احتمالات وقف إطلاق النار والأنماط المقبلة من الحرب على غزة

بعد ضربة "طوفان الأقصى"، تحتاج إسرائيل نهايةً لحربها على غزة تتيح لها ترميم صورتها وتعيدها إلى الإمساك بزمام المبادرة في الإقليم، كما تحتاج واشنطن الحليف والأقرب للشريك لها في هذه الحرب، لتأمين سياق تكون فيه إسرائيل في وضعية إستراتيجية أفضل، وبحلفاء أكثر.
21 December 2023
احتفاظ المقاومة بقدرتها على استهداف إسرائيل صاروخيًّا واستنزاف جيشها سيدفع إسرائيل لوقف الحرب (الإعلام العسكري للقسام).

مقدمة

إن أسباب إنهاء الحرب بالمبدأ حاضرة بقوة لدى كل الأطراف المعنية بها، ولكن لا تزال سيناريوهات وقفها وما قد يعقبها واسعة ومفتوحة بسبب صمود "المقاومة" في غزة أولًا وآخرًا ما دامت الحلول لا تمر إلا على حساب "إنهائها"، وكذلك لأن إسرائيل لم تحقق أيًّا من أهدافها المعلنة منها، وليس لديها أيضًا رؤية واضحة لما بعد الحرب. كما لم تستطع واشنطن فرض أو إقناع إسرائيل بإستراتيجية محددة لإنهاء الحرب أو لليوم التالي بعدها. وفضلًا عن كل ذلك هناك سيولة في الأحداث والمواقف ما يجعل تغيرها إحدى السمات الأساسية لهذه الحرب، كما لم تتبلور بدائل واضحة لها.

يركز التعليق على قراءة أهم المرتكزات الأساسية التي يقوم عليها السياق السياسي الحالي وما يمكن أن تفضي إليه مما لا يمكن لها تجاوزه، وفهم أهم الثوابت التي يتمسك بها أطراف الحرب والمعنيون الأساسيون بها، للوقوف على أفق التوقعات الذي ترسمه.

إنهاء الحرب ومطالب أطرافها

إن إنهاء الحرب لا يمكن أن يتحقق إلا بانتصار أحد أطرافها بتحقيق أهدافه بشكل كامل، أو بإعلان الأطراف عن انسداد أفقها، وبالتالي البحث عن بدائل أخرى، لاستدراك ما يمكن استدراكه لتحقيق انتصار جزئي ربما يقود مستقبلًا إلى تحقيق الأهداف، أو تلافي هزيمة كاملة بتقديم تنازلات ولو مؤلمة على أمل التعافي لاحقًا.  

تبدو إسرائيل هي المعنية الأساس بهذه المعادلة لأنها هي من أعلنت الحرب وأعطاها مسؤولوها وصف "الوجودية"، في حين دعت غزة وتحديدًا حماس إلى تبادل للأسرى والمحتجزين، وأنها مستعدة للبحث في أي مطالب أخرى، حتى حل الدولتين نفسه وقيام سلطة فلسطينية في القطاع في إطاره.

ولا يبدو الانتصار راهنًا خيارًا متاحًا لإسرائيل في الحرب البرية الحالية التي أعلنتها ضد غزة، وغير قادرة على حسمها في القريب وتحقيق أهدافها المعلنة منها، لاسيما "تدمير" حماس، وتحرير الأسرى فضلًا عن "استعادة الردع"، بل تبدو هذه الأهداف حتى متناقضة وأكبر من أن تُحقَّق في حرب واحدة، وفي سياق سياسي وزمني واحد.

يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وحكومته أنفسهم في معضلة سياسية، فإسرائيل تريد التبادل بشروط تسمح لها بالاستمرار في الحرب، في حين تضغط عائلات الأسرى والمحتجزين لإيقافها، وترى أن استمرار الحرب يتناقض مع دعوى الحكومة أن أولويتها هي إنقاذ "أبنائهم"، وزاد من شكوكهم مقتل ثلاثة من الأسرى بنيران القوات الإسرائيلية.

ويصر نتنياهو، على أنه لا يزال في حاجة إلى أشهر لإنهاء الحرب، ولا يزال يتحدث عن "إنهاء حماس"، وأن مرحلة ما بعد الحرب لا تزال هي مرحلة ما بعد إنهاء حماس بالنسبة له، وأن إسرائيل لن تعهد أمنيًّا بالقطاع إلى أحد وسيكون من اختصاصها، أي كما كان الأمر قبل أوسلو أو ما يشبه بعض مناطق الضفة.

وبالنظر إلى التحديات التي تنتظر نتنياهو بعد الحرب شخصيًّا، فإن مصلحته تكمن في إطالة الحرب لعله يخرج منها بإنجاز ما، أقله مثل اغتيال أو أسر قادة من حماس أو أكثر من ذلك إن استطاع، لأنه سيحتاجه في مواجهة المحاسبة له لفشله في إجهاض عملية "طوفان الأقصى"، بل وربما تسببه بها باستفزازه واليمين المتحالف معه للفلسطينيين دون احتساب العواقب. بل ربما يعوِّل نتنياهو على انتزاع بعض النتائج الممكنة من الحرب لتعيده إلى المشهد الانتخابي الإسرائيلي مجددًا، أو للصمود في مواجهة خصومه في المشهد السياسي الإسرائيلي. كل هذه العوامل تؤكد أن وقف إطلاق النار محفوف بمخاطر الهزيمة بالنسبة لإسرائيل أو الإضرار بمستقبل نتنياهو السياسي وربما إنهائه.

بالنسبة لحماس فإنها تريد للتفاوض أن يكون البداية لوقف الحرب ومفاعيلها، وبالتالي تبادل الأسرى والمحتجزين ووضع ترتيبات ما بعد الحرب، وليس مجرد هدنة أخرى مثل الهدنة السابقة والوحيدة. فهذه الأخيرة أعطت فلسطينيي غزة وحماس وقتًا لاستعادة الأنفاس، ولطرح روايتهم الخاصة للحرب في مواجهة دعاوى الرواية الإسرائيلية. إلا أن هذه الهدنة أيضًا أعطت إسرائيل وخاصة نتنياهو الفرصة ليحتوي الضغوط الدولية والمحلية وأن يراوغها ليعاود التأكيد على استمرار حربه البرية وأهدافها، وليكرس فكرة اعتماد هدن إنسانية محدودة وإدخال أدنى حاجات غزة إليها بدلًا من وقف إطلاق نار دائم.

واشنطن والإمساك بالحرب

إذا كانت إسرائيل قد قررت شكل هذه الحرب على غزة ومداها في البداية، وأيدتها واشنطن في ذلك دون تحفظ أو شرط ومدَّتها بسبل الاستمرار فيها، فإن الإدارة الأميركية سيكون لها تأثير كبير في تقرير نهايتها وما سيليها من إجراءات.

بالمبدأ هذه الحرب طارئة على جدول أولويات الولايات المتحدة، فهي مشغولة بأولويات أخرى: الحرب الأوكرانية-الروسية، ومسألة تايوان والصين، وما إلى ذلك. وحتى أولويات أخرى في المنطقة لا تخدمها الحرب الحالية على غزة، مثل ملف إيران النووي وتمددها في المنطقة. والأهم منها جميعًا وأكثر إلحاحًا دخول أميركا في عام الانتخابات القادم (2024)، والتي باتت غزة جزءًا من العوامل التي تؤثر فيها، بعد أن تراجعت شعبية الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، بسبب العنف الإسرائيلي غير المحدود ضد الشعب الفلسطيني وتأييد واشنطن غير المحدود لإسرائيل. من أمثلة ذلك، استطلاع نيويورك تايمز (19 أكتوبر/تشرين الأول 2024)؛ حيث بات 57% من الأميركيين بعد حرب غزة لا يوافقون على طريقة تعامل الرئيس بايدن مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

وقد بات المسؤولون الأميركيون يُظهرون تشددًا لفظيًّا في تصريحاتهم وأن على إسرائيل تقليل عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين في غزة، وباتوا أكثر إلحاحًا لمعرفة متطلبات إسرائيل لمرحلة ما "بعد حماس"، رغم أن أهداف الحرب الإسرائيلية المعلنة لم تتحقق وحماس لا تزال واقعًا. وباتت واشنطن أقرب إلى هدف الحرص على التأكد من عدم قدرة حماس على تكرار ما حصل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أي طوفان الأقصى، وليس هدف "إنهاء حماس" حرفيًّا، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، تركزت السياسات الأميركية، خاصة مؤخرًا، على إقناع إسرائيل بإنهاء العملية البرية الحالية الواسعة على أن تستمر بعمليات مركزة في غزة ومنها سياسات الاغتيال، في حين تستمر واشنطن في جهود إنضاج أسس حل سياسي على وقع العملية العسكرية المستمرة ولو بوتيرة مختلفة، وتشدد على أن هذا الحل لن يخرج عن حل الدولتين وأن السلطة الفلسطينية جزء أساسي فيه، رغم معارضة نتنياهو.

واضح أن هذه الرؤية تهدف إلى إطلاق دينامية جديدة في غزة تعيد تكوين السلطة فيها، ولو بآلية خاصة بها أو بقواعد حكم تختلف عن الضفة. تبقى مسألة التعامل مع حماس، الفيل في الغرفة، أمرًا مسكوتًا عنه ولو راهنًا، رغم أن كل ما يُطرح يتوقف على قرارها أو مصيرها. ويمكن التكهن بأن واشنطن ستعتمد في احتواء حماس أو محاصرتها أو "عقلنتها"، بحسب ما تساعد عليه الظروف، على الحلفاء خاصة العرب منهم، وهو السياق الذي يمكن فيه فهم لاءات واشنطن: لا لعودة حماس للحكم، لا لتهجير سكان القطاع قسريًّا، لا لاحتلال القطاع مجددًا أو الاقتطاع من مساحته.

ولا يمكن لإسرائيل تجاهل المطالب الأميركية إن أصرت الأخيرة على ذلك، لأن واشنطن هي الضامن الأساسي لإسرائيل في مواجهة الجبهات الأخرى التي قد تُفتح ضدها فضلًا عن مواجهة "المقاومة الفلسطينية"، وحتى هي الضامن لنهوض إسرائيل بعد نهاية الحرب أيضًا.

كما أن استمرار وقائع الميدان وفق الوتيرة والنمط الحالي لا يشجع إسرائيل على الاستمرار في الحرب وفق صورتها الحالية على الأقل؛ حيث تستمر الخسائر في الجيش الإسرائيلي دون إحراز تقدم حاسم يمكن ترجمته سياسيًا (تجاوزت 130 قتيلًا)، ولم تستطع تحرير أسير واحد حيًّا، وتزداد الانقسامات بفعل طريقة إدارة الحرب نفسها فضلًا عن خلافات سابقة عليها. بالمقابل، لا تزال حماس وبقية الفصائل في غزة صامدة ومتماسكة وتعمل منظوماتها العسكرية بكفاءة رغم كثافة النيران التي تتعرض لها وتوغل الإسرائيليين في القطاع ورغم الخسائر الكبيرة في أرواح المدنيين الفلسطينيين (ما يزيد على 26 ألف شهيد).

واستمرار الحرب دون أفق سياسي سيفتح الباب أمام دخول عوامل جديدة فيها ليست لصالح ضبطها، أقلها تصاعد أدوار الفاعلين في "الجبهات المساندة" لغزة وخاصة إذا ما تزامن تصاعدها؛ حيث جبهة حزب الله في جنوب لبنان وعلى الحدود الشمالية مع المستوطنات الإسرائيلية "المهجَّر" سكانها، وعمليات أنصار الله الحوثيين من اليمن والتي عرقلت مرور السفن إلى إسرائيل في البحر الأحمر، فضلًا عن الجبهة مع سوريا، إضافة إلى تعرض المواقع الأميركية لهجمات متفرقة هناك وكذلك في سوريا أيضًا.

أفق التوقعات

"وقف الحرب" على غزة ليس نهاية المطاف لإسرائيل ولا حتى لحلفائها، لأن استعادة "الردع" يتطلب تحسينًا لوضعية إسرائيل على الحدود مع لبنان وسوريا إضافة إلى غزة وبقية المناطق الفلسطينية، بل قد تنعكس مزيدًا من الضغوط على العرب في الداخل الإسرائيلي، أي سيظل ظل "طوفان الأقصى" وما أثاره من مخاوف شاخصًا في سياسات إسرائيل ومهيمنًا لمدة على قراراتها، ومنها قرار وقف "إطلاق النار" أو "عقد هدنة". فالضربة التي تلقتها إسرائيل في "الطوفان" على "أرضها" والوضعية التي انتهت إليها في محيطها وفي البعدين، الإقليمي والدولي، لا تشبه أي حالة سابقة.  

تحتاج إسرائيل لنهاية حرب تتيح لها ترميم صورتها وتعيدها إلى الإمساك بزمام المبادرة في الإقليم، كما تحتاج واشنطن الحليف والأقرب للشريك في هذه الحرب لإسرائيل، لتأمين سياق تكون فيه إسرائيل في وضعية إستراتيجية أفضل وبحلفاء أكثر فيمكنها حينها أن تتحرر واشنطن من صبِّ جُلِّ تركيزها في هذه الأزمة التي استهلكت كثيرًا من قواها.

يبدو الجامع بين واشنطن وإسرائيل استمرار الحرب بوتيرة أكثر دقة وأهداف أكثر إستراتيجية وهو المرشح استمراره لأشهر بغض النظر عن طريقة ذلك. وبالتالي، فإن "وقف الحرب" أو مفاعيلها نهائيًّا وفعليًّا ليس واضحًا في الأفق القريب، فسواء أُعلن عن اتفاق لوقف إطلاق النار على مراحل، أو هدن أكثر استدامة من التي قبلها، بغية إنجاح عملية التبادل للأسرى والمحتجزين، فإن ما يشبه الحرب المتقطعة أو التوتر الشديد المستمر سيبقى حالة مهيمنة.

بعبارة أخرى، إن إنهاء مشهد الحرب بنمطه الحالي، سيكون أشبه بإنهاء عمليات رئيسية ليفتح قوسًا جديدًا ودينامية جديدة أمام سياسة صارمة ضد غزة، يتمازج فيها العسكري مع السياسي، لتهيئة ليس غزة فقط بل المنطقة لحلول أكثر جذرية من قبل، وقد يختلط فيها الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني مع الضغط العربي والإقليمي والدولي على غزة وعلى حماس وفصائل المقاومة، بالتزامن مع إعادة تداول "حل الدولتين" بما تبقى منه وبُنيت عليه "صفقة القرن".

وهذا يتأتى بالنسبة لإسرائيل بوقف مرن "لإطلاق النار" تحمل بنوده بذور أهدافها التي أعلنتها للحرب أو تستهدفها ضمنًا، ويبقى مفتوحًا على عمليات عسكرية ممتدة لخدمة بنود سياسية محددة في الاتفاق أو خارجه. وأقرب مثال للقياس عليه أو تقريب صورته، هو نموذج قرار "وقف إطلاق النار" في حرب إسرائيل على لبنان، عام 2006، الذي تضمنه القرار 1701، إضافة إلى بنود أخرى وضعت قيودًا على المقاومة اللبنانية ومنطقة عازلة على الحدود مع إسرائيل. ولم تنته الحرب رسميًّا بهذا القرار بل بقيت مفتوحة على كل الاحتمالات وإن كانت توقفت فعليًّا حينها بفعل حقائق الميدان وإرادة الطرفين وبات قرارًا مرجعيًّا للضغط على لبنان بحسب الظروف، أو للدعوة للعودة إليه بعد كل تصعيد، كما هي الحال راهنًا مع التصعيد على الجبهة اللبنانية.

خاتمة

إن أهداف إسرائيل التي أعلنتها للحرب، ستبقى أهدافًا رئيسية لسياستها بعد أي وقف لإطلاق النار أو أي هدنة إنسانية مستدامة. وغاية المأمول إطلاق دينامية تفتح باب التبادل للأسرى والمحتجزين سواء عبر سلسلة هدن قد تقود لوقف إطلاق نار، أو وقف إطلاق نار يتم البحث بعده بمطالب الأطراف الأخرى. ورغم أن عنوان البرنامج الإسرائيلي وحتى الأميركي لما بعد الحرب، يُطرح تحت عنوان "ما بعد حماس"، فإن التعامل معه من الناحية الواقعية وعلى المدى القصير والمتوسط سيكون بتأويل المقصود منه وفق ما ينتهي إليه الميدان، مثل تنحيتها عن حكم غزة أو تهشيمها وما إلى ذلك، وسيُرجأ تحققه إلى سياق أطول كلما فشلوا في تحقيقه.

إن ما ينتظر غزة في أفق ما بعد الطوفان محاولة تقييدها وضبطها، فهناك مخاطر استمرار التهجير نتيجة الضغوط الاقتصادية في هندسة سكانية ممتدة، ومحاصرتها اقتصاديًّا واستمرار استهدافها بعناوين بنود "وقف إطلاق النار"، فضلًا عن محاولة فرض مناطق عازلة فيها أو إخضاعها لرقابة دولية، وما إلى ذلك.

إلا أن ما في الأفق أيضًا، صمود المقاومة واستمرار قدرتها على استهداف إسرائيل بالصواريخ أو استنزافها بحرب مقاومة، مع وجود حلفاء لها في المنطقة ولو على مستوى المشاغلة لإسرائيل وأميركا فضلًا عن ضغوط الرأي العام الدولي. وهذا أيضًا في الوقت الذي تعاني فيه إسرائيل من انقسامات على صعيد السلطة والمجتمع، وكانت بدأت قبل الطوفان بمسألة التعديلات القضائية وستستمر بعده، حتى بدت إسرائيل مع الأخذ بالاعتبار الأشهر الأخيرة، عبئًا سياسيًّا وعسكريًّا وأخلاقيًّا على حلفائها لا رصيدًا لهم في المنطقة، وأصبحت مسألة تغيير السلطة في إسرائيل نفسها وطريقة أدائها وتفكيرها هدفًا غربيًّا بحد ذاتها أيضًا. إن مطلب وقف إطلاق النار بعد الطوفان قد يصبح بذاته دينامية رهن الظروف لتغيير موازين المنطقة.

ABOUT THE AUTHOR