التيارات الإسلامية في سوريا: تجربة الثورة وإدارة سلطات محلية

تحاول الورقة أن تقدم مقاربة عن الإسلاميين في سوريا وبناء تصور مركب عن الاتجاهات العامة للأحزاب والجماعات والتنظيمات الخاصة بهم، وتحليل طبيعة الصراع فيما بينها ومع الأطراف الأخرى، وتحليل النتائج والتغيرات التي حدثت بسبب ذلك، وتجربتها في الحكم والتحولات التي شهدتها، والآفاق التي قد تؤول إليها.
7 October 2024
ولَّدت الثورة السورية ديناميات جديدة، وأجبرت الجميع على الانخراط فيها، وغيرت خارطة التنظيمات الإسلامية على نحو لا سابقة له. (أرشيف الجزيرة نت)

مقدمة

شكَّلت سوريا خلال الأعوام الثلاثة عشر المنصرمة مختبرًا استثنائيًّا للإسلاميين في الشرق الأوسط، وأي بحث يتناول الظواهر المرتبطة بالإسلاميين فيها، سيساعد على فهمها في أماكن أخرى حول العالم.  تحاول هذه الورقة أن تقدم مقاربة عن الإسلاميين في سوريا وبناء تصور مركب عن الاتجاهات العامة للأحزاب والجماعات والتنظيمات الخاصة بهم، وتحليل طبيعة الصراع فيما بينها ومع الأطراف الأخرى، وتحليل النتائج والتغيرات التي حدثت بسبب ذلك، وتجربتها في الحكم، والخبرات التي راكمتها، والديناميات التي حكمتها، والقضايا التي شغلتها، والتحولات التي شهدتها، والمصائر التي انتهت إليها، والآفاق التي قد تؤول إليها.

يصعب في سوريا بناء مقاربة نهائية للظواهر المرتبطة بتحولات الإسلامين اليوم،  فهذه الظواهر لا تزال غير مستقرة وهي عرضة للتحول في بيئة مضطربة تولدت عن التحولات السياسية التي تعرضت لها البلاد حين وصلها زلزال الربيع العربي وشهدت ثورة شعبية عارمة عام 2011، وَوُوجِهت بعنف وحشي مفرط دفعها إلى أن تصبح ثورة مسلحة، وفتح الصراع الناشئ عنها الفرصة لتدخل  أطراف دولية في البلاد، وسمح العنف الوحشي الذي ارتكبته القوات الحكومية بخلق بيئة مواتية للحركات الجهادية العابرة للحدود. وبالنظر إلى موقع سوريا على تخوم جغرافية الانقسام الطائفي السني-الشيعي فضلًا عن الطبيعة الأقلوية الطائفية للنظام فقد أصبحت البلاد ساحة للصراع الطائفي والعرقي، وبالتالي أي مقاربة ستبقى نسبية وقابلة للتغيير أمام هذا الوضع المعقد.

ومن المهم التوضيح، أن الورقة في تناولها للإسلاميين تميز بين ثلاثة أنماط للتنظيمات تحت هذا المفهوم، وسيكون هذا التمييز أساس هذا البحث:

نمط الإسلام السياسي: وهي تنظيمات تحتل قضية هوية الدولة مركز اهتمامها، ومقولتها السياسية الرئيسية هي "الدولة الإسلامية". لا تتجاوز هذه التنظيمات عمومًا مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، وتنتهج أدوات تغيير من داخل النظام السياسي، وتنزع إلى العمل السياسي السلمي. تشكل جماعة الإخوان المسلمين وطيفها الحركة النموذجية لتمثيل الإسلام السياسي.

نمط السلفية الجهادية: وهي تنظيمات عابرة للحدود تمثل الخلافة مقولتها الرئيسية، وتتطلع إلى نظام سياسي جديد يقوم على تطبيق الشريعة؛ إذ تعتبر أن المشكلة التي يعاني منها المسلمون حول العالم تكمن في عدم عدالة النظام العالمي، والدولة الوطنية جزء منه. يرى هذا النمط أن إقامة نظام سياسي جديد غير ممكن بغير العنف ليصبح العنف هو أداة التغيير الرئيسة عنده، وبهذا يتقدم مفهوم الجهاد والتضحية خطابه. تحت هذا المفهوم يندرج تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأشباههما.

نمط الإحياء الديني: وهي حركات تعتبر أن التغيير يبدأ من المجتمع وأن العمل على المجتمع سيقود بالنهاية إلى تغيير الدولة؛ ما يجعل الموضوع السياسي مؤجلًا على نحو إستراتيجي؛ ما يسمح للأدوات الناعمة مثل التعليم والالتزام الفردي بالدين أمرًا رئيسيًّا، ويدور نضالها حول الحفاظ على هذا الدور الرعائي.

الإسلاميون عشية الربيع العربي

لم تكن الثورة في سوريا من صنع أي حزب أو تنظيم مدني أو سياسي، كان الأمر خارج توقعات وإرادة الجميع، فقد انتقلت الثورة من تونس إلى سوريا في منتصف مارس/آذار 2011، وكان قد مضى على استلام الرئيس بشار الأسد الحكم من أبيه، نحو عقد ونيف، مورست خلاله سياسات حكومية عامة متناقضة تجاه الإسلاميين، لكنها كانت تسعى لتحقيق ثلاثة أهداف:

الأول: ضمان عدم إمكانية قيام تنظيم من تنظيمات الإسلام السياسي، يشمل ذلك بالطبع عودة الإخوان، وعدم وجود اعتراض ديني يمكن أن يشكل تهديدًا لحكم الأسد.

الثاني: تقديم النظام نفسه على أنه الضامن لإبقاء "المارد الإسلامي" في القمقم، وأن تهديد النظام سيؤدي حتمًا إلى البديل الإسلامي "المخيف"(1)، لاسيما في ثلاثة أحداث عاصفة: هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2002، واحتلال العراق عام 2003، واغتيال الحريري عام 2005.

الثالث: استخدام الإسلاميين للعب دور أمني حاسم في الإقليم؛ ما يجعل بقاء النظام السوري واستقراره حاجة لأمن المنطقة واستقرارها بالضرورة.

نفي الإسلام السياسي: كانت سياسات حافظ الأسد قد أدت إلى إخراج جماعة الإخوان المسلمين من سوريا عقب أحداث الثمانينات؛ فقد أقر قانونًا يحمل الرقم 49 يقضي بعقوبة الإعدام لمنتسبي الجماعة، وطُبِّق بأثر رجعي، وأُعدم بشكل جماعي وممنهج آلاف المعتقلين الإسلاميين (معظمهم من الإخوان) في السجون(2). وعلى الرغم من أن الأسد الأب عمل على التفاوض معهم بغرض تحقيق مصالحة تقلل من مخاطرهم على توريث الحكم لابنه بشار، إلا أنه لم يتخذ أي خطوة فعلية في هذا الاتجاه. عمد الإخوان في نهاية التسعينات إلى إنشاء خلايا سرية للتنظيم داخل سوريا، وأصبح لديهم تنظيم سري قبل وفاة الأسد عرف بـ"تنظيم الداخل"(3)، لكنه ظل تنظيمًا خاملًا حتى اندلاع الثورة عام 2011، كان الغرض من التنظيم هو تهيئة الأرضية لأي عودة محتملة للتنظيم الأم، وأن يكون مصدرًا للمعلومات على الأرض للجماعة.

قبيل وفاة الأسد الأب، عام 1999، جرى تفكيك تنظيم "حزب التحرير ولاية سوريا" واعتقال كافة قياداته وأعضائه وكل من كان على صلة بهم، ولو لم يكن عضوًا في التنظيم. لم يكن حزب التحرير حزبًا يحظى بشعبية في سوريا، ومع ذلك فقد فُكِّك تمامًا حتى لا يشكل وجود تنظيم إسلامي أي خطر على توريث السلطة واستقرارها للأسد الابن، مهما كان خطره ضعيفًا، وبخروج حزب التحرير من المشهد لم يعد ثمة وجود معلن للإسلام السياسي.

الاستثمار في السلفية الجهادية: باستثناء السلفية الإصلاحية التي كانت نخبوية تمامًا والتي نشأت في نهاية القرن التاسع عشر، عبر شيوخ مثل القاسمي وعبد الرحمن الكواكبي، لم تنشأ للسلفية التقليدية في سوريا جذور اجتماعية، وظلت على الدوام أقلية على هامش المجتمع وتخومه. لم يكن بمقدورها الانتشار في المراكز الحضرية الكبرى، إلا أنها تمكنت من تشكيل تيار ضعيف في مدينة دمشق وريفها عماده الشيوخ الألبان(4)، وفي منتصف الثمانينات زادت العمالة السورية في السعودية ودول الخليج، وبشكل خاص في درعا وريف دمشق وحمص ودير الزور، وبدأ يظهر نمط من التدين السلفي الوهابي في العديد من الأرياف، وإن بقي هامشيًّا.

ابتداءً من مطلع التسعينات ظهرت نزعة جهادية ضعيفة تغذت من حرب الخليج الثانية وحروب الاستقلال للدول المسلمة في الاتحاد السوفيتي الذي كان قد تفكك للتو، ثم جاء الصراع الدامي في الجزائر مرورًا بالبوسنة والهرسك، ولم تنشأ مجموعات جهادية عابرة للحدود، لكن الأجواء السياسية في المنطقة كانت تلهب مشاعر الغضب والإحباط معًا، ولم يكن بالإمكان التنبؤ بمآلاتها، فقد كانت أقرب إلى نزعة احتجاجية تنمو مع الوقت وتطور الأحداث. وهذا لا يمنع أن هناك مجموعات صغيرة قد بدأت بالظهور بالفعل، لكنها ظلت جماعات معزولة متأثرة بالتفكير "الجهادي" وتتنازعها أفكار العنف والتغيير بالقوة، أكثر من كونها مجموعات منظمة وتملك أيديولوجيا صلبة.

بعد هجوم مانهاتن، في 11 سبتمبر/أيلول 2001، بدأت الأجهزة الأمنية في استكشاف التوجهات الجهادية، في بلد تم تعقيمه من التنظيمات الإسلامية، لم يكلف الأمر أكثر من السماح بأنشطة مفتوحة للعلن وإتاحتها لمن يرغب بدون "عواقب"، وقد استغرق الأمر نحو عامين حتى برزت الظاهرة الجهادية التي شكَّلها الشيخ محمود قول آغاسي، وكانت ترعاها الأجهزة الأمنية عن كثب. زجت السلطات السورية العديد من عناصرها بين صفوف هذه الجماعة. وقد استفاد النظام السوري من الحالة الجهادية الناشئة عند احتلال العراق، في أبريل/نيسان 2003؛ إذ شاركت في مواجهة القوات الأميركية في العراق، حتى إن النظام استصدر فتوى من مفتي الجمهورية (أحمد كفتارو)(5) وأبرز الشيوخ آنذاك، الشيخ سعيد رمضان البوطي، بوجوب الجهاد في العراق(6). ذلك أن الأسد كان يعتقد أن سوريا هي الهدف التالي بعد العراق، ولتجنب مصير مماثل لمصير صدام حسين كان من مصلحته إعاقة استقرار الاحتلال في العراق.

تطورت الفكرة لدى أجهزة الأمن من "اكتشاف النزعة الجهادية" الغامضة التي قد تزدهر في المجتمع، إلى الاستثمار في الجهادية ذاتها(7)، وقد استُعمل سجن صيدنايا لهذا الغرض. سجنت السلطات السورية المتطوعين السوريين العائدين من العراق، مع سجناء القاعدة القادمين من أفغانستان، وتزامن ذلك مع إطلاق حملة اعتقالات واسعة لذوي الميول السلفية في أنحاء البلاد منذ عام 2004 وزجهم في سجن صيدنايا. وفَّر هذا السجن بيئة فكرية لتوليد جهادية سلفية(8)، لاسيما أن مكتبة جهادية تضم كل المراجع الممنوعة من التداول كانت قد أُتيحت في سوريا؛ ما أدى إلى تحويل المئات من السلفيين التقليديين إلى جهاديين سلفيين، فلم يأت عام 2011 إلا ومئات السلفيين الجهاديين (القدماء والجدد) في سجن صيدنايا، كانوا قد أمضوا سنوات طويلة معًا، ولديهم خططهم وعلاقاتهم في الشبكة الجهادية الواسعة للقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق.

تبادل المصالح مع جماعات الإحياء الديني: شهدت سوريا نماذج لم تكن مألوفة في الدول الأخرى للجماعات الإحيائية الدعوية التي تنشط في المجتمع بهدف الحفاظ على عقائده وقيمه في مواجهة التحولات الاجتماعية والسياسية العاصفة، وفي مواجهة مخاطر التحديث التي يفرزها التطور التقني المتسارع.  

نشأت معظم جماعات الإحياء الديني الرئيسية في سوريا في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات، وهو أمر يعكس الحالة السياسية بطريقة ما، فثمة تزامن بين نشوء الحركات الدينية الإحيائية وتحول سوريا إلى نظام عسكري شمولي وانعدام الأفق في الحياة السياسية. في ظل حكم الأسد الابن والتحولات السريعة المتناقضة في السياسات العامة المتعلقة بالمجال الديني، كان على تلك الجماعات الإحيائية أن تتكيف من أجل البقاء، وفي ظل نظام أمني وقبضة حديدية ليس أمامها سوى المناورة على العمل في نشر الوعي الديني والقيم الأخلاقية والحفاظ عليها، وثمن ذلك كان "تحريم" الاشتغال بالسياسة(9). امتلكت تلك الجماعات عبر عقود من العمل، قاعدة اجتماعية واسعة وموارد اقتصادية جيدة، منحتها القدرة على الاستقلال والاستمرار، وتركز نشاطها على التعليم والتربية وحفظ القرآن، وتوسع اهتمامها للخدمات الاجتماعية والعمل الخيري، فأنشأت منظمات مدنية متخصصة تتبع لها لتقديم خدمات أوسع نطاقًا من التعليم(10).

بعد عقد من حكم بشار الأسد يمكن ملاحظة أن ثلاثة اتجاهات من الجماعات الإحيائية تنشط داخل سوريا:   

أولًا: جماعات رعائية مستقلة، تميل إلى الاعتراض على السياسات الحكومية، وتستمد نفوذها من رعاية المجتمع لها ومن قدرتها على التعبير عنه. تسعى هذه الجماعات إلى التدخل عبر القنوات الرسمية لتغيير بعض السياسات التي تتعارض مع قناعاتها حيثما أمكنها ذلك، دون أن تتردد في نقدها ومهاجمتها بشكل علني. منحها هذا الموقع فرصة للتعامل مع السلطات بصفتها ممثلة للمجتمع، ولكنه تعامل بالحد الأدنى والضروري. أبرز مثال على ذلك هو جماعة زيد في دمشق وجمعية النهضة (الشعبانية) في حلب، وجمعية علماء حمص في حمص. معظم هذه الجماعات كان لها موقف سلبي من نظام الأسد في أحداث الثمانينات الدامية، ولديها أعضاء اعتقلوا أو قتلوا في نلك الأحداث، حتى إن معظم قادة هذه الجماعات كانوا منفيين خارج البلاد لفترات طويلة. لكن النظام حرص على عودتهم وسمح بنشاطهم لتكون جماعات مستأنسة من أجل استقرار الحكم الذي تم توريثه للتو. يمكن النظر إلى عودة قادة جماعة زيد، مطلع عام 2001، كنموذج لسلوك السلطة واستجابة الجماعة، لقد أراد بشار الأسد التودد للمجتمع الدمشقي فتقرب من جماعة زيد، وسمح بعودة شيخيها، أسامة وسارية الرفاعي(11).

ثانيًا: جماعات موالية ومندمجة في خطاب السلطة، فقد اعتقدت هذه الجماعات أن هذا التماهي بخطاب السلطة وأجندتها ومؤسساتها يمنحها هامشًا أكبر للانتشار وحرية في العمل، مثل جماعة الكفتارية في دمشق، وجماعة "أسامة بن زيد" وشيخها أديب حسون في حلب.

ثالثًا: جماعات تكرس اهتمامها للمجتمع بالإحياء الديني، وغير معنية بنقد السياسات الحكومية أو مقاومتها، وتسعى دائمًا للعمل ضمن الهوامش المتاحة لها. مثل جماعة القبيسيات في دمشق، وهي حركة إسلامية نسائية فريدة من نوعها في العالم، وجماعة الديرشوية في مدينة القامشلي (أقصى شمال شرق سوريا).

سنوات الثورة والمواجهات الدامية

ولَّدت الثورة ديناميات جديدة، وأجبرت الجميع على الانخراط فيها، إما من أجل البقاء أو لإيجاد موطئ قدم والتأثير في مستقبل البلاد، كما وجدت تنظيمات عابرة للحدود في الثورة السورية والعنف الذي استخدم لقمعها فرصة استثنائية للنشاط في سوريا، لقد غيَّرت الثورة خارطة التنظيمات الإسلامية على نحو لم يسبق له مثيل.

محنة الجماعات الإحيائية: لأن الثورة كانت ثورة شعبية واتخذت من المساجد مكانًا لانطلاق مظاهراتها ضد النظام، فقد كان أول الأطراف المتأثرة هي الجماعات المنخرطة في الإحياء الديني والتي تمثل المساجد مراكز أنشطتها. حاولت هذه الجماعات النأي بنفسها عن الصراع وألا تتخذ موقفًا محددًا مما يجري، وذلك لتجنب غضب النظام وغضب جمهورها، إلا أنها لم تصمد طويلًا. فقواعد هذه الحركات شكلت ضغطًا كبيرًا على قادتها الذين كانوا يمارسون دور "رعاة" المجتمع؛ إذ كان عليهم أن يترجموا مبادئهم والقيم الدينية التي تحث على "نصرة المستضعفين" و"حماية الحقوق" وتقديس "حرمة الدم"، إلى مواقف واضحة أمام مطالب تغيير محقة، خاصة أن السلطة لم تتوان عن استخدام القوة العارية وسفكت دماء المتظاهرين السلميين، وعملت بالمقابل على إجبار القادة الدينيين أنفسهم وخصوصًا قادة الجماعات على إعلان الدعم له، لتشكل ضغطًا معاكسًا من الجانب الآخر.

أدى ضغط الشارع السوري إلى خروج قادة بعض الجماعات الميالة أساسًا للاعتراض على السياسات الحكومية عن صمتها، فاتخذ قادة جماعة زيد(12) مثلًا موقفًا حاسمًا بالانحياز المعلن للثورة(13). في حين لم تصمد معظم الجماعات التي كانت تؤثر الابتعاد عن أي موقف سياسي وأعلنت انحيازها للنظام تحت لافتة "الفتنة"، أبرز نموذج لذلك جماعة القبيسيات؛ إذ صمدت قيادة الجماعة لوقت أطول، وفي وقت لاحق قُتلت إحدى قادتها على حاجز للجيش النظامي بسبب تقديم مساعدات إنسانية(14)، ولم يعد لقيادة الحركة هامش للمناورة والبقاء على الحياد. فقد نجح النظام في دفع قيادة الجماعة إلى الانخراط في مؤسسات السلطة والاندماج في خطابه، وفقدت الجماعة الكثير من هيبتها وتأثيرها في المجتمع السوري. والجدير بالذكر أن النظام سمح للقبيسيات بالنشاط بدون تحفظ عام 2003، وقد استفاد من انتشارها السريع، في سياق استخدامه الحركات والجماعات الدينية في مواجهة مخاطر استهدافه بعد احتلال العراق.

يمكن فهم انحياز هذه الجماعات إلى المهادنة والحياد، في ظل نزوع الحركات الإحيائية بطبيعتها إلى البحث عن الأمان والاستقرار، وقبولها بصفقات جائرة مع السلطات في سبيل بقائها، ولتحافظ على استمرار نشاطها الديني بين الناس. كان همُّ علماء الدين وقادة النشاط الإحيائي على الدوام، هو "توسيع مجال المناورة الذي تمنحه الدولة للنشاط الديني"(15)، وهي مناورة أدت في السنوات الأولى للثورة، بمعظم الجماعات الدينية إلى الانزلاق التام للعمل لحساب السلطة ونسيان هموم أتباعها المؤمنين.

الإسلام السياسي في الثورة: ما من شك بأن الإخوان المسلمين وتنظيمات الإسلام السياسي في سوريا، كانت تأمل وتنتظر اللحظة التي يثور فيها الشعب ضد نظام الأسد، لأنها عانت من سياسات القمع والتنكيل، إلا أن قيادة الجماعة تأخرت بالإعلان عن موقف واضح لدعم الثورة، إلى شهر مايو/أيار 2011 أي حتى أيقنت أن الثورة تترسخ. هذا لا يمنع أن الجماعة كانت تحض على الثورة وتطالب بالإصلاح في الوقت نفسه، في بياناتها المبكرة منذ هروب ابن علي من تونس إلى حين اندلاع المظاهرات في سوريا، منتصف مارس/آذار 2011. كما أن قاعدتها الحزبية والاجتماعية شاركت منذ الأيام الأولى في الثورة، وكانت تضغط على القيادة لإعلان مشاركتها فيها. لكن الذاكرة الدامية للإخوان المسلمين في الثمانينات بشكل خاص، كانت تدفع بالجماعة نحو التريث في إعلان دعمها للثورة والانخراط فيها وهو ما كان منها.

تاريخيًّا، كانت الجماعة تراهن على تسوية مع النظام، حتى إنها أعلنت، في يوليو/تموز 2006، تجميد أنشطتها المعارضة له لإتاحة فرصة للوساطات التي انطلقت في صيف 2006 وما بعده من أجل عقد مصالحة تسمح للجماعة بالعودة وممارسة أنشطتها الاجتماعية والتعليمية والدينية إلى سوريا حتى دون أن يكون للجماعة نشاط سياسي، بل إن الجماعة أبدت استعدادها لتغيير اسمها التاريخي إن تطلب الأمر(16)، لكن جميع تلك المحاولات فشلت.

مضى على الجماعة خارج سوريا نحو ثلاثة عقود، وعندما عادت من باب الثورة ظلت حذرة، ولم تتمكن من تقديم خطاب جديد، ولا من زيادة قدرتها على الحشد والتعبئة، ولا من تعزيز تأثيرها على الأرض؛ ما أتاح الفرصة للتنظيمات الأكثر تطرفًا لتوسعة نفوذها على حساب الإخوان. سعت الجماعة، عام 2014، لتعزيز نفوذها السياسي من خلال إنشاء حزب "رديف" هو "حزب وعد" (الحزب الوطني للعدالة والدستور)، وهو حزب يتبع للجماعة، ولكن عضويته ليست محصورة بأعضائها. حزب يحمل أيديولوجيا أقل "إسلامية" وأكثر "وطنية"، يحرر الجماعة من جهة من عبء التاريخ الدموي الذي أصابها، ويقلل من أعباء التقيد بالمبادئ الدينية، ويوسع من قاعدة داعميها وحلفائها. وبالنظر إلى أن تمويل وتنظيم الحزب مستند إلى الجماعة، والنسبة الأكبر من قياداته هم من جماعة الإخوان المسلمين (هناك نسبة ثابتة للإخوان في القيادة والعضوية تضمن سيطرة الإخوان على الحزب)، فإن الحزب استمر معتمدًا على رصيدها. وحجز له موقعًا بين الأحزاب السياسية الناشئة، التي لا تزال في معظمها ضعيفة وغير قادرة على التأثير في الحياة العامة للسوريين.

أما حزب التحرير- ولاية سوريا فقد كان قد مضى على نفيه أكثر من 11 عامًا، ولم يتمكن بعد الثورة من لعب أي دور فعلي ومؤثر، وبدا بعيدًا عن واقع الثورة حتى إنه قال في أحد بياناته، من تركيا، في 14 فبراير/شباط 2011، أنه على استعداد "لتحمل الأمانة لقيادة الأمة"(17). حاول الحزب إيجاد موطئ قدم على الأرض من خلال المشاركة في المظاهرات، ورفع فيها لأول مرة في سوريا شعار الخلافة، ثم حاول من خلال في العمل العسكري الذي بدأ بالتشكل بعد 10 أشهر من اندلاع الثورة، ولكن الحزب الذي رفع شعار "الخلافة" وليس "الدولة"، لم يكن قادرًا على منافسة التنظيمات الوطنية ولا السلفية الجهادية الأخرى العابرة للحدود التي تتمتع بهياكل وخبرة عسكرية لا يمتلكها، ثم نفت قيادة الحزب وجود جناح عسكري للحزب في سوريا واعتبرته خطأ "وغير وارد (..) لا سابقًا ولا لاحقًا"(18).    

وفي عام 2014، رفض حزب التحرير إعلان تنظيم الدولة "إقامة الخلافة"(19)؛ ما جعله خصمًا لتنظيم الدولة، فاحتضنته جبهة النصرة لمواجهة خصمها اللدود، وما تبقى منه ظل موجودًا في إدلب وريف حلب على شكل شخصيات محدودة التأثير.

أما باقي تنظيمات "الإسلام السياسي" الأخرى جميعها، فهي تنظيمات نشأت خلال الثورة، وجميعها بُني على عجل بهدف حجز موقع سياسي في الخارطة السياسية لسوريا ما بعد الثورة، أي إنها "تنظيمات الفرصة"، لكن الثورة طالت، ولم تكن تلك التنظيمات تملك الأيديولوجيا والموارد والقدرة التي تتيح لها الاستمرار لوقت طويل، فتفكك معظمها تلقائيًّا.

"إدارة التوحش": أوجد العنف الشديد والمفرط من قبل قوات الجيش والأجهزة الأمنية، بيئة مواتية للتنظيمات العنيفة والمتطرفة. وقد كان لدى النظام، من خلال سجن صيدنايا، عِلمٌ بكل شبكاتها في التجنيد والتمويل واتصالاتها وطرق تفكيرها بل وخططها، فأطلقَ سراح سلفيين وجهاديين من السجون على مراحل ما بين 22 مايو/أيار 2011- 2 مايو/أيار 2012، واستطاع هؤلاء إنشاء شبكة من التنظيمات المسلحة بسرعة كبيرة مستغلين تحول الثورة نحو التسلح. أصبحت الحالة الجهادية تحديًا عالميًّا، وقد تعززت قوة الجهاديين في المنطقة بعد عملية هروب مريبة من السجون العراقية، لسجناء منهم ومن بينهم قادة، في 22 يوليو/تموز 2013، وكانوا على صلة بالشبكة الجهادية في سجن صيدنايا(20). اتُّهم نوري المالكي من أطراف مختلفة بالتواطؤ فيها(21).

لقد اتضحت إستراتيجية النظام السوري في نهاية 2013 مع ظهور الجهادية السلفية قوةً رئيسيةً مسيطرة على مساحات واسعة من البلاد(22)، وشكَّل إعلان السيطرة على الرقة، في 14 يناير/كانون الثاني 2014، من قبل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) إيذانًا بصعود الجهادية السلفية بقوة. فقد سيطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على نحو ثلث الأراضي السورية، واحتل مدنًا ومحافظات بأكملها في سوريا والعراق، وتطلَّب هذا الصعود اجتذاب مقاتلين أجانب من جميع أنحاء العالم، ومواجهة الخطاب الوطني السوري للتحرير الذي اندلعت الأحداث استنادًا إليه، وتطوير سردية عن "المظلومية السنية" لتحويل المعركة من معركة وطنية إلى معركة أممية بين "الإسلام" و"الكفر". بدا الأمر كما لو أن الثورة السورية انتهت وورثها الجهاديون السلفيون؛ ما فتح حقبة جديدة عنوانها أزمة أمن عالمية بسبب الإسلاميين الجهاديين في سوريا، وخلال فترة وجيزة بدأ تظهر عمليات قتل تفجير وقتل ودهس جماعي في أوروبا والولايات المتحدة وأرجاء أخرى في العالم تبنَّاها تنظيم الدولة.

كان التدخل الإيراني الرسمي قد بدأ في يناير/كانون الثاني 2012(23)، وأصبح واضحًا ابتداءً من مايو/أيار 2013 في معركة مدينة القصير التي كانت بمنزلة إعلان رسمي للتدخل بهدف إنقاذ نظام الرئيس الأسد، وقاموا بتشكيل ميليشيات "شيعية طائفية"، ينتمي مقاتلوها إلى دول عدة، من العراق (حيدريون)، وأفغانستان (فاطميون)، وإيران (الحرس الثوري)، وباكستان (زينبيون)، بالإضافة إلى حزب الله (لبنان). بالمقابل، كان صعود السلفية الجهادية العابرة للحدود يتعزز في سوريا، بخطاب ديني في مقابل آخر.

تأسس صعود السلفية الجهادية السريع وفي سوريا على انقسام بين أهم مكونين له، جبهة النصرة (في أبريل/نيسان 2013)(24) وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) (في أبريل/نيسان 2014)، ونشب بينهما صراع دموي كرَّس الانقسام بين الاتجاهين. وظهر الأمر كصراع بين تنظيم القاعدة، الذي تمددت شبكاته الجهادية والتمويلية نحو جبهة النصرة، وتنظيم الدولة المنشق عن القاعدة، والمتولِّد عن حرب أهلية طائفية عصيبة في العراق. ومع ذلك وجد كل من التنظيمين أن تأسيس إمارة إسلامية يتطلب منهما الإطاحة بمشروع التحرر الثوري الوطني من جهة، والحصول على الأرض والموارد من جهة أخرى، أي القضاء على فصائل الجيش الحر التي تسيطر على مساحات واسعة وعلى آبار النفط والموارد المائية(25)؛ ما جعل الجيش الحر هدفًا لثلاث جهات في وقت واحد: النظام وحلفائه، والجهادية السلفية العابرة للحدود ذاتها بكافة أشكالها، بالإضافة إلى تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الكردي القومي الطامح إلى تشكيل دولة كردية مستقلة في الشمال على غرار العراق.

تغول النزعة الأممية التي أوشك أن يدفع ثمنها السوريون وحدهم، دفع التنظيمات السلفية الجهادية المحلية إلى مراجعة تصوراتها العقدية(26)؛ ذلك أنها وجدت نفسها أيضًا هدفًا للتنظيمات العابرة للحدود رغم أنها كانت تعتنق أيديولوجيا شبيهة بتلك التي تعتنقها العابرة للحدود، فانتهى المشهد المحلي في السنوات الثلاث الأولى للثورة، إلى انقسام وصراع دام على النفوذ والموارد بين التنظيمات الجهادية، والبحث عن الإمارة.

حروب الإلغاء: امتد الصراع بين الجهاديين السلفيين أنفسهم ومع غيرهم سنوات عديدة، وخلَّف الكثير من الدم والدمار، لكن عوامل عدة أفضت إلى تغيير المشهد كليًّا. ففي مطلع 2014 استجمعت فصائل من الجيش الحر قواها في شمال سوريا، وشكَّلت "جيش المجاهدين"(27)، ونجحت في طرد تنظيم الدولة من مدينة حلب وريفها الغربي ومن معظم ريف إدلب واللاذقية ودفعت التنظيم إلى الشرق، الذي ستنتهي سيطرته على الأرض بسقوط آخر معاقله في قرية الباغوز الحدودية جنوب شرق سوريا، في 23 مارس/آذار 2019. كما ظهر التحالف الدولي ضد داعش، في منتصف 2014، واعتمد على الميليشيا "الكردية"، "وحدات حماية الشعب" (YPG)، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، بشكل رئيسي في حربه ضد "داعش"؛ ما أعطى الفرصة ليرث حزب "الاتحاد" السيطرة على الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة.

خلَّف تنظيم "داعش" نفورًا شعبيًّا واسعًا منه بسبب الممارسات الدموية تجاه السكان، كما دفعت حروب الإلغاء المحلية القوى السورية إلى تبني خطاب سياسي أكثر وطنية واعتدالًا. وقد تبنَّى العديد من التنظيمات الجهادية السلفية المحلية مراجعات أفضت إلى تحول العديد منها نحو خطاب وطني، وإلى الابتعاد عن النزعة الأممية، وذلك لسببين: الأول: هو دور هذه التنظيمات نفسها في تغيير مسار الثورة التي كانت تهدف للتحرر من نظام الأسد فوجدت نفسها في صراعات هامشية. كما تسببت بتغيير موقف المجتمع الدولي وأصبحت قضية مكافحة الإرهاب واجهة الاهتمام وليس دعم الثورة، وأصبح سقوط نظام الأسد مساويًا للفوضى أو لسيطرة التنظيمات الجهادية السلفية. والثاني: أنها هي نفسها غلب عليها الطابع الجهادي العابر للحدود، خصوصًا أن معظم مقاتليها أجانب، ما أثار النزعة المحلية في مواجهة الأممية؛ ذلك أن هذه التنظيمات؛ هي أولى من تلك الأجنبية في الأرض ومواردها لأنهم أهلها وأحق بها. 

على جانب "التنظيمات الشيعية"، ترتب على مشاركة حزب الله و"الميليشيات الشيعية" بقيادة الحرس الثوري الإيراني نشوء تناقض بين الأجندة السياسية المعلنة من إيران وحزب الله باعتبارهم "محور مقاومة"، والانغماس في الدفاع عن الأسد وحكمه "المستبد". لم يستدع هذا "التناقض" أي نوع من المراجعة، بل بدا نوعًا من النجاح(28)، واستطاعت إيران ومحورها، رغم هذا التناقض، توسيع نفوذها وتعزيز سيطرتها، ويحرص الإيرانيون على حفظ المكاسب السياسية التي تم تحصيلها منه(29).   

مآلات

تفكك السلفية الجهادية: أدت الصراعات الدامية وتطور خرائط السيطرة ودخول عوامل عدة، بينها تصنيف جبهة النصرة منظمة إرهابية على القوائم الأميركية، في 11 ديسمبر/كانون الأول 2012، والأممية، 13 مايو/أيار 2023، إلى تغييرات عميقة في بنية التنظيم وخطابه. سعى زعيم التنظيم، أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، إلى تجنب مصير تنظيم الدولة، وذلك بإعلانه قطع العلاقة مع القاعدة وأعلن عن تنظيم جديد باسم "جبهة فتح الشام" (يوليو/تموز 2016). ثم عمل على القطع مع خطاب الجهادية السلفية بتغيير اسم التنظيم من "جبهة فتح الشام" إلى "هيئة تحرير الشام" (يناير/كانون الثاني 2017) وتحويل التنظيم إلى مظلة مفتوحة لاستيعاب تنظيمات أخرى محسوبة على الجيش الحر. أدى إعلان قطع الصلة مع القاعدة إلى انشقاق المقاتلين الأجانب وتشكيل تنظيم حراس الدين(30) حتى شكَّلوا تهديدًا على الهيئة، فعمل على تفكيكها كما عمل بشكل عام على تفكيك شبكات المقاتلين الأجانب في إدلب، وواجه مقاتلي تنظيم الدولة وقياداته الذين حاولوا إيجاد ملاذ آمن في منطقة نفوذه، وسعى بالتوازي إلى رفع التنظيم عن قوائم الإرهاب الأميركية والدولية أو على الأقل الحؤول دون استهدافه. تعمل هيئة تحرير الشام على ترسيخ سلطة أمر واقع أقرب إلى نموذج الحكم المحلي المدني، وهي اقتضت مرونة وأنظمة حكم دولتية، عبر تشكيل "حكومة الإنقاذ" التي أدى المنشقون من أجهزة الدولة دورًا بارزًا فيها. فقد تحولت الهيئة في نهاية المطاف، من تنظيم جهادي سلفي عابر للحدود إلى تنظيم إسلامي محلي، له حاجاته ومصالحه المحلية الضرورية لبقائه فضلًا عن نموه وتطوره. أسهمت هذه الإكراهات كما الضغوط الخارجية فضلًا عن الخشية من أن تلقى مصير "داعش"، في التغيرات والتحولات التي شهدتها هيئة تحرير الشام.

أما التنظيمات السلفية المحلية الأخرى مثل حركة أحرار الشام وجيش الإسلام وصقور الشام، فقد اندمجت في الجيش الحر وتبنَّت الخطاب الوطني بالكامل. لم يمنع ذلك من وقوع انقسام في هذه التنظيمات، بين مجموعات ترى في مصلحتها الانضمام إلى هيئة تحرير الشام ومشاركتها الموارد والحفاظ على الحد الأدنى من الاستقلال، ومجموعات أخرى منها ترى مصلحتها في الانخراط التام في تنظيمات الجيش الحر (الجيش الوطني أو الجبهة الوطنية للتحرير).

انتهت التنظيمات الجهادية السلفية في سوريا أو أصبحت ضعيفة للغاية، وإن ظلت بقايا تنظيم حراس الدين (القاعدة) على شكل أفراد متناثرين في إدلب وتحت الضغط والتهديد والمراقبة، فيما تركزت بقايا تنظيم "داعش" في مناطق نائية في الصحراء، تعلن عبر عملياتها في كل وقت أنها لا تزال موجودة وتهدد بالعودة، غير أن سوريا في 2024 تشهد نهاية لهذه التنظيمات التي شهدت ذروة صعودها عام 2014 قبل عقد من الزمن، ما يؤكد أنها تنظيمات طارئة سياسيًّا لاسيما أنها تفتقد تمامًا لدعم المجتمع.

خفوت تنظيمات الإسلام السياسي: لم تُحدث السنوات الطويلة تغييرًا جوهريًّا في سلوك وخطاب ووضع الإسلام السياسي في سوريا. بقي الإخوان المسلمون التنظيم الوحيد تحت هذا التصنيف، الفاعل سياسيًّا والأكثر تماسكًا، ولكن دون تقدم حقيقي في برامجهم؛ فقد بقيت تداعيات أحداث الثمانينات، ضاغطة على الإخوان حتى بعد الثورة السورية، وتضافرت معها التحولات الإقليمية التي جرت بسبب الثورة المضادة والتي كان مركزها مواجهة الإسلام السياسي وإضعاف الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى سنوات الحرب الدامية واستمرار الأزمة السورية.

أنشأ إخوان سوريا تنظيمات عسكرية صغيرة في نهاية عام 2013 تحت اسم "الدرع" (مضافًا إليه اسم المدينة)، ثم أنشؤوا مظلة عسكرية لها تحت اسم "هيئة دروع الثورة"(31) وتجنبوا على العموم استخدام أسماء إسلامية مستمدة من التراث. في عام 2014، دُمجت هيئة الدروع مع تنظيم عسكري آخر أنشأه مقربون من التنظيم تحت اسم "هيئة حماية المدنيين" (عام 2012)، وأطلق على التنظيم الجديد "فيلق الشام"(32). أصبح الفيلق أحد تشكيلات الجيش الحر، دون أن يملك خطابًا سياسيًّا خاصًّا أو رؤية أيديولوجية تميزه عن باقي تنظيمات الجيش الحر. أراد الإخوان على ما يبدو حجز موقع لهم على الأرض يسند موقعهم في الخارطة السياسية ويقوي قدرتهم في التفاوض على مستقبل سوريا، عندما يحين الوقت.

تفككت جميع تنظيمات الإسلام السياسي، سواء تلك التي نشأت بغرض التنافس على حجز موقع في منصات المعارضة أو تلك التي نشأت فيما بعد لأسباب عديدة، أهمها أنه لا توجد بيئة لممارسة النشاط السياسي، فالقوى التي تحكم هي القوى العسكرية ولكل منها منطقة نفوذ وجغرافيا لممارسة سلطته، وذلك على مبدأ "من يسيطر يحكم". وجميع الأحزاب السياسية لا تملك تأثيرًا مهمًّا على الأرض، باستثناء حزب "الاتحاد الديمقراطي الكردي" الذي يملك ميليشيا "وحدات حماية الشعب"(33)، وقد سيطر من خلالها بدعم من قوات التحالف الدولي على أكثر من 21% من الأراضي السورية.

بقي من خارطة الإسلام السياسي الإخوان المسلمون وحزب وعد التابع لهم، وعدا ذلك فإن الأحزاب والتنظيمات السياسية الإسلامية لم يُكتب لها البقاء أو بقيت هامشية للغاية إلى درجة أن لا أحد يلحظها، ومع ذلك فإنه يجب أخذها بعين الاعتبار في أي تحولات مقبلة.

عودة الإحياء الديني: انقسمت جماعة زيد، بين جماعة في مدينة دمشق لا تعلن تأييدها لتوجهات الثورة وتفضل الحياد السياسي بالكامل بهدف البقاء والاستمرار، وتكرس جهودها للإحياء الديني، وأخرى في المنفى بقيادة شيوخ الجماعة الرمزيين، الشيخ أسامة الرفاعي والشيخ سارية الرفاعي، أبناء مؤسس الجماعة.

على الرغم من أن جماعة دمشق لم يظهروا توجهًا مناهضًا للثورة، إلا أن بقاءهم في دمشق وممارسة أنشطة العمل الدعوي والإحياء الديني أمر لا يتم بدون مقابل، أقله الصمت.

ضم "المجلس الإسلامي السوري"، الذي تأسس عام 2014، الأئمة والفقهاء والشبكة المشيخية السورية، وغلب عليه طابع المشيخة الدمشقية وطيفها في جنوب ووسط سوريا، ويرأسه الشيخ أسامة الرفاعي. كان الغرض الرئيس من إنشاء المجلس، مواجهة الفكر المتطرف لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وجبهة النصرة، وفي الوقت نفسه مواجهة الخطاب الديني للنظام، ومن الواضح أن هذه الأهداف كانت أهدافًا سياسية بالدرجة الأولى. لكن المجلس في السنوات الأخيرة بدأ يعالج قضايا اجتماعية ودينية وأخذ يهتم أكثر بالإحياء الديني في مناطق الشمال السوري على نحو خاص، خصوصًا أن رئيس المجلس نُصِّبَ من قبل المجلس في موقع "المفتي العام للجمهورية العربية السورية"، في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، بعد إلغاء النظام السوري لهذا المنصب وإبداله بمجلس إفتاء متعدد المذاهب، بهدف إدماج الشيعة والعلويين في الخطاب الديني.

مقابل هذا الانقسام في جماعة زيد ثمة جماعات دينية كاملة تفككت، مثل جماعة الشيخ عبد الله سراج الدين في حلب، والتي انتمى العديد من شيوخها إلى تشكيلات عسكرية، وبشكل خاص "الجبهة الشامية". وهذه الأخيرة هي تحالف عسكري تأسس نهاية عام 2014، أصبح لاحقًا جزءًا من الفيلق الثالث في الجيش الوطني السوري (الجيش الحر) المناهض للنظام. كذلك تفككت جماعة الكفتارية أو ما يعرف محليًّا بـ"جماعة أبو النور" (نسبة إلى لقب الشيخ كفتارو)، انقسمت الجماعة على نفسها، وبرز تنافس في إرث مؤسسها بعد وفاته، وأدت نقمة بعض شيوخها على التدخل الحكومي فيها إلى انتقالهم إلى المعارضة.

أدت الأزمات المتتالية التي وُلدت بفعل الثورة والحرب التي تلتها إلى سيطرة خطاب التضحية والجهاد بفعل الحرب المستمرة، أي تقدم الخطاب العسكري والجهادي على ما سواه. وكل هذا أدى إلى ولادة الحاجة إلى المعنى(34)، لأن ثمة فراغًا كبيرًا بعد سنوات الدم لا يجد خطابًا إسلاميًّا سياسيًّا يملؤوه أولًا، ولا يجد خطابًا دينيًّا مواكبًا للتغيرات الكبيرة والتحديات التي تطرحها وسائل التواصل الاجتماعي التي تشكِّل الملاذ للباحثين عن المعنى ثانيًا.

المشهد الإسلامي القادم في سوريا

انشغل السلفيون الجهاديون في سوريا بقضايا الحكم والسيطرة على الموارد والحكم المحلي المستند إلى القوة، لم تحظ الشريعة بنقاشات حقيقية؛ فقد استخدمت كأداة للسيطرة والقضاء على الخصوم أكثر من أن تكون مرجعًا لتأسيس نظام حكم جديد على أنقاض الحكم المركزي للدولة الوطنية. خلَّف هذا النمط من الاستخدام صدمة بسبب الفجوة بين الصورة المتخيلة للشريعة المتشحة بالعدل والرحمة، والواقع الذي تجلت فيه تطبيقات الشريعة على يد "الفصائل السلفية الجهادية".

وانشغلت تنظيمات الإسلام السياسي بالنضال السياسي التحريري، وبكيفية الحفاظ على موقعها وصورتها في المتخيل العام للسوريين والبقاء رقمًا لا يمكن تجاوزه في التنظيمات السياسية الوطنية، فقد ظل سؤال المكانة في الخارطة السياسية والمسؤولية عن الأحداث الجارية في البلاد الموضوعين الرئيسيين اللذين تدور حولهما أنشطة التنظيمات وأداؤها التنظيمي الداخلي. وبالرغم من أن هاجس الهوية يمثل جوهر الأيديولوجيا السياسية لهذه الأحزاب والجماعات إلا أنها اختفت تمامًا من النقاشات والأنشطة التي كانت تقوم بها.

في حين انشغلت حركات الإحياء بسؤالها الأساسي وهو استمرار الدور والتأثير في المجتمع، والمناورة من أجل هذا الهدف مع قوى الأمر الواقع والقوى السياسية. ورغم التباين في أساليب مناوراتها للبقاء والعمل تحت كل واحدة من سلطات الأمر الواقع الموجودة في سوريا، فإنها -أي حركات الإحياء- بقيت متقاربة ومتشابهة في العموم. ولم يظهر أي نوع من الخلافات الجوهرية بينها بسبب الخيارات التي انتهجها أي منها لاستمرار دوره، سوى في حالة واحدة هي إعلان بعضها التأييد لسياسات نظام الأسد مقابل البقاء. حتى الصمت كان مقبولًا كمناورة، لكن مثل هذا الإعلان شكَّل خط الانقسام الحاسم، ومعيارًا لفرز سياسي واجتماعي أيضًا لجماعات الإحياء الديني في سوريا.

الواقع أن الدول التي رأت في الثورة السورية فرصة لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، دفعت باتجاه صعود الإسلاميين والجهاديين منهم على وجه الخصوص. لكن الصراع على النفوذ والموارد بين الفصائل الجهادية، مع عوامل أخرى عديدة، غيَّر من طبيعتها الأممية وعزَّز النزعة المحلية. وقد أدت التفاعلات التي ولَّدتها الاحتجاجات والثورة التي تلتها وتداعياها إلى تغيير المشهد كليًّا في سوريا، ونجحت إستراتيجية النظام في استغلال المخاوف الدولية والعربية من صعود الحركات الإسلامية وساعده في ذلك الإيرانيون بتعزيز النزوع الطائفية عبر الزج بميليشيات "شيعية" تتبع الحرس الثوري تقوم مقام القوة البرية المساندة.

شكَّلت الثورة فرصة للتيارات الإسلامية لاسيما تنظيمات الإسلام السياسي منها لتستعيد وجودها وتأثيرها في سوريا، إلا أنها ترددت وبقية متحفظة بسبب ذاكرة أحداث الصراع الدموي في الثمانينات مع نظام الأسد الأب، والذي كرَّس فيه سلطته كديكتاتور وأخرج الإخوان المسلمين من الأراضي السورية، وفوت عليهم الفرصة السانحة وحولهم إلى قوة هامشية.

أما جماعات الإحياء الديني فقد تغيرت خريطتها هي الأخرى، عادت إلى وضع يشبه حقبة الثمانينات؛ حيث انقسمت بين جماعات اختارت موالاة للنظام بغية الحفاظ على نفسها، وأخرى معارضة فضلت الانتقال الى موقع المعارضة الصريح ودعم الثورة، لكن التغيير الجديد هو في اندماج جزء من هذه الجماعات في العمل العسكري وتشكيل تنظيمات عسكرية تتبع لها.

بعد 13 عامًا من الثورة والصراع تحول الإسلام السياسي إلى قوة هامشية، واضمحلت الجهادية السلفية، وبقيت ظلالها على شكل إمارة حرب وبقايا تنظيم يعيش على شكل خلايا في الصحراء يصارع من أجل البقاء، يشن هجمات بين الحين والآخر. وانقسمت جماعات الإحياء الديني وتقلصت المساحات المتاحة لها للمناورة مع سلطات الأمر الواقع في جميع البلاد، في حين تغيرت ملامح حركات الإحياء الديني مع تحولها للعمل العسكري كامتداد لموقفها من النظام نفسه والذي كانت تتعامل معه قبل الربيع العربي مكرهة وعلى مضض.

مستقبل الجماعات والتنظيمات الإسلامية في سوريا، البلد الممزق جغرافيًّا بين عدة مناطق نفوذ وسلطات أمر واقع مختلفة، مرهون بتغييرات في الوضع الراهن، وهو وضع رخو وقابل للتغيير في أي وقت في المدى المتوسط، إلا أنه في المدى الطويل قد يتحول إلى أمر واقع صلب؛ ما يعني أن أي تطورات لاحقة ليست سوى ترسيخ للواقع الراهن، وعليه فإننا أمام مشهد إسلامي سوري مقبل كالآتي:

أولًا: حركات الإحياء الديني: تعرضت حركات الإحياء الديني إلى تحولات وانقسامات، وقد واجه بعضها خيارات صعبة لكنها استطاعت لعب دور في تطوير هيئات تنظم عملها، مثل المجلس الإسلامي، وروابط العلماء، والمدارس الشرعية التي تديرها. وكسب القسم الذي انحاز للثورة ثقة وشعبية واسعين، فقد برهن العديد من الأحداث استقلالها في مواقفها؛ ما عزز قربها من المجتمع. كما أن الفرصة نفسها ستكون متاحة أمامها في ظل الحاجة الماسَّة إلى الخطاب الديني، وهي حاجة تبلغ ذروتها في فترات ما بعد الحرب، لكن التحدي الذي ستواجهه هو التكيف مع التكنولوجيا الحديثة وقدرتها على مخاطبة الشباب شأن مشكلة كل الجماعات الدعوية للإحياء الديني. ولأن الانقسامات ضربت عميقًا في هذه الجماعات الإحيائية في سوريا، فمن المتوقع أن تولِّد الهيئات والتنظيمات الجديدة حركات إحيائية جديدة لم تكن موجودة من قبل، ناشئة عن تمازج واسع بين أعضاء هذه الجماعات المختلفة في تلك الهيئات، أو أشكال تنظيمية للإحياء الديني تتجاوز أنماط العمل القائم على الجماعات التقليدية.

ثانيًا: الجهادية السلفية: أفضت تجربة الإسلاميين الجهاديين في الحكم المحلي إلى نتائج وخيمة على المستوى النفسي والاجتماعي وليس السياسي فقط، بسبب "استباحة الدم" وصراعاتها البينية ومستويات العنف العالية، وعدائها وعنفها ضد قوى الثورة الأخرى، حتى أصبحت واحدة من مميزات الحكم للجهادية السلفية في سوريا، سواء المحلية منها أو تلك العابرة للحدود. وكذلك لم تكن قادرة على ممارسة السياسة في ظل مفهوم الدولة الوطنية، صرفت مجهودها الأساسي في مواجهة "النظام العالمي" القائم على مفهوم الدولة الوطنية وعجزت عن إحلال نظام سياسي وحوكمي مقنع يقوم على "الخلافة". بالرغم من كل ذلك، فإن استمرار الظروف الراهنة في بلاد ممزقة بين أربع سلطات أمر واقع (النظام، الحكومة المؤقتة، حكومة الإنقاذ، الإدارة الذاتية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية الكردية)، وعدم التعامل مع النتائج المترتبة على الفظائع في سوريا ونشوء حكم أقلوي عِرقي (كردي) جديد شرق الفرات سيؤدي إلى تعميق أسباب بقاء التنظيم بصفته منصة احتجاج عنيفة تلائم الاختناق السياسي المتزايد على طرفي الحدود (سوريا والعراق). تشير العمليات التي يقوم بها تنظيم داعش في سوريا إلى أنها في تصاعد مطرد، وتتمدد إلى مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية في البادية وسط البلاد وفي المناطق العشائرية في الجزيرة، جنوب شرق وشمال شرق سوريا، وقد تضاعفت في عام 2024 مقارنة بالعام الفائت(35)، وربما ساعدته "انتفاضة العشائر" ضد قوات سورية الديمقراطية (SDF) الكردية المسيطرة التي بدأت في شهر أكتوبر/تشرين الأول العام الفائت. وأيًّا ما يكن فإن جميع الظروف تقود للقول بعودة التنظيم، وربما نشوء تنظيم جهادي سوري جديد مستفيدًا من التجربة والسياق المحلي، إلا أنه لا توجد مؤشرات بعد على ذلك.

ثانيًا: الإخوان والإسلاميين الجدد: تبدو فرص استمرار تجربة هيئة تحرير الشام كبيرة. مرَّت الهيئة بتحديات كبيرة استطاعت بقيادة الجولاني الانحناء لها وتجاوزها، آخرها الاحتجاجات الواسعة التي عمَّت محافظة إدلب في ربيع العام 2024، وطالبت بتنحية الجولاني وإنشاء منظومة حكم ديمقراطي. شكَّلت هذه الاحتجاجات اختبارًا كبيرًا للهيئة؛ إذ جمعت جميع خصومه من الجهاديين والجيش الحر والمدنيين في صف واحد، لكن نجح الجولاني في تجاوزها وبقي ممسكًا بزمام الأمور في الحكم المحلي. إن نجاح الجولاني في تجاوز التحديات، وإقامة نموذج حكم "شمولي" يوفر الاستقرار والأمن نسبيًّا مع سلطة مركزية، ودور إقليمي في مواجهة تمدد "القاعدة" والمقاتلين الأجانب غرب سوريا، سيتيح له الفرصة للبقاء في المدى المتوسط ليكون لاعبًا أساسيًّا في المشهد الإسلامي والوطني السوري. وانطلاقًا من التجارب والتحولات التي خاضها في المراحل السابقة فإن السمة الأساسية للتنظيم هي قابليته لتطوير أداوت الحكم وأساليبه، وهذه تجربة غير معهودة لتجربة الإسلاميين في الحكم المحلي.

فشلت التنظيمات العسكرية الإسلامية الأخرى، مثل جيش الإسلام وأحرار الشام وفيلق الشام والجبهة الشامية، في إنشاء مثل هذا الحكم في مناطق سيطرتها شمال غرب سوريا، وثمة عوامل عديدة داخلية وخارجية بمكن عزو الفشل إليها، لكن هذه التنظيمات في النهاية فشلت في ملء الفراغ الأمني والحوكمي، الذي لم يستطع السياسيون مَلْأه.

بالرغم من أن الأسباب المحلية، أي الانقسام وتعارض المصالح والانتماءات المناطقية، عامل مهم في عدم القدرة على تشكيل قوة مركزية، إلا أن المصالح الإقليمية قد تحول دون ذلك، لأن وجود حكم محلي في هذه المناطق، والذي كان ولا يزال مرشحًا لأن يكون حُكمًا ديمقراطيًّا، يعزز المخاوف من منح "شرعية" للإدارة الذاتية الكردية التي أُسست كمنصة لاستهداف وحدة وسلامة الأراضي التركية. وضمن الظروف والسياق الحالي، لا يُتوقع لهذه التنظيمات الإسلامية العسكرية أي دور رئيس في الحكم المحلي مستقبلًا، خصوصًا في ظل توجهات السياسة التركية الجديدة للتقارب مع نظام الأسد، بهدف حل المعضلات الأمنية والتهديدات المتأتية من التنظيم الكردي "حزب الاتحاد الديمقراطي".

لن تختفي هذه التنظيمات، والتنظيمات الإسلامية تلك على وجه الخصوص، من المشهد، لكنها ستكون جزءًا من التسويات القادمة ويبقى دورها محصورًا في المجال العسكري والأمني، وإذا ما حصلت تسوية سياسية شاملة، وهي مستبعدة في المدى المتوسط، فإن هذه التنظيمات قد تجد نفسها أمام فرصة لتشكيل أحزاب وتيارات سياسية للعمل في البلاد. وهذا قد يقود إلى حالة تشبه حالة حزب الله، تنظيمات عسكرية بأذرع سياسية مدنية، وهو وضع سيكون خطيرًا على تطور البلاد واستقرارها لو حدث.

نشأت تنظيمات وأحزاب سياسية إسلامية، مثل تيار سوريا الجديدة، خلال السنوات العشر الفائتة، لكنها لا تختلف في جوهر أيديولوجيتها عن الإخوان المسلمين، وبالتالي ستجد نفسها منافسًا لتنظيم عريق يملك خبرة تنظيمية وتاريخ سياسي وتمويل ذاتي تعجز عنه. ولكن الجهوية التي كانت تأكل تنظيم الإخوان من الداخل، وأدت إلى انقسامات متتالية فيه، والنزعة الحزبية التي يعاني منها، قد تمنح فرصة لتلك التنظيمات والأحزاب السياسية الجديدة للجذب والتحول لقوة سياسية، وبشكل خاص المناطق الجنوبية (دمشق ودرعا) والساحل وشرق سوريا؛ حيث ستمثل هذه الأحزاب الواعدة بدائل معقولة عن الإخوان المسلمين.

لم تستطع جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات العسكرية المرتبطة بها تعزيز نفوذها وتأثيرها في المجتمع السوري في السنوات الأربع عشرة الفائتة، إلا أنها إذ نأت بنفسها عن الصراعات الدامية والحكم المحلي في ظل الحرب، خرجت بأقل الخسائر، وهذا سيتيح لها إمكانية العودة في المستقبل إلى مجال السياسة بسهولة أكبر. فهي التنظيم السياسي الوحيد في سوريا الذي يملك مؤسسة مستمرة منذ أكثر من تسعة عقود ما يجعلها أحد أبرز اللاعبين السياسيين في المعارضة، ويجب عدم التهوين من موقع الجماعة وقدرتها على التأثير، فمن الواضح أن خروج الإخوان من المعارضة سيُضعفها، بالرغم من الانتقادات الكثيرة لأدائها، وبالرغم من أنهم يحتلون الصفوف الخلفية فيها. إن موقع الجماعة في المعارضة وما تملكه من خبرات وقدرات مالية خاصة ورصيد تنظيمي بَنَتْه داخل سوريا خلال السنوات الماضية بالإضافة إلى شبكة واسعة سيوفر لها بلا شك أرضية للنشاط، ويجعلها القوة الإسلامية السياسية الأبرز في المدى المنظور إذا ما حدث اتفاق سياسي شامل في سوريا ويؤسس لنظام "ديمقراطي".

ABOUT THE AUTHOR

References
  1. عبد الرحمن الحاج. الدولة والجماعة: التطلعات السياسية للجماعات الدينية في سورية (2000-2010)، (لندن: مركز التواصل والبحوث الإستراتيجية، 2011)، ص11، ص34.
  2. ناج من المقصلة: ثمانية أعوام في سجن تدمر، محمد برو، تقديم: برهان غليون (بيروت: جسور للترجمة والنشر، 2021).
  3.   مقابلة مع فاروق طيفور (نائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين)، إسطنبول، 2016.
  4. عبد الرحمن الحاج، السلفية والسلفيون في سوريا: من الإصلاح إلى الجهاد، مركز الجزيرة للدراسات، 20 مايو/أيار 2013، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/49c1Q7o
  5. جاء في فتوى الشيخ كفتارو، أن "مقاومة الغزاة المحاربين فرض عين على كل مسلم ومسلمة ويقع على أهل العراق أولًا ثم الأقرب فالأقرب حسب الحاجة" انظر الفتوى في: "مفتي سوريا يدعو لتنفيذ عمليات استشهادية ضد الغزاة"، الجزيرة نت، 27 مارس/آذار 2003، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، http://bit.ly/3XA1UbS
    قال البوطي في خطبة الجمعة، في 13 يونيو/حزيران 2003، التي خصصها للجهاد: "لم أجد موجبات الجهاد القتالي وأسبابه المختلفة قد تجمعت في عصر من العصور كما تجمعت في عصرنا اليوم: بلاد المسلمين وأراضيهم محتلة، حقوقهم مستلبة ومنهوبة، البرآء من رجالهم ونسائهم وأولادهم يُقتلون صباح مساء... أرض العراق أرض إسلامية، يعتز بها التاريخ الإسلامي وتعتز هي بالتاريخ الإسلامي، وها هي ذي محتلة والعدو الذي أقبل إليها من بعيد بعيد،...أرض إسلامية عزيزة محتلة، حقوقها منهوبة ومستلبة". ينظر موقع الدكتور البوطي، 13 يونيو/حزيران 2003، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)،  https://bit.ly/4gqeu7M
  6. كانت الحافلات تُملأ بالآلاف من المتطوعين "للجهاد" في العراق كل يوم من وسط دمشق في ساحة الأمويين وترسل إلى العراق، كان بينهم الكثيرون من مجموعة الشيخ قول أغاسي؛ ما أتاح فرصة جديدة للأجهزة الأمنية للتعرف على الجهاديين المحتملين ممن لم يكن بالإمكان التعرف عليه عبر شبكة قول أغاسي. سقوط العراق في قبضة الاحتلال الأميركي دفع العديد من المتطوعين الذين بقوا على قيد الحياة للعودة، بعد أسابيع قليلة من مغادرتهم سوريا، ما أتاح للأجهزة الأمنية فرصة جديدة لاستثمارهم، فهم مصدر معلومات غني ومحبطون، لكنهم أيضًا اكتسبوا خبرة في الجهاد والقتال الفعلي لم تتح في مكان آخر، وتركت هذه الخبرة بصمتها على حياتهم.
  7. وثيقة تاريخ 24 فبراير/شباط 2010 رقم DAMASCUS159_a10 تصريحات للواء علي مملوك (رئيس المخابرات العامة) لوفد رسمي أميركي، في 18 فبراير/شباط 2010، حضر الاجتماع فيصل المقداد بصفته نائبًا لوزير الخارجية، وعماد مصطفى، السفير السوري في واشنطن، انظر الوثيقة في موقع ويكيليكس، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، http://bit.ly/3WlSkbF
  8. حول تصنيع المتشددين في سجن صيدنايا انظر مثلًا: سرية، دياب، "أكاديمية سجن صيدنايا العسكري: صناعة التطرف"، مركز الجمهورية، 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/3HdI0xV
  9. Pierret, Thomas. Religion and State in Syria: The Sunni Ulama from Coup to Revolution (Cambridge: Cambridge University Press, 2013), p.122
  10. أسست جماعة زيد مثلًا "جمعية حفظ النعمة" في دمشق، عام 2006، وهي جمعية خيرية تعنى بالفقراء، وتختص بشكل رئيس بتوزيع الطعام الزائد والألبسة ممن لا يحتاجها إلى محتاجيها، وتمارس أنشطة خيرية متنوعة مرتبطة بهذه المهمة الأساسية. وقد أسس الشيخ راتب النابلسي "جمعية حقوق الطفل" عام 2006.
  11. Thomas Pierret and Kjetil Selvik, “Limits of "Authoritarian Upgrading" in Syria: Private Welfare, Islamic Charities, and the Rise of the Zayd Movement”, International Journal of Middle East Studies, Vol. 41, No. 4 (Nov. 2009)
  12. المقصود بقادة جماعة زيد، الشيخان أسامة الرفاعي وسارية الرفاعي.
  13. سارية عبد الكريم الرفاعي، مذكرات في زمن الثورة (إسطنبول: مكتبة الأسرة العربية، 2020)، ج1، ص137.
  14. قتلت الآنسة فاطمة الخباز (مواليد دمشق 1948)، في 1 مارس/آذار عام 2013، قرب أحد حواجز الأمن في أوتوستراد المزة بدمشق بإطلاق النار المباشر عليها، وكان برفقتها ثلاث من الآنسات أصبن بجراح. الخباز هي من أبرز قيادات القبيسيات وأقربهن إلى مؤسسة الجماعة الحاجة منيرة القبيسي (1933-2022). محمد خير موسى، القبيسيات: الجذور الفكرية والمواقف السلوكية (إسطنبول: كتاب سراي، 2020).
  15. Thomas Pierret. Religion and State in Syria: The Sunni Ulama from Coup to Revolution (Cambridge: Cambridge University Press, 2013), p122.
  16. حوار مع المراقب العام للإخوان المسلمين، رياض شقفة، أجرى الحوار: طه حسين، مركز الشرق، 6 يناير/كانون الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/4epE2QK
  17. بيان " أيها المسلمون في سوريا: كونوا مثالًا للتغيير الذي يعم المنطقة بإقامة الخلافة الراشدة"، موقع حزب التحرير الإسلامي، 14 فبراير/شباط 2011، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/3x0myK7
  18. موقع حزب التحرير الإسلامي، "جواب سؤال: حول حزب التحرير والثورة السورية"، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024): https://bit.ly/2ojKaD9
    يشار غالبًا إلى أن لواء أنصار الخلافة يتبع للحزب، لكن ربما كان اللواء قريبًا بالفعل من الحزب إلا أنه لم يكن ثمة دلائل على وجود علاقة تنظيمية بينهما. موقع لواء الخلافة، لواء أنصار الخلافة نواة جيش الخلافة على منهاج النبوة، 22 يوليو/تموز 2015 (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/4amksTa
  19. لاحظت الولايات المتحدة "أن روسيا، على الرغم من أنها تدعي أنها منخرطة في قتال ضد الإرهاب، كانت تركز جهودها العسكرية بشكل كبير على تدمير ما تبقى من المعارضة العلمانية والإسلامية المعتدلة ضد نظام الأسد... كانت روسيا تركز على استعادة تلك المناطق الحضرية الكبيرة مثل حلب ودمشق التي كانت موطنًا لمجموعات المعارضة الأكثر اعتدالًا... كانت هذه إستراتيجية ذكية، من بعض النواحي: إذا تمكن نظام الأسد وحلفاؤه من القضاء على أي معارضة علمانية أو معتدلة، فسوف يتبقى للعالم خيار ثنائي بين النظام ومجموعات مثل جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية". شهادة أندرو إكسوم Andrew Exum (نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون سياسة الشرق الأوسط) أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس حول النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط، 9 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)،  https://bit.ly/4d5BJkQ
  20. سرية، دياب، "أكاديمية سجن صيدنايا العسكري: صناعة التطرف"، مركز الجمهورية، 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/3HdI0xV
  21. "هروب مئات من السجناء في اقتحام سجني التاجي وأبو غريب بالعراق"، بي بي سي، 2 يوليو /تموز 2013، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، http://bit.ly/3Wquj3c
  22. تصريح ممدوح أبو سوا قطيشات (رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير)، 2 يوليو/تموز 2014،  "حزب التحرير: إعلان دولة الخلاقة لغو"، صحيفة السوسنة، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/3xfVGG4
  23. "تجنيد العلويين والشيعة لقمع الثورة: مذكرات الجنرال الهمذاني- خارطة طريق سوريا/2"، جزء من كتاب رسالة الأسماك (بيغام ماهى ها)، ترجمة: عبد الرحمن الحاج، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/43uAF6O
  24. حمزة المصطفى، "جبهة النصرة لأهل الشام: من التأسيس إلى الانقسام"، سياسات عربية، العدد 5، نوفمبر/تشرين الأول 2013، ص19. (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/43vpXNe
  25. "نفط دير الزور: من الثورة حتى تنظيم «الدولة الإسلامية"، مجلة عين المدينة، أغسطس/آب 2015.
  26. فاضل الحمصي، "أحرار الشام: الثورة والدين والدرس الضائع"، الجمهورية، 7 أغسطس/آب 2017. ركزت حملة المراجعات على نقد التيار السلفي الجهادي ورفض الغلو والتكفير والتأكيد على الانتماء للثورة السورية والبُعد المحلي، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/3Pwtxks
  27. جيش المجاهدين، هو تحالف عسكري لفصائل من الجيش الحر في مدينة حلب وريفها. تأسس في 3 يناير/كانون الثاني 2014 لطرد تنظيم داعش في الشمال السوري، وتمكن جيش المجاهدين من طرد تنظيم داعش من مدينة حلب ومن ريف حلب الغربي، وأسهمت عمليات جيش المجاهدين في تحفيز فصائل إدلب واللاذقية على طرد التنظيم منها، بحيث أصبح الشمال الغربي خاليًا من التنظيم في منتصف 2014. وفي مطلع عام 2015، اندمج جيش المجاهدين مع كبرى تشكيلات حلب وريفها مؤسسيْن (الجبهة الشامية)، والتي أصبح فيها قائد الجيش "أبو بكر"، القائد العسكري للشامية، إلا أنه لم يبق طويلًا حتى انسحب منها. في مطلع عام 2017، هاجمت هيئة تحرير الشام ما تبقى من جيش المجاهدين ضمن حملة واسعة للسيطرة على ريف حلب الغربي، فقضت عليه. تأسيس جماعة المجاهدين في حلب، 3 يناير/كانون الثاني 2014، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/3vhaTGy
  28. حسين أمير عبد اللهيان، صبح شام: رواية عن الأزمة السورية (بيروت: دار المحجة البيضاء، 2023)، ص84.
  29. توضح وثيقة مسربة للرئاسة الإيرانية أجندة لتحصيل المكاسب الإيرانية، الوثيقة بعنوان " تقرير حول المحاور المقترحة للمفاوضات والوثائق المشتركة لزيارة رئيس الجمهورية المحترم للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد الدكتور إبراهيم رئيسي إلى سوريا، للزيارة الرسمية في 27 و28 ديسمبر/كانون الأول 2022، الوثيقة تم إعدادها من الإدارة الثانية لشؤون غرب آسيا وشمال إفريقيا في الرئاسة الإيرانية، وقد سربتها مجموعة قرصنة معارضة تدعى "قيام تاسرنكونى". "المجلة" تنشر وثائق إيرانية مسربة... ماذا تريد طهران من دمشق؟، المجلة، 8 يناير/كانون الثاني 2024، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/4a4YcgR
  30. تأسس التنظيم في 27 فبراير/ شباط 2018. حول التنظيم، انظر: دراسة محمد أبو رمان وحسن أبو هنية. تنظيم حراس الدين: صعود القاعدة وأفولها في العالم العربي، (عمان: فريديرش إيبرت، 2021)، ص163.
  31. تم الإعلان عن تأسيس هيئة دروع الثورة في بيان مصور في 21 ديسمبر/كانون الأول 2012، وضمت الهيئة نحو 42 تشكيلًا عسكريًّا في مناطق مختلفة من سوريا.
  32. تم الإعلان عن تأسيس فيلق الشام مصور في 10 مارس/آذار 2014، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2024)، https://bit.ly/4aoEGMe
  33. القوات المسلحة "وحدات حماية الشعب"، لا توجد مراجع موثوقة حول تاريخ إنشائها، يزعم التنظيم أن تأسيسها يعود للعام 2004 إلا أن أول ظهور لها كان في مطلع عام 2012. شكلت هذه القوات عماد وقيادة قوات سوريا الديمقراطية التي ضمت فصائل عربية وسريانية بهدف إضفاء صفة التعددية على مظهرها والتي بدت أنها شكلية، لاسيما بعد انتفاضة العشائر في دير الزور في نهاية عام 2023، وتداعياتها حتى اليوم.
  34. عبد الرحمن الحاج، "البحث عن سلام داخلي: العودة إلى التصوف: تحولات التدين في سوريا"، ضمن الصوفية اليوم: قراءات معاصرة في مجتمع التصوف ونماذجه، تحرير محمد أبو رمان (عمان: فريدريش إيبرت، 2020)، ص ص95-128.
  35. Charles Lister, ISIS Syria Attack Data - August 2024, ISIS Increases Attacks in SDF & Regime Areas, Sep 02, 2024, https://bit.ly/3ZeCggQ