التوازن بين السلطات في النظام الدستوري المغربي بين الوثيقة الدستورية لسنة 2011 والممارسة السياسية

(الجزيرة)

المقدمة

يتحدد الإشكال المركزي الذي تتناوله هذه الأطروحة في الوقوف عند تحليل أثر الإصلاح الدستوري في المملكة المغربية لسنة 2011 على العلاقة والتوازن بين السلطات الدستورية (الملك، البرلمان، الحكومة). ويتفرع عن هذا الإشكال العديد من الأسئلة الفرعية من قبيل:

- ما الذي يهيمن على نمط العلاقة بين الملك والحكومة والبرلمان، هل هو التعاون والتوازن والرقابة المتبادلة، أم هناك استمرار لمحورية المؤسسة الملكية وضعف لمنسوب استقلال البرلمان في علاقته مع الحكومة؟

 -بين من يكون التوازن؟ هل بين السلطة التشريعية وبين التنفيذية ومعهما الملك باعتباره رئيسا للدولة (الفصل 42)، أم أن الملك فوق التوازن باعتباره أميرا للمؤمنين (الفصل 41)؟  

- من الذي يمارس السلطة التنفيذية؟ وهل الملكية التنفيذية لم تبق فكرة مؤطرة للهندسة الدستورية لسنة 2011؟

-  هل الاختصاصات التي يمارسها المجلس الوزاري تبين سمو هذا الأخير على المجلس الحكومي الذي يعتبر أسمى مؤسسة تمثيلية منبثقة من صناديق الاقتراع؟ وهل تفوق المجلس الوزاري على المجلس الحكومي يؤثر على جوهر مبدأ الفصل بين السلط وتوازنها؟

 -هل السلطة التنفيذية مقسمة بين الملك وبين الحكومة دون أن يعني هذا التقسيم توازنا في السلط أو غيابا للعلاقة التراتبية؟

- هل دستور 2011 يقر "ملكية برلمانية" في شكلها ومظهرها، لكنها تنفيذية في جوهرها ومضمونها؟

 -هل أثرت الإصلاحات الدستورية لسنة 2011 على تقاليد الهندسة الدستورية المتسمة بالهيمنة الملكية وبتجذر تقاليد الإرث الدستوري لفلسفة العقلنة البرلمانية؟

-كيف تصورت المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية مفهوم العلاقة والتوازن بين السلطات في الوثيقة الدستورية؟

-هل التوازن في العلاقة بين السلطات (الملك، البرلمان، الحكومة) يبقى مرتبطا بطبيعة ما سيفرزه ميزان القوى على مستوى ممارسة وتنزيل الاختصاصات الدستورية الجديدة (2011) بين الحكومة في شخص رئيسها وبين البرلمان من جهة، والملك من جهة ثانية؟

- كيف يمكن قراءة النظام الدستوري المغربي، انطلاقا من توازن السلطات في الوثيقة الدستورية لـ 29 يوليو 2011؟ هل قراءة العلاقة والتوازن بين السلطات الدستورية (الملك، الحكومة، البرلمان) تبقى رهينة وخاضعة لمنطق اكتمال الكتلة الدستورية التي لا يمكن اختزالها في مجرد النص الدستوري، ولكن كذلك على مستوى ما تفرزه الممارسة الدستورية والقوانين التنظيمية والأعراف الدستورية، وكذا الاجتهادات القضائية الدستورية؟

خاتمة

عرف المسار الدستوري في المغرب تطورا على مستوى صياغة وبناء الميثاق الدستوري من حيث الشكل، وتحولا على مستوى ما يمكن تسميته- موضوعيا - بدستور توازن السلط، حيث يمكن تقسيم هذا المسار إلى ثلاث مراحل مترابطة ومتداخلة:

المرحلة الأولى: همت الدساتير المغربية الثلاثة، ( 14 ديسمبر 1962 ـ 31 يوليو 1970 ـ 10 مارس 1972)، وتركز الصراع والنقاش خلال هذه المراحل على مسطرة وضع الدستور، أو ما يعرف في الفقه الدستوري بالسلطة التأسيسية الأصلية؛ وهذا ما يعني أن جل الفرقاء السياسيين كانوا على وعي تام بأن طريقة وضع الدستور ستؤثر بشكل مباشر على توازن السلط وعلى طبيعة الصلاحيات الممنوحة لكافة السلطات، كما أن هذه المرحلة اتسمت بمواجهة ومجابهة جزء من أحزاب الحركة الوطنية لفكرة وضع الدستور من لدن المؤسسة الملكية، وبسيادة خطاب سياسي حزبي يركز على شعار النضال ضد ما يسمى بالنزعة المطلقة لدسترة الحكم الفردي، غير أن ما طبع الخطاب السياسي، بشكل عام، هو غياب معجم دستوري يميز بين نظام رئاسي وبين نظام برلماني.

ولقد تأثرت هذه المرحلة بالسياق الدولي، حيث تزامن الرهان على وضع أول دستور بالمغرب مع ولادة دستور الجمهورية الخامسة بفرنسا 1958، وبعد صدور الدستور التونسي لسنة 1959 ودستور الوحدة (باتحاد مصر وسوريا) لسنة 1958. كل ذلك أسهم في تنامي التوتر بين جزء من أحزاب الحركة الوطنية التي كانت تعبئ المجتمع لانتخاب جمعية تأسيسية من أجل وضع دستور، وبهدف تقييد سلطات الملك، في حين اعتبرت المؤسسة الملكية بأن فشل الأحزاب السياسية في إيجاد صيغة متوافق عليها لانتخاب مجلس تأسيسي مبرر لتملك المؤسسة الملكية لوضع الدستور.

انحصر التجاذب الذي وقع بين المؤسسة الملكية وجزء من أحزاب الحركة الوطنية، حول إشكال وضع الدستور دون أن يشمل الرهان حول الديمقراطية، وهذا ما يحيل إلى إشكال العلاقة بين الديمقراطية وبين الدستور، لذلك تركز الصراع حول التفكير في مسألة وضع الدستور بمعزل عن التفكير في التأسيس لديمقراطية النظام السياسي المبني على استمرار حكم السلطان الذي يزاوج بين الثنائية التقليدية والحديثة.

تبين مخرجات الدساتير المغربية الثلاثة ( 14 ديسمبر 1962 ـ 31 يوليو 1970 ـ 10 مارس 1972)، بأن المؤسس الدستوري (الجهة التي وضعت الميثاق الدستوري) تبنى نظاما دستوريا قريبا من دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة؛ خاصة في الشق المتعلق بتشابه صلاحيات الملك في النظام الدستوري المغربي مع صلاحيات رئيس الدولة في النظام الدستوري الفرنسي، حيث يبدو هذا الأخير أضعف من نظيره في المغرب لكون الملك يستمد سلطاته من النص الدستوري عبر الوراثة بالإضافة إلى البيعة، كما أنه غير خاضع للمساءلة بكافة مستوياتها سواء السياسية أو القانونية (الجنائية والمدنية). وفي المقابل، تتبوأ الحكومة -في النظام الدستوري المغربي- مرتبة وسطى؛ فهي تابعة للملك من حيث التعيين والإعفاء، وتتوفر على صلاحيات قوية توظفها للهيمنة على صلاحيات البرلمان.

ولا يكفي تحليل التوازن بين السلطات من خلال مخرجات الدساتير المغربية الثلاثة، وإنما من خلال الأخذ بعين الاعتبار مسألة الجوار والتساكن بين النص المدون وبين الأعراف السلطانية التي أضافت قوة نوعية للصلاحيات الدستورية الواسعة الممنوحة للملك، وهذا ما جعل هذا الأخير يوظف الآليات السلطانية والتاريخية المستمدة من إمارة المؤمنين لتطعيم النص الدستوري المدون، قصد ضبط المشهد السياسي وبهدف إعادة تنظيم وترتيب التوازنات السياسية.

من مفارقات النظام الدستوري المغربي هو كونه تأسس من حيث انتهى النظام الدستوري الفرنسي لسنة 1958 الذي انتقل من نظام برلماني إلى نظام شبه رئاسي، يتميز بتقوية رأس السلطة التنفيذية وبعقلنة وظيفة البرلمان، في حين انطلقت الدساتير المغربية الثلاثة من توسيع سلطات الملك وتقييد سلطات البرلمان وبهشاشة استقلالية الحكومة، الأمر الذي أثر، بشكل كبير، على ميزان التوازن بين السلطات.

وبالرغم من تواري  الاختلاف بين أنصار الجمعية التأسيسية المنتخبة ومؤيدي وضع الدستور من لدن المؤسسة الملكية خلال أول انتخابات تشريعية عرفها المغرب سنة 1963، فإن هذا الصراع انتقل إلى قبة البرلمان، وتجسد في تقديم أول ملتمس رقابة من قبل المعارضة البرلمانية التي عبرت عن سخطها عن التدبير الحكومي، حيث أسهمت الآليات الدستورية المعقلنة للبرلمان في فشل المعارضة البرلمانية في بلوغ النصاب القانوني المقرر لإسقاط الحكومة، غير أن استمرار التوتر بين الحكومة وبين المعارضة البرلمانية قاد بالمؤسسة الملكية إلى الإعلان عن حالة الاستثناء بالمغرب سنة 1965.

ولا شك أن لحظة صياغة دستوري 31 يوليو 1970 و10 مارس 1972، لم تختلف عن لحظة صياغة دستور 14 ديسمبر 1962 من حيث شكل مسطرة وضع الدستور، أما من حيث المضمون، فيعد دستور 31 يوليو 1970 أكثر تركيزا وتقوية لصلاحيات المؤسسة الملكية، كما فقدت الحكومة صلاحية ممارسة السلطة التنظيمية، وتراجع مجلس النواب من حيث التمثيلية الشعبية المنبثقة من الاقتراع العام المباشر، في حين تميز دستور 10 مارس 1972 بتوسيعه لسلطات الحكومة التي استعادت صلاحية ممارسة السلطة التنظيمية، وتوسعت، بشكل نسبي، تمثيلية مجلس النواب ودعم المشرع الدستوري مجال القانون قياسا مع دستور 31 يوليو 1970.

ومن خصائص هذه المرحلة بروز صراع حول مسطرة وضع الدستور، حيث يتجدد هذا الصراع كلما كانت الحاجة إلى وضع دستور جديد، كما أن هذا الصراع ينتهي بهيمنة المؤسسة الملكية على السلطة التأسيسية الأصلية، وبرفض جزء من أحزاب الحركة الوطنية المشاركة في التصويت لصالح مشروع الدستور.

هناك خاصية تطبع الدساتير الثلاثة ( 14 ديسمبر 1962 ـ 31 يوليو 1970 ـ 10 مارس 1972)، تتعلق باستمرار تفوق المؤسسة الملكية على باقي السلطات كظاهرة للإصلاحات الدستورية التي تمت في المغرب ما بين 1962 و1972، وأن الإصلاحات الدستورية تقدم جوابا عن توازن السلطات بمعزل عن المؤسسة الملكية؛ مما يعني أن الإصلاحات الدستورية مقتصرة على موضوع التوازن داخل العلاقة بين الحكومة وبين البرلمان.

وإلى جانب هذا كله، عرفت هذه المرحلة اختلالا على مستوى استقرار اشتغال عمل المؤسسات الدستورية، واللجوء إلى بعض المقتضيات الدستورية التي تم استثمارها من لدن المؤسسة الملكية وأثرت، بشكل كبير، على ميزان توازن السلط، حيث مارس الملك حالة الاستثناء التي امتدت لمدة 5 سنوات (1965 ــ 1970)، بالإضافة إلى ذلك، مارست المؤسسة الملكية -بقوة الدستور- الصلاحيات التي توفرها الفترات الانتقالية، التي استمرت 11 شهرا بالنسبة لدستور 14 ديسمبر 1962، وشهرين وتسعة أيام بالنسبة لدستور 31 يوليو 1970، وخمس سنوات وسبعة أشهر وثلاثة أيام بالنسبة لدستور 10 مارس 1972. وتمكنت المؤسسة الملكية خلال الفترات الانتقالية المذكورة من إصدار 1830 نص قانوني يهم كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ومن الطبيعي أن تؤثر الصلاحيات القوية والواسعة للمؤسسة الملكية على صلاحيات الحكومة التي ظلت تابعة للملك من حيث سندها وشرعيتها، مما جعل الحكومة مجرد أداة بيد الملك لتنفيذ استراتيجية الملك، كما عانت مؤسسة الحكومة من ظاهرة عدم الاستقرار الحكومي، حيث عرف النظام السياسي ما بين دخول دستور 14 ديسمبر 1962 و قبل دخول دستور 9 أكتوبر 1992 تغيرات حكومية وصلت إلى 13 حكومة (من الحكومة السابعة الممتدة ما بين 2 يونيو 1961 و 5 يناير 1963 إلى الحكومة التاسعة عشرة الممتدة ما بين 11 أبريل 1985 و 11 غشت 1992)، كل ذلك  أسهم في وأد الأعراف الدستورية ذات الصلة بالعمل الحكومي.

وقد عرفت المؤسسة البرلمانية المؤطرة بآليات دستورية جد معقلنة، أربع ولايات تشريعية في ظل الدساتير الثلاثة (14 ديسمبر 1962 ـ 31 يوليو 1970 ـ 10 مارس 1972)، غير أن ما طبع هذه الولايات هو عدم استقرارها، الشيء الذي انعكس على ضعف حصيلة العمل التشريعي والرقابي وجعل البرلمان مجرد مشرع استثنائي.

المرحلة الثانية: هذه المرحلة شملت دستوري 9 أكتوبر 1992 و7 أكتوبر 1996، حيث تأثرت هذه المرحلة بالسياق الدولي المرتبط بسقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين وتراجع المد اليساري كظاهرة شبه عالمية، وبالموازاة مع ذلك تحكم في هذه المرحلة خطاب سياسي مرن يعتمد على معجم حقوقي وحداثي مشبع بشعار الوحدة الترابية وإصلاح المسار الديمقراطي، ويؤمن بمقاربة المشاورات والحوار والتوافق والتراضي، وهو ما تم التعبير عنه من خلال أدبيات جزء من أحزاب الكتلة الديمقراطية بــ "الإشارات السياسية" أو "بخلق شروط الثقة".

لذلك، يظهر أن لحظة كتابة دساتير التسعينات (9 أكتوبر 1992 و7 أكتوبر 1996)، لم تنشغل بقضية الصراع حول المسطرة التأسيسية الأصلية كمدخل لتوزيع السلط، بقدر ما ركزت على مضمون الإصلاحات الدستورية المرتقبة في النص الدستوري، واتسمت هذه المرحلة بنهاية الصراع حول الثوابت الدستورية في مقابل التراضي السياسي حول الملكية وانتقال النقاش حول آفاق الانفتاح والتحديث دون التركيز على الضمانات الدستورية للتثبيت التناوب أو الانتقال الحكومي، وهذا ما يعني أن جزءا من أحزاب اليسار التي كانت فاعلة في مسار المفاوضات والمشاورات اعتبرت بأن المشاركة في الحكومة لا يتطلب بالضرورة نصا دستوريا متوازنا، بقدر ما يتطلب توفر مناخ للثقة بينها وبين المؤسسة الملكية، كل ذلك جعل جزئيات تقاسم السلطة على مستوى النص الدستوري غير مفكر فيه لحظة ولادة دساتير التسعينات.

هذه التحولات السياسية اقتصرت على وضعية مسطرة الدستور، وهمت مسألة إدماج البعد الحقوقي ودولة القانون ضمن الوثيقة الدستورية، غير أن الإصلاحات الدستورية لسنوات التسعينات ظلت وفية للخصائص المميزة للدساتير المغربية الثلاثة( 14 ديسمبر 1962 ـ 31 يوليو 1970 ـ 10 مارس 1972)، المتعلقة باستمرار ظاهرة العقلنة البرلمانية كثابت دستوري لجميع الإصلاحات الدستورية، بالإضافة إلى أن المسألة الدستورية تقدم جوابا لموضوع التوازن بمعزل عن تقليص صلاحيات المؤسسة الملكية؛ (باستثناء التقييد الجزئي المتعلق بتعيين الملك لأعضاء الحكومة باقتراح من الوزير الأول طبقا للفصل 24 من دستور 9 أكتوبر 1992 وتحديد أجل لإصدار القانون استنادا للفصل 26 من  الدستور نفسه، بالإضافة إلى إلغاء تدبير الملك لممارسة الصلاحيات الانتقالية منذ دستور 7 أكتوبر 1996).

الإصلاحات الدستورية لدساتير التسعينات (9 أكتوبر 1992 و7 أكتوبر 1996)، لم تستطع خلخلة الإرث الدستوري والسياسي القائم على مركزية المؤسسة الملكية وعلى نظام العقلنة البرلمانية، وهو ما جعل سؤال التوازن بين السلط منحصرا فيما يسميه الفقه الدستوري المغربي "الطابق السفلى" من البناء الدستوري (نمط العلاقة بين الحكومة وبين البرلمان) دون أن يشمل عقلنة وتلجيم الطابق العلوي من الوثيقة الدستورية، كما أن النظام السياسي راكم العديد من الأعراف والتقاليد المستمدة من إمارة المؤمنين كتجسيد للدستور الضمني أو الخفي.

ويمكن الإشارة، في هذا السياق، إلى أن دساتير التسعينات (9 أكتوبر 1992 و7 أكتوبر 1996) تميزت بقدرة البرلمان على ضمان استمراريته واستقراره، حيث عرف أربع ولايات تشريعية، واحدة منها بنظام الغرفة الواحدة (الولاية التشريعية الخامسة 1993 ــ 1997)، وثلاث ولايات تشريعية بنظام الغرفتين أو ما يصطلح عليه بنظام الثنائية المجلسية،( الولاية التشريعية السادسة 1998 ــ 2002)،(الولاية التشريعية السابعة 2002 ــ 2007)،(الولاية التشريعية الثامنة 2007 ــ 2011)، وخلال هذه المرحلة أسهم البرلمان في مناقشة وتجويد جزء كبير من النصوص القانونية المعروضة عليه قصد التصويت، غير أن القاعدة العامة من هذه النصوص هي بمبادرة حكومية، مما يجعل  البرلمان، من حيث المبادرة التشريعية، مجرد مشرع استثنائي.

وفي مجال المراقبة البرلمانية للحكومة، يسجل الإسهام الواضح للبرلمان في مجال الأسئلة بكافة مستوياتها، الشيء الذي يفسر بأنه أضحى حلبة لنقل صوت المجتمع، دون أن يجسد هذا الصوت أو يترجم عبر آليات الرقابة المثيرة للمسؤولية السياسية للحكومة، كما أسهم الإطار الدستوري المعقلن في تلجيم وتقييد الأقلية البرلمانية المكبلة "بأصفاد" العقلنة البرلمانية.

وبالرغم من استمرار هيمنة الحكومة على المسطرة التشريعية وعلى الأدوات الرقابية للبرلمان بسبب آليات العقلنة البرلمانية، فإن دساتير التسعينات لم تحسم مع فكرة انبثاق الحكومة من صناديق الاقتراع، ولم تؤسس لقاعدة الحكومة السياسية المنتخبة الحكومة، بالإضافة إلى ذلك ظلت الحكومة تابعة للمؤسسة الملكية، مكبلة بحدود دستورية تجعل الاختصاصات التنفيذية مركزة في مجال المؤسسة الملكية، على اعتبار أن الملك هو القائد الأساس والجوهري للسلطة التنفيذية، وأن الحكومة مجرد جهاز أو وحدة تعمل على تنفيذ السياسة العامة للملك، لذلك فالحكومة غير قادرة على تنفيذ برنامجها الحكومي باستقلالية كاملة عن المؤسسة الملكية.

ودشنت دساتير التسعينات (9 أكتوبر 1992 و7 أكتوبر 1996) قضاء دستوريا مستقلا عن المجلس الأعلى، عبر التأسيس للمجلس الدستوري الذي راكم العديد من القرارات من حيث الكم، وجعلته يشكل مدرسة حديثة قياسا بالأنظمة العربية والإفريقية، إلا أن اجتهادات القضاء الدستوري ظلت منحازة للسلطة التنفيذية، وعكست الاختلال الدستوري على مستوى توازن السلط، وحرص المجلس الدستوري في كثير من قراراته على حماية المجال التنظيمي على حساب مجال القانون.

عجز الجواب الدستوري الذي قدمته دساتير التسعينات (9 أكتوبر 1992 و7 أكتوبر 1996) عن تقوية صلاحيات البرلمان وتأهيل اختصاصات الحكومة، واقتصر، فقط، على فتح بعض المنافذ البرلمانية داخل نمط العلاقة بين البرلمان وبين الحكومة، وحافظ على الأسس «الرئاسية» للنظام الدستوري المغربي في علاقة المؤسسة الملكية بالبرلمان والحكومة، وهذا ما يعني أن المشرع الدستوري يسعى إلى تكريس توازن دستوري بنفحة برلمانية في الطابق السفلي، في حين حصن موضوع التوزان المتعلق بالطابق العلوي المسيج بآليات النظام الرئاسي.

المرحلة الثالثة: انطلقت مع دستور 29 يوليوز 2011، وتأثرت بالسياق الإقليمي الذي عُرف إعلاميا بــ "الربيع العربي"، ولعل ما ميز هذه المرحلة، هو ما يمكن تسميته بعمومية الطلب الدستوري، حيث انتقلت المسألة الدستورية من معادلة المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية إلى معادلة دمقرطة القضية الدستورية التي أضحت في قلب النقاش العمومي وضمن أجندة القاعدة الاجتماعية، وهذا ما يعني انفتاح معادلة الإصلاح الدستوري على فاعلين جدد في طليعتهم المجتمع المدني والنقابات المهنية والحركات الاجتماعية، بالإضافة إلى جزء من الصحافة المستقلة عن الأحزاب السياسية.

لحظة صياغة دستور 2011، خلقت نوعا من الارتداد على الصيغة والكيفية التي مرت منها المشاورات والمفاوضات الثنائية ـــ بين المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية ــ الممهدة لانبثاق دساتير التسعينات (9 أكتوبر 1992 و7 أكتوبر 1996)، وطرحت لحظة ولادة دستور 2011 مجموعة من التقاطبات المتباينة المؤطرة بخلفيات إيديولوجية شبه متناقضة، حيث هناك من أعاد مطلب الجمعية التأسيسية كسؤال مركزي، وهناك من تفاعل مع العرض الملكي الذي جسده خطاب 9 مارس 2011 بشكل يقترب من ثقافة المذكرات السياسية.

حضور المسألة الدستورية داخل النقاش العمومي الموسوم بمتابعة إعلامية ومجتمعية غير مسبوقة، جعل المطلب الدستوري المجتمعي يجمع بين الطابق العلوي وبين السفلي للبناء الدستوري، وهو ما عبرت عنه الشعارات التي رفعت في مسيرات 20 فبراير برهان تحقيق "الملكية البرلمانية"، وهذا ما يعني أن موضوع التوازن بين السلط لم يبق يفرق بين المجال المحصن للمؤسسة الملكية وبين المجال المفتوح القابل للتعديل المتعلق بباقي المؤسسات الدستورية الأخرى.

مطلب "الملكية البرلمانية" كخطاب للساحة العمومية وكتعبير سياسي لجزء من الأدبيات السياسية لبعض الأحزاب السياسية خاصة ذات المرجعية اليسارية، يُقصد به في الفقه الدستوري المقارن بالنظام البرلماني الذي يعبر عن رفض مجتمعي للنظام الدستوري في صيغته «الرئاسية» التنفيذية "المتطرفة"، مما يفسر بأن الطابق العلوي هو الجهة الدستورية المعنية بسؤال الإصلاحات الدستوري لسنة 2011.

الوثيقة الدستورية لـ 29 يوليوز 2011 ليست وثيقة للانتقال الديمقراطي، وإنما هي ميثاق لتدبير الفعل الاحتجاجي، يعبر عن موازين القوى التي أفرزتها التحولات المجتمعية، جعلت من الإصلاح الدستوري مطلبا مهيكلا، لذلك بخلاف مرحلة التسعينات التي شابها نوع من الغموض على مستوى توازن السلط وتقليص سلطة الملك، وتوجيه الخطاب الحزبي صوب الإصلاح السياسي المبني على شفافية العملية الانتخابية وخلق مناخ الثقة والانتقال الديمقراطي.

ركزت مرحلة سنة 2011 على تفاصيل وجزئيات العناصر الدستورية لتقاسم السلطة لتجاوز المبررات الدستورية والسياسية التي جعلت النظام السياسي في سنة 2002 ينزاح عن ما يعرف لدى الأدبيات الحزبية "بالمنهجية الديمقراطية".

توسع الطلب المجتمعي وارتفاع سقف الإصلاح الدستوري المؤطر بمطلب "الملكية البرلمانية"، فَرض على الدولة أن تُقدم عرضا سياسيا يسمح بإصلاح دستوري شامل دون اختزال الطابق العلوي الذي أضحى موطن إصلاح وتعديل دستوري إلى جانب المؤسسات الدستورية الأخرى.

ولعل السمة البارزة التي وسمت مسار إعداد دستور 2011، تتعلق ب التي اعتمدتها اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، حيث تفاعلت مع جميع المكونات السياسية والمجتمعية التي قدمت تصوراتها واقتراحاتها في مجال الإصلاح الدستوري، غير أن هذه  بالرغم من أهميتها، فإن انفتاحها على كافة الأطراف والفرقاء أغرق أجندة الإصلاح الدستوري بمجموعة من الاقتراحات والمطالب الدستورية المتضخمة، بما فيها المطالب التي لا علاقة لها بالنص الدستوري، بالإضافة إلى ذلك، ف جعلت المطالب الدستورية تسقط في إشكال الانقسامية والتشتت والتباين أحيانا، وتنزاح عن السؤال المركزي المرتبط بمطلب "الملكية البرلمانية" كشعار مهيكل للساحة المجتمعية.

هذه التباينات والتقاطبات التي عبرت عنها الأحزاب السياسية والنقابات المهنية وبعض جمعيات المجتمع المدني في مذكراتها المرفوع إلى اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، سمحت للمشرع الدستوري بأن يقدم جوابا للتوازن بين السلطات من خلال إصلاح قوي للطابق السفلي وإصلاح حذر ومحتشم للطابق العلوي للنص الدستوري.

ما بين لحظة بداية توسع الفعل الاحتجاجي السنة 2011 المنادي بفكرة الملكية البرلمانية، ومرورا بالعرض السياسي الذي قدمه خطاب 9مارس 2011، وانتهاء بخطاب 17 يونيو 2011 الذي قدم مشروع الدستور بعد نهاية أشغال اللجنة الاستشارية لمرجعة الدستور، اتضح أن روح وفلسفة المشرع الدستوري تجر في حمولتها عناصر النظام البرلماني، ولأجل ذلك فضل المشرع الدستوري صياغة دستوري شكلي وجامد(صلب) غير مكتمل في مضمونه، ويحتاج لصدور القوانين التنظيمية والعادية من أجل توضيح إشكال توزيع السلط.

ومن هذا المنطلق، فصياغة دستور 2011 والنقاش العمومي الذي رافق ولادته تأثر بالسياق الإقليمي المشبع بالنفس الاحتجاجي الحالم بالتحرر والديمقراطية وبالرفض المجتمعي للأنظمة «الرئاسية»، في حين صدرت القوانين التنظيمية في سياق مخالف يتسم بتعثر بعض التجارب العربية وسقوطها في تطاحنات مسلحة داخليا (اليمن ــ سوريا ــ ليبيا) وغموض النموذجين (التونسي والمصري)، كل ذلك جعل المشرع العادي يصوغ القوانين التنظيمية بنفس رئاسي مخالف للفلسفة البرلمانية التي زرعت في دستور 2011.

من مفارقات دستور 2011، أنه كتب من لدن مشرعين في سياقين متناقضين؛ مشرع تأسيسي كتب وثيقة دستور 2011 في سياق ذي نفس برلماني؛ يتغذى بخطاب سياسي يرفع شعار "الربيع الديمقراطي"، ومشرع عادي صاغ القوانين التنظيمية والعادية في سياق سياسي يقوم على فشل الفعل الاحتجاجي وبرفع شعار "الخريف العربي".

ولقد أثرت هذه السياقات المتناقضة في توصيف طبيعة النظام الدستوري المغربي، فبالرغم من الإقرار الدستوري لبرلمانية نظام الحكم الذي تضمنه الفصل الأول من دستور 2011، الذي ينص في فقرته الأولى على أن نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية، فإن القراءة الأفقية للوثيقة الدستورية تفيد بأن المشرع الدستوري كرس نظاما رئاسيا في علاقة المؤسسة الملكية بالحكومة والبرلمان، وأسس نظاما برلمانيا في مسألة انبثاق مؤسسة رئاسة الحكومة من الحزب المتصدر لأعضاء مجلس النواب، وتنصيب هذا الأخير للحكومة، وهذا ما يعني أن العلاقة بين البرلمان وبين الحكومة مؤطرة بآليات النظام البرلماني المعقلن.

تتجلى مظاهر التوازن بين السلطات، في ظل دستور 2011، من خلال التقليص من سلطات الملك في بعض المجالات، وهو ما تم التعبير عنه بالإصلاح الدستوري الحذر للطابق العلوي، حيث خضعت السلطة التنفيذية للمؤسسة الملكية لتقييد جزئي تمثل في غل يد الملك في تعيين رئيس الحكومة، وأضحى التعيين الملكي لرئيس الحكومة  من الحزب الحاصل على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية بمثابة تعيين رمزي وشكلي، كما أن مسطرة تشكيل الحكومة غدت - في جزء منها- تحت تأثير رئيس الحكومة الذي يتوفر على هامش من السلطة في اختيار الأحزاب التي يرغب في التحالف معها، بالإضافة إلى سلطته في اقتراح الوزراء على الملك، وسلطته في التوقيع بالعطف على ظهير تعيين أعضاء الحكومة، كما يمكن أن يؤثر على حزبه المتصدر لكي يصوت على الحكومة لحظة تنصيبها من لدن مجلس النواب. وفي المقابل، لم تبق مسألة إعفاء الوزراء حكرا على الملك الذي أصبح ملزما باستشارة رئيس الحكومة قبل إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة، ويمكن لرئيس الحكومة أن يطلب من الملك إعفاء عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة، إما بمبادرة منه أو بناء على استقالتهم الفردية أو الجماعية.

شكلت مسألة توزيع وتوازن الصلاحيات المتعلقة بالتعيينات في المناصب العليا ذات الصبغة المدنية اختبارا لمدى وفاء المشرع العادي لفلسفة المشرع الدستوري، وطرحت قضية "الاستراتيجية" نقاشا حادا داخل البرلمان وخارجه، بعد أن بلور القضاء الدستوري تصوره حيال مفهوم "الاستراتيجية"، فمن الناحية الكمية أضحت تتفوق الحكومة على الملك في عدد التعيينات التي تفوق أكثر من 1840 منصبا، في حين تتميز المؤسسة الملكية بتفوقها النوعي والاستراتيجي على التعيينات التي يمكن وصفها بالحيوية والتي تصل إلى قرابة 50 منصبا.

كما يسجل تفاوت فيما يتعلق بالتعيينات الخاصة بالمؤسسات والمجالس والهيئات الدستورية، فهناك بعض المجالس والهيئات التي تتفوق فيها التعيينات الملكية، وهناك مجالس تتفوق فيها الحكومة، وهناك بعض المجالس والهيئات التي تعكس نوعا من ضمان الحد الأدنى من التوازن بين الشخصيات التي تعين من لدن الملك والشخصيات التي تقترح من لدن الحكومة والبرلمان، في حين حصن المشرع المناصب العسكرية والدينية، وجعلها من المجالات المحجوزة للمؤسسة الملكية.

وتعد الصلاحيات التشريعية الملكية من المجالات التي خضعت لتقييد شبه شامل، حيث أصبح الملك يملك صلاحية التشريع، بقوة الدستور، في المجال الديني، وفي جزء من المجال العسكري، وأضحى البرلمان كأصل عام يحتكر السلطة التشريعية من حيث المبادرة في اقتراح القوانين، كما فتح المشرع الدستوري الباب للحكومة لتشرع إلى جانب البرلمان من خلال مشاريع قوانين، غير أن العقلنة البرلمانية مكنت الحكومة من تذويب المبادرات التشريعية البرلمانية، كما أن الممارسة العملية جعلت الحكومة تستأثر بالمبادرة التشريعية بسبب هيمنة الحكومة على أغلبيتها داخل مجلس النواب.

وأظهرت الممارسة العملية- خاصة في الولاية التشريعية التاسعة (2012 ــ 2016)- ضعف وتراجع تأثير الخطب الملكية المتعلقة بافتتاح الدورات التشريعية على توجهات البرلمان والحكومة، وهو ما يقود إلى تحول كبير على مستوى استقلالية المشرع في تحديد التوجهات التشريعية الكبرى.

هناك بعض الصلاحيات الملكية التي ظلت محصنة وتحمل في طياتها عمق التجذر الرئاسي للنظام الدستوري المغربي، ويتعلق الأمر بالسلطات التقديرية الدستورية غير المقيدة على مستوى النص الدستوري (السلطة التقديرية في الإعلان عن حالة الاستثناء، السلطة التقديرية في حل البرلمان أو أحد مجلسيه، السلطة التقديرية في إعفاء بعض أعضاء الحكومة، السلطة التقديرية في قبول الوزراء المقترحين من لدن رئيس الحكومة، السلطة التقديرية في تعيين رؤساء وأعضاء المجالس والمؤسسات والهيئات المنصوص عليها في الدستور دون التقيد بأجل دستوري معين، السلطة التقديرية في عقد الاجتماعات التي يترأسها الملك، كالمجلس العلمي والمجلس الوزاري والمجلس الأعلى للأمن، بالإضافة إلى السلطة التقديرية لعقد جلسات العمل ودعوة بعض الوزراء لحضور أشغالها).

تضمن دستور 2011 تمييزا بين الصلاحية الدينية للملك باعتباره أمير للمؤمنين وبين الصلاحيات الدستورية للملك باعتباره رئيسا للدولة، فإنه من الناحية العملية يتعذر فصل المجالين المتداخلين؛ كما أن الفصل 42 من الدستور ذاته أحدث مفاهيم جديدة قابلة للتأويل وللتفسير ــ(...الحكم الأسمى بين المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة) ــ أكثر من المقتضى الذي كان ينص عليه الفصل 19 من دستور 7 أكتوبر 1996.

وفيما يتعلق بالممارسة السياسية العملية، أتضح من خلال المرحلة التي شملتها الأطروحة ما بين دخول دستور 2011 حيز التنفيذ ونهاية سنة 2018، أن المؤسسة الملكية احترمت بنود الدستور خاصة الشق التشريعي، غير أن الشق التنفيذي قد عرف بعض الانزلاقات عن فلسفة روح الدستور وخاصة في بعض القضايا المتعلقة بعقد أول جلسة عمل سنة 2012 بدون حضور رئيس الحكومة، كما خلقت مسألة إعفاء رئيس الحكومة بعد تعذر تشكيل الحكومة المنبثقة عن تشريعيات 2016، جدلا داخل الفقه الدستوري؛ بين توجه يعتبر بأن المؤسسة الملكية تتوفر على العديد من الاختيارات التي يتضمنها النص الدستوري لإعفاء رئيس الحكومة، في حين ذهب الاتجاه الثاني إلى اعتبار هذا الإجراء يبتعد عن منطوق الدستور.

لقد شكل دستور 2011 أحد المقومات القوية لتدعيم مؤسسة الحكومة، من خلال انبثاق الحكومة من صناديق الاقتراع، وضرورة تنصيب الحكومة من لدن البرلمان، غير أن المشرع الدستوري لم يحسم في مسألة الحكومة السياسية واقتصر فقط على شرط رئيس الحكومة من الحزب المتصدر الذي أضحى يستمد شرعيته من العملية الانتخابية، وهذا ما يعني، بمفهوم المخالفة، أن باقي الوزراء غير متوفر فيهم شرط الانتماء الحزبي، مما أتاح فرصة لاستمرار الوزراء غير المنتمين داخل التشكيلات الحكومية المتعاقبة بعد دستور 2011.

تطورت الوثيقة الدستورية في تجاه مأسسة المجلس الحكومي وتوضيح اختصاصاته والتنصيص على ضرورة صدور قانون تنظيمي يحدد القواعد المتعلقة بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها. كما مكن المشرع الحكومة من صلاحيات التعيين في بعض المناصب العليا داخل المجلس الحكومي.

خلال الولاية التشريعية التاسعة (2012 ــ 2016)، باعتبارها ولاية "تأسيسية" مكملة للجزء "الثاني" من الدستور، طرح سؤال مركزي يتعلق بتفعيل وتنزيل القوانين التنظيمية والعادية المتممة للدستور، وظل سؤال الانضباط لفلسفة وثيقة الدستور (روح النظام البرلماني) حاضرا في النقاش العمومي المطبوع بمتابعة إعلامية ومجتمعية لكل تفاصيل وجزئيات الفعل الحكومي والبرلماني.

وحظيت مؤسسة رئيس الحكومة لنقاش كبير خاصة في مرحلة النقاش العمومي الذي واكب التصويت على دستور 2011، بفعل أن تدعيم صلاحيات هذه المؤسسة تشكل استجابة للمطالب الحزبية المرفوعة قبل سنة 2011، كما أن تقوية صلاحيات رئيس الحكومة تشكل مدخلا جوهريا لتكريس  (مطلب الملكية البرلمانية) ــ النظام البرلماني.

حمل دستور 29 يوليوز 2011 مستجدات عدة بخصوص دور رئيس الحكومة جسدت توجها دستورية لإحداث نوع من التوازن داخل طرفي السلطة التنفيذية، لكن الممارسة العملية أظهرت بأن رئيس الحكومة (كشخص) يعتقد أن ممارسة صلاحياته الدستورية من شأنها التقليص والمساس بمجال الملك؛ ويعتبر رئيس الحكومة أن بناء الثقة مع المؤسسة الملكية منطلق من خطابه وصلاحياته، وهو ما فتح المجال لاستمرارية الدستور غير المدون المشبع بالتقاليد «الرئاسية».

يسهم نمط الاقتراع في إضعاف رئيس الحكومة الذي يبقى دائما خاضعا لطبيعة التحالفات التي تتحكم في مصير الأغلبية الحكومة ولضغوط القوى السياسية في المغرب (وكنموذج على ذلك الصراع الذي وقع يين رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران وبين التحالف الرباعي)، مما يؤثر على تركيبة الحكومة وعلى تناقض مكوناتها التي تضم أحزابا غير منسجمة على مستوى بناء البرنامج الحكومي وصياغة السياسات العمومية.

عزز الإطار الدستوري صلاحيات البرلمان كمدخل للتوازن بين السلطات، من خلال توسيع النسبي لمجال القانون ودسترة التنصيب البرلماني (مجلس النواب) للحكومي، وحصر دوراته في دورتين في السنة، وتخصيص يوم واحد على الأقل في الشهر لدراسة مقترحات القوانين، ومن بينها تلك المقدمة من قبل المعارضة. واستشعارا من المشرع بثقل الشروط المتعلقة بتقديم ملتمس الرقابة، فإنه خفض من النصاب القانوني المتعلق بتقديم ملتمس الرقابة، حيث اشترط توفر توقيع خمس أعضاء مجلس النواب، بدل توقيع ربع أعضاء المجلس في دستوري 1992 و1996، غير أن المشرع حافظ على نفس الشروط المتعلقة بالموافقة النهائية على الملتمس، كما عمل المشرع الدستوري على التخفيف من النصاب القانوني المتعلق بتشكيل لجان نيابية لتقصي الحقائق، والنصاب القانوني لطعن في دستورية القوانين العادية، إتاحة الإمكانية للبرلمان في مراقبة دستورية الالتزامات الدولية.

هذا التعزيز الدستوري لمكانة البرلمان لا يوازيه تعزيز على مستوى الممارسة العملية، وبينت الممارسة التطبيقية خلال الولاية التشريعية التاسعة (2012 ــ 2016) عن استمرار "أطروحة البرلمان مشرع استثنائي"، حيث صادق البرلمان على 21 قانون فقط بمبادرة برلمانية، في حين صادق البرلمان على 340 قانون بمبادرة حكومية، ولا شك أن هذه الحصيلة تعكس بشكل جلي حجم الضعف البرلماني في الشق المتعلق بالمبادرة التشريعية، الأمر الذي يوضح ترسخ آليات العقلنة البرلمانية بالرغم من التصحيحات الدستورية لهذه العقلنة "شبه المتطرفة".

ولعل المفارقة التي ميزت العمل البرلماني تلك المتعلقة بالتصاعد الكبير لعدد الأسئلة خاصة الشفوية، وهذا ما يبرز قوة العمل البرلماني في نقل القضايا المجتمعية إلى حلبة النقاش العمومي، إلا أن هذا الارتفاع الكمي لا يحظى بتجاوب حكومي، حيث لا تلتزم الحكومة بالإجابة عن الأسئلة البرلمانية داخل الأجل الدستوري (20 يوما).

ولا بد، في هذا السياق، من التذكير بأن دستور 2011 حرص على الاعتراف بحقوق المعارضة، غير أن النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان أبانا عن الحدود الموضوعية في ترجمة وتجسيد الحقوق الخاصة للمعارضة، وهو السؤال نفسه الذي واجه القضاء الدستوري المغربي الذي بلور اجتهادا مترددا في الاعتراف بالحقوق أو المكانة الخاصة للمعارضة.

إن توسيع الكتلة الدستورية المرتبطة بالقوانين التنظيمية أتاح فرصة تأسيسية لانخراط القضاء الدستوري في توضيح خطاطة توزيع السلط وتوازنها، حيث أظهرت الممارسة الحدود الموضوعية لتدخل القضاء الدستوري لإنهاء الصراع حول إشكال التأويل، كما بينت الممارسة العملية انزياح القضاء الدستوري صوب التأويل الرئاسي على حساب التأويل البرلماني لحظة فحصه لبعض القوانين التنظيمية.

وبناء على ما تقدم، يمكن القول بأن دستور 2011 عمل على التخفيف من ظاهرة اللاتوازن بين الصلاحيات الدستورية التي طبعت الدساتير السابقة التي تميزت بالحضور المركزي للمؤسسة الملكية، وإذا كانت هذه الأخيرة قد عرفت تقييدا لبعض صلاحياتها، فإن الوثيقة الدستورية لسنة 2011 عملت على تقوية صلاحيات البرلمان والحكومة، عبر ترحيل وتحويل جزء من الصلاحيات الدستورية  من خانة المؤسسة الملكية إلى خانة الحكومة والبرلمان، مما يعني أن دستور 2011 ذهب في اتجاه تحقيق توزيع جيد بين السلط لا يصل إلى درجة التوازن الحقيقي بالمنطق الرياضي.

للاطلاع على نص الأطروحة (اضغط هنا).

الآراء الواردة في الأطروحة تمثِّل صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي مركز الجزيرة للدراسات.

ABOUT THE AUTHOR