سياقات إقالة تيلرسون وتداعياتها

ستعرف الدبلوماسية الأميركية بقيادة وزير الخارجية المرشح، مايكل بومبيو، تصعيدًا في عدد من الملفات الحساسة لكن ستحافظ على التوجه السائد في عهد ريكس تيلرسون في التعامل مع الأزمة الخليجية.
dffda6849a24465592819d1e16c088ac_18.jpg
من اليمين: وزير الخارجية المرشح مايكل بومبيو، نائب الرئيس مايك بنس، الرئيس دونالد ترامب، مستشار الأمن القومي هربرت مكماستر [Al Jazeera]

أصبح وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، الاسم الحادي والعشرين على قائمة كبار المسؤولين الذين تمت إقالتهم أو قرروا الاستقالة من العمل في حكومة دونالد ترامب بعد أقل من أربعة عشر شهرًا من تشكيلها عقب تزكية مجلس الشيوخ. وأثار القرار المفاجئ للرئيس ترامب بالاستغناء عن تيلرسون عدة تفسيرات وتأويلات تركز على عدم وجود تناغم سياسي ونفسي بين الرجلين، وكيف عانت السياسة الخارجية الأميركية خلال تلك الفترة مما يمكن تسميته معضلة "الدبلوماسية التي تعمل برأسين"، وتباعد المسافة بين ما كان الرئيس ترامب ينحو إليه في البيت الأبيض وما تمسك به تيلرسون في وزارة الخارجية، فضلًا عن حالة الارتباك وأحيانًا القلق التي عايشتها شتى عواصم العالم حول حقيقة المواقف والقرارات النهائية لدى واشنطن.

حذرت نانسي بيلوسي، زعيمة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب، من أن قرار عزل تيلرسون بهذه الطريقة يقوِّض مصداقية الحكومة الأميركية في الخارج. والملاحظ أن ترامب منذ دخوله البيت الأبيض، في العشرين من يناير/كانون الثاني 2017، كرَّس مبدأ تضييق نطاق تأثير وزارة الخارجية، وتقليص ميزانيتها بنسبة ثلاثين في المئة، وتحويل بعض الملفات مثل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي والعلاقات مع المكسيك إلى جاريد كوشنر، صهره ومستشاره في البيت الأبيض. وحتى منتصف مارس/آذار 2018، تظل سبعة من أصل تسعة من المناصب الرفيعة في الوزارة شاغرة دون اكتراث ترامب بمصيرها.

من الأمثلة المثيرة لهذا التباين بين تيلرسون وترامب في تدبير السياسة الخارجية سجالهما حول الانفتاح على فكرة الحوار مع كوريا الشمالية التي دعا إليها تيلرسون خلال زيارته الصين، في سبتمبر/أيلول 2017، لكن ترامب قرر وقتها إحباط هذا المسعى بتغريدته الشهيرة: "لا تضيِّع طاقتك، يا ريكس، سنفعل ما ينبغي فعله". هناك أيضًا تضارب في المواقف بينهما حول مصير الاتفاق النووي مع إيران والدول الأوروبية بعد أن قرر ترامب عدم التوقيع على تمديد العمل به بعد ثلاثة أشهر وتحويل الملف إلى أعضاء الكونغرس لإيجاد طريقة ما للتحلُّل منه، وإن كانت بعض البنود تنص على عدم تراجع أية دولة وقَّعت عليه عن الالتزام بمقتضياته.

تجسد التباين بين فلسفتي الرجلين أيضًا حول الغاية من اعتراف البيت الأبيض بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ومعارضة ترامب للهجرة من الدول الإفريقية. وتكمن المفارقة في أن تيلرسون تلقى اتصالًا من جون كيلي، رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض، يوم السبت، بشأن قرار الإقالة وضرورة اختصار جولته بين العواصم الإفريقية وهو يحاول جاهدًا ترميم العلاقات الأميركية-الإفريقية و"إصلاح" ما أفسده تصريح ترامب الذي وصف الدول الإفريقية وهايتي بأنها "أوكار قذرة" ضمن حملته من أجل تغيير قوانين الهجرة إلى الولايات المتحدة.

كان تيلرسون أحد أعضاء فريق رباعي سياسي واستراتيجي داخل الحكومة يشمل جون ماتيس، وزير الدفاع، وهربرت مكماستر، مستشار الأمن القومي، وجون كيلي، رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض. وتحول هؤلاء الأربعة إلى جناح وسطي معتدل يتحدث بنبرة الحوار الدبلوماسي وتأجيل تبني مبدأ الحلول العسكرية. ونجحوا أكثر من مرة في إقناع الرئيس ترامب بالعدول عن بعض قراراته إزاء كوريا الشمالية وأزمة الخليج والملف النووي الإيراني وسط تلويح ترامب بأن الاتفاق النووي مع طهران هو "أسوأ صفقة في التاريخ الأميركي".

غير أن الاعتبارات الأهم وراء قرار ترامب استبدال مدير وكالة المخابرات المركزية، مايكل بومبيو، بتيلرسون لا تهم الماضي وحده بقدر ما تهم المستقبل في ظل حاجة ترامب في الأشهر القادمة لرجل يعتبره براغماتيًّا ومخلصًا ينجح في تطبيق غاياته في السياسة الخارجية إلى أبعد مدى ممكن. وهي اعتبارات مهمة تفسر أيضًا توقيت الإقالة في منتصف مارس/آذار 2018 وليس في أكتوبر/تشرين الأول 2017 عندما وصلت العلاقة الشخصية بين ترامب وتيلرسون إلى أسوأ منحدراتها بعد وصفه الرئيس بأنه "أحمق". وقد أقر الرئيس ترامب بأنه وتيلرسون "لم يكونا يفكران بالطريقة ذاتها" في إشارة إلى التباعد الدبلوماسي والفلسفي بينهما حتى ضمن اتفاقهما على ضمان "عظمة أميركا".

يمكن اختزال تلك الاعتبارات الأهم في قناعة ترامب بأنه يحتاج حاليًّا إلى فريق حكومي متجانس ووزير خارجية يخدم أجندته في نطاق السياسة الخارجية بشكل حرفي حسب أولويات المرحلة المقبلة: 

ملف إيران 

يعوِّل ترامب على بومبيو بعد توليه ملف الخارجية في إدارة مرحلة التحلُّل من الاتفاق النووي مع طهران في مايو/أيار 2018 بالنظر إلى علاقاته الجيدة مع أغلب الأعضاء الجمهوريين والديمقراطيين في الكونغرس بعد أن شغل منصب النائب عن ولاية كنساس بين عامي 2011 و2017. ويُعد بومبيو من صقور الحزب الجمهوري، وأنه رجل الحسم في مجال الأمن القومي وتعزيز القدرات الاستخباراتية والدفاعية والهجومية للجيش الأميركي. وهو أيضًا منفتح على التعاون مع وكالات الاستخبارات الأوروبية. 

صفقة القرن 

يعتقد ترامب أن بومبيو أقرب إلى ميوله اليمينية وتأييد إسرائيل أكثر فأكثر، وأن لديه فرصة جيدة كوزير خارجية جديد في الترويج لما أصبح يُعرف بـ"صفقة القرن"، واستمالة الأطراف الفلسطينية والعربية المناوئة لقبولها بديلًا لخطة المفاوضات وحل الدولتين. ويعد بومبيو أحد السياسيين الذين جاؤوا إلى مركز صنع القرار في واشنطن بفضل تلويحه بشعارات حركة الشاي اليمينية التي تتقاطع مصالحها مع مصالح الجماعات الأنغليكانية المسيحية التي كانت قوة الدفع الرئيسية في بلورة قرار ترامب بشأن القدس بإيعاز من نائبه مايك بنس وقادة اللوبي اليهودي وفي مقدمتهم شلدون أدلسون، الملياردير اليهودي الأميركي والمتبرع للحزب الجمهوري. 

مشروع المفاوضات مع كوريا الشمالية 

خلال استقبال الوسيط الكوري الجنوبي في البيت الأبيض في الثامن من مارس/آذار 2018، قرر الرئيس ترامب قبول اللقاء مع الزعيم الكوري الشمالي في أواخر مايو/أيار 2018 دون التشاور مع تيلرسون. وتبعًا لحرصه على أن يظل "رجل الصفقات" وأن يكون الفائز في كل مفاوضات، يفترض ترامب أن بومبيو سيكون ساعده الأيمن في مواجهة الوفد الكوري الشمالي خلال القمة وضمان ترجيح كفة المطالب الأميركية على نظيراتها الكورية الشمالية من أجل ضمان تخلي بيونغ يانغ عن تصنيع رؤوسها البالستية وتطوير قدراتها النووية. يبدو أن ترامب وبومبيو يسعيان لإحراز نصر دبلوماسي على حساب الرئيس كيم أون واستثمار ذلك النصر انتخابيًّا بموازاة انتخابات الكونغرس هذا العام. 

مستقبل الاتفاقيات الجارية مع التكتلات الدولية 

يسعى ترامب إما للتحلل أو إعادة صياغة عضوية الولايات المتحدة في عدة اتفاقيات اقتصادية ومنظمات تجارية دولية. فبعد الخروج من اتفاقية الشراكة مع دول المحيط الهادئ والتلويح بمغادرة اتفاقية المناخ في باريس، يسعى ترامب لتجنيد وزارة الخارجية بقيادة بومبيو في حملة إعادة التفاوض على مستقبل اتفاقية التجارة الحرة بين دول أميركا الشمالية (النافتا) مع كندا والمكسيك، وأيضًا إحراز تقدم مع أعضاء الكونغرس من أجل تحقيق رغبة ترامب في بناء جدار عازل على الحدود الجنوبية مع المكسيك. فضلًا عن ذلك، لا يختلف ترامب وبومبيو في تغليب النزعة الأميركية (Americanism) حتى عندما تنفتح الولايات المتحدة على النزعة العالمية (Globalism). وكما قال ترامب خلال المؤتمر الاقتصادي العالمي في دافوس في السادس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2018: "أميركا أولًا ليس معناه أميركا وحدها" و"أن الولايات المتحدة لن تغمض العين بعد اليوم عن الممارسات الاقتصادية غير العادلة". 

إدارة قضية التدخل الروسي 

قبل يومين من ترشيحه وزيرًا للخارجية، أكد بومبيو في مقابلة مع فوكس نيوز أن الروس حاولوا التأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية، ودحض ادعاء الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأن الشخصيات الروسية الثلاث عشرة الذين وجَّه المحقق الخاص روبرت مولر إليها الاتهام "لا يمثلون الحكومة الروسية". وسيعول ترامب على بومبيو أكثر فأكثر في إدارة هذا الملف بموازاة ما تتجه إليه تحقيقات مولر في عام انتخابات الكونغرس المقررة بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2018. 

تشكِّل هذه الملفات وتقاطعها مع مسعى ترامب لكسب رأسمال سياسي، قبل انتخابات الكونغرس هذا العام وانتخابات الرئاسة بعد واحد وثلاثين شهرًا، الأولويات التي ستستقطب اهتمام كل من ترامب في البيت الأبيض وبومبيو في وزارة الخارجية ضمن مساعي التحرك إلى الأمام بحكومة متجانسة ومتناغمة مع فلسفة "استعادة عظمة أميركا". 

التمسك بتسوية الأزمة الخليجية 

أما بخصوص الأزمة الخليجية، فليس ثمة مؤشرات على حدوث تحول مثير في الموقف الأميركي منها لسببين رئيسيين: أولهما: يحرص ترامب على تجاوز الأزمة وضرورة حلها بين قطر ودول الرباعي (الإمارات والسعودية والبحرين ومصر) قبل عقد القمة الخليجية الأميركية في كامب ديفيد، لاسيما أن رؤية تيلرسون منذ بدء الأزمة في يونيو/حزيران 2017، بضرورة الحفاظ على علاقات أميركية متوازنة وغير منحازة إزاء عواصم الخليج مع ضرورة التمسك بالوساطة الكويتية، أصبحت هي لُبَّ الموقف الرسمي لدى ترامب. ثانيًا: ثمة مصلحة استراتيجية لدى واشنطن في مرحلة ما بعد تيلرسون في التركيز على الملف الإيراني سواء في شقه التعاقدي ضمن الاتفاق النووي، أو العسكري لثني طهران عن تطوير برنامجها النووي كمحصلة نهائية يلتف حولها كل من ترامب وبومبيو ونتنياهو العائد حديثًا من واشنطن بعد تصعيد الخطاب التحذيري من طموحات إيران خلال مؤتمر إيباك الماضي في واشنطن.