السياسات الحكومية وأثرها في الأداء الوظيفي لبرلمان المملكة المتحدة للمدة من 2010-2020

تسلِّط هذه الدراسة الضوء على طبيعة السياسات الحكومية البريطانية والأداء الوظيفي للبرلمان وعملية التفاعل فيما بينهما، وذلك من خلال حالات التعاون والتوازن بين الحكومة والبرلمان في الظروف الطبيعية، والصراع والنزاع بين المؤسستين في الظروف الاستثنائية، وتستعرض أهم العقبات الدستورية والقانونية والسياسية والاقتصادية والجغرافية التي واجهت السياسات الحكومية وأداء البرلمان لوظائفه ورافقتهما قبل البدء بإجراءات انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وأثناء عملية الانسحاب، وتحاول التعرف على أبرز الدوافع التي أسهمت في الدعوة للاستفتاء، وأسباب تبني التصويت لمصلحة الخروج من التكتل الأوروبي، والانعكاسات التي خلَّفتها تلك العملية، سواء على الصعيد الداخلي والخارجي للمملكة المتحدة، أو على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي وطبيعة علاقة الاتحاد مع الدول الأعضاء، وذلك عبر التطرق لثلاث رؤساء وزراء بريطانيين، خلال الحقبة الزمنية الممتدة منذ عام 2010م وحتى عام 2020م.
(الجزيرة)

المقدمة

تُعدّ دراسة موضوع السياسات الحكومية والأداء الوظيفي لبرلمان المملكة المتحدة واحدة من أكثر الموضوعات التي تحظى باهتمام واسع لدى مراكز الأبحاث السياسية، لأنها تعبّر عن توجّهات الدولة الرسمية وقراراتها ومواقفها في مؤسّسات النظام السياسيّ التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، أو المؤسسات غير الرسمية كالأحزاب السياسية التي تؤدي دور الوسيط بين المؤسّسات الرسمية، وغير الرسمية، فتارةً تصبح جزءًا من المؤسسات الرسمية عندما تتولى السلطة، وتارةً أخرى تصبح مؤسسة غير رسمية عندما تكون جزءًا من المعارضة؛ سواء كانت تلك المعارضة داخل المؤسسة التشريعية أم تتولى المعارضة الشعبية خارج مؤسسات النظام السياسي البريطاني، فضلاً عن تعبيرها عن المؤسسات الاقتصادية وتوجهاتها، والمصالح الاقتصادية، والمكاسب، والاستثناءات التي حققتها المملكة المتحدة بعد انضمامها إلى الاتُحاد الأوروبي. لذا فإن طبيعة النظام السياسي في المملكة المتحدة، يستند إلى مبدأين أساسين: الأول مبدأ الفصل الهيكلي المرن بين السلطات، والآخر مبدأ التداخل الوظيفي بين السلطات؛ هذا الأمر يدفع بنا إلى البحث في السياسات الحكومية على أنّه مدخل للنظام السياسي البريطاني، والأداء الوظيفي للبرلمان على أنّه مخرج له، فضلاً عن عملية التفاعل؛ لأنً العلاقة بينهما قد تكون طردية موجبة أو طردية سالبة، وهذا ما يمكن تسميه بالتغذية العكسية الـ(Feed back).

       إذ تشكل السياسات الحكومية في النظام السياسي البريطاني أهمية بارزة ومهمة؛ نظراً إلى ما تحدثه من تأثير في مجمل عمل ذلك النظام وأدائه، لأنها تعبّر عن التوجّهات، والقرارات، والبرامج السياسية، والحزبية للحزب الحاكم (حزب المحافظين) المتبعة في المؤسسة التنفيذية، ومدى انسجام تلك التوجهات واختلافها مع الأفكار والسياسات، والرؤى التي يتبناها تيار من الحزب الحاكم وحكومة المعارضة (الظّل) العمالية، فضلاً عن سائر أحزاب المعارضة البريطانية المكوّنة لبرلمان المملكة المتحدة.  لقد شكلت مسألة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، واحدة من أبرز القضايا الرئيسة في توجّهات الحكومات البريطانية المتعاقبة وسياساتها منذ انضمام المملكة المتحدة فعليًا ورسميًا عام 1973م، للجماعة الأوروبية "آنذاك"، التي تحولت فيما بعدُ إلى اتحاد سياسي واقتصادي عُرِفَ بـ(الاتحاد الأوروبي)؛ وذلك بموجب معاهدة "ماستريخت"، التي دخلت حيز التنفيذ 1 تشرين الأول عام 1993م  وحتى تاريخ خروجها رسميًا في 29 يناير/كانون الثاني عام 2020م، بعد أن أجري الاستفتاء على عضويتها بشأن بقائها في الاتحاد الأوروبي من عدمه، في 23يونيو/ حزيران عام 2016م.

أولاً: أهمية الدراسة

 تنبع أهمية الدراسة في نقطتين أساسيتين، هما على النحو الآتي:

  1. الكشف عن طبيعة السياسيات الحكومية المتبعة في المملكة المتحدة؛ لأنّها تسلط الضوء على أبرز السياسات في عهد رؤساء الوزراء البريطانيين الثلاثة (ديفيد كاميرون، تيريزا ماي، بوريس جونسون) في الحقبة الممتدة من عام 2010 وحتى عام 2020م.
  2. لقد أصبحت مسألة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، تحظى بأهمية بارزة؛ وذلك بتصّدرها للبرامج الحكومية والانتخابية للأحزاب السياسية في بريطانيا، لأنّ تلك المسألة شكلت تحدياً كبيراً لقدرة النظام السياسيّ وفاعليته في التصدّي والاستجابة للأزمات التي قد تعصف به، وكيفية تعامل مؤسساته التشريعية، والتنفيذية، والقضائية مع تلك الأزمات والتحدّيات، التي قد تعرض وحدة المملكة المتحدة للتفكك والتشظّي على المدى البعيد.

ثانياً: إشكالية الدراسة

تـكمن إشكالية الدراسة في وجود اختلاف في التوجهات والرؤى التي تتبناها الحكومة في رسم سياساتها، والأفكار والاتجاهات التي تحملها الأحزاب السياسية البريطانية المعارضة، وجزء من أعضاء الحزب الحاكم (حزب المحافظين) على السواء؛ الأمر الذي ينعكس على مخرجات السياسات الحكومية والأداء الوظيفيّ للبرلمان البريطاني معًا. ومن أجل الإجابة عن تلك الإشكالية وتحليلها وتشخيصها بأسلوب علميّ دقيق، لابدّ من طرح جملة من التساؤلات، ومحاولة الإجابة عنها في محتوى هذه الدراسة، وهي على النحو الآتي:

  1. ما طبيعة السياسات الحكومية في النظام السياسي البريطاني؟ وما هو الأداء الوظيفيّ للبرلمان البريطاني؟ وما هي أبرز الظروف المرافقة لهما؟
  2. كيف تسهم السياسات الحكومية في التأثير في الأداء الوظيفيّ لبرلمان المملكة المتحدة؟
  3. ما هي أبرز التحديات الدستورية، والقانونية، والسياسية، والاقتصادية، والمالية التي واجهت الحكومات البريطانية خلال الفترة الزمنية للدراسة 2010-2020؟
  4. ما مدى تأثر القرارات والتشريعات التي تصدر من المؤسّستين (التشريعية والتنفيذية) في سلوك الناخب البريطاني، سواء في مسألة الاستفتاء على النظام الانتخابي المتبع في بريطانيا، أم في مسألة البريكست، أم في الدورات الانتخابات التشريعية العامة التي شهدتها المملكة المتحدة؟
  5. كيف يؤثر شكل الحكومات البريطانية سواء أكانت تلك الحكومات ائتلافية أم أقلية أم أغلبية في أداء ومخرجات السياسات الحكومية والبرلمانية في آن واحد؟
  6. هل أسهمت العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في التأثير في توجّهات السياسات الحكومية، وعلى مخرجات البرلمان البريطاني وأدائه؟
  7. كيف أسهم البريكست في التأثير في طبيعة اتّخاذ القرار داخل مؤسّسات الاتحاد الأوروبي؟ وما مدى تأثير مخرجات ذلك الاستفتاء في وحدة أراضي المملكة المتحدة؟

ثالثاً: فرضية الدراسة

 تنطلق الدراسة من فرضية مفادها: (أنّ السياسات الحكومية تؤدّي دورًا فاعلاً ومؤثرًا، ينعكس مباشرةً على طبيعة الأداء الوظيفي للمؤسسة التشريعية في النظام السياسي البريطاني والعكس صحيح؛ الأمر الذي يخلق حالة من التباين في أداء المؤسّستين وعملهما ووظائفهما وهذا ما اتضح جليًا إزاء مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي أطلق عليها "البريكست").

رابعاً: منهجية الدراسة

 اقتضت الضرورة العلمية للتثبّت من صحّة الفرضية من عدمها، الاعتماد على أكثر من منهج من مناهج البحث العلمي وفي أكثر من موضع من مواضع الدراسة؛ لذلك اعتمدت الدراسة على منهج التحليل النظمي والمنهج البنائي– الوظيفي، في وصف موضوع الدراسة وتحليله. فمنهج التحليل النظمي، نسترشد به في تحديد طبيعة السياسات الحكومية المتبعة في النظام السياسي البريطاني، تجاه أزمة البريكست، التي مثلت تحدياً لقدرة النظام السياسي البريطاني في مواجهة الأزمات، التي من شأنها أن تعصف به داخلياً أو خارجياً، فضلاً عن أنّها شكلت نظاماً تتفاعل في إطاره مدخلات النظام السياسي ومخرجاته، إذ تحكم هذه السياسات عدة محدّدات، يأتي في مقدمتها الرأي العام البريطاني، وأحزاب المعارضة في البرلمان، وجزء من التيار المعارض في حزب المحافظين الحاكم، ومكانة النظام السياسي البريطاني على الصعيد الدولي والعالمي وعلاقته مع جواره الإقليمي، ولاسيما الدول المنضوية داخل الاتحاد الأوروبي. أما المنهج البنائي – الوظيفي، فقد استعانت به الدراسة من أجل تحليل أداء المؤسستين التشريعية والتنفيذية ووظائفهما ومهماتهما، بما تصدره من تشريعات وقرارات، وما تتبناه من سياسات تسهم في تخطي تلك الأزمة، وبناء علاقات سياسية واقتصادية وأمنية مع دول الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الحفاظ على تماسك المملكة المتحدة وعدم تعرض أجزائها للتفكك والانقسام داخليًا.

خامساً: نطاق الدراسة

 للدراسة نطاق موضوعيّ وآخر زمنيّ، يتحدّد النطاق الموضوعي بالتعرض للسياسات الحكومية وأثرها في الأداء الوظيفي للمؤسسة التشريعية، مع إشارة خاصة إلى مسألة البريكست لأنّها تشكل حجر الزاوية، فضلاً عن أبرز القضايا الرئيسة المتضمنة في البرامج الانتخابية والسياسية للأحزاب المعارضة والسياسات الحكومية البريطانية. أما النطاق الزمني، فإنه يتحدّد بدراسة السياسات الحكومية في المملكة المتحدة منذ الانتخابات التشريعية عام 2010م، مروراً بمسألة خروجها من الاتحاد الأوروبي التي أثيرت في العام 2016م، وانتهاءً بخروجها الفعليّ في بداية عام 2020م.

سادساً: هيكلية الدراسة

انتظمت الدراسة الموسومة (السياسات الحكومية وأثرها في الأداء الوظيفي لبرلمان المملكة المتحدة للمدة من (2010-2020) في أربعة فصول رئيسة، فضلاً عن المقدمة والخاتمة، ولكلّ فصل مبحثان، فقد جاء الفصل الأول تحت عنوان (السياسات الحكومية في عهد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون) ليتناول للسياسات الحكومية في ظّل الحكومة الائتلافية لعام 2010م، على أنّه مبحث أول والسياسات الحكومية في ظّل حكومة الأغلبية لعام 2015م على أنّه مبحث ثاني. وناقش الفصل الثاني (السياسات الحكومية في عهد رئيسة الوزراء تيريزا ماي)، فقد خصّص المبحث الأول لدراسة سياسات حكومة تيريزا ماي تجاه الاتحاد الأوروبي في مسألة البريكست في ظّل قرار المحكمة البريطانية العليا، بينما سلط الضوء في المبحث الثاني على سياسات حكومة تيريزا ماي بشأن البريكست في ظّل انتخابات عام 2017م.  

أما الفصل الثالث فقد خصّص للبحث في (السياسات الحكومية في عهد رئيس الوزراء بوريس جونسون)، ويتكون من مبحثين، إذ يوضح المبحث الأول سياسات بوريس جونسون قبل الانتخابات البرلمانية عام 2019م، في حين يركز المبحث الثاني في البرامج الانتخابية لانتخابات 2019م، وأثرها في رسم السياسات الحكومية.

بينما الفصل الرابع والأخير فقد تّم التطرّق فيه إلى (تأثيرات البريكست في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي)، فقد تضّمن المبحث الأول، تأثيرات البريكست في مستوى مقاطعات المملكة المتحدة، بينما كُرس المبحث الثاني لدراسة تأثيرات البريكست في مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي. 

الخاتمة

يمكن القول إن السياسات الحكومية والإداء الوظيفي للبرلمان في المملكة المتحدة يمكن أن يعبرا عن وجود تيارات واتجاهات فكرية وسياسية واجتماعية ودينية ومؤسسات ومدارس اقتصادية وقيادات سياسية تمارس تأثيراتها على صانعي ومنفذي السياسات الحكومية والبرلمانية على حد سواء، فضلاً عن العوامل المؤثرة عليهما والظروف المرافقة لهما ومخرجات تلك السياسات بشقيها التشريعي والتنفيذي وانعكاساتهما على الرأي العام البريطاني وطبيعة العلاقة بين مؤسسات النظام السياسي لاسيما المؤسستان التشريعية والتنفيذية وما للمؤسسة القضائية من دور في الحد من النزاع الذي حدث بين المؤسستين –التشريعية والتنفيذية- عبر ما أصدرته المؤسسة القضائية من قرارات باتة وملزمة لهما عبر محاكمها سواء المحاكم المحلية أو محاكم الاستئناف أو المحكمة البريطانية العليا.

لقد دفعنا هذا الأمر لمحاولة تَسليط الضوء عليه في دراستنا لهذا الموضوع من خلال التعرف على طبيعة السياسات الحكومية والأداء الوظيفي للبرلمان وعملية التفاعل فيما بينهما، وذلك من خلال حالات التعاون والتوازن بين الحكومة والبرلمان في الظروف الطبيعية والصراع والنزاع بين المؤسستين في الظروف الاستثنائية، ومحاولة استعراض أهم العقبات الدستورية والقانونية والسياسية والاقتصادية والجغرافية التي واجهت السياسات الحكومية وإداء البرلمان لوظائفه ورافقتهما قبل البدء بإجراءات انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وأثناء عملية الانسحاب، والتعرف على أبرز الدوافع التي أسهمت في الدعوة للاستفتاء وأسباب تبني التصويت لمصلحة الخروج من التكتل الأوروبي والانعكاسات التي خلفتها تلك العملية سواء على الصعيد الداخلي والخارجي للمملكة المتحدة أو على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي وطبيعة علاقة الاتحاد مع الدول الأعضاء، لذا حاولنا دراسة متغيرات هذه الدراسة عبر التطرق لثلاث رؤساء وزراء بريطانيين وخلال الحقبة الزمنية الممتدة منذ عام 2010م وحتى عام 2020م.

في ختام هذه الدراسة لابد لنا من طرح مجموعة من الاستنتاجات وهي على النحو الآتي:

أولاً: أنَّ السياسات الحكومية والإداء الوظيفي للبرلمان البريطاني في عهد رئيس الوزراء الأسبق (ديفيد كاميرون) لاسيما خلال حكومته الأولى منذ أيار 2010م, وحتى أيار 2015م تمحور حول ضرورة القيام بإجراء الاصلاح السياسي وذلك عبر تشريع قانون البرلمانات المحددة المدة الصادر عام 2011م، واللجوء للاستفتاء الشعبي حول شكل وطبيعة النظام الانتخابي المتبع في المملكة المتحدة، وهذا ما تم تأكيده ضمن برنامج الحكومة الائتلافية لعام 2010م، فلم تشهد الحكومات السابقة واللاحقة صدور مثل برنامج حكومي مشابه منذ قرابه أكثر من نصف قرن قبل تشكل حكومة 2010م، عبر التحالف بين حزب المحافظين بزعامة (ديفيد كاميرون) والحزب الديمقراطي الليبرالي بزعامة (نيك غلينك) آنذاك، وكانت الحكومات تكتفي بإصدار سياساتها وتوجهاتها وما تنوي القيام به إما من خلال البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية التي تطرحها في ظل حملاتها الانتخابية التي تجريها قبل إجراء الانتخابات التشريعية أو عبر خطابات الملكة الذي يُعلن فيها عن افتتاح الدورات البرلمانية حيث تأتي تلك الخطابات بناءً على توصيات من رئيس الوزراء في مختلف مجالات الحياة العامة كالرعاية الصحية والتعليم والنقل والمواصلات والضرائب والاصلاحات السياسية وغيرها.                   

ثانياً: أن السياسات الحكومية والأداء الوظيفي في ظل حكومة "ديفيد كاميرون" الثانية الممتدة منذ الفوز في الانتخابات التشريعية عام 2015م، وحتى ظهور نتائج الاستفتاء في 24 يونيو/حزيران عام 2016م، وما رافقتها من صراعات وحملات مؤيدة للانسحاب ومعارضة له قادتها أحزاب سياسية وتيارات وتوجهات فكرية منضوية داخل تلك الأحزاب غلبت على الحياة السياسية البريطانية وهيمنت على تصريحات وتوجهات وسياسات الحكومة والبرلمان البريطاني لاسيما بعد أن أصبحت مسألة الانسحاب من الاتحاد أمراً واقعاً بعد أن كان مجرد ورقة ضغط يستخدمها تيار اليمين داخل حزب المحافظين تم التعبير عنها بمواقف وسياسات انتهجتها الحكومات البريطانية المتعاقبة منذ رئيسة الوزراء الأسبق (مارغريت تاتشر) مروراً (بجون ميجور) وصولاً لــ(بوريس جونسون) من أجل الحصول على امتيازات إضافية أخرى للمملكة المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي على المستوى الخارجي وتحقيق لرغبات اليمين المتطرف المتصاعد على المستوى الداخلي المتمثل بحزب استقلال المملكة المتحدة بزعامة (نايغل فاراج) الذي لعب دوراً كبيراً وقاد حملة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وما أتبعه بعد ذلك عندما قام بتأسيس حزب سياسي جديد أطلق عليه اسم "حزب البريكست" خاض انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو/أيار عام 2019م وحصل على المركز الأول بالتفوق على أكبر الأحزاب البريطانية كحزب المحافظين وحزب العمال وغيرهما، كل تلك الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أسهمت بفشل سياسات (كاميرون) وقضت على طموحاته ووضعت حدا لها ودفعته للاستقالة على الرغم من حصوله على أغلبية برلمانية بعد انتخابات 2015م، على العكس مما كان عليه الحال في ظل حكومته الائتلافية التي شكلها بعد انتخابات 2010م. 

ثالثاً: أنَّ السمة البارزة التي أتسمت بها السياسات الحكومية في عهد رئيسة الوزراء السابقة (تيريزا ماي) هي الهشاشة والضعف، ويعود السبب في ذلك للعديد من العوامل من بينها موقف (ماي) الشخصي؛ فهي لم تعلن بشكل واضح وصريح وحاسم عن موقفها سواء بتأييد حملة الانسحاب أو مناصرة معسكر البقاء إبان الحملات التي تم الترويج لها قبل إجراء الاستفتاء يوم 23 يونيو/حزيران عام 2016م، هذا الأمر أنعكس بدوره على شعبيتها لدى الرأي العام البريطاني، وهذا ما يمكن أن نستدل به عبر خسارة حزب المحافظين لأغلبيته داخل مجلس العموم بعد إجراء الانتخابات المبكرة عام 2017م، ويعود أحد أهم أسباب خسارة (تيريزا ماي) أغلبيتها البرلمانية كونها كانت تتولى منصب وزير الداخلية في حكومتي كاميرون الائتلافية والأغلبية واتبعاها سياسات أمنية تعتمد على تقليل عناصر رجال الأمن والشرطة البريطانية، الأمر الذي سبب لها حرجا كبيرا بعد أن حدثت تفجيرات وعمليات إرهابية في العاصمة لندن قبل إجراء استفتاء البريكست بأيام قليلة، حيث عمل خصومها على تحميلها مسؤولية تلك الاضطرابات الأمنية. 

رابعاً: طغت على سياسات (تيريزا ماي) الحكومية صفة التناقض في اتباع القرارات والتوجهات لاسيما بخصوص البريكست؛ فقد أكدت في كثير من الأحيان على أنها لا تسعى للجوء للانتخابات المبكرة إلا أنها سرعان ما غيرت رأيها بهذا الشأن، فضلاً عن دخولها في صراعات مع البرلمان البريطاني؛ فهي كانت تسعى لتفعيل المادة (50) من معاهدة لشبونة لعام 2009م، من دون أخذ موافقة البرلمان لكنها فشلت في تلك المساعي، وذلك بعد صدور قرارين من قبل المحكمة الجزئية في إنكلترا وويلز والمحكمة البريطانية العليا ألزما حكومة (تيريزا ماي) بضرورة أخذ موافقة البرلمان البريطاني قبل إخطار المجلس الأوروبي برغبة المملكة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

خامساً: شهدت حقبة (تيريزا ماي) حالة من الصراع الكبير الذي حدث داخل تيارات حزب المحافظين خلال تولي (تيريزا ماي) رئاسة الوزراء بين تيار الوسط بقيادتها وتيار اليمين المتطرف بقيادة (بوريس جونسون)، فكلا التياران لم يتمكنا من حسم الصراع لتيار على حساب التيار الآخر، سواء داخل حزب المحافظين وقواعده الشعبية أو على مستوى الرأي العام البريطاني، كون تيريزا ماي كانت قد تمكنت من إقناع أبرز المتشددين بتولي وزارات في حكومتها من بينهم (بوريس جونسون) الذي تولى وزارة الخارجية و(ديفيد ديفيز) الذي تولى وزارة البريكست، واللذان استقالا فيما بعد من الحكومة وذلك بسبب عدم انسجامهما مع سياسات وتوجهات حكومة تيريزا ماي. 

سادساً: أن وصول (بوريس جونسون) لرئاسة الوزراء البريطانية وقيادته لها وانتهاجه لسياسات وسلوكيات وتصريحات ومواقف تمثل اليمين الشعبوي المتطرف، بعد أن تولى المنصب بناءً على انتصاره في انتخابات أجريت في يوليو/تموز عام 2019م، داخل حزب المحافظين وتنافسه مع (9) مرشحين أخرين كانوا يرمون للوصول لرئاسة الحكومة، أبرزهم وزير الخارجي السابق (جيرمي هانت) الذي يمثل تيار الوسط المعتدل داخل حزب المحافظين، شكَّل ذلك الوصول انتصاراً لتيار اليمن المتطرف على حساب تيار الوسط المعتدل داخل الحزب وجاء التأكيد على هذا الأمر عندما فاز حزب المحافظين وبفارق مقاعد كبير عن حزب العمال في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في 12 ديسمبر/كانون الأول عام 2019م، هذا الانتصار عزز وكرس تصاعد اليمين الشعبوي المتطرف على الحياة السياسية والحزبية البريطانية.

سابعاً: أن فوز (بوريس جونسون) في الانتخابات على مستوى انتخابات حزب المحافظين وعلى مستوى الانتخابات التشريعية البريطانية جاء بناءً على مجموعة من الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من بينها أزمة المهاجرين سواء القادمين من دول أوروبا الشرقية أو من دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وما شكلوه من عبء على العديد من القطاعات كالرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وفرص العمل والتعليم وغيرها، وقد شكل هذا الأمر استنزافا لموارد البلد الاقتصادية لا سيما في ظل تداعيات الأزمة المالية العالمية عام 2008م، وأزمة منطقة اليورو التي واجهها الاتحاد الأوروبي وما تسببت به من أضرار كبيرة للطبقة الوسطى وللطبقة العمالية داخل المجتمع البريطاني، فضلاً عن ذلك فشل السياسات الحكومية في عهد (ديفيد كاميرون وتيريزا ماي) في مواجهة تلك المشاكل وعدم قدرة هاتين الحكومتين على التصدي لهذه المشكلات أو الحد منها على أقل تقدير دفع المواطن البريطاني للتصويت لــ(بوريس جونسون) في انتخابات 2019م.        

ثامناً: نجاح تيار اليمين داخل حزب المحافظين بقيادة (بوريس جونسون) في توظيف كل السياسات الحكومية الفاشلة المتبعة من قبل رؤساء الوزراء السابقين وتحديداً (كاميرون وتيريزا ماي) الذين جاءوا قبل (بوريس جونسون)، وتدخل اللوبي الصهيوني بشكل مباشر في انتخابات 2019م، وانحيازه بشكل واضح لصالح (بوريس جونسون) عبر كبير الحاخامات (إفرايم ميرفيس) زعيم الجالية اليهودية في المملكة المتحدة، وقد أعلن في تصريحاته قبل الانتخابات التشريعية وبشكل صريح مهاجمته لحزب العمال وزعيمه (جيرمي كوربن) واتهامه بمعاداة السامية.     

تاسعاً: ضعف سياسات (جيرمي كوربن) واتباعه سياسات خاطئة وغير مجديه، تحديداً في البرنامج الانتخابي للحزب عام 2019م، الذي تم طرحه أثناء الحملة الانتخابية لحزب العمال، فضلاً عن ضعف شخصية كوربن وعدم تمتعه بالكاريزما القوية وفقدانه للتأثير على الرأي العام البريطاني، بالإضافة إلى موقفه من القضية الفلسطينية كونه يؤيد حل الدولتين ويرفض سياسات الاستيطان الصهيوني المتبعة.