تصلب "السترات الصفراء": من إلغاء زيادات الوقود إلى المطالبة بديمقراطية الاستفتاءات

تنتفض "السترات الصفراء" على نصيبها من تكاليف إصلاحات ماكرون ومكاسبها منها، وتعتبر تنازلاته غير كافية ومتأخرة، وتصر على المشاركة مستقبلًا في صناعة القرار.
1d7107265e214f1eb040b28e4e24df6a_18.jpg
السترات الصفراء" الفرنسية تتصلب مع مرور الوقت (جيتي)

تعد احتجاجات "السترات الصفراء" حدثًا فريدًا من نوعه في تاريخ فرنسا. فهذه الحركة الاحتجاجية انطلقت من خلال حملات على شبكات التواصل الاجتماعي وسرعان ما انتشرت في كل التراب الفرنسي، وهي غير مؤطَّرة، لا من أحزاب سياسية ولا من نقابات، ولا زعامات لها. كما أنها غير متجانسة لا اجتماعيًّا ولا سياسيًّا ولا من حيث الفئات العمرية، فهي ممثلة لأغلبية المجتمع؛ فهي أول حركة في فرنسا لا تحمل مطالب فئوية. إنها انتفاضة فرنسا العاملة، التي تستيقظ باكرًا للذهاب للعمل لكن دخلها المتواضع لم يعد يكفي للعيش الكريم. كانت شرارتها الأولى زيادة الحكومة الرسوم على وقود السيارات لاسيما الديزل (تشكِّل الرسوم أصلًا 70% من اللتر الواحد من الوقود) بحجة حماية البيئة. لكن الرسم البيئي حق أريد به باطل، لأن نسبة ضئيلة منه فقط موجهة للانتقال البيئي (تمويل الطاقات المتجددة، النقل العمومي...) بينما البقية لخفض عجز الميزانية.

أزمة متعددة الأبعاد

إذا كان الرسم البيئي القشة التي قصمت ظهر البعير، فإن الأزمة متعددة الأبعاد: سياسية واقتصادية-اجتماعية وجغرافية. تتمثل الأولى في أزمة ثقة بين الممثِّلِين (المنتخَبَين) والممثَلَّين (المنتخِبِين) وأزمة الديمقراطية التمثيلية. فالشرخ بين الحكام والمحكومين أفقد الثقة في المؤسسات السياسية في البلاد وأدخل الديمقراطية التمثيلية الأزمة لأنها لم تعد تمثل إلا نفسها (النخب المتصارعة على السلطة والمناصب). لذا، يطالب المحتجون باستفتاءات بمبادرة شعبية (على النمط السويسري). من هذا المنظور، يمكن القول: إن ما تعيشه فرنسا، رغم غموض بعض جوانب الحركة الاحتجاجية، يشكِّل أيضًا لحظة ديمقراطية تاريخية: مواطنون قرروا استرجاع المبادأة والتعبير عن رأيهم السيادي بما أن الديمقراطية هي إرادة الشعب. فهم يعتبرون التحجج بالقواعد المفروضة (قواعد أوروبية مثل عدم تجاوز العجز 3%، التبادل الحر...) إجهاضًا للديمقراطية. لذا، تعد المسألتان، الاجتماعية والديمقراطية، أعقد مطالب "السترات الصفراء" والتي لا يمكن تلبيتها دون مراجعة مؤسساتية في العمق. الوجه الآخر لهذه الأزمة السياسية هو توقيع الحكومات المتعاقبة على معاهدات أوروبية ثم تتحجج بها لتبرير عدم تحركها. وبهذا تقوض النخب الحاكمة الاتحاد لأنها هي من أسهم في سنِّ تلك القوانين، وبالتالي تتحمل النخب الأوروبية مسؤولية تاريخية في المد الشعبوي والمتطرفالمناوئ للاتحاد.

والجدير بالذكر أن هذا المكون الشعبوي المتطرف الذي يتهم من يسميهم "الأجانب" باختطاف بلده منه ويعتبر المؤسسات السياسية القائمة كاذبة لم تف بوعودها، والاتحاد الأوروبي سبب شقائه وتعاسته، هذا المكون الشعبي يشارك أيضًا في هذه الاحتجاجات ويجدها فرصة مواتية للاحتجاج على توجهات ماكرون الليبرالية وتمسكه بالاتحاد الأوروبي.

أما الأزمة الاقتصادية-الاجتماعية فتتمثل في تنامي الفوارق الاجتماعية بين الطبقات الثرية وبقية الشعب وفي تراكم الضرائب والرسوم التي تتحملها الطبقات المتوسطة أساسًا، لأن معظم الأثرياء يفلتون من الضرائب بطريقة قانونية أو غير قانونية، بينما قطاعات واسعة من الفئات الشعبية لا تدفع الضريبة على الدخل. بسبب الضغط الضريبي المتواصل لم تعد قطاعات واسعة من الطبقات المتوسطة قادرة على العيش الكريم بعرق جبينها.

الأزمة الثالثة تكمن في الهوة المتسعة بين المدن الكبرى من جهة، والمدن المتوسطة والصغيرة والقرى المنتشرة في الداخل الفرنسي، مهدِّدة بانقسام البلاد إلى كتلتين متعارضتين: فرنسا كبريات المدن والمراكز الحضرية وفرنسا الأطراف والهوامش. يضرب التفاوت المتنامي بينهما بمبدأ المساواة الذي تقوم عليه الجمهورية عرض الحائط. فالفرنسي يدفع الضرائب نفسها سواء كان يعيش في المدن أو في الأرياف، لكن بينما يستفيد سكان المدن والمناطق الحضرية من كل الخدمات ومرافق القطاع العام، تُغلق هذه الأخيرة الواحدة تلو الأخرى في المناطق الداخلية البعيدة بحجة ترشيد الإنفاق. إذا كانت مرافق القطاع العام تُغلَق بهذا الشكل فلا يمكن للحكومة الادعاء بأن الضرائب ضرورية لتمويل القطاع العام، يقول المحتجون. لذا، يطالبون بديمقراطية تشاركية حتى تكون لهم الكلمة في توزيع المخصصات المالية وفي خيارات الإنفاق العام.

أسبابها المباشرة

تعيب غالبية الفرنسيين على ماكرون تعاليه معتبرة بعض تصريحاته استهزاء طبقيًّا. ورغم ادعائه تجاوز اليسار واليمين إلا أنه اختار، ومنذ البداية، المعسكر الليبرالي؛ حيث كانت كل إصلاحاته وقراراته الأولى ليبرالية تسير في مصلحة عالم المال والمؤسسات والأثرياء. فهو واصل دعم المؤسسات ماليًّا وألغى الضريبة على الثروة وعوَّضها بضريبة على الأملاك العقارية، معفيًا عالم المال والبورصة والمضاربة. والهدف هو دفع الأثرياء إلى الاستثمار في الاقتصاد ومعاقبة الذين يدخرون (أصحاب العقارات) حتى يحولوا ثروتهم إلى استثمارات. هذه الفرضية صحيحة في منطلقها لكنه من الصعب فحصها. ويرفض ماكرون إعادة العمل بالضريبة على الثروة بحجة أن ذلك سيكلف الاقتصاد الفرنسي كثيرًا ويعد بتقييم الإجراء العام المقبل للتحقق من أن المعفين من الضريبة استثمروا أموالهم في الاقتصاد المنتج.

لكن لو توقف ماكرون عند هذه الإجراءات الليبرالية لما وقعت الاحتجاجات الحالية، ولكنه اتخذ إجراءات اعتبرها المحتجون غير منصفة محمِّلًا الطبقات المتوسطة والشعبية ما لا تطيق: رفع رسوم الوقود خاصة الديزل في 2018 فضلًا عن زيادة مرتقبة في 2019؛ وخفض منح السكن بنسبة 5 يوروهات، ورفع نسبة المساهمة الاجتماعية المعممة على كل المداخيل لكن المتقاعدين هم الأكثر تضررًا منها لأنهم لا يستفيدون من تخفيضات الأعباء الاجتماعية التي خص بها الأجراء.

صحيح أنه قرر إلغاء رسم السكن لفائدة معظم الفرنسيين لكن القرار تدريجي بينما رفع الرسوم الوقود فوري، كما أن البلديات هي التي تحصل على هذا الرسم وليست الدولة، علمًا بأن هذه الأخيرة تقلِّص المخصصات المالية الممنوحة للبلديات. لكل هذا، رأى المحتجون أنهم يتحملون الجزء الأكبر من أعباء الإصلاحات وترشيد الإنفاق العام، في وقت تدنت فيه قدرتهم الشرائية وزادت فيه الضرائب فيما تراجعت الخدمات العمومية كمًّا وكيفًا. وعليه، فإن احتجاجات "السترات الجديدة" دلالة على نهاية الآمال المعلقة على ماكرون وبداية مرحلة جديدة في العلاقة بين الشعب والحكومة.

المراحل الثلاث للحركة الاحتجاجية

المرحلة الأولى: احتجاج ذو مطلب واحد: إلغاء الرسوم على الوقود. لكن الحكومة تجاهلته متمسكة بنهجها بحجة حماية البيئة؛ فرد عليها المحتجون بالقول: نحن نتحدث عن "نهاية الشهر" بينما هم (ماكرون والحكومة وأغلبيته البرلمانية) يتحدثون عن "نهاية العالم". وتلخص هذه المقولة الهوة العميقة بين المواطنين والحكومة. إن هذه المرحلة مفصلية لأنه لو ألغت الحكومة رسوم الوقود لتوقفت الاحتجاجات. حاول ماكرون تدارك الأمر قائلًا إنه يريد الاهتمام بالنهايتين في الوقت نفسه، لكنه لم يقنع أصحاب "السترات الصفراء". لذا، يتحمل مسؤولية انتقال الحركة الاحتجاجية إلى مرحلتها التالية.

المرحلة الثانية: هي مرحلة توسيع دائرة المطالب الشعبية والمختصرة في مسألة القدرة الشرائية والتي تمس كافة جوانب الحياة ومختلف الرسوم والأسعار (رسوم وضرائب، وارتفاع أسعار الوقود، والكهرباء، والغاز، والمواد الغذائية، والمراقبة التقنية للسيارات...). ومن ثم فالحديث عن القدرة الشرائية كعنوان لجملة من المطالب يعني أنه من الصعب على الحكومة تلبيتها كلها وبشكل فوري. فضلًا عن القدرة الشرائية أضاف المتظاهرون مطلبين جديدين: العدالة الاجتماعية (توزيع الثروات بشكل عادل) والعدالة الضريبية، فهم لا يرفضون دفع الضرائب وإنما يريدون أن يدفعها الجميع كل حسب دخله.

يعود تشدد ماكرون من جهة إلى قناعته بأن نهجه سليم وأن ما يحدث لا يعدو أن يكون حركة احتجاجية عادية سرعان ما ستتوقف، ومن جهة ثانية إلى بناء سياسته الإصلاحية على انتقاد أسلافه لتراجعهم عن الإصلاحات تحت الضغط الشعبي. إلا أن تشدده وحكومته خلق تشددًا مضادًّا وكلما راوحت الحكومة مكانها اتسعت دائرة المطالب وازدادت تشددًا. وجاء تراجع الحكومة بإعلانها، مكرهة، إلغاء الرسوم المقررة، متأخرًا، فكانت المرحلة التالية.

المرحلة الثالثة: هي مرحلة التشدد، حيث تعززت المطالب السابقة، المعقدة أصلًا، بمطلبين إضافيين أكثر تعقيدًا: تغيير السياسة الحالية تغيير شاملًا حتى يتسنى التقاسم المشترك للأعباء وللثروات؛ وتغيير المنظومة المؤسساتية لتقاسم السلطة بتوسيع الممارسة الديمقراطية حتى يقول المواطن كلمته ويشارك في صناعة القرارات التي تخص حياته اليومية، من خلال تنظيم استفتاءات شعبية حول القضايا الأساسية.

إن هذا التدرج في التشدد من حيث المطالب سببه تعنت الحكومة، فلو نزعت فتيل الأزمة في بدايتها بتراجعها عن رسوم الوقود لما وصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم، خاصة أن مطالب المرحلة الثانية ولاسيما مطالب المرحلة الثالثة لا يمكن تلبيتها فوريًّا ولا على المدى المتوسط. ويعي المتظاهرون جيدًا أن موازين القوى في صالحهم الآن لذا يضغطون على الحكومة باستمرار ويطالب بعضهم برحيل ماكرون وحل البرلمان.

حزمة إجراءات

بعد ما يقارب شهر من الاحتجاجات وتأزم الوضع وبعض أعمال العنف، استجاب لهم ماكرون ولو جزئيًّا، معلنًا يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 2018 عن حزمة من الإجراءات: رفع الراتب الأدنى بـ100 يورو شهريًّا (من 1185 إلى 1285 يورو) -من تمويل الخزينة العمومية- ؛ وإلغاء كل الرسوم المقررة على الوقود، والتي سبق لرئيس الحكومة أن أعلن إلغاءها قبله بأسبوع؛ وإلغاء رفع المساهمة الاجتماعية المعمَّمة لصالح المتقاعدين الذين لا يتجاوز دخلهم 2000 يورو شهريًّا؛ وإلغاء رفع أسعار المراقبة التقنية للسيارات. كما أعلن عن مبادرة للنقاش الوطني على مستوى القاعدة بمشاركة المنتخبين المحليين، والشركاء الاجتماعيين (النقابات وأرباب العمل)، والجمعيات والمواطنين.

لكن أصحاب "السترات الصفراء" والمعارضة، بكل أطيافها، اعتبروها غير كافية ومتأخرة جدًّا. وفضلًا عن عدم إرضائه المحتجين، أثار ماكرون بإجراءاته هذه مخاوف قطاعات واسعة من الشعب بسبب تكلفتها المقدرة بين 10 و15 مليارًا، والتي ستموَّل من خلال عجز في الميزانية (من المرتقب أن يبلغ هذا العجز 3.5% في 2019، متعديًا بذلك عتبة 3% من إجمالي الناتج المحلي الخام المعمول بها في الاتحاد الأوروبي). يعني التمويل من خلال العجز أن دافعي الضرائب الفرنسيين هم من سيمولون هذه الإجراءات وليس الأثرياء وعالم المال الذين استفادوا من الإجراءات الليبرالية. ومن ثم فهو لم يستجب لمطلبي العدالة الضريبية والعدالة الاجتماعية؛ حيث فضَّل زيادة عجز الميزانية على بدائل أخرى: محاربة التهرب الضريبي الذي يكلِّف خزينة الدولة حوالي 80 مليار يورو سنويًّا؛ وتقليص الغلاف المخصص لآلية دعم القدرة التنافسية للمؤسسات، التي استحدثها فرانسوا هولاند، رغم أنها لم تخلق مزيدًا من فرص العمل، وستكلف هذه الآلية خزينة الدولة حوالي 100 مليار دولار بين 2013 و2020؛ وفرض ضريبة على المضاربات المالية؛ وفرض الضريبة على الشركات متعددة الجنسية العاملة في فرنسا.

مآلات الحركة الاحتجاجية

لم تقنع حزمة الإجراءات أغلبية "السترات الصفراء" التي تواصل الاحتجاج. وستكون الأيام القليلة القادمة حاسمة في مسيرة الحركة وفي مصير ولاية ماكرون. ويمكن رصد أربعة احتمالات بشأن مآلات الأزمة:

الاحتمال الأول: هو أن يقتنع تدريجيًّا القسم "المعتدل" من المحتجين بحزمة الإجراءات وأن يعطي مهلة لماكرون لاختبار نيته وبالتالي الدخول في حوار منظم مع الحكومة للضغط عليها حتى تراجع سياستها، بينما يواصل القسم "المتشدد" التعبئة والاحتجاج للحصول على المزيد من التنازلات. وتراهن الحكومة على هذا الانقسام لإضعاف الحركة وسحب غطاء الشرعية الشعبية الذي تتمتع به، ذلك أن دعم ثلثي الرأي العام للحركة يقض مضجع ماكرون وحكومته. لذا، يتمنيان أن تدق حزمة الإجراءات إسفينًا بين الاتجاهين، "المعتدل" و"المتشدد"، لإضعاف الحركة وشعبيتها. يسعى بعض المحتجين إلى تشكيل قائمة للمشاركة في الانتخابات البرلمانية الأوروبية، في مايو/أيار 2019، ما يقود إلى تطبيع سياسي لهذه الحركة وهو أمر تتمناه الحكومة. لكن ليس هذا التطبيع السياسي محل إجماع داخل حركة مختلفة حتى على تعيين ممثلين لها للتفاوض مع الحكومة.

الاحتمال الثاني: هو عدم اقتناع أغلبية "السترات الصفراء" بإجراءات ماكرون وتأكيدها مواصلة الاحتجاجات، وهذا ما أكدته آخر الاستطلاعات. في هذه الحالة سيزداد الوضع تأزمًا: سياسيًّا (العلاقة بين المتظاهرين والحكومة) ويبعد إمكانيات التوصل لحل توافقي؛ واقتصاديًّا، لأن الاقتصاد الفرنسي يتكبد خسائر كبيرة بسبب الاحتجاجات؛ وأمنيًّا مع تزايد مخاطر أعمال العنف، وسقوط ضحايا (6 إلى غاية 13 ديسمبر/كانون الأول 2018)، فضلًا عن عودة الهاجس الإرهابي مع العملية التي أوقعت ضحيتين في مدينة ستراسبورغ شمالي شرق فرنسا في 11 ديسمبر/كانون الأول 2018. كل هذا في وقت أُرهقت فيه قوى الأمن لاستنفارها وتعبئتها بشكل متواصل لمواجهة حركات احتجاجية ترفض الإعلان مسبقًا عن أماكن تظاهرها.

الاحتمال الثالث، مرتبط بالثاني، وهو أن تأزم الوضع وتصلب عود الاحتجاجات وعجز الحكومة عن التحكم فيها وإقناع أصحابها رغم التنازلات المتتالية قد يجعل ماكرون يرضخ لمطلب القسم المتشدد من المحتجين بحل البرلمان وتنظيم انتخابات جديدة. وبالنظر للأزمة الحالية فمن المستبعد أن يحصل حزبه على الأغلبية وبالتالي سيُجبر ماكرون على التعايش مع حكومة من طيف سياسي آخر، ما يعني نهاية برنامجه الإصلاحي. لذا، سيكون هذا القرار صعبًا.

الاحتمال الرابع، وإن كان ضعيف الحدوث، هو استقالة ماكرون بسبب تأزم الوضع وتواصل الاحتجاجات، وبالتالي الاستجابة لمطالبة الطيف الأكثر تشددًا، من المحتجين، المطالب برحيله. إلا أن هذا الاحتمال هو الأقل ترجيحًا لأن نمط سير مؤسسات الجمهورية الفرنسية يستبعد ذلك، كما أن المطالبة باستقالته ليست محل إجماع بين المحتجين، علاوة على نزوع بعض مكونات المحتجين إلى العنف الذي أخاف قطاعات واسعة من الفرنسيين ودفعهم إلى التوجس من مآلات الحركة الاحتجاجية.

إن احتمال مواصلة الاحتجاج هو، في الوقت الراهن، الأكثر ترجيحًا، وإن لم تتمكن الحكومة من اقتراح إجراءات جديدة لإقناع المحتجين، فإن الحل السياسي -الاحتمال الثالث- أي حل الجمعية الوطنية وإعلان انتخابات تشريعية جديدة قد يكون مخرجًا للأزمة.

يواجه ماكرون تحديات على ثلاثة أصعدة على الأقل: أولًا: تبني تدابير اجتماعية موازية لمواكبة الإصلاحات الليبرالية والتخفيف من وطأتها على الطبقات المتوسطة والشعبية؛ فقد أغفل أهمية مراعاة التوازن القلق بين الإصلاحات الليبرالية وترشيد الإنفاق العام من جهة ومقتضيات العيش الكريم لأغلبية الشعب الأكثر تضررًا منهما من جهة أخرى. لذا، يواجه تحدي الموازنة بين العدالتين الضريبية والاجتماعية. ثانيًا: تحدي إشراك الأسلاك الوسيطة (النقابات والجمعيات) والمنتخبين المحليين في إدارة الأزمة للخروج منها. ثالثًا: التكفل بأزمة الديمقراطية التمثيلية وإلا فإن الديمقراطية برمتها ستكون في خطر جرَّاء تنامي التيارات الشعبوية والمتطرفة.

توجس الأنظمة العربية

تتوجس أنظمة عربية عدوى "السترات الصفراء" التي مسَّت بلجيكا، لاسيما أن الحركة ظهرت عبر منصات التواصل الاجتماعي التي كانت أداة تعبوية في أحداث الربيع العربي. فهي تتخوف من أن تشجع هذه الاحتجاجات المواطنين العرب على التظاهر ما قد يقود إلى "جولة ثانية" لأحداث الربيع العربي، قد تكون إدارتها السياسية هذه المرة أعقد. فدول الاتحاد الأوروبي المنشغلة بما يحدث في عقر دارها لن يكون لها الوقت ولا المصلحة في دعم أنظمة تسلطية في جوارها تحتج عليها شعوبها، لاسيما أن تموقعها إلى جانب هذه الأنظمة قد يستخدمه المتظاهرون الأوروبيون حجة إضافية ضد حكوماتهم. لكن بالمقابل، قد تتنفس الأنظمة العربية الصعداء لأن الحكومات الأوروبية الموجودة اليوم بين مطرقة التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة وسندان الحركات الاحتجاجية الاجتماعية لن تنشغل بالمسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي.