المقدمة
شهد العالم منذ بداية الخليقة صراعات بين بني البشر، إذ كانت تتحول الخلافات الثنائية بين الأفراد إلى إثارة نعرات قبلية، فهجمات منظمة، أو مواجهات مسلحة تفوق في حجمها وأهميتها سبب الصراع ومنشأه، وقد تمتد إلى إثارة أطراف أخرى، عبر إقامة التحالفات والاستقواء بمن يمتلك العتاد والعدّة، فتصير تلك الخلافات المحدودة بين الأشخاص إلى حروب طاحنة بين كيانات وحتى بين دول. وقد تمتد هذه الصراعات لآماد ليست بالقصيرة، وقد تتسع رقعتها الجغرافية، مثلما قد تتعدى آثارها وخسائرها الضحايا من البشر، إلى التأثير السلبي على مصادر المياه والأراضي الزراعية والغطاء النباتي، وإلى التدمير المتعمد للمساكن وللممتلكات الثابتة والمنقولة.
ومثلما تدفع الغريزة البشرية النزاعة إلى الاختلاف والتآمر، لتصل إلى التصارع والتقاتل والتدمير، على اعتبار أن البشر هو "مصدر الشر المتمثل في الحرب" على حد تعبير "كينيت والتز"، تدافع الحكمة أيا كان مصدرها، بشريا أو سماويا، على الجنوح إلى السلم والصفح والتسامح وتجاوز الخلافات، وعلى تغليب نور العقل والتبصر والنظر إلى مآلات الحروب وعواقبها الوخيمة، بدل الاحتكام إلى نار العواطف الشخصية والنعرات القبلية والمذهبية، المؤدية حتما إلى الهلاك والدمار والخراب، بالنسبة للأفراد وللمنشآت على حد سواء.
لقد صار من المستحيل اجتثاث الحروب والنزاعات المسلحة كأحد الحلول غير الودية، والتي صارت معطى ثابتا في العلاقات بين الكيانات والدول، باعتبارها إحدى أقصر الطرق لحل المنازعات، إذ أنه حسب "موريس توريلي"، في 3400 سنة من التاريخ البشري المعروف، لم تنعم البشرية بالسلام إلا في 250 عاما فقط، حسب "موريس توريلي". ولما كانت الوضعية الدولية على مثل هذه الشاكلة، فإنه كان من الواجب على العقلاء، من الأفراد والهيئات، ابتداع آليات مبتكرة قصد التخفيف من أضرار هذه الأعمال العدائية.
وقد تكمن وراء هذه الصراعات والحروب أسباب تتعلق بالرغبة في بسط السيطرة والنفوذ، وإخضاع المناطق وتوسيع الممتلكات، وخاصة تلك المناطق التي تزخر بخيرات الأرض المكشوفة أو الباطنية. وقد شكلت هذه الأخيرة، على مر التاريخ، مطمعا للمتطلعين إلى امتلاك أسباب القوة والتفوق، فانتقل اللجوء إلى الأعمال العسكرية من مجال ردود الأفعال الشخصية والجماعية إلى مجال الفعل وأخذ زمام المبادرة، وذلك قصد إخضاع المناطق الغنية بثرواتها الطبيعية والثقافية، والاستفادة من عائدات المناطق البعيدة المستكشفة.
وإذا تم الجزم باستحالة فصل الإنسان عن البيئة التي يعيش فيها، والموارد الطبيعية التي يستفيد منها، والممتلكات الثقافية التي يحوزها، وذلك تيسيرا لأسباب عيشه الكريم، فإن آثار النزاعات والحروب لم تعد مقتصرة على قتل المزيد من الأفراد وإلحاق الإذاية بهم، سواء كانوا مشاركين مباشرة في القتال أو غير مشاركين فيه، كما كان عليه الأمر في الحروب التقليدية، بل تعدتها إلى استنزاف الثروات والموارد الطبيعية، ونهب وسرقة المقتنيات والممتلكات الثقافية، وتلويث البيئات والموائل الطبيعية، وتدمير المساكن والبنيات التحتية، وإحداث الخلل في النظم الإيكولوجية.
فخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وقع تطور تكنولوجي هائل انعكس بشكل كبير على حجم الأسلحة والمقذوفات وفعاليتها، وعلى نوعية الطرائق والاستراتيجيات والأساليب الحربية، وأثر استخدام هذه الوسائل والتقنيات بشكل حاسم على الأهداف العسكرية وغير العسكرية، إذ تم تسجيل أكبر الخسائر في أعداد القتلى من العسكريين وغيرهم، مثلما حصل خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما لحقت الأضرار الجسيمة بالممتلكات العامة والخاصة. ولم تكن البيئات الطبيعية والثقافية بمنأى عن هذه المعاناة وعن هذا الدمار.
وخلال نفس هذه الحقبة التاريخية، اتجه المجتمع الدولي إلى حظر عدد من الأسلحة والأساليب الحربية الأكثر دموية ودمارا. غير أن المعاناة البشرية في سياق الحروب والنزاعات المسلحة قد استمرت، واستمر معها الدمار الذي تعاظم في ظل تطور هذه الأساليب والوسائل الحربية، المستفيدة من نتائج البحث العلمي والتطوير التقني. وفي كل لحظة تاريخية عدائية فارقة، تتدخل المجموعة الدولية من أجل حظر النوع الجديد والفتاك من الوسائل الحربية، وتقليص فرص اللجوء إلى القوة العسكرية أو حتى التهديد بها.
ولما كان الإنسان هو الغاية الأسمى من وراء حظر الوسائل والأساليب الحربية المتطورة، فإن المجتمع الدولي قد اتجه، وفق مقاربة تعلي من شأن الإنسان وتجعله مركز الاهتمام والحماية والرعاية، إلى إصدار ضمانات قانونية تحمي كيان هذا الإنسان، سواء كان مقاتلا أو غير مقاتل، بل وتحاول جعل الأساليب والوسائل العدائية أكثر إنسانية، أي أنها تطمح إلى "أنسنة الحرب"، من خلال مداواة الجرحى وإسعاف المرضى وإنقاذ الغرقى ورعاية الأسرى، اعتبارا لكونهم صاروا عاجزين عن القتال. كما شملت هذه الحماية المدنيين وبيئاتهم الطبيعية ومنشآتهم الصناعية وممتلكاتهم الثقافية.
وبغض النظر عن التسميات المختلفة التي وضعها فقهاء القانون الدولي لهذا الإطار القانوني، سواء أكان "قانون الحرب"، كما أسماه "فيليب بروتون"؛ أو كان "قانون النزاعات المسلحة"، كما هو عند "شارل روسو" و"إريك دافيد"؛ أو كان "القانون الدولي الإنساني"، كما اعتمده "ماكس هوبر"، فإن قواعد هذا الفرع القانوني الدولي، تستهدف حماية ضحايا الحروب والنزاعات المسلحة، والتخفيف من معاناتهم وآلامهم الناتجة عن مشاركتهم، أو عدمها، في هذه الأعمال العدائية.
وتتعدد هذه الأعمال العدائية في الوقت الحالي، وتتنوع بين نزاعات مسلحة دولية أو نزاعات مسلحة غير دولية، سواء كانت تقليدية بين قوات نظامية وجماعات مسلحة منظمة، أو بين جماعات مسلحة منظمة، أو نزاعات مسلحة غير دولية إلا أنها ممتدة أو عابرة للحدود، أو نزاعات مسلحة غير دولية لكنها متعددة الجنسيات تجري أطوارها بين قوات نظامية لدولة ما مسنودة بقوات عسكرية من جنسيات مختلفة في مقابل جماعات مسلحة منظمة، أو نزاعات مسلحة مدولة إقليميا، أو نزاعات مسلحة عالمية ضد مجموعات إرهابية.
وعلى الرغم من تعدد التسميات التي يمكن إطلاقها على أنواع النزاعات المسلحة، المتماثلة وغير المتماثلة، إلا أن الضحية الأساس لهذه الأعمال العدائية لا يمكن الاختلاف بشأنه، وهو الإنسان. ومن هذا المنطلق، صار مصطلح "القانون الدولي الإنساني" أكثر حضورا في التداول المفاهيمي، والأكثر تعبيرا عن الطموح الدولي. وإذا كان هذا الفرع القانوني يحمي المدنيين بشكل صريح في الحروب والنزاعات المسلحة، فإنه يحمي البيئة بشكل ضمني، على اعتبار أن البيئة مدنية بطبيعتها.
لم تعد البيئة شأنا داخليا لكل دولة فحسب، وإنما صارت تجسيدا حيا لمفهوم "التراث المشترك للإنسانية" الذي نصت عليه اتفاقية "مونتيكو باي" لقانون البحار لعام 1982، وذلك اعتبارا للدور المحوري للبيئة في حياة البشرية جمعاء. وتزداد أهمية هذه البيئة في وقت الأزمات والحروب، إذ يتم الضغط على عناصرها، واستنزاف خيراتها، وتدمير المعالم الأثرية، وتشويه الحقائق التاريخية، والإضرار بالنظم الإيكولوجية، كما يزداد التنافس المحموم حول الموارد الطبيعية، وتُنهب اللّقى والنفائس والممتلكات الثقافية.
ثم إن التنافس المحموم بين الدول في تطوير الصناعات الحربية قد أفرز أنواعا جديدة من الأسلحة تستعمل في النزاعات المسلحة، من قبيل أسلحة الدمار الشامل النووية والبيولوجية الجرثومية والأسلحة الكيماوية، والتي تفتك بالبيئة وتجعلها أكثر عرضة إلى أشد الأضرار. وتتميز هذه الأخيرة بأنها شديدة وواسعة النطاق وطويلة الأمد، ويصعب معها إصلاح البيئة وترميمها وردها إلى الحالة التي كانت عليها قبل نشوب هذه النزاعات المسلحة، دون الحديث عن الكلفة الباهظة لتلك العمليات المرتبطة بإعادة الإعمار.
لقد اتجه المجتمع الدولي نحو وضع مبادئ وقواعد قانونية لحماية الإنسان والبيئة على حد سواء، وذلك بالنظر إلى العلاقة المتينة بين الإنسان وبيئته، وأيضا اعتبارا لحجم المشاكل البيئية التي صارت تؤثر بشكل سلبي على جودة حياة الإنسان، وكذا اعتبارا للأبعاد الجغرافية التي تمتد فيها، والتي قد تتجاوز الحدود السياسية للدول، فضلا عن عدم نجاعة السياسات الوطنية الخاصة بحماية البيئة. وإذا ما تمت إضافة متغير آخر يتعلق بالنزاعات المسلحة، فإن الأضرار البيئية الناجمة عن هذه الأفعال الخطيرة تكون أشد تأثيرا وانتشارا في المجال وامتدادا في الزمان. وبالتالي، لم تعد البيئة محمية فقط من قبل القانون الدولي البيئي، بل من قبل فروع أخرى عديدة تنتمي كلها للقانون الدولي، ومنها بشكل أساسي ومركزي القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الجنائي.
تعريف "البيئة"
يحيل مفهوم البيئة إلى ذلك الفضاء الذي يعيش فيه الإنسان، مع باقي الكائنات الحية، بفضل ما يتوافر فيه من مقومات الحياة والنمو والازدهار. وتتعدد مجالات البيئة الطبيعية وتتنوع بين الأرض والمياه والهواء والمعادن والأنهار والبحيرات والبحار والمحيطات، إضافة إلى الغلاف الجوي والفضاء الخارجي للكرة الأرضية. كما تحيل البيئة البشرية أو الثقافية أو الصناعية أو المنشأة إلى مختلف المظاهر غير الطبيعية التي أنشأها الإنسان حوله لضمان عيشه ونمائه وأمنه وتطوره.
وفي لغة العرب، تُشتقّ كلمة "البيئة" من فعل "بوأ". ومنه، كما جاء في لسان العرب لابن منظور، "باء إلى الشيء يبوء بَوْءًا: رجع، وبُؤْتُ إليه وأبأتُه، بمعنى الرجوع والعودة". وأشار ابن منظور في موضع لاحق شارحا جزءا من الحديث النبوي، قائلا "أبوء بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع وأُقرّ. وأصْلُ البَواءِ اللُّزومُ. وقال صاحب لسان العرب في موضع آخر: "وَبَوّأَهُم ْمنزِلاً: نزل بهم إلى سَنَدِ جَبَلٍ، وأَبَأْتُ بالمكان: أَقمْتُ به. وبَوَّأْتُكَ بيتاً: اتخذتُ لكَ بيتاً [..] والتّبوُّؤُ: أن يُعْلِمَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ على المكان إذا أعجبه لِيَنْزِلَهُ. وقيل: تَبَوَّأَهُ: أصلَحهُ وهيّأهُ [..] وتَبَوَّأَ: نَزَلَ وأَقامَ [..] وأباءهُ منزلا وبوّأهُ إياه وبوّأهُ له وبوّأهُ فيه، بمعنى هيّأَهُ له وأنزلَهُ ومكّنَ له فيه [..] والاسم البيئةُ [..] والبيئة والباءة والمباءة: المنزل، وقيل منزل القوم حيث يتبوّؤون من قِبَل وادٍ، أو سَنَدِ جبلٍ [..] ويقال: كل منزلٍ ينزلهُ القومُ [..] وتبوّأ فلان منزلا، أي اتخذه [..]". وفي القاموس المحيط للفيروزآبادي، "باء إليه: رجع، أو انقطع [..] وبوّأهُ منزلا وبوّأه فيه: أنزله، [..] والاسم: البيئة [..] والمَباءةُ: المنزل، كالبيئةِ والباءةِ، وبيت النحل في الجبل، ومُتَبَوَّأُ الولد من الرحم [..] والبيئة، بالكسر: الحالةُ [..]".
وفي معجم "لو روبير"، تعرّف البيئة (environnement) بأنها "مجموع العناصر والظواهر الفيزيائية التي تحيط بالكائن الحي، وتوجد حوله [..] وهي مجموع العوامل الطبيعية والثقافية التي يمكن أن تؤثر في الكائنات الحية وفي الأنشطة البشرية [..]"، وفق ما ورد في معجم لوروبير الفرنسي. كما تُعرّفُ البيئة بأنها اصطلاح يستخدم لوصف بيئة الإنسان بعناصرها الطبيعية التربة والماء والهواء، وما أضافته إليها يد الإنسان.
وعرّفها مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة، المنعقد عام 1972 باستوكهولم، بأنها هي التي "تضمن للإنسان قوته الجسدية وتتيح له إمكانية التطور الفكري والأخلاقي والاجتماعي والروحي"، وشدّد إعلان هذا المؤتمر الدولي على أن "عنصري البيئة، العنصر الطبيعي والعنصر المنشأ من طرف الإنسان، ضروريان لرفاهية هذا الأخير ولتمتعه الكامل بحقوقه الأساسية، بما في ذلك الحق في الحياة نفسها". وأن "حماية البيئة وتحسينها مسألة ذات أهمية كبرى وتؤثر على رفاهية الناس والتنمية الاقتصادية في جميع أنحاء العالم، بما يتوافق مع الطموح الجامح لشعوب العالم بأسره، مع ما يشكّله ذلك من واجب على جميع الحكومات".
تعريف "النزاع المسلح"
يحيل المفهوم اللغوي للنزاع، في لسان العرب لابن منظور، إلى: "نزع الشيءَ ينزِعُه نزْعا، فهو منزوعٌ ونزيعٌ، انتزعهُ فانتزعَ: اقتلعهُ فاقتلعَ، وفرّق سيبويه بين نَزَعَ وانتزَعَ فقال: انتزع استَلبَ، ونزعَ: حوّل الشيءَ عن موضعه وإن كان على نحو الاستلاب [..] وقولهم فلان في النَّزْعِ أي في قلعِ الحياة [..] وأَصْلُ النّزْعِ الجَذْبُ والقلْعُ [..] والمُنازَعةُ: المجاذبة في الأعيان والمعاني [..] والتنازُعُ: التخاصُمُ. وتنازَعَ القومُ: اختصموا. وبينهم نِزاعةٌ أي خُصومةٌ في حقٍّ [..]". وفي القاموس المحيط للفيروزآبادي، "نزعه من مكانه ينزِعهُ: قَلَعَهُ، كانتزَعَهُ، ونزع يدَه: أخرجها من جيبه [..] والنّزعُ: قلعُ الحياة [..] وانتزع: كفّ وامتنع، واقتلع، [..] ونازعهُ: خاصمهُ وجاذبهُ [..] والتنازع: التخاصم والتناول [..] والتّنزّعُ: التسرّعُ."
بينما يحيل مفهوم "نزاع مسلح"، حسب معجم القانون، إلى "صراع تستخدم فيه القوة المسلحة ويدور بين دولتين أو أكثر أو بين جماعات متصارعة داخل إقليم دولة واحدة. وقد اكتسب هذا الاصطلاح أهمية كبيرة في الآونة المعاصرة بعد تحريم الحرب قانونا"، في حين أن عبارة "نزاع مسلح داخلي" هو "نزاع مسلح يدور في إطار دولة واحدة بين هذه الدولة وجماعات مسلحة لا يتوافر لأي منها وصف الشخصية القانونية الدولية أو فيما بين هذه الجماعات بعضها وبعض". في حين يعرّف "النزاع المسلح الدولي" على أنه نزاع مسلح تكون أطرافه من الدول أو يجري بين دولة وإحدى حركات التحرير الوطني المعترف بها"، ويُستمد هذا التعريف من المادة الثانية المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والتي تنص على أن النزاع المسلح الدولي هو " حالة الحرب المعلنة أو أي اشتباك مسلح آخر ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف السامية المتعاقدة، حتى لو لم يعترف أحدها بحالة الحرب".
وقديما شاع مصطلح "الحرب"، والذي يشير إلى "الصراع بالقوة المسلحة بين دولتين أو أكثر تستهدف فيه كل دولة فرض إرادتها بالقوة على الدولة الخصم، وكان يقصد به في ظل القانون الدولي التقليدي حالة قانونية تتبع في ظلها الدولة ما تراه حقا لها عن طريق استخدام القوة". بينما تعرّف "الأعمال العدائية-القتال" على أنها "مجموع الأعمال التي تقوم بها دولة مستخدمة القوة المسلحة ضد دولة أخرى تشتبك معها في صراع مسلح محاولة بها أن تقهر إرادتها. وقد يستخدم هذا الاصطلاح ذاته أحيانا كمرادف للحرب، وخاصة عند الحديث عن مسرح العمليات بوصفه مسرحا للحرب، أو عند الحديث عن بداية الأعمال العدائية تعبيرا عن بداية الحرب".
ويعتبر "اللجوء إلى القوة" بمثابة "اصطلاح كان يطلق في مفهوم واسع في ظل القانون الدولي التقليدي للحرب للتعبير عن الأعمال التي تقوم بها دولة تدخل حربا ضد دولة أخرى بحيث يشمل ما تقوم به الأولى ضد الثانية من تدابير عسكرية مثل المظاهرات البحرية والحصار والقصف بكافة أنواعه، واحتلال إقليم أو أقاليم وذلك بغية إعلان الحرب، وأصبح هذا المصطلح يستخدم كثيرا بعد تحريم اللجوء قانونا إلى الحرب تعبيرا عن التدابير العسكرية التي تباشرها دولة ضد أخرى". وتختلف هذه المفاهيم عن أخرى مشابهة أو مجاورة لها من قبيل الخلاف والصراع وتهديد السلم أو الإخلال بالسلم أو العدوان.
تعريف "الحماية"
يندرج ضمن مفهوم "الحماية" اتخاذ كافة التدابير الفعالة والنشطة من وضع التشريعات والسياسات العامة، وإحداث المؤسسات الكفيلة بضمان هذه الحماية، وتوفير وسائل العمل والإمكانيات الإدارية والمالية، واتخاذ التدابير التخفيفية والتكييفية، وضمان النشر والتوعية والتحسيس، وتدريب المعنيين وتكوينهم، وتشجيع البحث العلمي، والاستفادة من الخبرات والتجارب المقارنة، وملاءمة القوانين والتشريعات الداخلية مع المقتضيات الدولية.
وتسعى قواعد القانون الدولي الإنساني إلى ضمان حماية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة. ويتمثل الطموح الأسمى لهذا الفرع القانوني الدولي في "التخفيف من معاناة جميع ضحايا النزاعات المسلحة، سواء كانوا جرحى أو مرضى أو غرقى أو أسرى الحرب، مع تأمين الحماية للأشخاص غير المشاركين مباشرة في استخدام القوة، وهم المدنيون"، حسب موريس توريلي. لقد أحدثت حرب سولفرينو 1859 تحولا كبيرا في التعاطي مع ضحايا النزاعات المسلحة، سواء كانوا بشرا، وخاصة موظفي الصحة، أو كانوا مستشفيات عسكرية.
وتطورت قواعد القانون الدولي الإنساني لتنتقل من حماية المقاتلين الذين صاروا عاجزين عن القتال، مثل الجرحى في الميدان والغرقى في البحار والأسرى في سجون العدو، إلى حماية الأشخاص المدنيين غير المشاركين في القتال، فضلا عن حماية ممتلكاتهم الثقافية ومقتنياتهم الخاصة. ولا تقتصر قواعد هذا الفرع القانوني على حماية الضحايا والتخفيف من آلامهم، بل تضع قيودا على استخدام بعض الأنواع من الأسلحة الضارة والفتاكة بالبشر والشجر والحجر، وتحدّ من أساليب القتال التقليدية والمتطورة.
وتمتد الجذور التاريخية للقانون الدولي الإنساني، حسب المختص شريف عتلم، إلى العصور القديمة، إذ أنه قبل الميلاد بألفيْ سنة تشكلت العلاقات بين الشعوب. فظهر لدى السامريين "قانون حمورابي"، وشهدت الحضارة المصرية بروز "الأعمال السبعة للرحمة الحقيقية"، وقامت تصرفات الإمبراطورية الحيثية على قيم العدالة والاستقامة، وتضمن "قانون مانو" في الهند القديمة عددا من قواعد القتال. كما تأثر القانون الدولي الإنساني بالتعاليم الدينية التي جاءت بها الشرائع السماوية.
وقد فرضت الشريعة الإسلامية قيودا على سير قتال المسلمين لأعدائهم. ويكفي التذكير، في هذا الصدد، بوصية أبي بكر الصديق لجيش المسلمين المتوجه إلى الشام، فقال "[..] يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة [..]"، وتبلورت هذه التعاليم والوصايا وتطورت في شكل مبادئ وقواعد قانونية عرفت فيما بعد بقواعد قانون الحرب، أو قانون النزاعات المسلحة أو القانون الدولي الإنساني، والتي تحمي الإنسان، مثلما تحمي البيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
أهمية البحث
تتمثل أهمية البحث في موضوع "الحماية الدولية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة" في سِمته المركّبة، وفي ارتباطه الوثيق بعدد من فروع القانون الدولي، كالقانون الدولي الإنساني؛ والقانون الدولي البيئي؛ والقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ والقانون الدولي الجنائي؛ والقانون الدولي للفضاء الخارجي، وغيره من الفروع القانونية ذات الصلة. فالعديد من القواعد القانونية المنصوص عليها في هذه الفروع القانونية تتكامل فيما بينها، لتضمن الحماية اللازمة للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
كما أن الارتباط الوثيق بين الإنسان والبيئة يجعل من البحث في الموضوع البيئي بحثا في جانب مهم وأساسي من حياة الإنسان، باعتباره مدار الاهتمام المتزايد ومركزه بالنسبة لقواعد القانون الدولي الحديثة. وتزداد أهمية البحث في الموضوع عند ربط حماية البيئة بظروف طارئة وغير سليمة، تتعلق بالنزاعات المسلحة، حيث يتم التركيز في مثل هذه الظروف على الآلام التي تحدث للإنسان. ومثلما يتألم هذا الكائن الحي، تتضرر البيئة التي يعيش في كنفها هذا الإنسان، ويمتد بذلك الطابع الإنساني إلى الضرر البيئي.
لقد انتقل الفاعلون في ساحات الحروب والنزاعات المسلحة بالبيئة، من دائرة التأثر والتضرر من ويلات هذه الأعمال العدائية، إلى جعلها عنصرا فاعلا وفعالا فيها. فقد صارت البيئة منذ ستينيات القرن الماضي أداة حربية لقهر الخصوم ودحرهم، عبر التأثير المتعمد في أحوال الطقس، وكميات الأمطار المتساقطة، وفي إحداث الزلازل والاهتزازات الأرضية، والتي تشكل عائقا أمام أحد أطراف النزاع المسلح لمجابهة الطرف الآخر ومقاومة احتلاله، مثل ما حدث في حرب فيتنام.
إن تعدد المشكلات البيئية على الصعيد العالمي، من قبيل التغيرات المناخية، وندرة المياه العذبة، وظواهر التصحر والتلوث العابر للحدود، وارتفاع مستوى سطح البحار، والضغط المتزايد على الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة، وارتفاع نسبة التمدن، وتدمير الغطاء النباتي، وتزايد التأثير السلبي على المعالم الحضارية والتاريخية ومظاهر التراث الثقافي العالمي، كلها عوامل تجعل من البحث في الموضوع يكتسي أهمية كبرى. وتتعاظم هذه الأهمية عند اقتران المشكلات البيئية، من قريب أو بعيد، مع ظاهرة النزاعات المسلحة.
كما أن تعدد هذه النزاعات المسلحة، وتصنيفها تقليديا بين النزاعات المسلحة الدولية والنزاعات المسلحة غير الدولية، فضلا عن بروز طائفة جديدة من النزاعات المسلحة غير المتماثلة، مع ما لكل ذلك من أضرار بالغة على العناصر البيئية، في مخالفة صريحة لقواعد القانون الدولي، يدفع في اتجاه البحث في الموضوع عن أسباب ودواعي استمرار الإخلال بالأحكام والمقتضيات القانونية الدولية، على الرغم من التنصيص الدولي على قواعد الحماية المكفولة للإنسان ولبيئته.
ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد، أن الأضرار البيئية ترتبط ارتباطا وثيقا بالحروب والنزاعات المسلحة. فهي ليست أضرارا هامشية أو جانبية، بل هي أضرار شديدة، بحيث تحدث آلاما لا مبرر لها؛ وكذلك هي أضرار ممتدة في الزمن، حيث لا يقتصر نطاقها الزمني على فترة قصيرة من الزمن، بل تمتد آثارها لشهور عديدة ولسنوات مديدة؛ كما أنها أضرار ممتدة في حيز جغرافي يتجاوز بكثير ميدان المعركة، فالآثار البيئية لحرب الخليج الثانية، مثلا، امتدت لتصل إلى البلدان المجاورة، مع أنها غير مشاركة في تلك الحرب.
إن أهمية البحث في الموضوع ترتبط كذلك بضرورة تحليل الإطار القانوني لحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، من خلال تناول القواعد القانونية المنتمية إلى مجالات وفروع القانون الدولي، وتحليلها وفحصها من زاوية قانونية، مع النظر إلى مدى انطباقها بشكل سليم من عدمه، دون إغفال الحديث عن الأدوار التي تضطلع بها المؤسسات الدولية والوطنية في هذا الشأن، مع تقييم أدائها، عبر سرد أهم إنجازاتها من جهة أولى، والوقوف عند أبرز إخفاقاتها من جهة ثانية. ولا يستقيم البحث في هذا الموضوع، بل ويكون عديم الأهمية إن أغفل دراسة الأحكام المتعلقة بالمسؤولية الدولية، وتطبيقاتها على حالات الإضرار بالبيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
كما أن البحث في الموضوع يستمد أهميته من تعدد أبعاده وتشعبها. فبُعده الموضوعي يرتبط بدراسة مجال الضمانات القانونية، المرصودة على الصعيد الدولي، لحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، وأيضا بدراسة الآليات المؤسساتية المعنية بالموضوع. أما البُعد المكاني للموضوع، فيتسع ليشمل عدة مناطق من العالم، على اعتبار أن النزاعات المسلحة لم تستثنِ أية بقعة جغرافية من بقاع الأرض، بل وتمتد في الحروب المعاصرة إلى فضاءات جديدة، كالفضاء السيبيراني والفضاء الخارجي للأرض. أما البُعد الزماني للموضوع، فيمتد، بشكل أساسي، من ستينيات القرن الماضي إلى الآن، مع انفتاح جزئي على المرحلة السابقة لهذه الفترة الزمنية، ولا يتوقع انحسار البحث في الموضوع مستقبلا، في ظل التطوير المستمر لوسائل وأساليب القتال، وإضرار ذلك بالعناصر البيئية.
علاوة على ذلك، يستمد البحث في الموضوع أهميته من الأرقام والمؤشرات التي تدل على أن: نشوب 52 حربا أهلية خلال الفترة الممتدة من 1960 إلى 1999 كان بسبب الموارد الطبيعية [..]، وأن خطر تجدد أعمال العنف والنزاعات المسلحة يظل قائما خلال الخمس سنوات الأولى بعد توقيع اتفاقيات الهدنة والسلام، وذلك بسبب الخلافات حول تدبير الموارد الطبيعية [..]، وأن نسبة الخطر في قيام حرب داخلية في دولة مصدرة للنفط تصل إلى 19.1 في المائة مقابل 9.2 في المائة داخل البلدان غير النفطية [..]، وأن البيئة من بين العوامل الرئيسية في قيام النزاعات المسلحة في 138 دولة، وذلك خلال الفترة الممتدة من 1960 إلى 1995، وفق ما أورده الباحث فيليب هيكون.
ويشهد التاريخ الحديث على أن الأضرار البيئية الناجمة عن الحروب والنزاعات المسلحة قد تعددت وتنوعت بين حرق النفط والأراضي الزراعية، أو ما يطلق عليه بتكتيك الأرض المحروقة، ويشهد على هذا ما وقع في الحرب العالمية الثانية أثناء تقهقر الألمان في نورماندي عام 1944؛ وفي الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988؛ وفي حرب تحرير الكويت 1991؛ وحرب العراق 2003، وبين تدمير الغابات برش مواد كيماوية سامة وتحويل المساحات الخضراء إلى مناطق جرداء، مثلما جرى في حرب فيتنام 1962-1973، وأيضا عبر تدمير التنوع البيولوجي وتقطيع الأشجار وإتلاف التربة بالمناطق المحمية والمنتزهات الطبيعية بسبب اللاجئين، مثلما وقع في نيكاراغوا في 1983؛ وسريلانكا في 1986؛ ورواندا والزائير في 1990-1994؛ وبورندي في 1996، فضلا عن تدمير السدود لتخريب الأراضي الزراعية وإغراق المحاصيل، مثلما وقع في الحرب العالمية الثانية في هولندا عندما فتح الألمان السدود في 1944 وخربوا الأراضي الصالحة للزراعة؛ وفي الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي.
إشكالية البحث
لقد اتجه المجتمع الدولي، منذ مدة ليست بالقصيرة إلى وضع ضمانات قانونية، سواء في نطاق اتفاقي، أو عرفي، وحتى في نطاق القانون "المرن"، وذلك من أجل توفير الحماية القانونية اللازمة للعناصر البيئية من أن يلحقها ضرر النزاعات المسلحة. وبالإضافة إلى هذا الاهتمام القانوني، رصد المجتمع الدولي آليات مؤسساتية وتدابير عملية من أجل تطبيق هذه الضمانات القانونية، غير أن الانتهاكات الجسيمة والأفعال الخطيرة الموجهة ضد البيئة في أوقات النزاعات المسلحة لا تزال مستمرة، بل وتتعدد وتتنوع، ويتعاظم تأثيرها في ظل التحديات الناشئة للحروب والنزاعات المسلحة.
وتأسيسا على ذلك، تتمحور الإشكالية المركزية لهذا البحث حول استمرار الإضرار بالعناصر البيئية في سياق النزاعات المسلحة وتعاظمها، على الرغم من رصد المجتمع الدولي لضمانات قانونية وآليات مؤسساتية قصد توفير الحماية اللازمة لهذه البيئة في مثل هذه الأوقات. ويمكن التعبير عن هذه الإشكالية من خلال طرح السؤال المركزي التالي: إلى أي حد استطاعت الجهود الدولية القانونية والمؤسساتية توفير الحماية اللازمة للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟ أو ما مدى فعالية الآليات القانونية والمؤسساتية في ضمان حماية كافية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
وتتناسل عن هذه الإشكالية المركزية عدة أسئلة فرعية، من قبيل:
- ما هي الضمانات القانونية التي وضعها المجتمع الدولي قصد حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
- ما هي الآليات المؤسساتية والتدابير العملية المنوطة بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
- كيف تقوم هذه الآليات المؤسساتية بأدوارها قصد إعمال الضمانات القانونية الخاصة بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
- هل توفر هذه الضمانات القانونية والآليات والتدابير المؤسساتية حماية كافية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
- ما هي مظاهر النقص وأوجه القصور وعناصر المحدودية في عمل هذه الآليات والتدابير؟
- هل ساهم القضاء والفقه الدوليين في تجديد وتطوير قواعد الحماية المرصودة للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
- كيف ساهمت الأحكام والفتاوى القضائية والآراء الفقهية القانونية الدولية في تفسير وتأويل وتطوير هذه القواعد القانونية؟
- ما هي الأدوار التي تقوم بها مختلف الآليات الوقائية والرقابية والزجرية المتعلقة بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
- ما هي حدود عمل الآليات الوقائية والرقابية والزجرية المتعلقة بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
- ما مدى تحقق المسؤولية الدولية المدنية والجنائية عن الإضرار بالبيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
- كيف يمكن تحريك المسؤولية الدولية عن الأضرار البيئية الناجمة عن الأفعال الخطيرة في أوقات النزاعات المسلحة؟
- ما هي آثار توقيع الجزاء على المسؤول عن الأضرار البيئية في أوقات النزاعات المسلحة؟
- ما هي التحديات الناشئة في مجال حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
- كيف يتعامل المجتمع الدولي مع هذه التحديات الناشئة قصد ضمان الحماية اللازمة للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة؟
فرضيات البحث
تجاوبا مع هذه الإشكالية الرئيسية ومع أسئلتها الفرعية، ينطلق البحث من فرضية مزدوجة، بحيث تفيد الفرضية الأولى بأن هناك حماية كاملة للبيئة في سياق النزاعات المسلحة، وذلك بالنظر إلى وضع المجتمع الدولي لترسانة قانونية هامة ورصده لآليات وتدابير مؤسساتية كفيلة بضمان تلك الحماية الكاملة. بينما تحيل الفرضية الثانية إلى وجود تباين كبير بين النص والممارسة، فيما يخص الحماية الدولية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة، على اعتبار أن المجتمع الدولي قد رصد ضمانات قانونية، وآليات مؤسساتية، من أجل حماية البيئة في مثل هذه الأوقات، إلا أن هذه المبادئ والقواعد القانونية يعتريها الكثير من النقص في التطبيق على الوجه الأمثل، وأن هذه الآليات والتدابير المؤسساتية الرقابية والزجرية قد تميزت بالمحدودية في أداء مهامها على الوجه الأكمل.
الإطار المنهجي للبحث
للإجابة عن إشكالية هذا البحث وأسئلته الفرعية، وبغرض التحقق من الفرضيات المذكورة أعلاه، تم إدراج هذا البحث في مجال القانون الدولي باعتباره حقلا معرفيا مستقلا، يضع الأحكام والقواعد القانونية التي يتم الاستناد إليها في زمني السلم والحرب، وفق شروط وأنظمة محددة. كما يهتم بالوضع القانوني للاتفاقيات الدولية، وللالتزامات الواردة فيها، وللعقوبات المترتبة عن الإخلال بها في إطار المسؤولية الدولية عن الأفعال غير المشروعة، ولأشكال تسوية النزاعات الدولية بطرق سلمية. كما يتيح الاشتغال في حقل القانون الدولي إمكانية دراسة المعطيات، وتحليل المضامين، والكشف عن الاختلالات وجوانب القصور، واستشراف الآفاق.
واستنادا إلى مكانة الدراسات البينية ودورها في ربط جسور التواصل بين الحقول المعرفية (interdisciplinarité)، صار لزاما على الباحث في مجال القانون الدولي الاستعانة بأدوات ومخرجات العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية مثلا، من قبيل علم الاقتصاد، وعلم الإدارة والتدبير، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية والعلاقات الدولية..، بما يؤشر على معطى أساسي في مجال البحث العلمي النظري والتطبيقي، ألا وهو الاتجاه نحو اعتماد تداخل المعارف والتجسير بين مختلف العلوم، بدل الارتكان إلى التخصص.
وانطلاقا من هذا المعطى، يتميز هذا البحث بكونه بنية مركبة تتكون من عدة عناصر متضامنة فيما بينها، في إطار نسقي متماسك ومتكامل، وموزعة بشكل أفقي بهدف تحقيق الشمولية والتوازن والانسجام. إذ أن تحليل مضامين الأحكام القانونية المؤطرة للنزاعات المسلحة يتجاوز قواعد التفسير الظاهري للنصوص، عبر استعراض السياقات السياسية الدولية المتحكمة في وضع هذه المعايير، وكذا عبر البحث عن القواعد القريبة والمتشابهة والمتكاملة في عدد من فروع القانون الدولي، وأيضا عبر النظر في تحوّل هذه القواعد وتطورها في اتجاه ضمان الحماية اللازمة للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
وبناء على ذلك، سيتم تناول الموضوع وفق مقاربة قانونية، من خلال تفكيك إشكالية البحث، ودراسة وتحليل القواعد العرفية والاتفاقية و"المرنة"، المتعلقة بالحماية الدولية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة، مع وضع هذه المعايير على ضوء نظريات العلاقات الدولية وتطبيقاتها، من أجل القيام بالتقييم المناسب لمدى فعاليتها في ضمان هذه الحماية. وسيتم تعزيز هذه المقاربة القانونية، من خلال اعتماد مقترب مؤسساتي يقوم على رصد الآليات المؤسساتية الرقابية والزجرية، المعنية بالموضوع، مع تقييم الجهود والتدابير الوقائية والعلاجية الموضوعة لهذا الغرض، وتبيّن حصيلة جهودها، والوقوف على مدى نجاعة وفعالية هذه الآليات المؤسساتية الضامنة لتلك الحماية. وهكذا سيشتمل البحث على نوعين اثنين من التقييم، أولهما تقييم السيرورة، من خلال الوقوف على سيرورة إرساء المؤسسات واشتغالها ومدى إعمالها للضمانات القانونية؛ وثانيهما تقييم الأثر، عبر الوقوف على نتائج التدابير الوقائية والرقابية والزجرية.
واعتمادا على مبدأ التكامل بين المناهج، وترابط بعضها مع بعض، سيتم اعتماد المنهج الاستقرائي في دراسة الحالات، من خلال التعمق في دراسة كل حالة بعينها، عبر جمع المعطيات حول الحالة؛ وتصنيفها، ودراستها وتحليلها؛ وتبيّن الانعطافات والمراحل التاريخية التي مرت منها؛ وتتبع مسارات التعديل القانوني عليها؛ ورصد الوقائع والأحداث المستجيبة للمعايير الدولية؛ والوصول إلى نتائج دقيقة حول الحالة أو النموذج المدروس؛ في أفق الانتقال من الخاص إلى العام، عبر بناء شبكة العلاقات والتقاطعات بين الحالات المدروسة. كما سيتم اعتماد المنهج النسقي، من خلال استحضار المدخلات، المتمثلة أساسا في المعايير القانونية (المبادئ / الأحكام الاتفاقية / القواعد العرفية / الاجتهادات القضائية / الآراء الفقهية..)؛ ثم وضعها في نظام المعالجة، من خلال تحليل الضمانات القانونية وتقييم أدوار الآليات المؤسساتية والتدابير الوقائية والرقابية والزجرية في مجال حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة؛ للوصول إلى المخرجات، التي تبين آثار ومدى فعالية هذه المعايير والآليات والتدابير الدولية في ضمان حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
ويبدو أن المنهجية المناسبة للقيام بذلك هي منهجية تحليل المضمون، وذلك من خلال الاشتغال على الوثائق القانونية، وتحديد المفاهيم الدالّة دلالة واضحة من قبيل نظام الحماية؛ المسؤولية الدولية؛ تقييم الأثر البيئي، وغيرها من المفاهيم. وأيضا من خلال تحديد المواضيع والتيمات ذات الصلة، وكذا عبر فحص الأساليب اللغوية المعتمدة في الاتفاقيات الدولية، والمثال البارز في هذا الصدد هو الاختلاف في صياغة شروط إثبات الضرر البيئي الناجم عن النزاعات المسلحة، إن كانت شروطا منفردة معزولة أو شروطا تراكمية، وهذا الاختلاف في المبنى يؤدي حتما إلى الاختلاف في المعنى.
وفي إطار التطبيق الأمثل للمناهج المعتمدة، سواء المنهج الاستقرائي أو المنهج النسقي أو منهجية تحليل المضمون، سيتم الاستناد إلى عدد من التقنيات في كتابة هذا البحث، من قبيل تقنيات الوصف والتحليل؛ والمقارنة بين النصوص القانونية المؤطرة، وبين الحالات التطبيقية المدروسة؛ فضلا عن استحضار أهم المحطات التاريخية، من أجل تأصيل الموضوع والوقوف على أهم المراحل والسياقات ونقط التحول والانعطاف في مجال الحماية الدولية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
وفي هذا الصدد، لا يمكن إنكار بعض الصعوبات والمعيقات التي اعترضت هذا العمل البحثي، كان أبرزها صعوبة الوصول إلى كافة الوثائق والمستندات والمعطيات اللازمة للإحاطة الوافية ببعض الحالات المدروسة. وقد يعود السبب في ذلك إلى غياب الدمقرطة الكاملة في الولوج إلى المعلومة البحثية الدولية، إضافة إلى حساسية بعض المعطيات ذات الطابع العسكري، والتي يتم إدراجها في خانة أسرار الدول؛ ولا تُرفع عنها السرية، ولو بشكل جزئي، إلا بعد مرور عقود من الزمن، وحالة حرب فيتنام خير مثال على ذلك.
الدراسات السابقة
تحقيقا لمبدأ التراكم المعرفي، وقبل الخوض في هذا البحث، سيتم التوقف، على سبيل المثال لا الحصر، عند بعض النماذج من الدراسات السابقة التي تناولت هذا الموضوع، حيث:
تناول السيد هشام بشير في كتابه "حماية البيئة في ضوء أحكام القانون الدولي الإنساني"، الصادر في 2011 عن المركز القومي للإصدارات القانونية بالقاهرة، الموضوع في ثلاثة فصول، بحيث تطرق في الفصل الأول إلى موضوع الاهتمام الدولي بحماية البيئة، من خلال التعريف بالبيئة وبأهميتها، واستعراض حماية البيئة في إطار الاتفاقيات الدولية، وفي إطار المنظمات الدولية. بينما تناول الفصل الثاني الجوانب الموضوعية لحماية البيئة في القانون الدولي الإنساني، من خلال التطرق إلى مصادر هذه الحماية ومضمونها. في حين تناول الفصل الثالث من هذا الكتاب الجوانب التنظيمية لحماية البيئة في القانون الدولي الإنساني، عبر حديثه عن آليات الحماية وعن المسؤولية الدولية عن انتهاكات البيئة.
ومن بين الخلاصات التي توصل إليها الكاتب، أن القانون الدولي الإنساني هو ذلك القانون الذي يشمل مجموعة القواعد التي تهدف إلى جعل الحرب أكثر إنسانية، سواء في العلاقة بين الأطراف المتحاربة، أو بالنسبة إلى الأشخاص غير المنخرطين في النزاع المسلح، أو بخصوص الممتلكات والأهداف غير العسكرية؛ وأن اتفاقيات القانون الدولي الإنساني تتسم بالطابع التشريعي، على اعتبار أنها تلزم دولا ليست أطرافا فيها، وأنها قواعد آمرة لا تجوز مخالفتها أو الاتفاق على التنازل عن الحقوق التي ترتبها؛ وأن لهذه الاتفاقيات ولبروتوكوليها الإضافيين دور في حماية البيئة في فترات اندلاع النزاعات المسلحة؛ وأن مشكلة البيئة والآثار البيئية المدمرة التي تخلفها النزاعات المسلحة لا تعرف حدودا سياسية أو جغرافية؛ وأن المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية تلعب دورا لا يقل أهمية في مجال حماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة؛ وأن النظام الخاص بالمسؤولية فيما يتعلق بالموضوع يتأسس على فكرة رئيسية مؤداها أن البيئة لم تعد شيئا داخليا فقط، وإنما هي تجسيد حي لمفهوم التراث المشترك للإنسانية. غير أن الكاتب أغفل إيراد جوانب القصور التي تعتري نظام المسؤولية الدولية عن الأضرار البيئية في أوقات النزاعات المسلحة.
وتناولت السيدة (Léonelle Flore Nguinta Heugang Diekouam) في كتابها (La protection de l'environnement en période de conflit armé)، الصادر في 2015 عن (L’Harmattan) بباريس، الموضوع في فصلين اثنين، بحيث تطرقت في الفصل الأول إلى الحماية الضعيفة للبيئة أثناء النزاع المسلح، عبر استعراض حالة الضعف التي تميز الإطار المعياري لحماية البيئة أثناء النزاع المسلح؛ وعدم متانة نظام المسؤولية الدولية في مجال حماية البيئة أثناء النزاع المسلح. واقترحت في الفصل الثاني حماية قابلة للكمال، من خلال بسط أوجه القصور التي تعتري حماية البيئة أثناء النزاع المسلح؛ وتقديم طرق ووسائل لضمان حماية فعالة للبيئة أثناء النزاع المسلح.
وفي خاتمة كتابها، استعرضت الباحثة ما تناولته في ثنايا كتابها من نقائص تعتري نظام حماية البيئة أثناء النزاع المسلح وآلياتها. وفي سبيل تجاوز هذه الوضعية السلبية، أوردت عددا من المقترحات التي تهم الصعيد الدولي، والتي يمكن إجمالها في ضرورة تأطير "الضرورة العسكرية" أو حذفها؛ وإحداث محكمة عالمية للبيئة؛ وصندوق للبيئة كفيل بإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاع المسلح؛ وإحداث محكمة جنائية بيئية. أما بالنسبة للمقترحات الوطنية، فقد همّت تحسيس الجمهور والعسكريين والسلطات؛ ومعاقبة مجرمي البيئة؛ فضلا عن ضرورة الأخذ بعين الاعتبار حقوق الأجيال اللاحقة. غير أن ما يؤاخذ على الكاتبة، أنها تقدمت، في الفصل الثاني من كتابها، بمقترحات تتعلق بتطوير الجانب المؤسساتي، دون أن توضح، في الفصل الأول، جوانب القصور والمحدودية التي تميز هذا الجانب الهام والأساسي في مجال حماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة.
وفي كتابه "الحماية الدولية للبيئة أثناء النزاعات المسلحة"، الصادر في 2015 عن مكتبة زين الحقوقية والأدبية ببيروت، تناول السيد أحمد حميد عجم البدري الموضوع في ثلاثة فصول بعد مبحث تمهيدي خصصه لمفهوم البيئة ومفهوم النزاعات المسلحة، حيث ركز في الفصل الأول على مصادر الحماية الدولية للبيئة أثناء النزاعات المسلحة، ليستعرض الاتفاقيات الدولية؛ فالمبادئ العامة للقانون؛ ثم العرف الدولي وأحكام المحاكم. وفي الفصل الثاني تطرق الكاتب إلى الحماية الدولية للبيئة في ظل منظمة الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر. بينما تناول الفصل الثالث والأخير موضوع المسؤولية الدولية عن الأضرار البيئية أثناء النزاعات المسلحة.
ومن بين النتائج التي توصل إليها الكاتب أن لمفهوم البيئة علاقة وثيقة وأساسية بالحق في حياة كريمة؛ وأن الحماية الدولية للبيئة أثناء النزاعات المسلحة تستمد أسانيدها القانونية من ثلاثة فروع من فروع القانون الدولي، وهي: القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي البيئي والقانون الدولي الجنائي؛ وأن مصادر الحماية الدولية للبيئة أثناء النزاعات المسلحة تتمثل في الاتفاقيات الدولية والعرف الدولي والمبادئ العامة للقانون وأحكام المحاكم؛ وأن منظمة الأمم المتحدة إلى جانب اللجنة الدولية للصليب الأحمر تؤديان دورا كبيرا في مجال حماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة؛ وأن قواعد الحماية الدولية للبيئة أثناء النزاعات المسلحة لن تكون ذات فاعلية ما لم تقترن بجزاء يفرض على من يخالفها. بَيْد أن الكاتب قد اختصر مؤسسات الحماية البيئية في أوقات النزاعات المسلحة في مؤسستين اثنتين فقط، هما منظمة الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ولم يستعرض باقي المؤسسات الدولية العاملة في هذا المجال.
كما تناولت السيدة أمحمدي بوزينة أمنة في كتابها "حماية البيئة الطبيعية أثناء النزاعات المسلحة"، الصادر في 2019 عن دار الجامعة الجديدة بالإسكندرية، الموضوع في فصلين اثنين، حيث تناول الفصل الأول الإطار العام لحماية البيئة الطبيعية أثناء النزاعات المسلحة، عبر إيراد مفهوم البيئة الطبيعية؛ والأضرار التي تلحق بالبيئة أثناء النزاعات المسلحة؛ والإطار القانوني لحماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة. بينما تناول الفصل الثاني آليات حماية البيئة الطبيعية أثناء النزاعات المسلحة، من خلال رصد دور أجهزة الإشراف والرقابة على تنفيذ الأحكام المتعلقة بحماية البيئة الطبيعية أثناء النزاعات المسلحة؛ وتعرّف المحاكم الجنائية ودورها في حماية البيئة الطبيعية أثناء النزاعات المسلحة؛ وتوضيح المسؤولية الدولية عن انتهاكات قواعد حماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة.
واختتمت كتابها بالتأكيد على أن قواعد القانون الدولي الإنساني، إلى جانب الأعراف الدولية والمعاهدات والاتفاقيات الدولية في القانون الدولي العام، قد وفرت حماية للبيئة؛ وأن تدخل المنظمات الدولية لفرض رقابتها يقصد به ضمان السير الحسن للعمليات العدائية وعدم إلحاق أضرار بالبيئة. كما استخلصت بأن الهجوم على البيئة يعد جريمة حرب طبقا لنظام روما الأساسي، مما يعرّض من قام بالهجوم للمساءلة الدولية وتحمل آثارها القانونية كالتعويض المادي، وغير القانونية كالتعرض للتدخل العسكري من أجل وقف الفعل غير المشروع. غير أن الكاتبة أغفلت تناول التحديات الناشئة المتعلقة بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
أما فيما يخص الأطروحات التي درست الموضوع، فقد تناولت السيدة (Karine Mollard-Bannelier) في أطروحتها حول (La protection de l'environnement en temps de conflit armé)، والتي طُبعت في مؤلف صادر في 2001 عن (Pédone) بباريس، الموضوع في ثلاثة أقسام، بحيث تناول القسم الأول من هذا البحث الجوانب المتعلقة بحماية البيئة في زمن النزاعات المسلحة من قِبل قواعد قانون الحرب، عبر استعراض القواعد التي تمنع استخدام البيئة كأداة حربية، أو تلك التي تمنع الوسائل الحربية الضارة بالبيئة؛ وكذا مبادئ قانون النزاعات المسلحة التي تحمي البيئة في مثل هذه الأوقات. بينما انفتح القسم الثاني من البحث على مختلف قواعد القانون الدولي، من خلال تناول إشكالية أثر النزاعات المسلحة على المعاهدات. في حين تناول القسم الثالث من نفس البحث المسؤولية الدولية عن الأضرار اللاحقة بالبيئة في زمن النزاعات المسلحة، ليضع تمييزا بين المسؤولية المدنية للدولة عن الأضرار البيئية؛ وبين المسؤولية الجنائية الفردية عن هذه الجرائم.
ومن الخلاصات التي انتهت إليها الباحثة آنذاك، أنه سواء تم التلاعب بالبيئة من أجل خدمة أغراض عدائية، أو كانت البيئة ضحية للآثار الجانبية للعمليات العسكرية، فإن البيئة تتأثر دائما بالنزاعات المسلحة؛ وأن العواقب البيئية الخطيرة لبعض النزاعات المسلحة، سواء كانت داخلية أو دولية، في الماضي أو في الحاضر، تثير مسألة حماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة؛ وأنه إذا كانت قواعد قانون النزاعات المسلحة تحمي البيئة في مثل هذه الأوقات، فإن قواعد القانون الدولي البيئي تستمر في الانطباق ولا تتأثر بهذه النزاعات المسلحة؛ وأن المسؤولية الدولية تتعلق بجبر الأضرار البيئية، وأن المسؤولية الجنائية تستهدف قمع مرتكبي الجرائم البيئية؛ وأنه من الصعب الجمع بين الضرورة العسكرية وبين الحماية الفعالة للبيئة؛ وأن هناك تكاملا بين كل من المقاربة المتمركزة حول الإنسان، وتلك المتمحورة حول البيئة. غير أنها أغفلت في بحثها دور المؤسسات المعنية بتلك الحماية، وبقيت سجينة للنقاشات الفقهية السائدة آنذاك حول آثار النزاعات المسلحة على المعاهدات.
وتناولت الباحثة سلافة طارق الشعلان في بحثها حول "أثر النزاعات المسلحة على البيئة – دراسة تطبيقية وفقا للقانون الدولي الإنساني والقانون البيئي الدولي"، والمطبوع في 2018 ضمن منشورات زين الحقوقية ببيروت، الموضوع في قسمين اثنين، حيث تناول القسم الأول حماية البيئة في العراق من آثار النزاعات المسلحة، من خلال استعراض القواعد العرفية الدولية المعنية بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة؛ ومبادئ القانون الدولي الإنساني المعنية بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة والاتفاقيات التي تحمي البيئة بطريقة غير مباشرة وتطبيقها على العراق. بينما تناول الفصل الثاني الحماية الدولية للبيئة في العراق في ضوء اتفاقيات القانون الدولي الإنساني، من خلال إبراز اتفاقيات القانون الدولي الإنساني التي تعنى بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة (العراق نموذجا)؛ والوقوف على تطور المسؤولية الدولية عن حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
ومن بين الخلاصات، التي أوردتها الباحثة، وجود عدد محدود من النصوص التي تعنى بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة؛ إضافة إلى الحاجة إلى تحديد دقيق لمصطلحاتها، وإلى توسيع نطاقها لتشمل النزاعات المسلحة غير الدولية؛ وكذا غياب هيئة قضائية مختصة للنظر في الجرائم البيئية؛ فضلا عن عدد من المعوقات التي تعترض تحقيق الحماية الفعلية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة بالنسبة للعراق. ومن أجل التغلب على هذه الصعوبات، اقترحت الباحثة اللجوء إلى القانون البيئي الدولي المتطور، وذلك في ظل قصور قواعد القانون الدولي الإنساني؛ وتعديل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليتعامل مع الجرائم البيئية بشكل يضمن عدم الإفلات من العقاب؛ وإحداث هيئة قضائية مستقلة للنظر في القضايا البيئية؛ وإنشاء صندوق لإعادة تأهيل البيئة المتضررة من النزاعات المسلحة؛ وتدقيق المصطلحات الأساسية المتعلقة بالموضوع؛ ووضع نص قانوني لتجريم استغلال الموارد الطبيعية في النزاعات المسلحة. ويؤاخذ على هذا البحث غياب الانسجام في عناوين الأقسام والفصول، إذ انطلق في الفصلين الأول والثاني، من القسم الأول، في سرد القواعد العرفية الدولية ومبادئ القانون الدولي الإنساني المعنية بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، بشكل نظري ودون تطبيقها على الحالة العراقية، على الرغم من أن القسم الأول كان تحت عنوان "حماية البيئة في العراق من آثار النزاعات المسلحة".
من جانبها، تناولت الباحثة خديجة سيف الدين في بحثها حول "الحماية الدولية للبيئة خلال النزاعات المسلحة"، والذي تمت مناقشته خلال السنة الجامعية 2019/2020 بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، الموضوع في قسمين اثنين، حيث تطرقت في القسم الأول إلى النظام القانوني لحماية البيئة في النزاعات المسلحة، عبر استعراض الإطار المفاهيمي للبيئة ومظاهر الاهتمام الدولي بحمايتها؛ وأيضا الحماية الدولية للبيئة في القانون الدولي الإنساني. بينما تطرقت في القسم الثاني من البحث إلى المسؤولية الدولية عن الأضرار البيئية في النزاعات المسلحة، من خلال بسط مفهوم المسؤولية الدولية عن الأضرار البيئية وشروط وموانع تحققها؛ وأيضا المسؤولية المدنية المترتبة عن الضرر البيئي في النزاعات المسلحة.
ومن بين الخلاصات التي توصلت إليها الباحثة أن القانون الدولي الذي يحمي البيئة خلال النزاعات المسلحة لا يقتصر فقط على القانون الدولي الإنساني – بوصفه قاعدة التخصيص -، وإنما يتعداه إلى القانون الدولي البيئي والقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ وأن الالتزام بنشر القانون الدولي الإنساني يساهم في حماية البيئة؛ وأن ممارسة الدول لا تأخذ بالاعتبارات البيئية في الأدلة العسكرية والتشريعات الوطنية والممارسات الوطنية الأخرى إلا بقدر محدود جدا؛ وأن القواعد القانونية التي تعزز حماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة تبقى متفرقة ولا قواسم مشتركة بينها؛ وأنه يمكن تضمين الاتفاقات العسكرية أحكاما تتعلق بالتدابير الوقائية وتقييمات الأثر وتدابير الإصلاح والتنظيف وإزالة مخلفات الحرب؛ فضلا عن التدابير التي تهم مصلحة الشعوب الأصلية، والنازحين، والمطالبين بالحق في المعلومات البيئية. بيْد أن الباحثة لم تورد الخلاصات المتعلقة بالمسؤولية الدولية عن الأضرار البيئية، على الرغم من شَغْل هذا الموضوع لحيز كبير من البحث يقارب نصف أعداد صفحات الأطروحة. كما أنها لم تتطرق في بحثها إلى التحديات الناشئة في مجال حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
أما بالنسبة للمقالات التي تناولت الموضوع، ففي مقاله حول "آليات تنفيذ القانون الدولي الإنساني"، تطرّق السيد عامر الزمالي إلى الالتزامات العامة، وأولاها الالتزام باحترام القانون الدولي الإنساني وحمل الآخرين على احترامه. وبعد استعراضه لبعض الحلول الدبلوماسية لدرء النزاعات المسلحة، ومنها التوفيق والتحقيق، أشار الكاتب إلى الدور الأساسي الذي يقوم به الأشخاص، من قبيل: "العاملون المؤهلون" و"المستشارون القانونيون" لدى القوات المسلحة، كما توقّف عند أدوار المؤسسات، ومنها نظام "الدولة الحامية"؛ واللجنة الدولية لتقصي الحقائق؛ واللجنة الدولية للصليب الأحمر. وقبل اختتام مقاله، استعرض الكاتب "المسؤولية المترتبة على خرق أحكام القانون الدولي الإنساني"، من خلال تناول ثلاث نقط تهم زجر الانتهاكات حسب اتفاقيات جنيف؛ وأيضا دور القضاء الجنائي في تنفيذ القانون الدولي الإنساني؛ فضلا عن المسؤولية المدنية.
وتطرق الأستاذ أنطوان بوفييه، في مقاله تحت عنوان "حماية البيئة الطبيعية في فترة النزاع المسلح"، بعد تقديمه للموضوع، إلى دراسة القانون المنطبق فيما يتعلق بحماية البيئة وقت الحرب، من خلال استعراضه للمبادئ العامة التي تضمنها القانون الدولي الإنساني؛ وكذا المعاهدات التي تحمي البيئة بطريقة غير مباشرة؛ وتلك التي تحمي البيئة على وجه التحديد، وخاصة اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى لعام 1976؛ وأيضا البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف الصادر عام 1977، بمادتيه 35 و55 اللتين تعالجان على وجه التحديد مسألة حماية البيئة في فترة النزاع المسلح الدولي؛ فضلا عن الروابط بين أحكام هذه الاتفاقية وهذا البروتوكول. وقبل ختمه لهذا المقال، أشار السيد بوفييه إلى أن البيئة الطبيعية غير مشمولة بالحماية على وجه التحديد في فترة النزاع المسلح غير الدولي، على اعتبار أن البروتوكول الثاني الإضافي إلى اتفاقيات جنيف، والمعني بحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية، لا يتضمن قاعدة خاصة بحماية هذه البيئة الطبيعية، وإنما تُستشف هذه الحماية مما تضمنته المادتان 14 و15 من نفس البروتوكول.
وفي مقاله حول "الحماية الدولية للممتلكات الثقافية في فترات النزاع المسلح"، توقف السيد محمد سامح عمرو عند الجهود الدولية لتوفير الحماية للممتلكات الثقافية في فترات النزاع المسلح، منذ القرن الرابع الميلادي إلى منتصف القرن العشرين، وذلك عندما تصدت منظمة اليونسكو للموضوع، وأولته اهتماما خاصا، كان من ثمراته اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة لعام 1954، فالبروتوكول الأول الصادر في نفس السنة، إلى البروتوكول الثاني الصادر في 1999. وتوقف الكاتب بعد ذلك عند مفهوم الممتلكات الثقافية المشمولة بالحماية الدولية في فترات النزاع المسلح، قبل أن يستعرض أحكام حماية الممتلكات الثقافية في هذه الفترات. وتتمثل هذه الأحكام في: قواعد "الحماية العامة" الممنوحة بشكل تلقائي لجميع الممتلكات الثقافية؛ وقواعد "الحماية الخاصة" الممنوحة للممتلكات المندرجة في إطار "السجل الدولي للممتلكات الثقافية الموضوعة تحت نظام الحماية الخاصة"؛ فضلا عن قواعد "الحماية المعززة" الواردة في البروتوكول الثاني وفق شروط موضوعية محددة.
كما توقف السيد (Jean-Marc Lavieille)، في مقاله تحت عنوان «Les activités militaires, la protection de l'environnement et le droit international» المنشور بالمجلة القانونية للبيئة، في المحور الأول، عند القواعد القانونية الدولية الخاصة بحماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة، وأبرز جوانب القصور ضمن مجموعة من النصوص القانونية التي تضمن حماية مباشرة للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة، ومنها البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف الصادر في 1977؛ واتفاقية حظر التغيير في البيئة لعام 1976؛ واتفاقية حماية التراث الطبيعي والثقافي لعام 1972؛ وإعلان استوكهولم لعام 1972؛ وميثاق صون الطبيعية لعام 1982؛ وإعلان ريو لعام 1992. كما توقف في الفقرة الثانية من هذا المحور عند النقائص التي تعتري القواعد الدولية التي تحمي البيئة حماية غير مباشرة في أوقات النزاعات المسلحة، قبل أن يقترح في الفقرة الثالثة من نفس المحور اعتماد "اتفاقية جنيف خامسة خاصة بالنزاعات المسلحة وحماية البيئة"، وأكد في هذا الصدد على أهميتها، واقترح بعض مضامينها، وآليات تطبيقها. وفي المحور الثاني من هذا المقال، توقف الكاتب عند القانون الدولي والعلاقات بين السلام والبيئة، من خلال تبيّن أوجه الارتباط بين الاثنين تأثيرا وتأثرا.
وفي مقالها تحت عنوان «Environmental Protection in Armed Conflict: Filling the Gaps with Sustainable Development »، المنشور في "مجلة الشمال للقانون الدولي"، توقفت الكاتبة (Onita Das) عند أثر النزاعات المسلحة على التنمية المستدامة، لتتوسع في المفهوم الشامل للتنمية المستدامة، قبل أن تعالج في محور خاص قواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني الخاصة بحماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة، لتتناول في المحور الأخير من هذا المقال مستقبل التنمية المستدامة وحماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة، من خلال استعراض مدى قابلية تطبيق مبادئ التنمية المستدامة في النزاعات المسلحة. وخلصت الكاتبة في ختام مقالها إلى أن الضرر البيئي الناجم عن النزاعات المسلحة لا يؤثر على البيئة فحسب، وإنما على السكان أيضا، فالبيئة المتضررة جراء هذه النزاعات تؤثر سلبا على أمن السكان وسبل عيشهم ورفاههم في المستقبل، بما يفيد تأثيرها على التنمية المستدامة. وتقترح كاتبة المقال في نهايته دمج المبادئ البارزة للتنمية المستدامة، وخاصة مبدأ التحوط أو الحذر؛ ومبدأ الإنصاف بين الأجيال، ضمن القواعد القانونية الخاصة بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
وبالنظر إلى ما تضمنته الدراسات السابقة في الموضوع، من كتب وأطاريح ومقالات علمية، كما هو وارد أعلاه، يتبين أن أغلبها قد تناول، وفق مقاربة كلاسيكية الجوانب النظرية، المتعلقة بالإطار القانوني والمؤسساتي، قبل الانطلاق إلى الجوانب التطبيقية لموضوع حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، مع الاتفاق على تناول تيْمة المسؤولية الدولية عن الأضرار البيئية في هذه الدراسات. غير أن أغلب هذه الدراسات قد تناول بالتحليل والمناقشة الحالة العراقية، كمثال لتطبيق مبدأ المسؤولية الدولية المدنية عن الأضرار البيئية، وأغفل تناول تطبيقات المسؤولية الدولية الجنائية عن الجرائم البيئية، لغياب نموذج تطبيقي بارز، على الرغم من وجود بعض الملفات الرائجة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وذات العلاقة بالنزاعات المسلحة والموضوع البيئي بمفهومه الواسع.
وإجمالا، يلاحظ على هذه الدراسات أنها قد أغفلت عددا من الجوانب التي سيتم تناولها في هذا البحث، ويتعلق الأمر أساسا بالجوانب الخاصة بحماية البيئة الثقافية أو البشرية أو الصناعية أو المنشأة، على مختلف مسمياتها التي تميزها عن البيئة الطبيعية، وأيضا بمسألة التقييم البيئي في مرحلة ما بعد النزاع المسلح، وكذا المسائل المرتبطة بتحويل النزاعات من أجل بناء السلام البيئي، فضلا عن المستجدات المتعلقة بالموضوع، وخاصة ما تعلق بالنزاعات الراهنة في المنطقة العربية وأضرارها على البيئة الطبيعية والثقافية، أو التحديات الناشئة في مجال حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، من قبيل تحديات الإرهاب والأمن والسلام والتنمية المستدامة؛ وتحديات الحروب السيبيرانية والتطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي، من أسلحة ذاتية التشغيل أو تلك المشغلة عن بعد، وأثر كل ذلك على الجانب البيئي؛ فضلا عن التحديات المتعلقة بسباق التسلح في الفضاء الخارجي وتلويثه، في ظل محدودية المعايير المرتبطة بضبط عسكرة هذا الفضاء البيئي الجديد.
هندسة البحث
تمت هندسة هذا البحث، وفق التقسيم الثنائي، في قسمين اثنين، إضافة إلى مقدمة تمهد للموضوع، وخاتمة تتضمن خلاصات البحث، كما يلي:
القسم الأول: تحليل الإطار العام لحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة
- الفصل الأول: الضمانات القانونية لتأطير حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة
- المبحث الأول: ضمانات الحماية القانونية غير المباشرة للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة؛
- المبحث الثاني: ضمانات الحماية القانونية المباشرة للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
- الفصل الثاني: الآليات والتدابير المؤسساتية لضمان حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة
- المبحث الأول: آليات وتدابير حماية البيئة في مرحلتي ما قبل النزاع المسلح وأثناءه؛
- المبحث الثاني: آليات وتدابير حماية البيئة في مرحلة ما بعد النزاع المسلح.
القسم الثاني: تقييم أدوار آليات وتدابير حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة
- الفصل الأول: تقييم أدوار الآليات والتدابير الوقائية والرقابية الخاصة بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة
- المبحث الأول: تقييم مدى فعالية الآليات والتدابير الوقائية؛
- المبحث الثاني: تقييم مدى فعالية الآليات والتدابير الرقابية.
- الفصل الثاني: تقييم أدوار الآليات والتدابير الزجرية وتحديات الإدارة الآمنة والمستدامة للبيئة في مرحلة ما بعد النزاع المسلح
- المبحث الأول: تقييم مدى فعالية الآليات والتدابير الزجرية؛
- المبحث الثاني: التحديات الناشئة في مجال حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة.
الخاتمة
افتتح واضعو الميثاق التأسيسي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ديباجة هذه الوثيقة، بالقول بأنه "لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام"، لتبقى هذه المقولة شاهدة على الطموح العالمي الذي اجتاح جيل المؤسسين الدوليين، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي شهدت أبشع مظاهر العنف والقتل والتدمير والإضرار بالأشخاص وبالممتلكات، إذ استفادت الآلة العسكرية، آنذاك، من تطور الصناعات الحربية، ومما خلص إليه الذكاء البشري في مجالات الهندسة والتخطيط ووضع استراتيجيات الدفاع والهجوم والمناورة والدعاية، وغيرها من المجالات التي تفتل في حبْل التفوق والتوسع وضمان البقاء للنفس وتدمير الغيْر.
ولا شك بأن تطوير هذه المجالات المرتبطة بتدبير النزاعات المسلحة لم يقف عند تلك اللحظة التاريخية، بل استمر الإنتاج الحربي، وتعاظم تحديث التكنولوجيا العسكرية، وتزايد تطوير مجالات الدفاع، بل وصارت الأدوات والوسائل وأساليب القتال أكثر دموية وفتكا بالإنسان، وأكثر إضرارا بالبيئة الطبيعية والثقافية. وتكشف النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية التي تندلع، بين الفينة والأخرى، وفي شتى بقاع العالم، على هذا التجديد الحربي في الإمكانيات والوسائل والأساليب، وعلى درجة فتكها بالبشر، وعلى شدة إضرارها بالبيئة.
لقد اقتصر هذا البحث على تناول موضوع الإضرار بالبيئة في سياق النزاعات المسلحة، وحاول أن يكشف في ثناياه عن حجم الجهود الدولية القانونية والمؤسساتية التي بذلت في الماضي، ولا زالت تبذل إلى الآن، من أجل ضمان الحماية اللازمة لهذه البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، كما حاول أن يبرز مظاهر القصور وجوانب المحدودية الخاصة بهذه الجهود الدولية، مثلما حاول أن يوضح حجم الرهانات والتحديات الراهنة والمستقبلية، والتي باتت تستلزم بذل المزيد من الجهد الدولي، على المستويين المعياري والمؤسساتي.
تضمّن القسم الأول من هذا البحث تحليلا للإطار العام لحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، واشتمل على فصلين اثنين، أولهما تم تخصيصه للحديث عن الضمانات القانونية الخاصة بتأطير حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، من خلال تناول ضمانات الحماية القانونية غير المباشرة، من مبادئ وأحكام عرفية وأخرى اتفاقية خاصة بوسائل وأساليب القتال، بينما اشتملت ضمانات الحماية القانونية المباشرة على قواعد القانون الدولي الإنساني الخاصة بحماية البيئتين الطبيعية والثقافية، وكذا قواعد القانون الدولي البيئي والقانون الدولي لحقوق لإنسان والقانون الدولي الجنائي، إضافة إلى الأحكام القضائية واجتهادات فقهاء القانون الدولي. بينما تناول الفصل الثاني من القسم الأول رصدا للآليات والتدابير المؤسساتية المعنية بضمان حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، سواء أكانت وقائية أو رقابية أو زجرية، وتم تقسيمها زمنيا، إلى تلك التي تقوم بمهامها في مرحلتي ما قبل النزاع المسلح وأثناءه، وتلك التي تشتغل في مرحلة ما بعد النزاع المسلح.
في حين، تضمن القسم الثاني من هذا البحث تقييما لأدوار آليات وتدابير حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، واشتمل هو الآخر على فصلين اثنين، بحيث تم تخصيص الفصل الأول منه لتقييم مدى فعالية الآليات والتدابير الوقائية، بالاستناد إلى حالتي حرب فيتنام وحرب الخليج الثانية، ولتقييم مدى فعالية الآليات والتدابير الرقابية، من خلال دراسة مبدأ "مسؤولية الحماية"، وتطبيقه من عدمه، في حالات كوسوفو وليبيا وسوريا، وأيضا من خلال دراسة نموذج اللجان الوطنية للقانون الدولي الإنساني. بينما تم تخصيص الفصل الثاني من القسم الثاني من هذا البحث لتقييم أدوار الآليات والتدابير الزجرية في مرحلة ما بعد النزاع المسلح، بالاستناد إلى حالة ساحل العاج لكشف محدودية التقييم البيئي؛ وحالة غزة لتوضيح محدودية التحقيق الدولي؛ وحالة العراق لتوضيح محدودية المساءلة المدنية عن الأضرار البيئية؛ وحالة دارفور بالسودان لكشف محدودية المساءلة الجنائية عن الجرائم البيئية في سياق النزاعات المسلحة. كما استعرض هذا الفصل التحديات الناشئة في مجال حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، مثل تحديات الأمن والسلام والتنمية المستدامة؛ وتحديات التكنولوجيات الحديثة والمستقبلية، كالحروب الإلكترونية؛ والأسلحة ذاتية التشغيل أو المشغلة عن بعد؛ وسباقات القوى العظمى نحو التسلح وعسكرة الفضاء الخارجي.
ومن النتائج التي يمكن استخلاصها من خلال دراسة موضوع حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، يمكن إيراد ما يلي:
* أن تناول موضوع حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة لم يعد من باب الترف الفكري وحديث الصالونات والأماكن المغلقة، وإنما أضحى ضرورة حياتية ملحة وعاجلة، تسترعي اهتمام الجميع، وتدفع في اتجاه تحليل الوقائع وأسبابها وانعكاساتها على البيئة، وتقييم مدى فعالية الآليات والتدابير المرصودة دوليا ووطنيا من أجل حمايتها، لما لكافة العناصر البيئية من دور في بقاء الأفراد والمجتمعات وتطورها وازدهارها؛
* أن المبادئ العامة للقانون الدولي الإنساني، المتعلقة بتحديد الوسائل الحربية وبالتمييز وبالضرورة وبالتناسب وبالإنسانية، لا تحمي البيئة في أوقات النزاعات المسلحة حماية كافية، وذلك بسبب غياب حدود ومعالم واضحة لتطبيق هذه المبادئ، والتي تبقى في نهاية المطاف عامة وغير دقيقة، بل ومتضاربة أحيانا عند جمع بعضها مع البعض. إذ كيف يمكن التوفيق بين مبدأين أساسيين هما مبدأ الإنسانية، الذي يمنع استخدام القوة التي تسبب آلاما لا مبرر لها ومعاناة غير ضرورية للبشر والحجر والشجر على حد سواء، وبين مبدأ أساسي آخر، هو مبدأ الضرورة العسكرية، والذي يقضي بضرورة ضرب الأهداف العسكرية للخصم، بحيث يشكل تدمير هذه الأهداف أو الاستيلاء عليها أو تحييدها ميزة عسكرية أكيدة، مع ما يمكن أن تخلفه هذه الضربات من أضرار جانبية؛
* أن القانون الدولي الإنساني العرفي يحمي البيئة الطبيعية؛ والممتلكات الثقافية؛ والمنشآت والمناطق المحمية من آثار النزاعات المسلحة، في عدد من القواعد التي تضمنها، والتي تشكلت من خلال الاتفاقيات المرصودة لهذا الغرض، وأيضا من خلال الممارسات الدولية التي تكرست مع توالي النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية؛
* أن قواعد القانون الدولي الإنساني كانت سباقة إلى التنصيص غير المباشر على حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، فإعلان سان بطرسبورغ لعام 1868 حظر آنذاك، نوعا مطورا من الأسلحة الحربية؛ واتفاقيات لاهاي الخاصة بالحرب البرية لعامي 1899 و1907؛ والبروتوكول الخاص بحظر استعمال الغازات الخانقة والسامة أو ما شابهها والوسائل الجرثومية لعام 1925، ومعاهدات الحد من التسلح البحري، الصادرة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، قد أكدت كلها على المبادئ العامة لسير الأعمال العدائية، وخاصة المبدأ الدولي الذي مفاده أنه ليس للمقاتلين الحرية المطلقة في اختيار أنواع الأسلحة؛
* أن اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 قد نصت على حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة. فالاتفاقيتان الأولى والثانية قد نصتا على حظر تدمير الممتلكات والاستيلاء عليها، كما حظرت الأساليب الحربية غير المشروعة، من قبيل إحداث الآلام التي لا مبرر لها؛ والتعسف في تدمير الممتلكات وفي الاستيلاء عليها؛
* أن الحماية المباشرة للبيئة الطبيعية في أوقات النزاعات المسلحة قد وردت بشكل صريح ومباشر في اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى EN-MOD لعام 1976، وأيضا في المادتين 35 و55 من البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف الأربع، والصادر في 1977، لكنها تظل غير كافية بالنظر إلى انتهاك مقتضياتها في الحروب التي جرت بعد ذلك التاريخ، وخاصة حرب الخليج الثانية؛
* أن الحماية المباشرة للبيئة الثقافية في أوقات النزاعات المسلحة تجد إطارها القانوني في اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح لعام 1954، والتي نصت على نوعين من الحماية المرصودة للممتلكات الثقافية، هما الحماية العامة والحماية الخاصة. بينما تضمن البروتوكول الأول، الصادر في نفس السنة، نوعا آخر من الحماية سماه بالحماية الواجبة. في حين أن البروتوكول الثاني لعام 1999 قد تضمن جيلا جديدا من الحماية المخصصة لبعض أنواع الممتلكات الثقافية، سماه بالحماية المعززة. غير أن أغلب الأبحاث والدراسات، المتعلقة بحماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة، تستحضر فقط الضمانات القانونية الخاصة بحماية البيئة الطبيعية، ولا تأت بالذكر على مثيلاتها الخاصة بحماية البيئة الثقافية؛
* أن المادتين 35 و55 من البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف لا تحميان البيئة الطبيعية بشكل فعال، وذلك بسبب اشتراط إحداهما توافر ثلاثة عناصر بشكل تراكمي، حتى يكتمل الحديث عن الضرر البيئي الذي يستوجب المساءلة، وهي أن تكون الأضرار اللاحقة بالبيئة الطبيعية "طويلة الأمد؛ وواسعة الانتشار؛ وشديدة". كما أن اختلاف هذه الصياغة التي جاءت في البروتوكول مع تلك التي جاءت في اتفاقية EN-MOD، يضعف من فعاليتها بشكل كبير، فضلا عن عدم تفسير هذه الشروط الثلاثة، مستقلة كما جاءت في الاتفاقية، أو تراكمية كما جاءت في البروتوكول، مما يترك المجال مفتوحا أمام التفسير المرن والتأويل الحر؛
* أن القواعد القانونية المكرسة لحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة قد ارتبطت ارتباطا ثانويا بالقانون الدولي الإنساني الذي جعل من الإنسان محور اهتماماته وفق مقاربة إنسانية محضة، ولم يخصص لموضوع البيئة الطبيعية إلا بعض القواعد المتناثرة بين ثنايا نصوصه المتنوعة. وعلى الرغم من أن هذا القانون كان سباقا إلى الوجود، بعشرات السنين، على القانون الدولي للبيئة في مجال التنصيص على حماية البيئة، إلا أنه لم يواكب التطور الذي شهده هذا الأخير خلال العقود الأخيرة، وخاصة مع ما يشهده العالم من تغيرات مناخية حادة، ونقص في الموارد الطبيعية، وانقراض لبعض الأصناف النباتية والحيوانية، وغيرها من التحولات البيئية الكبيرة والمتنوعة. وقد ترتبط بعض هذه التحولات في البيئة الطبيعية بالنزاعات المسلحة تأثيرا وتأثرا؛
* أن موضوع حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة لا يجد مصدره القانوني في القانون الدولي الإنساني فحسب، بل يتعداه إلى المقتضيات المنصوص عليها في المواثيق الدولية الخاصة ببعض فروع القانون الدولي، ويتعلق الأمر بالقانون الدولي البيئي؛ والقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ والقانون الدولي الجنائي، فضلا عما يرد في الأحكام القضائية، والاجتهادات القانونية لكبار فقهاء القانون الدولي وخبراء الإدارة والبيئة والدفاع، والذين يساهمون، في إطار القانون "المرن"، بتطوير قواعد الحماية الدولية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة؛
* أن الترسانة القانونية الدولية التي تُعنى بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة تظل محدودة، وذلك بالنظر إلى التطورات الهائلة التي حدثت في ميدان التصنيع الحربي وفي تطوير الاستراتيجيات والأساليب العدائية، والتي حولت الأضرار البيئية، الناجمة عن الحروب والنزاعات المسلحة، إلى مشاكل كونية، تهدد الأمن والسلم الدوليين وتعيق البناء الحضاري للإنسانية جمعاء. كما أن مضامينها غير الدقيقة، بل والمتناقضة أحيانا، تستلزم القيام بعمل قانوني مضاعف من أجل تطويره في الاتجاه المناسب. ولعل اعتماد اتفاقية جنيف خامسة خاصة بحماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة، كما ينادي بذلك الخبراء والمهتمون، يكون هو السبيل الأمثل لتطوير هذه الحماية القانونية والنهوض بها؛
* أن نطاق تطبيق بعض مقتضيات القانون الدولي الإنساني المعنية بحماية البيئة الطبيعية أساسا، وخاصة تلك الواردة في المادتين 35 و55 من البروتوكول الإضافي الأول، ينحصر في دائرة النزاعات المسلحة الدولية، ولا يشمل نطاق تطبيقها النزاعات المسلحة غير الدولية. غير أن المفارقة الصارخة التي يمكن تسجيلها في هذا الصدد هي أن أعداد هذه النزاعات المسلحة الداخلية هي الطاغية في الوقت الراهن، ولا تزال أعدادها في ارتفاع مستمر، وأن حجم تأثيرها على البيئة الطبيعية هو في ازدياد مطرد، بحيث لم تعد تقتصر هذه النزاعات المسلحة على منطقة جغرافية معينة، أو بين فئة معروفة من المقاتلين، المنتمين إما إلى الجيش النظامي أو إلى الكيانات المسلحة، بل صارت مطبوعة بطابع مدوّل على الرغم من محلية النزاع المسلح؛
* أنه كان للجنة الدولية للصليب الأحمر دور حاسم في نشأة القانون الدولي الإنساني وتطوره، وأنها ساهمت بشكل فعال في بلورة المواثيق الدولية الخاصة بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، وأسست لبداية الوعي بأهمية حماية هذه البيئة في مثل هذه الظروف. وإلى جانب ذلك، تقوم هذه اللجنة بدور رقابي أثناء النزاعات المسلحة، وتضع العمل الإنساني في الميدان ضمن أولوياتها، من خلال سعيها الحثيث للوصول إلى الضحايا؛ والقيام بأنشطة الإسعاف والحماية؛ وإعمال آليات الوساطة والمساعدة؛ والقيام بالمساعي الحميدة قصد وقف الحرب ودرء ويلاتها. غير أنه عند النظر في مجموع أنشطتها، يتبين أن دورها الوقائي يطغى على دورها الرقابي؛
* أن المؤتمرات الدولية الخاصة بالبيئة قد أشارت بشكل واضح إلى حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة. ويرجع ذلك إلى انعقاد هذه المؤتمرات، في احترام تام لدورية تنظيمها، غير أنه يتصادف مع سياق نزاعات مسلحة دولية، إذ أن انعقاد مؤتمر استوكهولم عام 1972 جاء في سياق وقف العمليات العسكرية في فيتنام، والتي استمرت عقدا كاملا، وشهدت دمارا كبيرا لبيئة فيتنام؛ أما مؤتمر ريو المنعقد في 1992، فقد جاء في أعقاب حرب الخليج الثانية، والتي ألحقت أضرارا فادحة ببيئة المنطقة ككل؛ في حين أن مؤتمر جوهانسبورغ المنظم في 2002 قد انعقد في سياق الحرب الدولية على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ولم تتوقف الجهود البيئية الدولية عن المطالبة بالحماية القانونية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة، ويشهد على هذا الأمر تخصيص مشروع "الميثاق العالمي للبيئة" للمادة 19 منه للحديث عن النزاعات المسلحة والبيئة؛
* أنه قد أنيطت بلجنة القانون الدولي مهمة تعزيز التطوير التدريجي للقانون الدولي وتدوينه، وأن موضوع "حماية البيئة فيما يتعلق بالنزاعات المسلحة" قد تم إدراجه في برنامج عملها طويل الأجل منذ 2013، وأعدت في شأن ذلك مجموعة من التقارير السنوية، وتُوجت هذه الجهود ببلورة مشاريع مبادئ قانونية دولية، تتعلق بالتنفيذ والإنفاذ؛ وبتعزيز حماية البيئة؛ وبحظر الأعمال الانتقامية؛ وبتحديد المناطق المحمية؛ وبحماية بيئة الشعوب الأصلية؛ وبمشروع الاتفاقات المتصلة بوجود قوات عسكرية فيما يتعلق بالنزاع المسلح؛ وبمسارات السلام والتقييمات البيئية والتدابير التصحيحية بعد النزاع المسلح؛ وبمخلفات الحرب، وخاصة في البحر؛ وبمشروع المبدأ المتعلق بتبادل المعلومات والسماح بالحصول عليها. ولا زالت النقاشات مستمرة فيما يخص مواضيع حماية البيئة في ظل الاحتلال؛ والبيئة في النزاعات المسلحة، وغيرها من المواضيع الإشكالية؛
* أن اللجان الوطنية للقانون الدولي الإنساني قد أنيطت بها مهام مرتبطة بملاءمة العمل التشريعي الوطني مع المعايير الدولية، وخاصة مع مجموعة القانون الدولي الإنساني، فضلا عن نشر ثقافة الوعي بأحكام هذا الفرع القانوني؛ وتقديم المشورة؛ وإعداد البحوث والدراسات؛ وتوفير المعلومات؛ وتقاسم التجارب والممارسات الجيدة ذات العلاقة بتطوير وتطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني، وضمنها تلك المتعلقة بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة. غير أنه يلاحظ ضعف أو غياب هذا البعد البيئي في أعمالها، وذلك عند النظر إلى خريطة هذه اللجان الوطنية على المستوى العالمي، والتدقيق في هيكلتها واختصاصاتها؛
* أن التطبيق الأمثل للمقتضيات الخاصة بالقانون الدولي الإنساني يرتهن بمدى نشر هذه القواعد القانونية وتملكها من طرف العسكريين والمدنيين على حد سواء. وأن هذا الأمر يساهم إلى حد كبير في تقوية التدابير الداخلية للدول، من أجل ضمان حماية فعالة للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة. بالإضافة إلى إعداد عاملين مؤهلين، بغية تسهيل تطبيق قواعد هذا القانون؛ فضلا عن ملاءمة تشريعاتها الداخلية مع قواعد القانون الدولي؛ إلى جانب تعزيز دور القضاء الوطني، وتقوية قدرات القضاة والمحامين والدبلوماسيين والإعلاميين في المادة البيئية؛
* أن التزام الدول باتخاذ تدابير تشريعية داخلية هو التزام عام، غير أن الأساليب المتبعة في ذلك تبقى خاصة بكل دولة على حدة، اعتبارا لنظامها التشريعي الخاص. وسواء كانت ملاءمة التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية تتخذ أسلوب الإدراج أو الإحالة أو المماثلة أو اعتماد نص جزائي خاص، فضلا عن الاكتفاء بالتشريع الوطني القائم، فإن الغاية من هذه الملاءمة التشريعية هي تجريم الانتهاكات الجسيمة والأفعال الخطيرة اللاحقة بالبيئة في أوقات النزاعات المسلحة، وتوقيع الجزاء على مرتكبيها؛
* أن المؤسسات التابعة لمنظومة الأمم المتحدة، كمجلس الأمن والجمعية العامة ولجنة نزع السلاح وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وغيرها من المؤسسات الأممية، قد أولت اهتماما خاصا بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، من خلال إصدارها لعدد من القرارات الدولية المتعلقة بالموضوع، وإدراج هذا الأخير ضمن برامج عملها، وتخصيص يوم دولي للاحتفال بمنع استخدام البيئة في الحروب والصراعات العسكرية، مع تأكيدها على أهمية مراعاة المعايير البيئية عند صياغة اتفاقات نزع الأسلحة. غير أن ما يعاب على هذه المنظومة الأممية، في سياق الاهتمام بحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، يعاب عليها بشكل عام في سياق تدبيرها لاختصاصاتها الدولية، وخصوصا ما تعلق بهيمنة القوى العالمية على أجهزتها، وتحكم الآلة السياسية في قراراتها، فضلا عن الانتقادات الموجهة إليها في مجال حكامة التدبير الجيد لمؤسساتها.
* أن مفهوم الحماية الدولية في سياق النزاعات المسلحة قد انتقل من تطبيقات "الدولة الحامية"، كدولة محايدة أو دولة أخرى ليست طرفا في النزاع المسلح، من أجل رعاية مصالح دولة طرف في هذا النزاع الدولي إلى مبدأ "مسؤولية الحماية" التي يكفلها المجتمع الدولي، من أجل مساعدة الدول قصد الوفاء بالتزاماتها في مجال حماية الضحايا. وفي حالة العجز البيّن عن الوفاء بهذه الالتزامات، يستجيب المجتمع الدولي لنداء الإنسانية فيتدخل عسكريا. وفي هذا الصدد، تدخلت القوات الدولية دون إذن من مجلس الأمن في حالة كوسوفو؛ وبإذن منه في حالة ليبيا؛ وامتنعت عن التدخل في الحالة السورية. وتعود أسباب هذا الامتناع إلى الانحراف في التطبيق السليم لمبدأ "مسؤولية الحماية" في ليبيا، وأيضا بسبب الدور المعرقل لبعض القوى العظمى داخل مجلس الأمن الدولي، مع ما كان لهذا الامتناع من تداعيات إنسانية كارثية في سوريا ومن تدمير هائل لبيئتها الطبيعية والثقافية. الأمر الذي يؤكد الطابع الانتقائي عند تفعيل هذا المبدأ، مع غياب الفعالية اللازمة عند تطبيقه؛
* أن الاختصاص الموضوعي للجنة الدولية الإنسانية لتقصي الحقائق يقتصر على الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف والبروتوكول الأول الإضافي الخاص بحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية. كما أن هذه اللجنة الدولية لا تمارس أدوارها بالرغم من مرور أكثر من ربع قرن على ميلادها، وذلك بسبب العقبات الكثيرة التي تعترض عملها. وكنتيجة لتعرقل عمل هذه اللجنة الدولية، يغيب موضوع حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة ضمن أشغالها؛
* أنه يُشترط في قيام الآليات الرقابية، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية لتقصي الحقائق والدولة الحامية، بمهامها على الوجه الأمثل توفر شرطيْ الحياد وموافقة أطراف النزاع. وإذا كان الشرط الأول متوفرا في هذه الهيئات، فإن توفر الشرط الثاني يتوقف على الإرادة المنفردة لكل طرف من أطراف النزاع المسلح، وعليه يظل أمر التدخل الإنساني لهذه الأجهزة معلقا إلى حين موافقة الطرفين معا على ذلك؛
* أنه يمكن الاستعانة بآليات مراقبة حقوق الإنسان من أجل ضمان حماية كافية للبيئة وللموارد الطبيعية في أوقات النزاعات المسلحة، وخاصة في النزاعات المسلحة غير الدولية، على اعتبار الإمكانيات التي تتيحها الآليات التعاقدية ولجان التحقيق حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ومنها حق هذا الأخير في بيئة نظيفة؛
* أن منظمة اليونسكو تقوم بعمل متميز في مجال تقييم الأثر البيئي للنزاعات المسلحة، من خلال لجنتين أساسيتين، هما لجنة حماية الممتلكات الثقافية؛ ولجنة الدرع الأزرق. وتركز هاتان اللجنتان عند الاضطلاع بمهامهما على تقييم أضرار النزاعات المسلحة على البيئة الثقافية، في حين أن برنامج الأمم المتحدة للبيئة يركز في أعماله التقييمية على مدى إضرار هذه النزاعات على عناصر البيئة الطبيعية. وإذا أمكن القبول بالفصل بين العملين بالاستناد إلى معطى التخصص، فإن خلاصات التقارير والتوصيات المضمنة فيها، والتي توجه إلى الدول محل التقييم البيئي، يتعين أن تتميز بالتكامل والتناسق والالتقائية.
* أنه يسجل طغيان المقاربة العلاجية (Approche Curative) في التعاطي مع موضوع حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، من خلال إطفاء الحرائق؛ وتنظيف ساحات الحرب؛ والتأهيل والإصلاح؛ وإعادة بناء ما أفسدته الحرب؛ وإزالة ما خلفته من الألغام؛ ودفع التعويض للمتضررين، والدفع في اتجاه محاكمة مرتكبي الجرائم البيئية. وذلك، بدلا من تبني المقاربة الاحترازية (Approche Préventive) الكفيلة بتجنب الأضرار البيئية والآلام التي لا مبرر لها، من خلال الاحتكام إلى قواعد القانون الدولي؛ والالتزام بمقتضياته وبالقرارات الصادرة عن الهيئات الأممية؛ وبتغليب لغة الحوار والتفاهم، عوض اللجوء إلى القوة والنزاع المسلح؛
* أنه يتعين تحديث الترسانة القانونية القائمة من أجل ضمان حماية كافية للبيئة في أوقات النزاعات المسلحة. وسواء اتجه المجتمع الدولي نحو وضع اتفاقية جنيف خامسة خاصة بالموضوع، أو اكتفى بتعديل المقتضيات القانونية الحالية وفق المستجدات والتحديات الراهنة، فالمسألة الملحة في هذا الشأن تتعلق بمدى تنفيذ هذه المقتضيات وتطبيقها تطبيقا سليما. إذ أن صلب الإشكالية المتعلقة بحماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة يرتبط بمسألة التطبيق الفعلي، والانتقال من النص النظري إلى الممارسة التطبيقية السليمة؛
* أنه قد تم استخدام عناصر البيئة الطبيعية كوسائل عدائية في حرب فيتنام، أو ما يطلق عليه بالحرب البيئية الإيجابية. حيث تم تنفيذ عملية "يد المزرعة"، وتم استخدام "العامل البرتقالي" في القضاء على الأعشاب وأوراق الأشجار؛ إضافة إلى تنفيذ عملية "المحراث الروماني" لقطع النباتات والأشجار وكشف الأدغال الفيتنامية؛ فضلا عن استحداث الأراضي الموحلة. وقد تم كل هذا في ظل غياب نص قانوني صريح يمنع الحرب بالبيئة، إذ لم يخصص المشرع الدولي اتفاقية تمنع مثل هذه الأفعال العدائية التي تجعل من البيئة سلاحا (اتفاقية ENMOD) إلا في 1976، أي بعد انتهاء حرب فيتنام بسنوات. وعلى الرغم من إحداث إطار قانوني يمنع الحرب بالبيئة، وآخر يمنع الحرب على البيئة (بروتوكول 1977)، إلا أن حروب منطقة الخليج العربي قد أضرت بشكل كبير بيئة بلدان هذا الخليج، وحتى في ظل وجود تنصيص صريح على حماية البيئة من أضرار النزاعات المسلحة. الأمر الذي يؤكد محدودية التأطير القانوني في ظل غياب عنصر الإلزام، وضعف التطبيق السليم للقواعد القانونية؛
* أن التقييم البيئي في مرحلة ما بعد النزاع المسلح، والذي يجريه برنامج الأمم المتحدة للبيئة قد يتضمن توصيات توجه إلى الحكومات المعنية بهذا التقييم، وذلك من أجل النهوض بالإدارة البيئية في المرحلة اللاحقة للنزاع المسلح، غير أنه على العكس من ذلك، قد يستمر التدهور البيئي، وتفشل الإدارة المدنية في الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية، بل وقد يتم اللجوء إلى القوات العسكرية للمساهمة في حماية البيئة، مثلما حدث في ساحل العاج. ويؤشر هذا الأمر على محدودية النتائج المترتبة عن عمليات التقييم البيئي في مرحلة ما بعد النزاعات المسلحة، إذا لم تتوفر الإرادة السياسية، وكذا البيئة الإدارية الملائمة، من أجل تحويل التوصيات الواردة في تقارير التقييم إلى خطط عمل واستراتيجيات تنهض بالبيئة وتحميها من شتى الأضرار؛
* أن التحقيق الدولي في مرحلة ما بعد النزاع المسلح قد تجريه لجنة أممية معينة من قبل إحدى الهيئات التابعة لمنظومة الأمم المتحدة، وذلك قصد التحقيق وتقصي الحقائق في ملابسات النزاع المسلح؛ ورصد أضراره البشرية، وأيضا أضراره على البيئتين الطبيعية والثقافية. وفي أعقاب عملية التحقيق الدولي، يتم إصدار تقرير ينسب إلى تلك اللجنة التي قامت بإعداده. وتعتبر أهم فقرة في التقرير هي تلك التي تتضمن استنتاجات التحقيق القانونية والوقائعية، وكذا التوصيات الموجهة إلى الأطراف المعنية بهذا النزاع. غير أن غياب المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة التي قد يرصدها التقرير، وحالة الإفلات من العقاب، وتكرار الانتهاكات الخطيرة الموجهة ضد الإنسان وضد بيئته، كما حدث في حالة الحروب الإسرائيلية على غزة، يوضح بجلاء محدودية هذه الآلية ذات البعد الحقوقي في حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة؛
* أن المسؤولية المدنية الدولية عن الأضرار البيئية تتم إثارتها في وجه الدولة التي قامت بالأفعال الضارة بالبيئة، قصد تعويض المتضررين من هذه الأفعال التي قد تشمل الإضرار بالبيئة واستنفاذ الموارد. ويكون التعويض عن تلك الأضرار إما عينيا أو ماديا، وتؤكد الممارسة الدولية أن التعويض المادي هو الأكثر شيوعا. غير أن المساءلة المدنية عن الأضرار البيئية في سياق النزاعات المسلحة قد تأخذ بعدا سياسيا، مثلما وقع في الحالة العراقية، وذلك حينما تم الاستناد إلى قرار مجلس الأمن في إقرار هذه المساءلة المدنية، دون اللجوء إلى هيئة قضائية يفترض فيها الحكم بالتعويض كجزاء عن المسؤولية المدنية الدولية للمتسبب في الضرر البيئي.
* أن المسؤولية الجنائية الدولية عن الجرائم البيئية تتم إثارتها في وجه الأفراد مرتكبي هذا النوع الخطير من الجرائم التي تُقترف في سياق النزاعات المسلحة، والتي تفي بمعايير النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ويتم اللجوء إلى هذه الأخيرة إذا كان القضاء الوطني غير قادر أو غير راغب في المساءلة الجنائية للمتهمين. غير أنه على الرغم من إحالة ملفات بعض من هؤلاء على المحكمة الجنائية الدولية، كما وقع في حالة دارفور بالسودان، قد تتعثر المتابعات القضائية الدولية للمسؤولين المباشرين عن جرائم الحرب، وقد يستمر الإفلات من العقاب، مما يؤشر على محدودية المساءلة الجنائية الدولية للقادة مرتكبي الجرائم البيئية.
* أن مجموعة من التحديات الناشئة في موضوع حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة قد طغت على سطح العلاقات الدولية، وتنتظر تدخل الفاعلين القانونيين قصد ضبطها، وتقعيد التعامل معها. ومن بين هذه التحديات، على سبيل المثال لا الحصر، تحديات بروز فاعلين عسكريين جدد، من قبيل القوات متعددة الجنسيات والشركات العسكرية والأمنية الخاصة؛ وأيضا تحديات الأفعال الإرهابية الموجهة ضد عناصر البيئتين الطبيعية والثقافية؛ وكذا رهانات تحويل الصراعات من أجل بناء السلام البيئي؛ وتحديات ارتباط الصراعات بالتغيرات المناخية وباللجوء البيئي؛ ورهانات العدالة البيئية والتنمية المستدامة؛ فضلا عن التحديات المتعلقة بالحروب السيبرانية والأسلحة ذاتية التشغيل أو الموجهة عن بعد؛ وبالسباق المسلح نحو الفضاء الخارجي للأرض؛
* أنه مع انخراط الأفراد التابعين للقوات متعددة الجنسيات، وللشركات الأمنية والعسكرية الخاصة، في سياق النزاعات المسلحة، يصير هؤلاء "مقاتلين" بغرض تمييزهم عن غير المقاتلين، كما يصيرون "أهدافا عسكرية مشروعة" بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني، وأن عليهم التزامات باحترام هذه القواعد وكفالة احترامها، ومنها حظر ارتكابهم لانتهاكات خطيرة بحق عناصر البيئة الطبيعية والثقافية للدول مسرح العمليات العسكرية. غير أن السؤال المتعلق بمن يتحمل مسؤولية أفعال هؤلاء لا يجد له جوابا، بالنظر إلى تعدد المعنيين بالأمر، هل المسؤول هنا هو من أوْكل لهذه الكيانات بالقيام بتلك الأفعال؟ أم الدول المشاركة في تلك القوات؟ أم دولة المنشأ بالنسبة للشركات؟ أم بنيات القيادة والسيطرة؟ أم الأفراد الذين قاموا بتلك الأفعال؟ كما أن الممارسة الدولية في هذا المجال لا يمكن البناء عليها في الإجابة عن هذا السؤال؛
* أن العلاقة بين الإرهاب وبين تدمير البيئة واستغلال الموارد الطبيعية تظل حاضرة في ظل النزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية، كما تربط علاقة سببية بين بروز ظاهرة الإرهاب واستفحال ظاهرة التغيرات المناخية، على اعتبار أن الكثير من المناطق التي تعاني تأثيرات تغير المناخ، تعاني من انعدام الأمن والفقر والإرهاب. ويتغذى هذا الأخير من عائدات الموارد الطبيعية والممتلكات الثقافية، المستغلة بطرق غير مشروعة، في عدد من البلدان التي شهدت نزاعات مسلحة، مثل تشاد والصومال والعراق وسوريا؛
* أنه يمكن اعتبار الموارد الطبيعية، في الدول التي شهدت نزاعات مسلحة، بمثابة لعنة تلاحق هذه الدول الدائرة في دائرة الصراع. غير أن التحدي المطروح في هذا الصدد هو تحويل هذه الصراعات من كوابح للتنمية والازدهار إلى عوامل لبناء السلام والأمن والتنمية الشاملة والمستدامة. ولعل طريقة تدبير نزاعات البحيرات الكبرى؛ وأمريكا الجنوبية قد يشكلان نموذجا يحتذى به بالنسبة لباقي الدول التي تعيش على وقع صراعات الموارد الحدودية المشتركة؛
* أن التغيرات المناخية قد ساهمت في اندلاع عدد من النزاعات المسلحة الراهنة، بسبب توالي سنوات الجفاف؛ وتمدد ظاهرة التصحر؛ وتدهور الأراضي؛ وانعدام الأمن الغذائي. كما ساهمت هذه التغيرات المناخية في تفاقم الهجرة البيئية؛ والبحث عن المراعي؛ وتجاوز الحدود الإقليمية للدول؛ والاحتكاك بين المجتمعات الزراعية والمجتمعات الرعوية داخل الدولة الواحدة أو بين دول تتشارك الموارد الطبيعية. وفي بعض الأحيان، تتحول هذه الاحتكاكات إلى نزاعات مسلحة، مثل ما وقع في دارفور، وتضغط هذه النزاعات بشكل كبير على الموارد الطبيعية، لتشكل حلقة حلزونية تمتد من الضغط على الموارد بسبب اللجوء البيئي، إلى النزاع المسلح، لينتج عن هذا الأخير نزوح قسري آخر.
* أن الأضرار البيئية الناجمة عن النزاعات المسلحة تتناقض ومفاهيم العدالة البيئية، والاستدامة، وحقوق الأجيال المقبلة، على اعتبار أن هذه النزاعات قد تمتد لسنوات كثيرة، ويمكن أن تصيب آثارها أجيالا لاحقة لم تشارك في مثل هذه النزاعات المسلحة. وهو ما يتعارض مع مفهوم العدالة البيئية المنطلقة من المعاملة العادلة والمشاركة الفعالة لجميع الناس، كما يتعارض جذريا مع مفهوم التنمية المستدامة، والمتعلقة بالوفاء باحتياجات الحاضر، دون الإخلال بقدرة الأجيال المقبلة على الوفاء باحتياجاتها، كما حدد ذلك تقرير برونتلاند؛
* أن الحروب السيبرانية قد تؤدي إلى تعطيل أو تدمير أنظمة المعلومات والاتصالات المرتبطة بمختلف مناحي الحياة، بما فيها السدود، والجسور، ومحطات توزيع المياه، والكهرباء، وإنتاج الطاقة النووية، وغيرها من المجالات ذات الصلة بالموضوع البيئي. ويشكل هذا الأمر تحديا هائلا للدول وللمجموعة الدولية، وذلك بالنظر إلى تأخر حركة التقنين المتعلقة بهذا المجال، وأيضا إلى المخاطر التي يمكن أن تحملها مثل هذه الحروب للبشرية جمعاء، ولعل الهجمات الإلكترونية على إستونيا في 2007؛ وعلى جورجيا في 2008؛ وعلى محطة ناطانز النووية الإيرانية في 2010؛ وغيرها من الهجمات السيبيرانية المنظمة، قد عجلت بالبدء في التعامل القانوني مع هذا الجيل الجديد من الحروب، عبر إعداد "دليل تالين 1.0" في 2013؛ ونسخته المعدلة "تالين 2.0" في 2017؛ ثم النسخة التي انطلقت مراجعتها في 2021، ويتعلق الأمر بدليل "تالين 3.0"؛
* أنه استجابة لضغط البحث والتطوير، ولمتطلبات المعارك الحديثة، صار الدور المحوري للبشر في ميدان النزاعات المسلحة موضع تساؤل، سواء من الناحية العملياتية أو الاستراتيجية، على اعتبار أن الأسلحة ذاتية التشغيل، من روبوتات عسكرية وطائرات من دون طيار، باتت تقوم بأدوار عسكرية أكثر فاعلية، وفي غاية التعقيد، وذلك عبر بحثها في الميدان، كما في الأجواء، عن الأهداف الأمنية والعسكرية، قبل أن تقوم بتبليغ المعلومات إلى منصات الرصد والتتبع، وقد يشتمل دورها على إصابة هذه الأهداف، وتحييد العناصر المستهدفة، أو تدمير المركبات المتحركة أو المنشآت الثابتة، أو الأهداف ذات العلاقة بالشأن البيئي. الأمر الذي بات يشكل تحديات جمة على الفاعلين والمهتمين من الناحيتين القانونية والأخلاقية؛
* أنه قد انتقل السباق نحو الفضاء الخارجي من الطابع المدني إلى الطابع العسكري، وتعاظم هذا الأخير في ظل الحرب الباردة بين القطبين، ليتخذ أبعادا عسكرية جديدة في الوقت الراهن، من خلال تطوير الصواريخ البالستية العابرة للقارات؛ وإطلاق الأقمار الصناعية ذات الاستعمال العسكري؛ وتطوير الصواريخ المضادة للأقمار الصناعية؛ وإحداث وحدات القيادة العسكرية الفضائية للدول العظمى. الأمر الذي يطرح تحديات حقيقية بشأن تحويل الفضاء من مجال للاستعمال السلمي إلى "مجال للحرب القادمة"؛
* أن النشاط العسكري في الفضاء الخارجي، وخاصة تدمير الأقمار الصناعية بواسطة الصواريخ البالستية، من طرف أربع قوى فضائية عظمى لحد الآن (الصين في 2007 / الولايات المتحدة الأمريكية في 2008 / الهند في 2020 / روسيا في 2021)، قد خلّف تلوثا كبيرا في الفضاء الخارجي للأرض. ويشكل الحطام الفضائي تهديدا خطيرا بالنسبة لاستدامة بيئة الفضاء، وسلامة رواد الفضاء، والسلامة التشغيلية للمركبات الفضائية، وذلك في ظل محدودية كبيرة للإطار القانوني المنظم للفضاء الخارجي. ولعل الأعمال الجارية في أروقة الأمم المتحدة، والمتعلقة بمنع حدوث سباق تسلح في الفضاء الخارجي؛ وبكفالة الشفافية وبناء الثقة في أنشطة الفضاء الخارجي؛ وبعدم البدء بوضع أسلحة في الفضاء الخارجي؛ وبالحد من التهديدات الفضائية عن طريق وضع معايير وقواعد ومبادئ تضبط أنماط السلوك المسؤول، قد تساهم، مع غيرها من الأعمال القانونية، في خفض التوتر والحد من التهديدات العسكرية في بيئة الفضاء الخارجي.
وفي الختام، يمكن القول بأن هذا البحث حاول، في قسمه الأول، تحليل الإطار العام لحماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، عبر دراسة مختلف النصوص القانونية التي تقدم حماية مباشرة وغير مباشرة للبيئتين الطبيعية والثقافية في مثل هذه الأوقات، وأيضا من خلال الاطلاع على مهام وأدوار الآليات المؤسساتية وتدابيرها الإجرائية المعنية بهذا الموضوع. كما حاول، في قسمه الثاني، وضع تقييم لمدى فعالية هذه الآليات المرصودة، سواء كانت آليات وقائية أو رقابية أو زجرية، في حماية البيئة في أوقات النزاعات المسلحة، قبل أن يستعرض بعض التحديات الناشئة في هذا المجال. فإن وُفّق الباحث في ذلك، فبتوفيق من البارئ عزّ وجلّ. وإن قصّر، فمن نفسه المطبوعة بالنقص، غير أنها تواقة، بكل تأكيد، إلى المزيد من العلم والمعرفة.