على وقع الاستعداد لدخول الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للبيت الأبيض، وحديث عن حزمة جديدة من العقوبات ضد إيران، جاء توقيع إيران وروسيا على معاهدة للتعاون جرى العمل عليها لسنوات، وحال مصرع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، بتحطم طائرة الرئاسة في 2024، دون توقيعها في الموعد الذي كان مقررًا لها. وفي يوم الجمعة، 17 يناير/كانون الثاني 2025، وقَّع الرئيسان: الروسي، فلاديمير بوتين، والإيراني، مسعود بزشكيان، في موسكو، معاهدة مهمة لتوسيع التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين. جاء توقيع المعاهدة قبل ثلاثة أيام من تنصيب ترامب، وتوصف بأنها معاهدة للشراكة الإستراتيجية الشاملة بين إيران وروسيا، وجاء أيضًا في وقت تسعى فيه الدولتان لإيجاد حل لمعضلة العقوبات التي فرضتها الدول الغربية في السنوات الأخيرة عليهما.
أرضية تاريخية
وتستند المعاهدة الموقعة حديثًا على عدد من المعاهدات والاتفاقيات المبرمة بين إيران وروسيا قديمًا وحديثًا، ومن ذلك، المعاهدة المبرمة بين حكومة إيران وحكومة الاتحاد السوفيتي، بتاريخ 26 فبراير/شباط 1921، والاتفاقية التجارية والبحرية، بتاريخ 25 مارس/آذار 1940، ومعاهدة أساس العلاقات المتبادلة ومبادئ التعاون بين جمهورية إيران الإسلامية والاتحاد الروسي، المؤرخة بتاريخ 12 مارس/آذار 2001، إضافة إلى اتفاقيات أخرى وضعت أساسًا قانونيًّا وسياسيًّا للعلاقات الثنائية.
وتعد اتفاقية التعاون الإستراتيجي بين إيران وروسيا الاتفاقية الثالثة التي يتم توقيعها بين الجانبين خلال العقود القليلة الماضية. وفي عام 1989، وخلال زيارة الراحل، هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس النواب الإيراني آنذاك، إلى روسيا ولقائه مع غورباتشوف، تم توقيع اتفاقية تعاون شامل مدتها عشر سنوات بين طهران وموسكو. وفي عام 2001، قام الرئيس محمد خاتمي بزيارة موسكو، وتم توقيع اتفاقية تعاون أخرى مدتها عشر سنوات بين البلدين. وجرى تمديدها، وما زالت سارية حتى يومنا هذا، وخلال السنوات الأربع الماضية كان هناك نقاش على جدول الأعمال لإبرام معاهدة مدتها 20 عامًا. وقد اكتسبت هذه القضية أهمية خاصة في ضوء اتفاقية التعاون بين إيران والصين التي تمتد لـ25 عامًا، وسياسة إيران بالتوجه شرقًا، والتطورات التي في الإقليم والعالم. تمت صياغة هذه الاتفاقية الجديدة، ووقَّع عليها رئيسا البلدين.
مجالات التعاون
وبالعودة إلى بنود الاتفاقية والتي نُشر نصها على الموقع الرسمي للرئاسة الإيرانية، فقد تضمنت 47 مادة فصَّلت في جوانب اقتصادية وعسكرية وتناولت أبعادًا ثقافية في العلاقة، ولكنها على الصعيد الجيوسياسي والإستراتيجي ركزت على عدد من المحاور، أهمها:
-
التعاون الأمني والدفاعي
وبموجب هذه المعاهدة، تعهدت روسيا وإيران بتعزيز تعاونهما في مجال الأمن والدفاع. ولذلك، سيشارك البلدان في التدريبات المشتركة، ويطوران تعاونهما العسكري التقني، وينسقان بشكل وثيق بشأن القضايا الأمنية على المستويين العالمي والإقليمي.
-
التعاون في مواجهة التهديدات العسكرية
واتفقت روسيا وإيران على مواجهة التهديدات العسكرية التي تستهدف البلدين. وتعهدت الدولتان أيضًا أنه في حالة تعرض أي من الطرفين المتعاقدين في هذه الاتفاقية للاعتداء، فإن الطرف الآخر لن يقدم أي مساعدة للدولة المهاجمة.
-
الأمن الإقليمي
تعهدت موسكو وطهران بعدم السماح باستخدام أراضيهما لدعم الحركات الانفصالية أو غيرها من الأعمال التي تهدد استقرار وسلامة أراضي الطرف المتعاقد الآخر، ولمواجهة التهديدات المشتركة، سيكون لزامًا على أجهزة الاستخبارات والأمن في البلدين تبادل المعلومات.
-
الطاقة والتعاون الاقتصادي
تشجع المعاهدة الشركات الروسية والإيرانية في قطاع الطاقة على توسيع التعاون والاستثمار في مشاريع تطوير حقول النفط والغاز في أراضي البلدين. وتتضمن أيضًا ضرورة العمل لتنفيذ مشاريع مشتركة في مجال الطاقة النووية، مع تركيز على المشاريع المشتركة في مجال الاستخدام السلمي للطاقة الذرية. وبموجب هذا الاتفاق، ستعمل روسيا وإيران على تطوير وتوسيع علاقاتهما طويلة الأمد من خلال بناء منشآت الطاقة النووية.
-
أنظمة بديلة للدفع والتعاون البنكي
تسعى هذه المعاهدة إلى إنشاء بنية تحتية جديدة للدفع مستقلة عن حكومات الأطراف الثالثة والانتقال إلى المدفوعات الثنائية بالعملات الوطنية. كما أكدت روسيا وإيران، استنادًا إلى هذه المعاهدة، التعاون المباشر بين البنوك وترويج المنتجات المالية الوطنية.
ورغم تركيز المعاهدة على تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، إلا أنهما لم يصلا إلى معاهدة دفاع ثنائية على غرار معاهدة الدفاع الثنائية بين روسيا وكوريا الشمالية. ولم تتطرق المعاهدة إلى قضية التسليح وتبادل الأسلحة بين روسيا وإيران، وهي القضية التي كانت مثار جدل مع الأطراف الغربية، خاصة مع الاتهامات الغربية لإيران بتزويد لروسيا بمسيرات شاهد التي استخدمت في حربها ضد أوكرانيا.
الحاجة الروسية
ويقيِّم أستاذ الدراسات الروسية جهانغير كرمي الاتفاقية على ضوء الحاجة على الصعد الأمنية والاقتصادية والسياسية؛ ففي السنوات الثلاث الماضية، وبسبب الحرب في أوكرانيا والقيود الشديدة على علاقاتها مع الدول الغربية، اضطرت الحكومة الروسية إلى التركيز على دول الجنوب والشرق، وتعزيز علاقاتها مع الصين والهند ودول شرق آسيا، ودول منظمة التعاون الإسلامي، ودول الخليج، والتوسع إلى مناطق أخرى غير غربية من العالم. وكان حجم التجارة بين روسيا والدول الغربية في وقتٍ ما يقترب من 450 مليار دولار، لكنه انخفض الآن إلى أقل من 100 مليار دولار. ولذلك، فإن هذه الاتفاقيات الشاملة طويلة الأمد مع الدول غير الغربية تشكل بالنسبة للروس ضرورة وتحظى بأولوية خاصة. وفي هذا الإطار، يمكن أيضًا دراسة وجهة نظر موسكو بشأن الاتفاق مع إيران. وفي تصريحات فلاديمير بوتين يوم توقيع الاتفاقية، تم التأكيد أيضًا أن هذا الاتفاق هو اتفاق إستراتيجي طويل الأمد ومهم للغاية. وبطبيعة الحال، بالإضافة إلى بوتين، وصف رئيس الوزراء، ووزير الخارجية، والمتحدث باسم الكرملين، ومسؤولون روس آخرون هذا الاتفاق بأنه قضية مهمة للغاية وتعاون جدي. وكان الرئيس الروسي قد وصف هذه الاتفاقية في وقت سابق بأنها شراكة إستراتيجية عميقة.
الحاجة الإيرانية
تتضمن هذه الاتفاقية ثلاثة أجزاء مهمة، ويتناول الجزء الأول القضايا الاقتصادية والتجارية والطاقة. ويبلغ حجم التجارة بين إيران وروسيا حاليًّا نحو 4 مليارات دولار، وهذا المبلغ قابل للتوسع بشكل طبيعي. أما الجزء الثاني من هذه الاتفاقية فهو في مجال التكنولوجيا والصناعات العسكرية والدفاعية وغير الدفاعية، وهو أمر مهم أيضًا لكلا البلدين. ويتعلق جزء منها بالقضايا الاجتماعية والثقافية والسياحية، التي زادت في السنوات الأخيرة، ومن الممكن أن توفر هذه المعاهدة الجديدة أيضًا منظورًا أفضل لمجالات التعاون. ومن الطبيعي أن توسيع العلاقات مع أي دولة أمر مهم بالنسبة لإيران، والعلاقات مع روسيا ليست استثناءً من هذه القاعدة.
يرتبط بعض مواضيع التعاون بالقضايا الإقليمية والدولية التي سعى البلدان إلى معالجتها على مدى السنوات الـ35 الماضية، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى الوقت الحاضر، ليس فقط في المجالات الثنائية، بل وأيضًا في المجالات الإقليمية والدولية. وبما أن شروط المعاهدة لم تُنشر بعد، فمن غير الواضح كيف سيتم تحديد التعاون الإقليمي والدولي بين طهران وموسكو. ولكن كقاعدة عامة، فإن مكافحة الإرهاب، والجهود الرامية إلى تعزيز التعددية الدولية، وتعزيز مجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، فضلًا عن مناقشة تعزيز الممر الشمالي الجنوبي، هي قضايا من المرجح أن يتم تناولها في هذه المعاهدة.
العلاقة مع الغرب ومحادثات مع واشنطن
تشير معطيات كثيرة إلى أن هذه المعاهدة في حدِّ ذاتها لن يكون لها تأثير كبير على العلاقة بين إيران والغرب. ولا تشير كثيرًا إلى أطراف ثالثة، وإن كان التركيز على التعددية الدولية والمعارضة للأحادية في النظام الدولي هو أنها تحمل دلالة معادية للغرب إلى حدٍّ ما. وبالإضافة إلى ذلك، بالنظر إلى اتفاقية الـ25 عامًا بين إيران والصين والنسخ السابقة من هذه الاتفاقية في عامي 1989 و2001، فإنها تغطي عمومًا الأحكام العامة للتعاون ولا تدخل في التفاصيل. ولذلك فمن غير المرجح أن يكون لهذه المعاهدة في حدِّ ذاتها أي تأثير على المفاوضات بين إيران والغرب. ولكن وفي الوقت ذاته تحاول طهران تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا لتعزيز موقفها التفاوضي، خاصة مع الحديث عن استعداد طهران لمفاوضات تؤدي إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، وتلميحات بإمكانية اللجوء إلى محادثات مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية في محاولة لنزع فتيل التهديد الذي بدت ملامحه مع التركيبة المقترحة لفريق ترامب. بالنسبة لحكومة بزشكيان، وعلى غرار الحكومات الإيرانية السابقة، فإن العقوبات الاقتصادية هي معضلة تعصف باقتصاد إيران ومعيشة الإيرانيين، ولذلك فإن البعض يدعو إلى عدم الإسراف في التفاؤل بفائدة هذه المعاهدة ويرون أنه دون القدرة على رفع العقوبات ودون حل التزاماتها مع المؤسسات المالية الدولية مثل مجموعة العمل المالي، فمن المستبعد أن يحدث شيء غير عادي في المجال الاقتصادي.
وهناك إشكالية أخرى تتعلق بمسألة الثقة بين البلدين، وتجارب إيران في علاقتها مع روسيا تشير إلى وجود خلل على هذا الصعيد، فقد سبق لروسيا أن شاركت في فرض العقوبات على إيران، فضلًا عن التلكؤ في إنجاز صفقات أسلحة كما أنها اتُّهمت من قبل مسؤولين إيرانيين في مقدمتهم وزير الخارجية السابق، جواد ظريف، بأنها عرقلت فرصة حقيقية لإحياء الاتفاق النووي. ولا يبدو أن روسيا تشارك إيران الموقف من إسرائيل ولو في الحدود الدنيا، ولعل الشهادات المتعلقة بسقوط بشار الأسد وخاصة التي صدرت عن ضباط في الحرس تشير إلى تجربة مريرة، رغم أن البلدين كانا يتحدثان عن تعاون مهم في مكافحة الإرهاب والاستقرار والأمن الإقليميين في سوريا. ويتهم أحد قادة الحرس البارزين، وهو بهروز اثباتي، روسيا بأنها أسهمت في إسقاط الأسد وتعاونت مع إسرائيل في الاغتيالات التي استهدفت ضباطًا من الحرس في سوريا وأنها كانت تتعمد تعطيل منظمة الدفاع بالتزامن مع الهجمات الإسرائيلية، وقال: إن كل ما كانت تقوم به روسيا في الفترة التي أعقبت عملية طوفان الأقصى كان يصب في مصلحة إسرائيل.
خلاصة
ينبغي عدم التقليل من قيمة المعاهدة الروسية-الإيرانية، لكن، وفي الوقت نفسه، لا يوجد ما يسند الإسراف في الحديث عن منافعها، وهي وإن كانت تمثل حاجة للبلدين لأسباب جرى ذكرها، إلا أن مستقبلها وفعالية بنودها يحتاجان إلى دراسة على ضوء عودة ترامب إلى السلطة وإمكانية التوصل إلى اتفاق بين روسيا والولايات المتحدة بشأن أوكرانيا. كما أن قضايا كثيرة قد تحمل تهديدًا لإيران قد تطل برأسها خلال سنوات قليلة قادمة وربما أقل من ذلك ومن ذلك قضية جنوب القوقاز، والتي قد تتحول إلى أزمة في المستقبل، خاصة ما يتعلق بـ"ممر زنغزور". وفي هذه الحالة نحتاج إلى طرح أسئلة حول كيفية تعاون طهران وموسكو فيما يتصل بهذه الأزمة، ولذلك فإن النقاش المتصاعد داخل أروقة السياسة الإيرانية اليوم يشير إلى الحاجة إلى مقاربة جديدة لعلاقات طهران الدولية، ويرى الفريق الذي يدفع إلى محادثات مباشرة مع واشنطن أن اتفاقيات التعاون مع بيجين وموسكو وحدها لا تستطيع ضمان المصالح الوطنية الإيرانية على المدى الطويل.