (Islamophobia) لخدمة مصالحهم الإستراتيجية؛ كتوظيف الإدارة الأمريكية  للإرهاب الاسلاموي لضرب كل من أفغانستان واحتلال العراق أو التدخل في أي دولة تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، كما لا تتوان الأنظمة السياسية العربية ونخبها الحاكمة في استخدام ما يعرف "بالفزاعة الإسلامية" لضرب مختلف خصومها السياسيين، خاصة من الحركات الإسلامية التي تعتبرها أكبر مهدد لبقاء وضمان استمراريتها في أعلى هرم السلطة، على غرار ما فعله الرئيس المصري السابق حسني مبارك؛ عندما وظّف سياسة التخويف من جماعة الإخوان المسلمين لترهيب خصومه السياسيين، -الشيء الذي مكنه من البقاء في الحكم لأكثر من 30 سنة- هذا على الرغم من أن تلك الجماعة تمثل المعارضة السياسية الأبرز حسب المختص جراهم فولر، نظرا لمشروعيتها الكبيرة في أعين الجماهير وامتلاكها لقواعد شعبية أوسع من قواعد الأحزاب السياسية الأخرى وبالتالي في حالة انهيار النظام يمكن أن تكون بديلا له، وهذا ما أسفرت عليه الانتخابات التشريعية الأخيرة وفوز مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي في أول انتخابات رئاسية بعد سقوط نظام مبارك.

أهمية الموضوع

     تنبع أهمية الدراسة من محاولتنا لتحديد مختلف عوامل نمو وفواعل تطور عملية توصيف الحركات الإسلامية بالتنظيمات الإرهابية، انطلاقا من حالة الجمود والاستبداد السياسي التي تعيشها أغلب الأنظمة السياسية العربية رغم ما تروِّج له تلك الأنظمة من إصلاح سياسي وتحول ديمقراطي. فالاستبداد السياسي يعتبر مدخلا محوريا في فهم خلفيات التوصيف، فضلا عن ممارسات الحركات الإسلامية خاصة الجناح المتطرف فيها، التي تسهم في تغذية عملية التوصيف من خلال إعطاء المبررات التي تسهم في الإقناع بحتمية تلازم الإرهاب "بالإسلام السياسي"، خصوصا مع وجود الكثير من المشككين ليس بالحركات الإسلامية فحسب بل بالإسلام كديانة في بناء دولة عصرية، أبرزهم التيارات العلمانية التي ترى أن الدين يتنافى مع موجة الحداثة والعصرنة، كما ترفض أية وصاية إسلامية على الدولة، ولا تمانع في الانقلاب على "القيم الديمقراطية"، الشعار الذي تروج له على الدوام، عندما تفضل خيار "عسكرة" النظم السياسية العربية على "أسلمتها". 

    كما تلعب الفواعل الخارجية دورا بارزا في تطور عملية التوصيف، إذ تحتل الإدارة الأمريكية الريادة في ذلك، فقد عملت على توظيف "الإسلام الجهادي" لمواجهة المد الشيوعي إبان فترة الحرب البادرة وحوَّلته بعد ذلك إلى "الإرهاب الاسلاموي"، وتحوَّل على إثر ذلك "أبطال الحرية" إلى "إرهابيين"، وتحوَّل "الإسلام من دين تسامح وسلام" إلى "دين تطرف وإرهاب." فضلا عن الممارسات الإسرائيلية التي تجعل كل مسلم يسعى للدفاع عن مقدساته الدينية. إلى جانب تصاعد موجة العداء للإسلام والمسلمين التي تكتسح أوروبا خاصة في السنوات الأخيرة تحت ذريعة الخوف من فقدانها لهويتها المسيحية وتحولها إلى "أوروبا المستعربة" .( Euro-Arabia)

      وتبرز أهمية الموضوع أيضا من خلا ل محاولتنا تفكيك الجدل القائم حول طبيعة عمل الحركات الإسلامية؛ بين من يعتبره مقاومة شرعية وبين من يرى أنه فعل إرهابي منبوذ، مستشهدين في هذا السياق بكل من حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" وحزب الله اللبناني، وكذا شبكة القاعدة العالمية، وذلك باستخدام معايير علمية دقيقة تفصل بين العمل المقاوم والفعل الإرهابي، فضلا عن سعينا في الأخير للبحث عن مكامن الخلل التي تقف في وجه استمرار إشكالية توصيف الحركات الإسلامية بالتنظيمات الإرهابية من خلال الوقوف على جملة من المؤشرات التي يمكن اعتبارها حلولا لتلك الإشكالية.

مبررات اخـــــتيار الموضـــــــــــوع

     جاء اختيارنا للموضوع انطلاقا من دوافع ذاتية وأخرى موضوعية؛ فالذاتية: ترجع بالأساس إلى رغبة الباحث الملحّة في معالجة مثل هذه المواضيع الحساسة والمعقدة المرتبطة بواقعه المعاش خاصة المتعلقة بانتمائنا الحضاري الإسلامي ومحاولتنا من خلالها أداء دورنا الرّسالي من منظور "المثقف العضوي" بمفهوم المفكر الايطالي انطونيو غرامشي، أو كما يطلق عليها "بالارتباطية البحثية بقضايا الأمة الإسلامية"[1] التي نعيش تطوراتها وتفاعلاتها عن كثب.

     أما الموضوعية: فترجع إلى أهمية الموضوع البحثية وطبيعته السياسية التي تعنى بالدراسات الحضارية، خاصة وأن المتغيرين الأساسيين للدراسة (الحركات الإسلامية-الإرهاب) يمنحان الفرصة للباحث في العلوم السياسية مجالا خصبا لاختبار مختلف الفرضيات العلمية، مستفيدا من تعدد المناهج وتنوع المداخل والمقاربات التنظيرية، الشيء الذي يسهم في إثراء موضوع البحث، خاصة وأن موضوع الدراسة يعتبر من صميم العلوم السياسية الذي يبحث عن خلفيات الظاهرة السياسية، ويحدد واقعها ويستشرف مستقبلها، بهدف الوصول إلى نتائج علمية، على أساس أن البحث عن عوامل نمو وفواعل تطور عملية توصيف الحركات الإسلامية  بالجماعات الإرهابية، يستدعي منا أولا تحديد مخارج للمأزق المفاهيمي، بهدف التوصل إلى التعريفات الإجرائية لكل من الحركات الإسلامية والإرهاب، حتى نستطيع توظيفهما في متن الموضوع توظيفا سليما بعيدا عن "التحيز العلمي" أو "التضليل السياسي"، اللذين قد يحرّفان الدراسة عن مسارها العلمي السليم.

 

إشكـــــــــــــــالية الدراســـــــة

      كان لهجمات 11 سبتمبر2001 أثرا عميقا على معظم الحركات الإسلامية بجناحيها المعتدل والمتطرف، إذ أصبحت من أولويات الإستراتيجية الأمريكية في حربها ضد الإرهاب التي رفعت شعار من "ليس معنا فهو ضدنا"، لكسب التأييد الدولي لحملتها في مكافحة الإرهاب الدولي وإعطائها الضوء الأخضر في تنفيذ عديد الاستراتيجيات الأمنية القائمة على مقاربة الحرب العادلة ضد تنظيم القاعدة المسؤول الأول عن تلك الهجمات والدول الراعية للإرهاب، أو كما تسميها "بالدول المارقة" كأفغانستان، العراق، ليبيا، سوريا.... فهذا الوضع وفّر للنظم السياسية العربية مناخا مناسبا لتصعيد حملة استخباراتية وعسكرية ضد الحركات الإسلامية، خاصة في ظل استمرارية العمليات الإرهابية من طرف بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة في بعض الدول العربية كالجزائر ومصر وموريتانيا.... هذا على المستوى المحلي. وتزايد حالات العداء والكراهية ضد الإسلام والمسلمين في أوروبا، فضلا عن الانتهاكات والمجازر الإسرائيلية المرتكبة في حق الشعب الفلسطيني تحت ذريعة الدفاع عن النفس ومواجهة اعتداءات الحركات الجهادية الفلسطينية المهدد لأمن إسرائيل وغيرها من المبررات...، على المستوى الإقليمي والدولي.

 

       وفي خضم هذا؛ تأتي إشكالية الدراسة كالآتي:

    ما أبرز العوامل الداخلية والفواعل الخارجية المحركة لإشكالية توصيف الحركات الإسلامية بالتنظيمات الإرهابية على ضوء هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكيف يمكن فهم المسارات الجهادية لتك الحركات في ظل تفشي الأحكام المعيارية والقيمية؟    

وتتفرع عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية منها:

- لماذا تُعتَبر استبدادية النظم السياسية العربية عاملا رئيسيا في تنامي حالات الخوف من الحركات الإسلامية؟

- ما مدى مسؤولية الحركات الإسلامية المتطرفة في إنتاج مصطلح "الإرهاب الاسلاموي"؟

- كيف أدت سياسة الحرب على الإرهاب التي هندس لها جورج بوش الابن إلى تزايد حالات الخلط والتشويه بين الحركات الإسلامية السلمية والحركات الإسلامية الجهادية؟

- ما واقع الحركات الإسلامية في ظل الجدل السياسي القائم بين العمل المقاوم وبين الفعل الإرهابي؟

- ما المؤشرات المستقبلية التي بإمكانها معالجة إشكالية توصيف الحركات الإسلامية بالتنظيمات الإرهابية، في ظل التحولات الإقليمية والعالمية الجديدة، خاصة فيما أطلق عليه "بالربيع العربي"؟

 

حـــدود الإشــكـالية

دراستنا للموضوع تأتي من حيث التحديد الزماني؛ وذلك مند أحداث 11 من سبتمبر2001 وتداعياتها على مسار الحركات الإسلامية، طبعا لا يعني ذلك اهمال الخلفيات التاريخية والارهاصات التي على ضوءها تحدد معالم العملية التوصيفية المرتبطة أساسا بالإرهاب الدولي.

 أما من حيث التحديد المجالي، فقد رأينا أنّه لا يمكن دراسة كل الحركات الإسلامية نتيجة كثرتها وتنوع مشاربها وتعدد فروعها، إلا أن ذلك لا يمنع من معالجتنا لأهم المرجعيات الفكرية التي  تشترك فيها معظم الحركات الإسلامية. كما جاء تركيزنا على بعض النماذج، على أساس تعميق التحليل وتدقيق المعايير التي تفصل بين العمل المقاوم والفعل الإرهابي. إذ وقع اختيارنا على حركات اسلامية بارزة مثل تنظيم القاعدة وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحزب الله اللبناني)، التي صنعت الحدث السياسي ومازالت تصنعه على مدار سنوات وعقود قادمة، خاصة في ظل التحولات الإقليمية والدولية التي تمر بها المنطقة الشرق أوسطية في الوقت الراهن.

فرضيات الدراسـة

اعتمدنا في دراستنا هذه على جملة من الفرضيات أهمها:

  1. كلما تفشى الاستبداد السياسي في النظم السياسية العربية، كلما زادت حالات الاحتواء والإقصاء للتيار الاسلامي.
  2. كلما تحولت الحركات الإسلامية نحو التطرف والعنف، كلما تم ربطها بالتنظيمات الإرهابية.
  3.  براغماتية الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على الإرهاب، أدت إلى تطرف الحركات الإسلامية وارتفاع معدل عملياتها الإرهابية. 
  4. كلما زادت وحشية الإرهاب الإسرائيلي، كلما تم ربط حركات المقاومة الإسلامية بالتنظيمات الإرهابية.
  5. كلما تنامت ظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا، كلما تصاعدت عملية توصيف الحركات الإسلامية بالإرهاب.
  6. مستقبل العملية التوصيفية مرهون بمدى قدرة النظم السياسية العربية على تبني خيار الإصلاح السياسي، وعلى إمكانيات الحركات الإسلامية في انتهاج النقذ الذاتي والمراجعة الفكرية، فضلا عن إيمان الأسرة الدولية بضرورة حوار الحضارات.

الإطار المفاهيمي

     يقوم البناء المفاهيمي لدراستنا، على افتراض وجود علاقة بين متغيري الدراسة، وهما الحركات الإسلامية والإرهاب الدولي- اللذين سنتطرق لهما بالتفصيل في الفصل الأول من الدراسة- من خلال مصطلح "العملية التوصيفية" الذي أطلقناه عليهما، حيث يتأسس هذا المصطلح على عديد العوامل والمحددات التي تسهم في ربط مباشر وغير مباشر بين الحركات الإسلامية والإرهاب. وتنقسم تلك العوامل والمحددات بين الداخلية والخارجية؛ فالداخلية تتمثل في استبدادية النظم السياسية العربية تطرفية الحركات الإسلامية وراديكالية التيارات العلمانية. أما الخارجية فتم تركيزنا على الإدارة الأمريكية وحربها على الإرهاب، والاتحاد الأوروبي وتحدي الإسلاموفوبيا، وعلى الإرهاب الإسرائيلي.

        وبعد هذا التحديد للمفهوم الجديد، حاولنا اختباره على مستوى الواقع من خلال اختيارنا لبعض النماذج لحركات إسلامية مؤثرة إقليميا ودوليا، وقد رأينا أنها ينطبق عليها مفهوم العملية التوصيفية وهي تنظيم القاعدة العالمي، حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس)، وحزب الله اللبناني.

      وفي الأخير حاولنا البحث عن حلول لمعالجة تلك العملية التوصيفية على ضوء بعض المؤشرات المستقبلية والمتمثلة أساسا في؛ الإصلاح السياسي للنظم السياسية العربية، والمراجعات الفكرية للحركات الإسلامية، وأخيرا في حوار الحضارات.

الإطار النظري

        تم توظيف العديد من النظريات والمقاربات الفكرية التي يمكن أن تساهم في تحليل كل من الحركات الإسلامية والإرهاب الدولي من جهة، ومحاولة معرفة حدود الفصل والتقاطع بينهما من جهة ثانية، حيث تم اعتماد نظرية ماكس فيبر في التحليل الاجتماعي، من منطلق أن الحركات الإسلامية تدخل في سياق الطابع الاجتماعي الاحتجاجي لجماعات المعارضة في النظم السياسية المعاصرة الذي يمثل أهم المفاهيم الأساسية في أدبيات التغيير الاجتماعي، فضلا عن المقاربة الدينية التي ترجع سبب نشوء الحركات الإسلامية إلى العامل الديني ممثلا في الدين الإسلامي كمرجعية محورية في التغيير والإصلاح، كما تعتبر المقاربة أن العلاقة بين "السلطان والقرآن" أو ما يسمى الدولة والمنهج الديني عاملا أساسيا لتفسير ظهور الحركات الاجتماعية في الإسلام، بالإضافة إلى المقاربة المادية؛ التي ترى أن تلك الحركات ما هي إلا انعكاسا وترجمة للواقع المادي المتمثل في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الطبقات التي تنتمي إليها؛ وهذا الطرح يجد رواجا عند التيار اليساري الذي يعتبر أن الأيديولوجية التي توجّه هذه الحركات لا تزيد عن كونها إيديولوجية ريفية في عالم مدن؛ حيث أن أغلب المنخرطين فيها هم من القرى والمناطق الريفية الفقيرة نزحوا إلى المدن بحثا عن وظيفة؛ "فنمو الحركات الإسلامية الراهنة هو تعبير عن احتجاج المنتج الريفي الصغير على التناقضات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لرأسمالية الدولة التابعة في طور تأزمها" حسب الباحث فاتح عبد الجبار.

     أما عن النظريات والمقاربات المفسرة لظاهرة الإرهاب الدولي؛ فقد تم تقسيمها انطلاقا من مفصلية أحداث 11/09/2001؛ حيث جاءت كل من مدرسة الصورة النمطية القائمة على استخدام مختلف وسائل الإعلام والاتصال في تضليل وتضخيم المادة الإعلامية المرتبطة بالإسلام والمسلمين بإبراز الجانب السلبي والعنيف أكثر من الجانب الإيجابي السلمي، والمدرسة السياسية التي ترجع ظهور الإرهاب إلى ترتيبات ما بعد الحرب الباردة التي أنتجت قطب دولي حل محل الاتحاد السوفياتي متمثل أساسا في الإرهاب الذي تحوَّل من قوة هامشية إلى قوة مركزية، خارج  شرعية النظام العالمي، وكان لأحداث 11/09 دورا بارزا في عولمته. فضلا عن النظريات النفسية والاجتماعية كنظرية التحليل النفسي لــSigmund Freud، والنظرية الاجتماعية لإريك اريكسون، في حين تعددت وتنوعت النظريات والمقاربات المفسرة للإرهاب بعد 11/09 لتبرز بقوة نظريتي صدام الحضارات لصموئيل هنتغتون (The Clash of Civilizations)، نظرية نهاية التاريخ والرجل الأخير لفرانسيس فوكوياما (The End of History and The last Man)، بالإضافة إلى نظرية الحرب العادلة

((Just War المرتبطة أساسا بالتفويض الشرعي لاستخدام الجماعات من غير الدول للعنف ومدى مشروعيته من عدمه، كما قدم الباحث نظرية "الرعب المقدس" كتفسير لجدلية الخوف المتبادل بين     )الإسلاموفوبيا/الغربوفوبيا( أو الصراع بين "تحديث الإسلام" "وأسلمة الحداثة"، وفي الأخير ركزنا على مقاربتي الصراع للمستشرق الأمريكي برنارد لويس ((Conflict Approach، ومن أشهر طروحاته "خرافة أوروبا المستعربة" (Euro Arabia)، ومقاربة "الشبكات الاجتماعية" لمارك سيجمان التي تحاول تحليل دور الشبكية المجتمعية في صناعة وتكوين "الشباب الإرهابي"، وجميع هذه النظريات والمقاربات تم شرحها وتحليلها بشكل موسع في الفصل الأول من الدراسة.

الإطار المنهجي

    اعتمدنا في هذه الدراسة على مجموعة من المناهج التحليلية أهمها:

1 – المنهج المقارن: جاء اعتمدنا لهذا المنهج في إطار مستوى التحليل الثنائي، وذلك بدراسة ثنائية الإرهاب والحركات الإسلامية، بحيث يفترض ارتباط هذه الأخيرة كلها أو بعضها بالجماعات الإرهابية، من خلال إجراء مقارنة داخلية وخارجية في سياقات متعددة ومراحل مختلفة، بهدف التوصل إلى بناء إطار علمي للموضوع يبعده عن الحسابات السياسية للنظم السياسية العربية والمصالح الإستراتيجية للفواعل الدولية والمعالجة الإعلامية لبعض القنوات الفضائية والصحف والمجلات العالمية، التي تغلب عليها الإثارة والنمطية، وتغيب عنها الاحترافية والمسؤلية المهنية خاصة عندما تتناول المقدس الديني بطابع هزلي، على غرار الرسومات الكاريكاتورية المسيئة للرسول الكريم (ص).

2 – منهج تحليل النظم: الذي يقوم على أساس أن كل نظام سياسي يواجه مطالب وتهديدات قد تكون داخلية أو خارجية من شأنها أن تهز أركانه وتزعزع مؤسساته وتدخله في دوامة من العنف واللا استقرار، وبالتالي المطلوب منه هو كيفية الاستجابة لتلك المطالب بشكل يمكنه من ضمان بقائه واستمراريته، لذلك يعتبر مفهوم التكييف من المفاهيم الأساسية في هذا المنهج. فالنظم السياسية العربية واجهت ضغوظا داخلية وخارجية، جعلتها تُعلِّقُ إخفاقاتها السياسية على التهديد الإسلامي دون النظر لعمق الأزمة السياسية التي  تعيشها في جميع المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية... فكانت استجابتها لتلك الضغوظ متذبدبة بين إقصائها للحركات الإسلامية وبين محاولة احتوائها ودمجها خاصة المعتدلة منها.

      كما يكمن أن يرتبط هذا المنهج بالضغوظ المتعددة التي واجهت النظام الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمر، والمتمثلة في ضرورة تحقيق الأمن وحماية مختلف المصالح الأمريكية أينما وجدت وحيثما كانت، وذلك بمحاولة الاستجابة لها عن طريق إطلاق حملتها الدولية لمكافحة الإرهاب  باستخدام القوة العسكرية تارة والقوة الناعمة)  Soft Power  (تارة أخرى.

3 – منهج دراسة حالة: استعنا بهذا المنهج الذي يدخل بالطبع ضمن المنهج المقارن بهدف التقرّب جيدا من الظاهرة محل البحث، والابتعاد عن العمومية في التحليل من جانب آخر، وكذا محاولة اختبار بعض فرضيات الدراسة في بعض النماذج التي تعاني من الأحكام القيمية والمعيارية، بهدف الوصول الى أحكام موضوعية -ولو نسبيا- في إطار ما تسمح لنا المعلومات المتاحة بين أيدينا في الوقت الراهن.

4 – المنهج التاريخي: اعتمدنا عليه أساسا لمعرفة الخلفيات التاريخية التي تتحكم في علاقة الحركات الإسلامية بالغرب، خاصة وأن في لحظات معينة من التاريخ ظهرت ملامح تقارب بينهما (إبان الحرب الباردة وتحدي الخطر الأحمر)، لكن وفي لحظات أخرى تحولت إلى علاقة صدام (عقب هجمات الثلاثاء الأسود 11 من سبتمبر 2001)، والغرض من ذلك هو محاولة معرفتنا للعناصر الثابتة والمتغيرة التي تتحكم في عوامل نمو وفواعل تطور العملية التوصيفية، وكذا معرفة تداعياتها الحاضرة والمستقبلية.

صعوبات البحث

     إن الصعوبات التي واجهتنا في انجاز هذه الدراسة عديدة ومتنوعة، إذ لا ترجع كما جرت العادة إلى قلة الدراسات والأبحاث، وإنما بالعكس إلى كثرتها وتنوعها، مما أثر على قدرة الباحث في تصنيفها وتحليلها في الفترة المحددة للبحث، إضافة إلى طبيعة الموضوع التي تمتاز نوعا ما بالتعقيد والحركية وكذا طبيعة الإشكالية المعالجة حول هذا الموضوع، حيث تبحث عن مبررات توصيف "الاسلام السياسي" "بالتنظيم الإرهابي"، في الوقت الذي من المفروض أن تتكاثف فيه الجهود لحلحلة الأزمة التي تتخبط فيها الأسرة الدولية بكاملها جراء آفة الإرهاب الدولي التي اجتاحت عديد الدول والمجتمعات، ولم يسلم من خطرها إلا القليل، بمحاولة البحث عن الأسباب العميقة في تفشي الظاهرة وتناميها، من دون خرق وتخطي للمراحل أو الانتقائية في التحليل، خصوصا عندما يتم الربط المباشر بين الإسلام  كحضارة وتراث إنساني بالإرهاب، بل وأكثر من ذلك اعتبار الدين الإسلامي المصدر الأساسي في إنتاج الإرهاب والإرهابيين دون غيره من الديانات، مستفيدين من الثورة الإعلامية الجديدة التي فتحت المجال على مصراعيه لحالة من "التنميط الإعلامي" "والإثارة الإعلامية".

      من صعوبات البحث كذلك ارتباط فترة إنجازه بظهور مستجدات وأحداث سياسية جديدة ومتسارعة، مما يتطلب من الباحث متابعتها ومحاولة تكييفها ومتغيرات الدراسة، على غرار العدوان الاسرائيلي على غزة، ولبنان 2006، واعتقال أسامة بن لادن وقتله عام 2011، وموجة ما عرف بـ"الثورات العربية" أو "الربيع العربي"2011.

تقسيم الدراسة

      جاء تقسيمنا للدراسة رباعيا من حيث عدد الفصول؛ فتضمن الفصل الأول التأصيل النظري للدراسة؛ واحتوى مضمونه على ثلاثة مباحث أساسية، فالأول هو ماهية الحركات الإسلامية؛ وتم معالجة المبحث في خمسة مطالب. والثاني هو ماهية الإرهاب الدولي؛ جاءت دراسته في أربعة مطالب. أما المبحث الثالث والأخير فيتعلق بنظريات ومقاربات التحليل؛ بدءا بالنظريات والمقاربات المفسرة للحركات الإسلامية، ثم الاتجاهات النظرية المفسرة للظاهرة الإرهابية.

      أما في الفصل الثاني؛ الذي يعتبر جوهر الدراسة فتم عنونته بالعوامل الداخلية والفواعل الخارجية الدافعة لتوصيف الحركات الإسلامية بالتنظيمات الإرهابية، وجاء في مبحثين أساسيين ارتبط الأول بالعوامل الداخلية التي شكلت عوامل نمو عملية توصيف الحركات الإسلامية بالتنظيمات الإرهابية، إذ تم حصرها في مطالب ثلاثة هي؛ الاستبدادية السياسية العربية، راديكالية الحركات الإسلامية، وأخيرا تظرفية التيارات العلمانية. في حين ارتبط الثاني بالفواعل الخارجية التي ساهمت في تطور تلك العملية، وقد تم حصرها كذلك في ثلاثة مطالب هي الولايات المتحدة وحربها على الإرهاب، والإرهاب الاسرائيلي، وأخيرا أوروبا وتحدي الإسلاموفوبيا.

     الفصل الثالث جدلية الحركات الإسلامية بين العمل المقاوم والتنظيم الإرهابي؛ تضمن هذا الفصل بدوره ثلاثة مباحث رئيسية، فالأول عالج تنظيم القاعدة: عولمة للمقاومة أم عولمة للارهاب، في مطالب ثلاثة. والثاني تطرق لحزب الله ومأزق التصنيف في ثلاثة مطالب كذلك. والثالث ركز على حركة المقاومة الإسلامية حماس: تحدي الإرهاب في ثلاثة مطالب أساسية أيضا.

     وفي الفصل الرابع والأخير، جاء تحت عنوان المؤشرات المستقبلية لمعالجة إشكالية توصيف الحركات الإسلامية بالتنظيمات الإرهابية؛ وقد تم معالجة هذا الفصل في مباحث ثلاثة؛ فالأول ركز على مؤشر الإصلاح السياسي في المنطقة العربية في مطلبين، والثاني تطرق لمؤشر المراجعات الفكرية للحركات الإسلامية في مطلبين كذلك، والثالث والأخير عالج مؤشر حوار الحضارات وتم صياغته أيضا في مطلبين.

الخاتمة

      بعد الدراسة والتحليل لموضوع الحركات الإسلامية وإشكالية الإرهاب الدولي، توصلنا إلى أن العملية التوصيفية تتحكم فيها خمس متغيرات أساسية، هي:

المتغير الأول: استبدادية النظم السياسية العربية: إن تفشي الاستبداد السياسي في النظم السياسية العربية كان من أبرز العوامل المؤدية لإقصاء التيار الإسلامي من الساحة السياسية بطريقة أو بأخرى، ومن ثم لجوء فصيل منه لممارسة العنف والإرهاب، الأمر الذي أعطى مبررا إضافيا للنخب الحاكمة للتمادي في تنفيذ إستراتيجيتها الاقصائية تجاه الحركات الإسلامية بذريعة تهديد الأمن القومي، خاصة بعد هجمات 11/09، وذلك انطلاقا من:

  1. أثبت الواقع الممارساتي للنظم السياسية العربية، أن اعتمادها على الآليات الردعية بمختلف أشكالها ضد قوى المعارضة السياسة عموما والحركات الإسلامية خصوصا، أفضى إلى حالة من اللا استقرار السياسي، بل أكثر من ذلك تسبب في مواجهات دموية بينها وبين تلك الحركات، أو ما اصطلح على تسميته" بالدائرة الجهنمية"، والهدف من ذلك هو تكريس إستراتيجيتها الاقصائية، والتي يمكن أن تتحكم فيها النخب السياسية حيث عملت هذه الأخيرة على تحجيم دور الحركات الإسلامية السياسي وكذا نشاطها الاجتماعي، ودليل ذلك عمليات الاعتقال والمحاكمة ومختلف المتابعات القضائية التي استهدفت قيادات وزعماء تلك الحركات باعتبارها تشكل تهديدا رئيسيا للنظم السياسية العربية، خاصة مع بداية الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، "فالنخب التسلطية" ترفض كل شكل من أشكال الانفتاح الديمقراطي، حتى وإن قبلته فهو في شكله المقيِّد للحريات أو كما يسميها البعض "ديمقراطية الواجهة" القائمة على تعددية حزبية وإجراء انتخابات تنافسية، لكن دون ممارسة فعلية تضع حدا لهيمنة النخب السياسية الحاكمة، والهدف من ذلك هو تجديد شرعية الأنظمة القائمة التي تراجعت مصداقيتها جراء تبنيها شعارات جوفاء بدون مضامين عملية.
  2. إن من أبرز جوانب القصور في التكوين السياسي للنخب العربية هو غياب معنى الإجماع  واستفحال ظاهرة رفض وجود الآخر بسبب آرائه المخالفة، نظرا لفلسفة الاستبداد السياسي التي تتميز بها تلك النخب، فمنهم من يرجع طول عمر الاستبداد العربي إلى التوجهات الأبوية الراسخة في المجتمعات العربية، أو كما يسميها البعض "بالوصاية الأبوية"، وآخرون يرجعونه إلى التكوين القبلي والجهوي الذي يميز الدولة في البلاد العربية، حتى في عصر الإصلاحات الأخيرة التي شهدتها عديد الدول العربية، حيث مازال "العرش" يشكل محددا رئيسيا في كل استحقاق انتخابي. وفريق ثالث يفسر الاستبداد الحالي بالموروث التاريخي في الخبرة العربية الإسلامية. فشرعية النخب الحاكمة في عديد الدول العربية مطعون في أمرها، لأن الكثير من الحكام وصلوا إلى سدة الحكم إما عن طريق الانقلابات العسكرية، أو بانتخابات مزورة، أو عبر ترتيبات قوى داخلية أو خارجية... فيعملون على تأسيس نظم عسكرية أو نظم الحزب الواحد، أو جمهوريات وراثية، أو نظم ديمقراطية بمناظير عسكرية أو كما أطلق عليها البعض "بالأمنوقراطية"، كما يتبنون إيديولوجيات وسياسات اقتصادية واجتماعية وإدارية وأمنية من شأنها فرض هيمنة الدولة على السياسة والاقتصاد والمجتمع، مما قد ينعكس سلبا على أي محاولة جادة للتحول الديمقراطي. ولعل ما زاد تسلطية تلك النخب هو إخفاق مشروع الدولة الوطنية، حيث دخلت أغلب النظم السياسية العربية في حالة" إفلاس سياسي" و"عجز ديمقراطي"، نظرا لتآكل المرجعيات التقليدية التي كانت تضفي على تلك الأنظمة مشروعيتها لصالح التيارات الإسلامية المعتدلة أو "حركات الإسلام السياسي" التي تعتبر المستفيد الأكبر من هذا الوضع. إذ يراها الكثير من الخبراء البديل الفعلي عن تلك النظم السياسية العربية الفاشلة؛ لأنها التنظيم الأكثر هيكلة وتعبئة للجماهير، وهذا ما يفسر لنا حسب ما رأينا في الدراسة سبب توصيف الحركات الإسلامية بجماعات العنف والإرهاب بغض النظر عن صحة أو خطأ ذلك، المهم أن ترديد النظم السياسية العربية خطاب التخويف من الإسلاميين أو "فوبيا الإسلاميين" وتحت حجج كثيرة أبرزها حجة الإرهاب، يتم بغرض بث الشك في نفوس الموالين لهم مما قد يضعف قواعدهم الشعبية.

المتغير الثاني: راديكالية الحركات الإسلامية: إن تحول جناح واسع من الحركات الإسلامية، وبغض النظر عن الأسباب والدوافع، نحو التطرف والعنف، من شأنه أن يربط تلك الحركات ربطا مباشرا بالجماعات الممارسة للعمل الإرهابي المنبوذ؛ فالحركات الإسلامية الراديكالية تتحمل إذن مسؤولية في إنتاج ما يسمى "بالإرهاب الإسلاموي" وذلك انطلاقا من:

  1. لعب الخطاب الجهادي التكفيري الذي تبنته الحركات الإسلامية المتطرفة دورا كبيرا، إن لم نقل سببا مباشرا، في إقصائها من الساحة السياسية ووصفها بالجماعات الإرهابية، إذ تستخدم القوة وتمارس العنف للإطاحة بالنظم السياسية القائمة، انطلاقا من المبدأ التكفيري أو "جاهلية المجتمع" بمفهوم منظِّر الجهاديين سيد قطب، أو النهج الاستبعادي الذي لا يساوم مع النظم أو المجتمعات الجاهلية، والبديل لديهم هو التحول الشامل والأسلمة الكاملة لكل أوجه الحياة، "فمهمتهم تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه، هذا الواقع الذي يصطدم أساسا بالمنهج الإسلامي" حسب ما جاء في كتاب معالم في الطريق لسيد قطب، إضافة إلى مفهوم الحاكمية الذي أكد عليه المفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي، واعتبر أن "مبدأ الحاكمية لله وحده هو الضمان في مواجهة سلطة الحكم الفردي المستبد"؛ فضلا عن الرفض المطلق لمختلف مظاهر الحياة العلمانية، وكذا رفض كل مفاهيم التعددية والديمقراطية التي -حسب تصورهم- طروحات غربية بعيدة كل البعد عن المضامين التي جاء بها الدين الإسلامي. لذلك توظف تلك الحركات، التي أبرزها الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد الإسلامي في مصر، والطلائع المقاتلة في سوريا، والجماعة الإسلامية المسلحة، والجيش الإسلامي للإنقاذ، والجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر والتي اندمجت في التنظيم العالمي القاعدة، وأصبحت تسمى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في الجزائر، والتنظيم العالمي للجهاد المعروف بتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن... شتى الوسائل العنيفة من أجل تحقيق هدفها المتمثل في إقامة الدولة الإسلامية بإعلان الجهاد ضد الأنظمة السياسية الحاكمة )إستراتيجية العدو القريب (وضد الحكومات الغربية كذلك) إستراتيجية العدو البعيد).
  2. إن فلسفة الجهاد التي صاغ مبادئها منظروا الجهاد في العالم العربي والإسلامي، شكلت الفتوى الشرعية لاستهداف المصالح الغربية حيثما كانت وأينما وجدت، فقد شكلت هجمات 11 سبتمبر2001 أو "غزوة منهاتن" كما يطلق عليها أتباع تنظيم القاعدة، التي جاء في بيانها التأسيسي المسمى بالجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين 1998: "أنه توجب على المسلمين قتل الأمريكيين ونهب أموالهم أينما كانوا"، وهو ما تم فعلا خاصة بعد تفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998، واستهداف المدمرة كول في عدن، وآخرها وليس أخيرا هجمات 11/09/2001، حيث تبنى تنظيم القاعدة بصورة رسمية وواضحة إستراتيجية المواجهة الرأسية مع الولايات المتحدة الأمريكية بدلا من التركيز على مواجهة النظم المحلية، وظهرت هذه الإستراتيجية بوضوح مع صدور كتاب (فرسان تحت راية النبي) للرجل الثاني في التنظيم أيمن الظواهري. وقد تصاعدت وتيرة العمليات الإرهابية التي تنفذها القاعدة والفروع التابعة لها في مختلف أرجاء العالم على غرار تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين،  وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل الإفريقي وفي شبه الجزيرة العربية... فهذه العمليات وغيرها من شأنها أن تكرّس النظرة العدائية للغرب تجاه العالم الإسلامي وتثبت صدقية طرح  صموئيل هنتغتون أن معظم مناطق النزاع الدموي في العالم يشترك فيها بصورة رئيسية المسلمون، وهو الأمر الذي يغذي طبعا عملية توصيف الإسلام والمسلمين بالإرهاب والإرهابيين، ويجعل مسألة الدفاع عن أنفسهم في هذا السياق شبه مستحيلة، لأن -وفقا لتلك التوصيفات- بن لادن وغيره من قادة التنظيمات الإرهابية الأخرى لم يتركوا أية فرصة لتبرئتهم، بل أكثر من ذلك أساؤوا للإسلام وشوهوا صورة المسلمين بصورة من الصعب أن تمحى من مخيلة الفكر الغربي المثقل بدوره من نمطية الحروب الصليبية.
  3. إن التفسيرات المختلفة لمعظم منظري الحركات الإسلامية حول الخلافة الإسلامية وتأسيس الدولة الإسلامية، تقود حتما إلى استخدام العنف من أجل ترجمة تلك الدولة على أرض الواقع حيث تحتل فكرة الجهاد مركزا محوريا في الخطاب الإسلامي، فرغم الفوارق التاريخية والسببية للجهاد في عهد الرسول )ص( والخلفاء الراشدين، إلا أن أغلب الحركات الجهادية تحاول إعادة صورة الجهاد القديم في سياق ما أطلق عليه الباحث بومدين بوزيد "العنف المحاكاتي" Violence Mimetique))؛ فكثير من الجهاديين يطلقون على أنفسهم أسماء صحابة اشتهروا كمقاتلين مثل خالد بن الوليد، وعبيدة بن الجراح......، وتبلغ هذه المحاكاة ذروتها حين يقرؤون الآيات القرآنية القتالية، وكأنها تتنزل عليهم، ويشبِّهون معاركهم ضد الدولة  بغزوات الرسول )ص(، بل ويعطونها التسميات نفسها، مثل ما أطلق زعماء تنظيم القاعدة على هجمات 11/09 "بغزوة منهاتن".

     في هذا السياق لا يمكننا أن نغفُل عن الخطابات الراديكالية للمحافظين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية منهم الرئيس أحمدي نجاد حول "ضرورة محو إسرائيل من الخارطة" وغيرها من التصريحات التي من شأنها تقديم مبررات إضافية للغرب في تعزيز طروحاته حول "الإسلام الراديكالي"، خاصة المكانة التي تحتلها إيران على الساحة الدولية مند اندلاع الثورة الإسلامية 1979، والتي كانت من الأسباب الرئيسية في دخول متغير "الإسلام السياسي" حلبة الصراع الدولي، ولعل رفض الغرب للمشروع النووي الإيراني يدخل في سياق منع "الإسلام الراديكالي" امتلاك هذا السلاح، من منطلق وحشيته وجهله بطرق استخدامه عكس العالم المتحضر الذي يعرف جيدا استخدامات هذا السلاح، طبعا هذا حسب المنظور الغربي.

المتغير الثالث: براغماتية الغرب: على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، إذ كانت للحرب العادلة التي أعلنها الرئيس بوش، وهندس لها صقور البيت الأبيض من المحافظين الجدد والإنجيليون الأصوليون من أمثال ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، وبول وولفوتيز، وريتشارد بيرل ... عقب هجمات 11 سبتمبر2001، سببا مباشرا في توصيف ليس الحركات الإسلامية الراديكالية فحسب، وإنما العالم الإسلامي والمسلمين، بالمصدر المغذي للإرهاب والمحطة الخلفية لتدريب وتنفيذ العمليات الإرهابية على المصالح الغربية انطلاقا من:

1- أن هجمات 11/09 سمحت بتبني إدارة بوش مبدأ الحرب العادلة، التي بعثته الدوائر الفكرية والسياسية الأمريكية من السجل اللاهوتي الوسيط لبناء أطروحة جديدة في العلاقات الدولية تتماشى والوضع الدولي لمرحلة ما بعد الحرب الباردة من جهة ومواجهة التحدي الأبرز الذي أفرزته تلك الهجمات، المتمثل في الإرهاب الدولي من جهة ثانية، إذ تتعرض الولايات المتحدة لهجمات إرهابية على أراضيها مهددة أمنها القومي، الأمر الذي جعلها تطلق حملتها الدولية لمكافحة الإرهاب الدولي، وتطلب من حلفائها مساعدتها في ذلك، وهذا ما ترجمته العقيدة الأمنية الجديدة التي عبرت عنها وثيقة "الإستراتيجية الوطنية لمحاربة الإرهاب" ووثيقة "الإستراتيجية الوطنية لمواجهة أسلحة الدمار الشامل" الصادرتان عام 2002، وقد ارتكزت الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب الدولي على ثلاثة محاور رئيسية هي:

- ملاحقة جميع التنظيمات الإرهابية بجميع الوسائل المتاحة عسكرية كانت أم قانونية أو استخباراتية، متجاوزا بذلك كل القيود والضوابط القانونية والدبلوماسية المعتادة.

- العمل على القضاء على أسلحة الدمار الشامل، وملاحقة كل الدول المارقة التي تنتجها وإسقاط أنظمتها.

- العمل على نشر الديمقراطية ومبادئ الحرية في المناطق المحرومة منها، على أساس أن غيابها يشكل مصدرا منتجا للإرهاب والتطرف، ومن شان ذلك أن يهدد الأمن القومي الأمريكي.

2- تعتبر المنطقة العربية والأمة الإسلامية من أكثر المناطق تضررا من الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب الدولي، فقد كانت ولا زالت مختبرا لعديد التجارب التي تنجزها دبابات الفكر Think Tanks في العالم الغربي تحت ذريعة مواجهة التطرف والإرهاب، الذي يجد مناخا مناسبا في المنطقة العربية والإسلامية للنمو والانتشار. ولعل هذا ما يفسر لنا الخلفية الدينية لهذه الحملة التي أطلق عليها بوش مفاهيم متعددة "كالحرب المقدسة" أو "الحرب الصليبية" أو "الحرب ضد الشر". وهذا في إطار تحالف المحافظين الجدد مع اليمين المسيحي المتصهين، مما أدى إلى تطرف الفكر الأمريكي الذي عبر عنه الرئيس كارتر في كتابه (القيم الأمريكية المعرضة للخطر)، بقوله:" إن المحافظين الجدد هم من روجوا فكرة "إما معنا أو أن تصبح ضدنا" وهو الشعار الذي أعلنه الرئيس بوش مباشرة عقب الهجمات، بل وأكثر من ذلك، اعتبر المحافظون الجدد أن أعظم نجاح حققوه في إدارة بوش هو تخليه عن كلمة "الإرهاب" في أحاديثه التي يحدد فيها العدو واستخدام بدلا من ذلك "الإسلام الراديكالي" أو "الإسلام المتطرف" أو "الإسلام الفاشستي"، الأمر الذي جعل دانيال بايبس، أحد صقور المحافظين الجدد، يرى في هذا التغيير أهمية كبرى في إقناع "المجتمع المهذب" بتحديد وتسمية العدو. مما يعني إنتاج مسوغات أمريكية تبرز مدى العلاقة الوطيدة التي تربط الإسلام والمسلمين بالإرهاب والتطرف.

3- إن احتلال العراق على وجه التحديد يدخل في سياق الأهداف الخفية التي هندس لها اليمين المسيحي المتصهين؛ فالسياسة الخارجية مبنية على أساس إيمانهم الإنجيلي بأن نهاية العالم ستكون قريبة، وأن الشرق الأوسط سيدخل في سلسلة من الحروب الكبيرة والطويلة تمهيدا لمعركة هرمجدون (Armageddon)، ومن أجندتهم تجاه المنطقة الشرق أوسطية:

  • زيادة الإنفاق العسكري.
  • السيطرة على الشرق الأوسط لحماية المصالح الأمريكية وتأكيد تفوق إسرائيل في المنطقة.
  • إيجاد الظروف المؤدية إلى اندلاع معركة هرمجدون ليسهّلوا على المسيح بناء مملكة الله في أرض إسرائيل عند مجيئه الثاني. فغزو بابل (العراق حاليا) جاء إذن متوافقا مع معتقدات الإنجيليين المقدسة، التي ترى في الحرب على العراق -كما جاء في سفر الرؤيا- بأنها ستكون مقدمة لحروب أخرى أوسع نطاقا وأشد تدميرا في الشرق الأوسط ستمهد لمعركة هرمجدون. وما التلويح بضرب إيران بحجة وقف مشروعها النووي والتدخل في سوريا إلا دليلا على هذا التخطيط الاستراتيجي.

4- إلى جانب القيمة الدينية للمنطقة العربية السالفة الذكر، فإنه لا يمكن أن نستثني القيمة الإستراتيجية لها كذلك، على أساس أن النفط مكون استراتيجي في فلسفة الأمن القومي الأمريكي حسب مذهب كارتر 1980. فقد كان هذا المورد، فضلا عن أهداف أخرى، عملا محفزا في احتلال العراق عسكريا عام 2003، هذه الحرب التي كانت خارج الشرعية الدولية ومبادئ الحرب العادلة ذاتها، بعدما تم إضعافه بشتى أشكال العقوبات الاقتصادية والعسكرية التي أصدرها مجلس الأمن مند عام 1990، وهذا ما يدل على أن التخطيط الاستراتيجي لهذه الحرب  بدأ مند سنوات، فقط كانت هجمات11/09 فرصة للتدخل، رغم انعدام أي مسوغ قانوني أو أخلاقي أو سياسي لشنها، وهو ما اعترف به صقور البيت الأبيض أنفسهم بعد سقوط بغداد.  فذريعة دعم صدام للإرهاب الدولي الذي تمثله شبكة القاعدة، وحماية الشعب العراقي من الديكتاتورية وحقه في الديمقراطية، وغيرها من الأسباب ما هي إلا وسائل للوصول إلى الأهداف الإستراتيجية. ليكتشف العالم بعد سنوات من العدوان زيف الديمقراطية الغربية الذي ترجمته بشاعة الأوضاع في العراق على غرار موت أكثر من 700 ألف عراقي، وتهجير قرابة المليون ونصف، وحتى بعد "الانسحاب الشكلي" للقوات الأمريكية من العراق في ديسمبر2011، خلَّف وراءه أكبر سفارة في العالم، وبفلسفة طائفية تنذر بتقسيم البلاد. هذا الوضع وفَّر للقاعدة في بلاد الرافدين وضعا مناسبا للاستمرار في عملياتها الإرهابية ضد المدنيين والعسكريين على السواء. مما مكن الولايات المتحدة مرة أخرى من إثبات خطر "الإرهاب الاسلاموي" على الديمقراطية الناشئة في العراق، وهي نفس الخطابات التي رددتها قبل احتلال العراق، مما لا يدع مجالا للشك في أن الحرب على الإرهاب المعلنة بعد هجمات 11/09 تعتبر من أبرز الفواعل المحركة في عملية توصيف الحركات الإسلامية بشكل خاص والإسلام بشكل عام بالجماعات الإرهابية.

المتغير الرابع: إرهابية الكيان الصهيوني: أكدت الخبرة التاريخية في الصراع العربي الإسرائيلي، أن المجازر والانتهاكات التي تمارسها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني الأعزل في تزايد مستمر، وتستغل إسرائيل بين فترة وأخرى اشتغال الأسرة الدولية بقضايا مختلفة أو حتى أمام أعين العالم، لارتكاب مجازر أو تنفيذ اعتداءات ضد حركات المقاومة الإسلامية خاصة حركة المقاومة الإسلامية حماس وحزب الله اللبناني، أو ممارسة العدوان على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، أو جنوب لبنان، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، وقد استفادت إسرائيل على غرار أمريكا من هجمات 11 سبتمبر، خصوصا عندما تم تصنيف الحركات سالفة الذكر في خانة المنظمات الإرهابية التي يجب القضاء عليها وتجفيف منابعها. ويبرز ذلك في:

  1. كشف العدوان المتواصل على غزة مدى وحشية الإرهاب الإسرائيلي، وهو ليس بجديد على فمند نشأت الدولة العبرية عام 1948 في قلب الأمة الإسلامية وهي في حالة إرعاب للسكان الفلسطينيين، متجاوزة الفلسفة الإجرامية المعتادة بطرح فلسفة جديدة قائمة على البعد الديني،  والغريب حسب رأينا هي نفس الفلسفة التي تنتهجها الحركات الإسلامية المتطرفة لشرعنة ممارساتها الإرهابية، فإذا كانت تلك الحركات تقتل باسم الدين الإسلامي وتنتقي الآيات القرآنية المناسبة لها خارج السياق السببي التي نزلت من أجله، فإن إسرائيل أو بالأحرى "اليهودية المتطرفة" توظف تعاليم التوراة والتلمود للقيام بعملياتها الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني، حيث يدعى أغلب مرتكبيها أنها جاءت تنفيذا لأوامر الرب وتحقيقا لمشيئته.
  2. بهدف إفراغ المقاومة الإسلامية من محتواها، عمدت إسرائيل إلى رسم العديد من الاستراتيجيات لإضعاف تلك المقاومة ونزع شرعية حملها للسلاح، بوصفها تنظيمات إرهابية مهددة للأمن القومي الإسرائيلي ومنطقة الشرق الأوسط برمتها، مستغلة في ذلك تداعيات هجمات الحادي عشر من سبتمبر والتصنيف الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية عقب تلك الهجمات حول المنظمات الإرهابية، والتي وضعت من بينها كل من حركة المقاومة الإسلامية حماس وحزب الله اللبناني. ومن تلك الاستراتيجيات إستراتيجية ضرب نقاط قوة تلك الحركات ذاتها؛ حيث تم استهداف قوة العقيدة، وقوة التجذر الشعبي، وقوة الروابط الإقليمية؛ انطلاقا من محاولة إنتاج ثقافة مضادة قائمة على تفتيت النواة الصلبة المنتجة لثقافة المقاومة والجهاد وعقيدة الاستشهاد، ويكون هذا التفتيت باستخدام آلية التناقض التي تلعب على وتر الطائفية، كتصوير حزب الله على أنه عميل إيراني شيعي يسعى لنشر المذهب الشيعي في المنطقة العربية، مما قد يثير حفيظة الدول السنية.

الدخول في حرب طويلة الأمد ضد قطاع غزة من شأنها زعزعة نفوس سكانه وتكرهيهم في الحياة في ظل تلك الحروب، مما يخلق حالة من البؤس والتمرد لديهم فيسعون إلى الضغط على حكومتهم بوقف الاقتتال والاعتراف بإسرائيل وإحلال السلام الدائم معها، ولعل هذا ما يفسر لنا الاعتداءات اليومية وسياسات العقاب الجماعي ضد سكان القطاع على غرار قطع الكهرباء والماء.... مرورا بمحاولة إضعاف قوة التجذر الشعبي والرسوخ الاجتماعي لدى الحركة في معقلها، كفرض حصار اقتصادي على قطاع غزة بهدف إبراز عجز حكومة حماس عن إدارة القطاع، مما قد يخلق حالة من الغليان والاحتقان الشعبي للمطالبة بتحسين أوضاعه الاجتماعية، فيؤدي ذلك إلى اهتزاز ثقة الشعب بالحركة. أو تنفيذ ضربات عسكرية ضد المدنيين أو حتى احتلال الجنوب اللبناني معقل حزب الله بحجة وجود عناصر المقاومة بينهم، مما قد يجعل السكان يطالبون برحيل عناصر الحزب عن مناطقهم، ولعل العدوان على لبنان عام 2006 يدخل في السياق الميداني لتلك الإستراتيجية.

    وأخيرا العمل على فك الروابط الإقليمية التي تعتبر القواعد الخلفية لدعم التنظيمين الإرهابيين ونقصد سوريا وإيران تحديدا، كالعمل على ضرب استقرار إيران داخليا، أو توجيه ضربات عسكرية لها، ولعل إعلان إسرائيل صراحة استعدادها لتنفيذ ضربة عسكرية ضد إيران لغرض وقف مشروعها النووي يدخل في هذا الإطار. كما لا يمكن أن نستبعد دور إسرائيل في تأجيج الوضع الذي تعيشه سوريا حاليا، مع عدم نفينا لمسؤولية نظام بشار الأسد في ذلك.

3- إن كلا من حزب الله اللبناني وحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، تعتبران من حركات المقاومة الشرعية في آخر المطاف، وليست من التنظيمات الإرهابية كما تحاول أغلب القوى الكبرى تسويقه على الساحة الدولية، انطلاقا من معايير التصنيف السالفة الذكر، والتحولات التي شهدتها الحركتان من تصحيح لبعض مساراتها الجهادية، وعلى ضوء الوضع الذي تعيشه فلسطين ولبنان وموجة الاحتلال والعدوان الذي تتعرضان إليه، وغرض تلك القوى في ذلك إسقاط شرعية هاتين الحركتين وإفراغهما من قوة العقيدة والإيمان التي تدفعهما على الدوام  لمقاومة الاحتلال وردع العدوان، على أساس أن تلك الحركات كانت رد فعل على التهديدات الخارجية، التي استهدفت هويتها والوحدة السياسية لمجتمعاتها، الشيء الذي أرغمها على استثارة  تقاليد الماضي من أجل المحافظة على وجودها وهويتهما حسب الباحث إميل ساحلية، وبهدف كذلك تعزيز مواقفها على صعيد المطالبة بالاستقلال السياسي، وصد أية عملية عدوان أو احتلال لأراضيهما وبالتالي فإن خضوع الشعب الفلسطيني والجنوب اللبناني للاحتلال والتهديد العسكريين يرغم حماس وحزب الله على اعتماد الدين الإسلامي )فقه الجهاد( كسمة رئيسية لغرض مواجهة تلك التهديدات ووقف  النفوذ الغربي في كلا البلدين. 

المتغير الخامس: أوروبا ومعضلة الإسلاموفوبيا: من أكبر المعضلات التي تعاني منها القارة العجوز هي كراهية الآخر أو العداء للأجانب، فأصبح المواطن الأوروبي المسلم هو اليوم كائن مشكوك بأمره أو بالأحرى إرهابي حتى يثبت العكس، وقد تنامى بشكل متسارع هذا الطرح كذلك مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر، رغم الخلفيات التاريخية لتلك المعضلة والتي تطرقنا إليها في متن الدراسة، فكانت هذه الأخيرة فاعلا محوريا في العملية التوصيفية؛ ويتضح ذلك في:

  1. إن أوروبا اليوم تعيش حالة من "انفصام الشخصية" -إن صح التعبير- بمفهوم علماء النفس، فعلى مستوى الخطاب الرسمي تنادي بضرورة حوار الثقافات والحضارات، وحرية المعتقد والديانات ورفض العنصرية والدعوة إلى المساواة على أساس مبدأ المواطنة وغيرها من الشعارات التي ترفعها الدول الديمقراطية العريقة، في حين نرى على المستوى الممارساتي عكس ذلك تقريبا، فعديد التقارير والإحصائيات التي تصدرها منظمات حكومية وغير حكومية، تؤكد على ارتفاع حالة التمييز العنصري في عديد الدول الأوروبية في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، فهذه التقارير وغيرها؛ توضح لنا أن ظاهرة الإسلاموفوبيا تدخل في سياق نمطي مسبق ينطلق من مسلمات ثلاثة تم تأصيلها في الثقافة الأوروبية السائدة وجعلها أكثر قداسة من الأديان نفسها وهي:
  • الصلة العضوية بين الدين الإسلامي والإرهاب.
  • التعارض المبدئي بين الإسلام والديمقراطية.
  • العداء المطلق بين الإسلام والعلمانية.

     حيث ساهمت الكثير من الكتب المدرسية الأوروبية في تكريس تلك المسلمات في ذهن الفرد الأوروبي.

2- يلعب اليمين المتطرف في أوروبا دورا بارزا في تغذية ظاهرة الإسلاموفوبيا، وقد استخدم العديد من الآليات بين القانونية، السياسية، الإعلامية، الدينية... لتحقيق ذلك، ومن وجهة نظرنا تعتبر الآلية الإعلامية من أشد الوسائل خطرا في تكريس الظاهرة، خاصة في ظل عولمة وسائل الإعلام والاتصال، وما لها من سهولة الدعاية والترويج لطروحات اليمين المتطرف. إن ما يمكن فهمه هو أن العداء للإسلام والمسلمين لم يعد مرتبطا بأحزاب اليمين المتطرف، كما يروج له الكثير، حتى وإن كانت الصورة الأبرز في ذلك، وإنما أصبح قناعة أوروبية راسخة ترفض "الأسلمة وتتمسك بمسيحيتها"، ولعل رفض انضمام تركيا )90 بالمائة من سكانها مسلمون (للاتحاد الأوروبي يمكن أن يدخل في هذا السياق.

      في خضم هذه المتغيرات وغيرها، يمكننا رصد المشاهد المستقبلية التي من شأنها التحكم في العملية التوصيفية، في مشهدين أساسيين هما:

المشهد الأول: استمرار العملية التوصيفية: يتأسس هذا المشهد على بقاء واستمرارية المحددات التالية:

  • الاستبداد السياسي والاستعصاء الديمقراطي في النظم السياسية العربية ورفض هذه الأخيرة أية عملية للانتقال والتحول الديمقراطي، وما يترتب علية من تجميد للحياة السياسية، ومن إقصاء واحتواء المعارضة السياسية، خاصة الحركات الإسلامية المعتدلة، التي تراها الأقرب للوصول للسلطة في حالة إجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، فتصبح لغة العنف والعنف المضاد هي اللغة السائدة بين الطرفين.
  • تنفيذ الحركات الإسلامية المتطرفة لمجموعة من العمليات الإرهابية سواء في الدول العربية والإسلامية أو في إقليم الدول الغربية ومصالحها في أية منطقة في العالم.
  • صعود التيارات العلمانية إلى أعلى هرم السلطة في البلاد العربية، حتى وإن تحالفت مع النخب العسكرية لسد الطريق أمام وصول الإسلاميين إلى الحكم.
  • استمرار الهيمنة الأمريكية على العالم العربي والإسلامي، والسعي نحو استنزاف ثرواته وتقسيم أقطاره، خاصة عندما يتغلب خطاب الغرب الاستغلالي البراغماتي على خطاب الغرب الحضاري الإنساني.
  • استمرار السياسة العدوانية والاستيطانية لإسرائيل على الأراضي الفلسطينية ودول الجوار.
  • تنامي حالة العداء والكراهية ورفض الآخر في أوروبا تجاه الجالية المسلمة والدين الإسلامي ودور الأحزاب اليمينية المتطرفة في ذلك.

المشهد الثاني: زوال عملية التوصيف: يتأسس هذا المشهد بدوره على المؤشرات التالية:

  • الإصلاح السياسي للنظم السياسية العربية؛ من خلال إقرارها بالتداول السلمي على السلطة مما قد يسهم في بناء ديمقراطية حقيقية وفعالة تقبل بالانفتاح على التيارات السياسية بما فيها الحركات الإسلامية المعتدلة وإشراكها في صنع القرار السياسي دون إقصاء أو تهميش، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تحقيق الجودة السياسية للنظام السياسي، ويرسخ الممارسة الديمقراطية الضامنة لبقاء واستمرارية النظام السياسي، وصيانته من الهزات والاختلالات السياسية التي قد يتعرض لها في ظل التحولات المحلية والإقليمية والدولية.
  • ضرورة الاستفادة من التجربة التركية حول علاقة الإسلام بالدولة، فهي اليوم الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي دستورها ينص في مادته 14 على أن "العلمانية هي إيديولوجية الدولة"، فالنظام التركي يحظر تطبيق القواعد الدينية في كيان الدولة، ولا يجوز استخدام المشاعر الدينية في تحقيق مآرب شخصية أو سلطوية، وهذا رغم أن الإسلام هو دين الأغلبية. كما يعتبر عام 2001 تاريخ متميز، حيث شهد تأسيس حزب العدالة والتنمية من طرف عبد الله غول ورجب طيب اردوغان، ليكتسح الحزب الإسلامي الأحزاب العلمانية، فيما أطلق عليها "بالثورة الصامتة "عام 2002، بل وتمكن عبد الله غول من الوصول إلى أعلى هرم الدولة العلمانية. لتقدم في الأخير التجربة التركية نموذجا واقعيا لعلاقة توافقية بين الإسلام والعصر وبين الإسلام والحداثة. ولعل تسمية العديد من الحركات الإسلامية في الدول العربية لجناحها السياسي بأسماء مشتقة من حزب العدالة والتنمية التركي، كما هو حاصل في المغرب والجزائر ومصر... إلا دليلا على رغبتها في محاكاة التجربة التركية.
  • المراجعات الفكرية للحركات الإسلامية؛ من خلال "النقد الذاتي" وسياسة تصحيح المسار وسد الثغرات في العديد من المسائل الخلافية التي مازالت محل لبس وغموض في خطاب معظم الحركات الإسلامية المتطرف منها والمعتدل، فالمتطرف يجب عليه إعادة قراءة القرآن الكريم بعيدا عن الانتقائية والاختزالية في آياته المنزَّلة خاصة الآيات التي تدعو إلى الجهاد في إطار فقه الواقع. في حين يجب على المعتدل منها محاولة إزالة اللبس عن المناطق الرمادية        التي تكتنف خطابه السياسي كموقفه من التعددية السياسية، واحترام الأقليات، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وحقوق المرأة، ....
  • حوار الحضارات؛ ودوره في جسر الهوة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، إذ كيف يمكن للطرفين تجاوز مقولة الصراع الحضاري، وإحلال مقاربة حوار الحضارات بدلا منها في ظل مجموعة من الشروط والمبادئ التي يجب أن يلتزم بها كل من المحاور الغربي والأمريكي تحديدا، والمحاور العربي-الإسلامي، حتى يكتب لفكرة الحوار النجاح والتجسيد على أرض الواقع.

على ضوء هذين المشهدين؛ يؤكد الباحث على أهمية المشهد الثاني في استتباب الأمن والاستقرار على الساحة المحلية والإقليمية والدولية، خاصة عندما تتغلب لغة الحوار على لغة الصراع وتعلو سيادة الحق والقانون على الاستبداد والهيمنة، مما قد ينعكس إيجابا على تحول الأسرة الدولية نحو مجالات -لا تقل أهمية عن التطرف والصراع الحضاري- مثل التنمية المستدامة والأمن الإنساني.

ختاما، وعلى ضوء المتغيرات والمشاهد المستقبلية سالفة الذكر، نتوصل إلى صياغة مجموعة من النتائج النظرية الآتية:

  • أن مفهوم الإرهاب هو مفهوم قيمي معياري (Concept Normative)، فما نراه نحن مقاومةً ودفاعا عن النفس، يعتبره الآخر إرهابا، والعكس صحيح. كما يعاني المفهوم أيضا من مشكلة "تديين المصطلح"؛ ونقصد الدين الإسلامي، هذا على الرغم من أن كل الأديان والحضارات مارسته بطرق أو بأخرى.
  • مصطلح "الحركات الإسلامية" بدوره يعاني من مأزق الترادف الكمي والتضخم المفاهيمي والتوظيف السياسي محليا ودوليا، أو كما سماه البعض "باستخدامات الإسلام".
  •  الفكر الجهادي المتطرف، أضرّ بالدين الإسلامي أكثر مما خدمه، وشوه صورة المسلمين أكثر مما دافع عن قضاياهم ومصالحهم.
  • تعتبر الحركات الإسلامية المقاومة من أكثر المتضررين بمعيارية الإرهاب.
  • إن معايير العدو، والهدف، والخصم، والمشروعية، والمجال، من شأنها أن تكون فواصل اختلاف واضحة ودقيقة بين الإرهاب والمقاومة المشروعة.
  • أهمية العامل الديني في التحولات الدولية الراهنة: المحافظون الجدد وتحالفهم مع اليمين المسيحي المتصهين أدى إلى إعلان الحرب على الإرهاب، واستمرار المجازر الإسرائيلية، وإن صعود الحركات الإسلامية المعتدلة إلى أعلى هرم السلطة في عديد الدول العربية من شأنه أن يبين عدم تعارض الإسلام مع الأسس الديمقراطية، وأهمية "الإسلام السياسي" في العملية الديمقراطية والتحول الديمقراطي.
  • أهمية مؤسسات ومراكز الفكر الغربية (Think Tanks) في إنتاج وإعادة إنتاج مفاهيم حول الحركات الإسلامية؛ فكما لعب -أغلبها- دورا كبيرا في تسويق مصطلحات "الإسلام المسلح"، فيمكنها كذلك أن تلعب دورا أكثر عقلانية وأكاديمية إن صح القول، في الفصل بين الإسلام كدين وحضارة، وبين قلة من المتطرفين الإسلاميين الدين يشوهون صورة الإسلام والمسلمين.
  • أهمية "ثقافة المراجعة" والنقد الذاتي ((Autocritique لكل الأطراف سواء الطرف العربي-الإسلامي، أو الطرف الغربي، بهدف تجاوز إرث الماضي وتصحيح الصورة النمطية لكل طرف عن الآخر، مما يمهد لمستقبل قائم على التنوع الثقافي، والتثاقف الحضاري وحوار الحضارات.

= للاطلاع على نص الأطروحة (اضغط هنا).

= الآراء الواردة في الأطروحة تمثِّل صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي مركز الجزيرة للدراسات.

ABOUT THE AUTHOR

References

1- عمراني كربوسة، الارتباطية البحثية في العلوم السياسية في معالجة قضايا وتحديات البلاد العربية، مجلة المفكر، العدد 04 الصادر أفريل 2009، ص171.1