أصدر البيت الأبيض، الثلاثاء 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، في خطوة نادرة، بيانًا بشأن اغتيال الصحفي السعودي البارز جمال خاشقجي، معبرًا عما يشبه الموقف النهائي للرئيس دونالد ترامب وإدارته من القضية. تحدث البيان بصورة لافتة عن علاقات التحالف الراسخة بين الولايات المتحدة والسعودية، وأشار إلى عزم الرئيس الحفاظ على هذه العلاقات. وبالرغم من أنه وصف مقتل خاشقجي بالبشع، فقد أحجم عن تحميل ولي العهد السعودي، الذي تدور حوله الشبهات، المسؤولية، وإن رفض تبرئته في الوقت نفسه. واختار البيان، الذي يُعتَقد أن الرئيس نفسه ساهم في كتابته، لغة غير حاسمة ليصف علاقة ابن سلمان بالحادث المفجع، قائلًا "من المحتمل أنه كان يعلم، وربما لم يكن".
حشد البيان عددًا من المسوغات لحرص الرئيس على العلاقة مع السعودية، بما في ذلك الحفاظ على مستوى منخفض لأسعار النفط، والاستثمارات السعودية المتوقعة في الولايات المتحدة، والحرب على الإرهاب، واستراتيجية مواجهة إيران. ولكنه بدا كأنه يفصل بين العلاقات الأميركية-السعودية والعلاقة مع ولي العهد. هذا الفصل بين العلاقة مع المملكة وولي عهدها لم يتبعه أي إجراء من إدارة ترامب فيما يتعلق بالأخير.
من جهة أخرى، أثار بيان الإدارة الأميركية خيبة أمل واضحة في أنقرة، التي انتظرت طويلًا إعلان البيت الأبيض موقفًا محددًا من القضية. والسبب خلف خيبة الأمل التركية أن أنقرة قررت من البداية تبني مقاربة قضائية للجريمة، على أن تترك الموقف السياسي للولايات المتحدة، والدول الغربية الأخرى، وثيقة الصلة بالمملكة العربية السعودية. يدرك الأتراك أن قدرتهم على الضغط وتحقيق أهداف سياسية من القضية تظل محدودة، وأن الولايات المتحدة، بصورة خاصة، هي الجهة الرئيسة التي تستطيع أن تفرض على السعودية ثمنًا سياسيًّا لمؤامرة الاغتيال البشعة. بالإعلان عن عزوف البيت الأبيض عن اتخاذ إجراءات عقابية سياسية، أصبح على تركيا، ربما، إعادة النظر في استراتيجية التعامل مع القضية.
هذا الاختلاف في التقديرات بين البيت الأبيض وزعماء في الكونغرس من جهة، وبين موقف ترامب وتوقعات أنقرة من جهة أخرى، يؤكد أن قضية اغتيال جمال خاشقجي دخلت مأزقًا جديدًا سيفتح الباب أمام عدة احتمالات على المستويين السياسي والقضائي معًا. فهل يصعِّد الكونغرس من ضغوطه على الرئيس ترامب ليرفع يده عن ولي العهد السعودي؟ وهل تسير القضية باتجاه التدويل إذا تواصل الخلاف بين أنقرة والرياض وواشنطن حول تحديد كافة المسؤولين عن الجريمة والفصل بين الحقائق والأكاذيب فيما أعلنته مختلف الأطراف من تفاصيل؟ وهل ثمة أمل في أن يدفع المسؤولون عن اغتيال خاشقجي الثمن السياسي لما تعهدوه من جريمة؟
الرواية السعودية الأخيرة
بعد توالي الروايات السعودية لحادثة اغتيال الصحفي البارز جمال خاشقجي، خرج وكيل الادعاء العام السعودي على العالم في مؤتمر صحفي، 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، ليقدم الرواية الرابعة لهذه الحادثة. ولكن بيان رجل القانون السعودي لم يوضح ما إذا كان الادعاء العام في المملكة قد أنهى التحقيقات، وأعد لائحة الاتهام، وأحال القضية للقضاء، أم لا، سيما أنه كشف عن أن الادعاء طلب الإعدام لخمسة متهمين، وفرض عقوبات جزائية لأحد عشر متهمًا آخر.
طرح ممثل الادعاء العام السعودي الرواية السعودية الجديدة لمقتل خاشقجي في عدة نقاط أبرزها:
1. أن المسؤول عن الأمر باستعادة جمال خاشقجي، سواء بالإقناع أم بالقوة، هو نائب رئيس الاستخبارات العامة السابق، أحمد عسيري.
2. أن قائد المهمة (لم يذكر اسمه)، هو من قام بتشكيل فريق من 15 شخصًا ووزعهم على ثلاث مجموعات (تفاوضية- استخبارية- لوجستية).
3. أن نائب عسيري تواصل مع المستشار السابق (يقصد سعود القحطاني، على الأرجح) بشأن قائد مجموعة التفاوض الذي وافق عليه المستشار وطلب الاجتماع معه.
4. أن قائد المهمة تواصل بشكل فردي مع أخصائي في الأدلة الجنائية بهدف مسح الآثار الحيوية المترتبة عن العملية في حال تطلب الأمر إعادته بالقوة.
5. أن رئيس مجموعة التفاوض هو من قرر قتل المجني عليه بعدما تبين له تعذر نقله إلى المكان الآمن في حال فشل التفاوض معه.
6. أن الجريمة نجمت عن عراك وشجار وتقييد وحقن المواطن المجني عليه بإبرة مخدرة بجرعة كبيرة أدت إلى وفاته.
7. أن الجثة بعد مقتل المجني عليه تمت تجزئتها من قبل المباشرين للقتل وتم نقلها إلى خارج مبنى القنصلية.
8. أن الكاميرات الأمنية في مبنى القنصلية وقع تعطيلها.
9. أن قائد المهمة قدم تقريرًا كاذبًا لـ “عسيري" يتضمن الإفادة بخروج المواطن المجني عليه من مقر القنصلية بعد فشل عملية التفاوض أو إعادته بالقوة.
لم يكن لدى متابعي القضية شك أن الرواية السعودية الجديدة لا تستند إلى أرض صلبة، فهي لا تخلو من تناقضات منطقية، ومن تضارب مع مقولات تم التوكيد عليها في روايات سعودية سابقة.
في اليوم التالي، 16 نوفمبر/ تشرين الثاني، نشرت صحيفة حرييت التركية تقريرًا أفاد بأن السلطات التركية تحتفظ بتسجيلات إضافية لتلك التي تحمل تفاصيل عملية اغتيال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الأول، والتي أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من قبل أن ممثلي عدة دول غربية، إضافة إلى مسؤول استخباراتي سعودي، قد استمعوا لها. وذكرت حرييت أن الشريط الصوتي الجديد يكشف عن تحضيرات مجموعة الاغتيال السعودية لعملية القتل، ولا يترك مجالًا للشك في أن هدف المجموعة كان القتل وليس إقناع خاشقجي بالعودة إلى بلاده، خلافًا لما أعلنه ممثل الادعاء السعودي في مؤتمره الصحفي.
وكانت رواية الادعاء السعودي الجديدة قد قوبلت بقدر كبير من الاستهجان والسخرية من قبل أكبر صحيفتين أميركيتين، الواشنطن بوست، والنيويورك تايمز، حتى قبل أن يكشف التسريب التركي لصحيفة حرييت عن وجود شريط صوتي إضافي لاستعدادات مجموعة الاغتيال قبل حضور جمال خاشقجي لقنصلية بلاده ظهر يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول.
المقاربة التركية
في مواجهة الإنكار السعودي الرسمي، أصر الجانب التركي، منذ البداية على أن جمال خاشقجي دخل قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول، ظهر يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول، ولم يخرج حيًّا. وقد احتاج الأتراك يومين حتى أكملوا الاستماع لتسجيلات التصنت على القنصلية وأدركوا حقيقة ما حدث: أن جمال خاشقجي قتل داخل مبنى القنصلية، وفي جناح القنصل العام نفسه، وأنه قتل بصورة وحشية وقطعت جثته.
فتحت السلطات التركية تحقيقًا جنائيًّا في واقعة اختفاء خاشقجي، في حين بدأ المحققون تسريب ما توفر لهم من معلومات، بما في ذلك أسماء وصور مجموعة الاغتيال، وحركة المجموعة طوال يوم الاغتيال وحتى مغادرتها من مطار إسطنبول، وحركة عدد من السيارات المشتبه فيها والتابعة للقنصلية. ما إن بدأت التسريبات حتى أدرك المسؤولون السعوديون أن الأتراك توصلوا إلى معرفة حقيقة ما حدث، فاتصل ابن سلمان بهم وعرض اللقاء لحل الإشكال دون جدوى. في الأثناء أرسلت الرياض مدير جهاز الاستخبارات السعودية، خالد الحميدان إلى أنقرة لمعالجة ما بدا أنه يتطور سريعًا إلى أزمة في علاقات البلدين، حيث وفر الأتراك للمسؤول السعودي فرصة الاستماع لشريط صوتي قصير، يكشف ما حدث لجمال خاشقجي منذ دخوله القنصلية وحتى قتله على يد مجموعة الاغتيال السعودية. أنكر الحمدان، أي دور لجهازه في العملية، وأبلغ الرياض بخطورة الموقف، ما دفع الملك سلمان للتدخل وإرسال خالد الفيصل لمعالجة الأمر. ولكن عروض خالد الفيصل بتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين وتلميحه إلى إمكانية رفع الحصار عن قطر، فشلت في إقناع الأتراك بتغيير مسار مقاربتهم للحادثة.
بعد فشل خالد الفيصل في مهمته، أجرى الملك سلمان اتصاله الأول بالرئيس أردوغان، مؤكدًا على صلابة العلاقات بين البلدين، وعارضًا تشكيل لجنة تحقيق مشتركة في القضية، وهو ما وافق عليه الرئيس التركي. عملت اللجنة على تنسيق عملية تفتيش مبنى القنصلية وتفتيش جزئي لمنزل القنصل من قبل الادعاء العام التركي. ولكن السعوديين كانوا قد قاموا بعملية تنظيف شاملة، باستخدام مواد كيماوية خاصة للمكانين، في محاولة لإخفاء الأدلة من مسرح الجريمة وتضليل المدعي التركي.
لم تعترف السعودية رسميًّا بالمسؤولية عن الاغتيال إلا في 20 أكتوبر/تشرين الأول، حيث أُعلن عن اعتقال 18 شخصًا. وكان الملك سلمان قد أبلغ أردوغان بالإجراءات السعودية بحق المتهمين في اتصال هاتفي ثان، قبل الإعلان السعودي الرسمي. والواضح، سواء في اتصال سلمان بأردوغان، أو بقرار القبض على 18 متهمًا، أن الرياض اعتقدت أن إجراءاتها ستضع نهاية للأزمة مع تركيا، وتغلق ملف القضية برمته، ولكن الأمور لم تسر كما رغبت الرياض.
فبالإضافة إلى سخرية وسائل الإعلام الغربية من الرواية السعودية، طالب مسؤولون أتراك، مقربون من الرئيس أردوغان، الرياض بضرورة الإفصاح بصورة كاملة عن حقيقة ما حدث. كما أعلن الادعاء التركي رسميًّا عن طلب تسليم المتهمين لتركيا، كون الجريمة وقعت على أرض تركية. ولكن الأثر الأكبر كان لتسريبات تركية جديدة، كشفت عن أن مجموعة الاغتيال أُرسلت أصلًا لقتل خاشقجي، وأن عملية الاغتيال ارتُكبت عن سابق تصميم وتصور، وأنها لم تستغرق سوى دقائق معدودة، ولم يسبقها لا استجواب، ولا محاولة إقناع بالعودة إلى البلاد. كما كرر المسؤولون الأتراك، بما في ذلك رئيس الجمهورية، مطالبهم الثلاث: تسليم المتهمين بارتكاب الجريمة، الكشف عن الجهة التي أعطت الأوامر لمجموعة الاغتيال، والكشف عن مصير الجثة.
تصميم تركيا على مواصلة التحقيق، واتباعها سياسة إحراج مستمرة للسلطات السعودية، لدفعها إلى الاعتراف بحقيقة ما حدث، صاحبه عمل على المستوى الدولي، بهدف دفع القوى الغربية، لاسيما الولايات المتحدة، لاتخاذ إجراءات سياسية لمعاقبة المسؤولين عن الجريمة. والمؤكد أن أنقرة كانت على اقتناع كامل، من البداية، سواء لطبيعة الأدلة الملموسة التي تمتلكها، أو الأدلة الظرفية المحيطة بالحادثة، أن محمد بن سلمان هو من أعطى الأمر بتصفية خاشقجي. ويعتقد الأتراك أنه بدون تحميل ابن سلمان مسؤولية الجريمة، فإن القضية لم تصل إلى نهايتها بعد. (فمن، يملك، مثلًا، السلطة لتشكيل مجموعة اغتيال على هذا المستوى، ضمت عناصر رفيعة من دوائر حكومية سعودية مختلفة، بما في ذلك الحرس الملكي. ولماذا قام ماهر المطرب، مسؤول المجموعة، بإجراء أربعة اتصالات هاتفية، خلال وجوده في إسطنبول، مع سعود القحطاني، مستشار ولي العهد، وأحد مساعديه المقربين، ومن وجه له الاتهام بالمشاركة في عملية الاغتيال من قبل السلطات السعودية نفسها؟).
ردود الفعل الغربية
كان جمال خاشقجي مقيمًا دائمًا في الولايات المتحدة، التي اتخذها مقرًّا له منذ مغادرة بلاده في خريف 2017، ويحمل أولاده الجنسية الأميركية، ولم تزل إبنة له تواصل تعليمها في إحدى الجامعات الأميركية. إضافة إلى ذلك، فقد أصبح جمال منذ إقامته في الولايات المتحدة أحد كتاب الرأي بصحيفة الواشنطن بوست. ولذا، فمن الجهة الجنائية البحتة، اعتبرت الولايات المتحدة طرفًا فعليًا في القضية. ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك، فالولايات المتحدة الحليف الأهم للسعودية منذ عقود، وتملك من وسائل التأثير على الداخل السعودي ما لا تملكه أية دولة أخرى. وهذا ما جعل أنقرة حريصة، وبصورة استثنائية، على تقديم كافة الأدلة التي توفرت لديها للجانب الأميركي، آملة أن تتخذ إدارة ترامب الإجراء المكافئ لحجم الجريمة وبشاعتها. ولكن ليس للولايات المتحدة وحسب.
فقد صرَّح المسؤولون الأتراك بأنهم أطلعوا نظراءهم في أجهزة الاستخبارات الغربية على ما يكفي من الأدلة، للكشف عن حقيقة ما حدث. ولكن ما قُدِّم للأميركيين من أدلة يفوق ما قُدِّم للدول الغربية الأخرى. أولًا، لأن إدارة ترامب، تحت ضغوط إعلامية وضغوط الرأي العام، كانت أول من يرسل موفدًا كبيرًا، مثل وزير الخارجية، مايك بومبيو، إلى السعودية وتركيا يومي 16-17 أكتوبر/ تشرين الأول. وبالرغم من أن طبيعة مهمة بومبيو في البلدين لم تتضح كلية، إلا أن المؤكد أنه اطلع على جزء من الأدلة في أنقرة.
بيد أن مهمة الاستطلاع الأكبر كانت تلك التي تعهدتها جينا هاسبل، مديرة السي أي إيه، التي أمضت يومي 23 و24 أكتوبر/ تشرين الأول في أنقرة، بصحبة وفد كبير من المحقيين والمختصين في وكالة الاستخبارات الأميركية. وطبقًا لمصادر تركية، فإن هاسبل تركت أنقرة وهي مقتنعة تمامًا بمسؤولية السعودية عن الجريمة، وأن مجموعة الاغتيال السعودية كُلفت أصلًا بقتل خاشقجي، وأن هناك من المؤشرات ما يكفي لتحميل ابن سلمان المسؤولية السياسية عن الجريمة.
وفي 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، التقى أردوغان بقادة الدول الغربية، وبالرئيس ترامب، على وجه الخصوص، على هامش الاحتفالات بمئوية نهاية الحرب العالمية الأولى. ويُعتقد أن أردوغان أطلع نظراءه الغربيين على وجهة النظر التركية في الحادث، وعلى ما تكشفه الأدلة المتوفرة لأنقرة من تفاصيل. خلف ذلك كله، برز إجماع غير مسبوق في أوساط الإعلام الغربي، يمينه ويساره، على جانبي الأطلسي، وفي الدوائر البرلمانية الأوروبية والأميركية، على السواء، على ضرورة معاقبة السعودية، والمسؤولين فيها عن الحادث، مهما علت مواقعهم. ولكن، في النهاية، لم تأت الإجراءات العقابية بمستوى التصريحات الغربية التي أطلقت في أسابيع الأزمة الأولى.
والأرجح، كما هي الأمور عادة في مثل هذه الأزمات، أن الدول الأوروبية كانت تنتظر الموقف الأميركي، وأن الإجراءات التي اتخذتها عكست، إلى حد كبير، تلك التي اتخذتها واشنطن. فقد أعلنت قرارات حظر سفر على المتهمين السعوديين في فرنسا وألمانيا، وعلقت الأخيرة، بدون أن تلغي، صفقات السلاح المتفق عليها مع السعودية. ولكن بريطانيا، التي أرسلت وزير خارجيتها إلى الرياض، وطالبت السعودية بالكشف عن كافة ملابسات القضية، لا تبدو على استعداد لإيقاف صفقات السلاح للسعودية. فحاجة بريطانيا المتزايدة لشركاء تجاريين بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي تجعلها أكثر استعدادًا لغض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية وفي غير السعودية.
بصورة من الصور، تحول الموقف الذي أعلنته إدارة ترامب من القضية يوم 20 نوفمبر/ تشرين الثاني، إلى معيار لردود الفعل الغربية في عمومها. كما برزت أصوات داخل الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، تذكر بأن أيدي معظم هذه الدول ملوثة بدماء القتلى خارج نطاق القانون. صحيح أن أحدًا في تلك الدول لم يرتكب جريمة بهذه البشاعة، ولم ينسج مؤامرة اغتيال في دولة أخرى ذات سيادة، أو خطط لتحميل هذه الدولة مسؤولية الاغتيال، ولكن القتل في النهاية هو القتل.
هل وصلت قضية اغتيال خاشقجي إلى آخر الطريق؟
قام ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بجولة عربية، شملت عواصم حلفائه في الإمارات والبحرين ومصر إضافة إلى تونس التي لقيت فيها زيارته معارضة واحتجاجات شعبية واسعة. وهي جولة سبقت مشاركته في قمة دول العشرين، التي تعقد في الأرجنتين في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني. هدف الجولة، كما يبدو، توكيد ولي العهد السعودي على أنه لم يتأثر بالشبهات التي تحيط بدوره في عملية اغتيال خاشقجي، وأنه لم يزل قادرًا على التصرف كزعيم لبلاده. فترميم صورة ابن سلمان، ومحاولة استعادة المناخ الطبيعي في عمله ونشاطه السياسي، جزء لا يتجزأ من الجهد السعودي لإغلاق ملف اغتيال خاشقجي وتجاهل أصابع الاتهام الموجهة إلى القيادة السعودية. فهل وصلت قضية خاشقجي إلى آخر الطريق؟
لم تواجه السعودية في تاريخها الحديث أزمة بحجم الأزمة المترتبة على اغتيال خاشقجي. وحتى أزمة مؤامرة اغتيال عبد الناصر، في 1958، وكشف دور الملك سعود فيها لم تكن بهذا الحجم. فخطة اغتيال عبد الناصر لم تنجح، والرئيس المصري، آنذاك، لم يكن ينظر إليه بإيجابية في الدوائر الغربية. ولم يكن لوسائل الاتصال آنذاك من الأثر ما تمارسه اليوم. وليس ثمة شك أن عملية اغتيال خاشقجي، والكشف عنها، أضر كثيرًا بموقف السعودية الأخلاقي، وأوقع بها خسائر سياسية ملموسة. فمن زاوية منافسة تركيا على زعامة العالم الإسلامي السني، على الأقل، خرجت السعودية بخسائر فادحة. ولم يكن غريبًا بالتالي أن ترتفع أصوات مئات الصحفيين والأكاديميين وزعماء سياسيين وقادة الرأي العام، في تونس والجزائر ومصر، ترفض زيارات ابن سلمان المخطط لها لهذه الدول.
إضافة إلى ذلك، فقد شتتت مؤامرة الاغتيال الانتباه عن الجرائم الفادحة التي ارتكبتها إيران، خصم السعودية الإقليمي، في سوريا منذ تورطها في دعم نظام الأسد ضد شعبه. وما لا يقل أهمية، أن جريمة اغتيال خاشقجي فتحت ملف الحرب في اليمن على مصراعيه، ووفرت فرصة لبذل المزيد من الضغوط على السعودية وحلفائها لإيقاف الحرب.
بيد أن ذلك ليس كل شيء، فمن جهة، لم يرفع الأتراك أيديهم عن القضية بعد. ولا يُعرف على وجه اليقين ما إذا كان لدى أنقرة من دليل قاطع يربط بين ولي العهد السعودي والجريمة، لم يكشفوا عنه بعد. كما أن لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأميركي، ولجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، تخطط كل منهما لعقد جلسات استماع لكبار مسؤولي إدارة ترامب، للكشف عن جوانب الجريمة المختلفة، وما إذا كان موقف الرئيس الأميركي من القضية يضر بمصالح الولايات المتحدة القومية. وبالرغم من أن أعضاء مجلس الشيوخ الأكثر تشددًا في الموقف من ولي العهد السعودي لم يعلنوا بعد عن تفاصيل خطوتهم المقبلة، فالمتوقع تقديم مشروع قانون لمجلس الشيوخ يفرض عقوبات على المسؤولين عن الجريمة، بما في ذلك ولي العهد السعودي.
ليس من الواضح، بالطبع، كيف سيتفاعل البيت الأبيض مع الخطوات التي يمكن أن يتخذها مجلسا الكونغرس. ولكن المؤكد أن ولي العهد السعودي، بل السعودية ككل، لن تجد من الأصدقاء في الكونغرس ما كانت تجده من قبل. ففي الكونغرس، كما في الإعلام الأميركي، كُسرت صورة الأمير الإصلاحي، الجريء، بلا رجعة. وسيصعب، بعد اليوم، نسيان صورة الأمير القاتل، الذي لا يتورع عن ملاحقة خصومه بوحشية وتهور. ومهما بذل الإسرائيليون، والجهات المؤيدة لهم في واشنطن، من جهد لحماية ولي العهد السعودي، لم تعد هناك من دوائر كثيرة في العاصمة الأميركية لديها الاستعداد لسماع دعايات الترويج لابن سلمان. ومع استمرار الضغط الإعلامي وإصرار زعماء في الكونغرس على المضي في معرفة حقيقة ما حدث لخاشقجي إلى النهاية، ربما يضطر ترامب إلى النأي بنفسه عن ابن سلمان، لاسيما بعد إعلان مستشار الأمن القومي، جون بولتون، أن أجندة الرئيس ليس فيها مجال للقاء ولي العهد خلال قمة العشرين.
خلف ذلك كله، يظل الموقف داخل السعودية نفسها محل التكهنات. فقد نشرت وكالات أنباء ذات مصداقية، مثل رويترز وبلومبيرغ، ودوائر معارضة سعودية في الخارج، تقارير تفيد بانطلاق حراك داخل الأسرة السعودية لعزل محمد بن سلمان من منصبه، واستبداله بشخصية أخرى، مثل عمه أحمد بن عبد العزيز. ولكن، ليس ثمة دلائل ملموسة على أن مثل هذا الحراك قد انطلق بالفعل. ما يكاد يكون محل إجماع، داخل السعودية وخارجها، أن حراكًا معارضًا لولي العهد داخل الأسرة السعودية يصعب أن يتبلور بدون ضوء أخضر أميركي، صريحًا كان أو خفيًا. ومن الصعب، في ظل انقسام الموقف الأميركي بين إدارة ترامب والكونغرس، معرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة قد قررت التخلص من ابن سلمان.
ما هو مؤكد، بعد مرور ما يقارب الشهرين على جريمة اغتيال جمال خاشقجي، أن القضية لم تزل تتفاعل، وأن السلطات السعودية فشلت في التخلص من ظلالها الثقيلة، وأن ولي العهد، محمد بن سلمان، لم يزل في المركز من هذه الظلال.