مقدمة
أكد رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري خلال زيارته الأخيرة إلى لندن (11 ديسمبر/كانون الأول 2018) أنه واثق من أن لبنان سيشكِّل حكومة قبل نهاية العام الحالي 2018. تأتي تعليقات الحريري بعد أكثر من ستة أشهر من الانتخابات البرلمانية اللبنانية، والتي لم يتم خلالها التوصل إلى توافق في الآراء حول تشكيل مجلس الوزراء.
إن التأخير في تشكيل حكومة في لبنان يرجع جزئيًّا إلى أسباب داخلية، ولكن هذه الأسباب هي نفسها مدفوعة بقضايا إقليمية أوسع، خاصة فيما يتعلق بالصراع بين المملكة العربية السعودية وإيران. وبما أن الصراع بينهما يزداد تعقيدًا وشدة في الظرف الحالي فليس من المرجح أن يحدث في المستقبل القريب تحقيق تقدم في المحادثات حول تشكيل حكومة لبنانية بمعزل عن التأثير الإقليمي
عقبة المقاعد الوزارية
شهدت الانتخابات البرلمانية اللبنانية، في مايو/أيار 2018، فوزًا أكبر بالمقاعد البرلمانية للائتلاف الذي شكَّله حزب الله والتيار الوطني الحر من ائتلافه المنافس الذي شكَّلته تيار المستقبل والقوات اللبنانية، على الرغم من أن الحزب الأخير ضاعف تقريبًا عدد مقاعده. فكان تيار المستقبل، بقيادة رئيس الوزراء المكلف، سعد الحريري، أكبر الخاسرين في الانتخابات.
ومهَّدت النتائج الطريق أمام حزب الله والتيار الوطني الحر لطلب تمثيل أكبر في الحكومة. كما استخدمت القوات اللبنانية النتائج المحسنة الخاصة بها للمطالبة بمقاعد أكثر من قبل. المواجهة بين الطرفين هي أحد العوامل التي أخَّرت عملية تشكيل الحكومة.
بعد شهور من المفاوضات، سلَّمت القوات اللبنانية بتسوية حول التمثيل المسيحي في الحكومة، لكن عقبة جديدة ظهرت في أكتوبر/تشرين الأول 2018؛ حيث أصر حزب الله على حق نواب سُنَّة مؤيدين له بتسمية وزير سني في الحكومة الجديدة.
منذ عام 2005، يختار تيار المستقبل أعضاء الحكومة السُّنَّة على أساس كونه أكبر حزب سياسي يتبعه السنة في لبنان ولكن طلب حزب الله هو محاولة للاستفادة من الخسائر الانتخابية لتيار المستقبل بذريعة أن الأخير تراجع تمثيله للسنة وبالتالي لم يعد يحق له احتكار تمثيلهم دون سواه.
ويحاول حزب الله الدفع باتجاه دخول واحد من ستة أعضاء برلمان سنة معارضين لتيار المستقبل إلى الحكومة. ويطالب النواب الستة بأن يُمنح أحدُهم مقعدًا وزاريًّا أو أن يكون لهم ممثل في الحكومة على أساس أنهم يشكلون كتلة سنية مستقلة -فهم يطلقون على أنفسهم اسم "اللقاء التشاوري"- لكن الرئيس اللبناني، ميشال عون، رفض الاعتراف بهم ككتلة سياسية، وقال إنهم ليس لديهم الحق التلقائي في التمثيل في الحكومة لهذا الاعتبار لكنه ترك الباب مفتوحًا للتفاوض. معظم هؤلاء النواب لديهم روابط مع النظام السوري أو متحالفون مع حزب الله ضمنيًّا أو علنًا.
لا يبدو أن الحريري يعتبر خسارة تيار المستقبل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة كمؤشر على أن كتلته يجب أن يكون لها عدد أقل من المقاعد في الحكومة. كما أنه يشعر بالقلق من محاولة حزب الله السيطرة على اختيار أحد المقاعد المخصصة للسنة في الحكومة لعدد من الأسباب؛ أحدها: هو أن اختيار حزب الله سيؤدي على الأرجح إلى تعيين اسم "استفزازي"، كما قال الحريري، والذي لن يكون مقبولًا له. سبب آخر هو أن هذا سيبدو وكأنه اعتراف بالهزيمة السياسية التي من شأنها أن تثير غضب حلفاء الحريري. والسبب الثالث هو أن الحريري يدرك أنه لا يستطيع التسليم لحزب الله لخوفه من الرد السعودي. والسبب الرابع هو أن هذا من شأنه أن يساعد في جهود حزب الله للحصول على الثلث المعطِّل في الحكومة. وأخيرًا، فإن فقدان أحد المقاعد السنية يحمل في طياته خسارة في الوصول إلى أحد مصادر أموال الدولة، لأن استلام وزارة يفتح فرصة إبرام العقود بين الوزارة من ناحية والشركات أو المؤسسات غير الرسمية التابعة لأعضاء كتلة الوزير من ناحية ثانية، لتنفيذ مشاريع تحت مظلة الوزارة كمشاريع إغاثة اللاجئين أو تحسين البنى التحتية، وغالبًا ما يكون تمويل مثل هذه المشاريع من قبل جهات أجنبية ضمن باقة دعمها للبنان.
وقد نوقشت حلول مختلفة كوسيلة للخروج من هذا المأزق؛ الأول: هو تشكيل حكومة أصغر من 18 أو 24 مقعدًا (بدلًا من 30 مقعدًا) مع ممثلين من الأحزاب السياسية الرئيسية، لكن الرئيس ميشال عون رفض هذه الفكرة لأن المفاوضات حتى الآن استندت إلى وجود 30 مقعدًا في مجلس الوزراء. وهناك فكرة أخرى، وهي توسيع عدد المقاعد في مجلس الوزراء إلى 32 مقعدًا ليستوعب طلب حزب الله بتعيين أحد أعضاء البرلمان الستة "المستقلين" السنة كوزير. الفكرة الثالثة هي أن يعين الرئيس عون وزيرًا سنيًّا لا ينتمي إلى تيار المستقبل ولا إلى اللقاء التشاوري، ولكن يوافق عليه الأخير. مثل هذا الترتيب له سابقة في لبنان، مع ما سمي بالمرشح "المستقل" الذي اختاره عون في حكومة سابقة والذي كان شخصية مؤيدة لحزب الله؛ الأمر الذي قاد حزب الله وحلفاءه في ذلك الوقت إلى الحصول على حق النقض في مجلس الوزراء.
استقطاب إقليمي
تُظهر الصورة الأكبر المحيطة بالجمود الداخلي كيف أن المشهد السياسي الداخلي في لبنان لا يزال تتحكم فيه الديناميات الإقليمية.
تأتي عملية تشكيل الحكومة في الوقت الذي يتعرض فيه الحريري لضغوط شديدة من السعودية حتى لا يتنازل لمطالب حزب الله. بعد الحادث الذي وقع في نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي 2017، والذي أجبرت السلطات السعودية فيه الحريري على إعلان استقالته من رئاسة الوزراء من الرياض بدعوى تهديده من قبل حزب الله وإيران، اتضح أن مستقبله السياسي يكمن بشكل مباشر في أيدي المملكة العربية السعودية.
وبينما كان الحريري يشعر بأنه أكثر جرأة خلال الصيف الماضي 2018 -بفضل تدخل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لتسهيل الأمور مع المملكة العربية السعودية- فإنه يجد نفسه اليوم متشبثًا براعٍ خارجي يواجه تدقيقًا عالميًّا مكثفًا بشأن مقتل جمال خاشقجي. إن الضغط الدولي على المملكة العربية السعودية قد أضعف قدرة الحريري على المساومة في لبنان.
يرى حزب الله في هذا الضغط مفتاحًا سياسيًّا يحاول من خلاله الحصول على مزيد من التمثيل في الحكومة من خلال الإصرار على وزير سني، لكن حزب الله نفسه في موقف على قدم المساواة مع الحريري، فالحزب يشعر بعدم الارتياح المادي الذي يشعر به أيضًا الحريري.
الولايات المتحدة أعادت فرض العقوبات على إيران، الراعي الرئيسي لحزب الله. وعلى الرغم من تباهي إيران وحزب الله بالقدرة على مواجهة العقوبات إلا أن العقوبات ستؤثر كثيرًا على الاقتصاد الإيراني؛ مما يؤثر سلبًا على قدرة طهران على دعم حزب الله ماليًّا ولوجستيًّا على المدى المتوسط إلى المدى الطويل. وتأتي على رأس الضغوط الحالية على إيران وحزب الله تداعيات تدخلهما في سوريا. لذلك، فإن إصرار حزب الله على المزيد من التمثيل في مجلس الوزراء اللبناني ليس مجرد مطلب سياسي؛ إنه أيضًا اقتصادي. إن زيادة التمثيل الحكومي لأي حزب سياسي في لبنان يعني المزيد من السبل للوصول إلى موارد الدولة. ويحتاج حزب الله، شأنه شأن جميع القوى السياسية اللبنانية الأخرى، إلى الموارد التي يمكنه توجيهها نحو مشاريعه الخاصة، وللاستفادة منها في تمويل حلفائه وتعزيز موقعهم في النظام اللبناني.
اجتذاب الموارد
لبنان حاليًّا تديره حكومة تصريف أعمال، يتفق توزيع المقاعد فيها مع رغبة تكتل الحريري بخلاف التشكيل الذي يقترحه حزب الله للحكومة الجديدة. موقف كتلة الحريري مبني جزئيًّا على محاولة ربح الوقت طالما لديه كتلة حكومية حاليًّا لإقناع أوروبا بالامتناع عن استخدام أموالها الخاصة كأداة ضغط لتسريع عملية تشكيل الحكومة. ويأتي ذلك في أعقاب بعض مؤشرات الدول الأوروبية بأنها لن ترسل الأموال إلى لبنان حتى يتم تشكيل مجلس الوزراء.
وفي خطاب ألقاه في لندن، في ديسمبر/ كانون الأول 2018، قال الحريري إنه لا يعتقد أن عدم وجود مجلس وزراء يجب أن يشكِّل عقبة أمام تلقي المساعدات أو صناديق الاستثمار من الحكومات الأوروبية، معتبرًا أن هناك حكومة مؤقتة تقوم بالواجب. يجب قراءة هذا البيان في سياق تركيبة الحكومة الحالية التي تكون مواتية لكتلة الحريري وحلفائه، بحيث إذا وصل المال خلال فترة وجود حكومة تصريف الأعمال، فإن هذا يعطي الحريري المزيد من الموارد التي يمكن أن يستخدمها لتقوية موقعه السياسي في الشارع السني. كما أن دوره كوسيط في هذه الصناديق يزيد من قدرته التفاوضية المحلية مع حزب الله الذي يعاني من ضائقة مالية.
علاوة على ذلك، بُنيت حسابات الحريري على استخدام إمكانية التمويل السعودي والخليجي كحافز لتشكيل الحكومة. واستنادًا إلى الوضع الاقتصادي الراكد في لبنان الذي شهد نموًّا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1? فقط خلال السنوات القليلة الماضية، قال خطاب الحريري في لندن: إن المملكة العربية السعودية ستساعد لبنان اقتصاديًّا على تشكيل الحكومة. بعد أن وافقت المملكة العربية السعودية مؤخرًا على تقديم تمويل كبير لتونس، أصبح اللبنانيون يرون أن استخدام الحريري للبطاقة السعودية ذو مصداقية أكثر. والآن، بعد أن فشلت محاولات المملكة العربية السعودية السابقة للتصدي لإيران في لبنان من خلال الضغط على الحريري للاستقالة على أمل إثارة غضب شعبي في لبنان ضد التدخل الإيراني، فإن الخيار الآخر الوحيد أمام المملكة العربية السعودية هو الحفاظ على أهميتها في لبنان في وجه إيران من خلال التأثير المباشر على الحكومة. إذا سلَّم الحريري بمطالب حزب الله، فإن هذا يترك النفوذ السعودي في لبنان ضعيفًا إلى حد كبير.
ولكن حصول الحريري على المساعدات من السعودية وسواها لن يستخدمها لتحسين الوضع المالي لحزب الله. وهذا يجعل تلويحه بالمساعدات المتوقعة نداءً لحلفاء حزب الله المسيحيين، وبالأخص التيار الوطني الحر، لعدم أخذ جانب حزب الله بالكامل في المفاوضات على الحكومة، في مقابل الحصول على المساعدات. وبما أن أموال المساعدات وخاصة القادمة من السعودية ستزيد من تمكين الحريري داخل المجتمع السني اللبناني فمن مصلحة حزب الله ضمان تمثيل قوي في الحكومة، لاسيما من بقية الحلفاء بما، يسمح له بالوصول إلى الموارد غير تلك التي يمكن أن تقدمها المملكة العربية السعودية، ولاسيما الموارد الغربية منها والدولية.
تستند حسابات كتلة حزب الله على التطبيع الدولي المتزايد مع النظام السوري الذي سيمهد الطريق أمام استئناف التجارة مع سوريا وإعادة البناء. يقوم كل من الحريري وحزب الله بتقديم لبنان كمنبر لإعادة الإعمار في سوريا على أساس أن لبنان لديه خبرة طويلة في إعادة الإعمار بعد الحرب. فالجانبان يتطلعان إلى أموال إعادة البناء الغربية باعتبارها شريان الحياة، وهذا يؤدي إلى زيادة المنافسة بينهما على النفوذ في الحكومة.
تستند حسابات حزب الله أيضًا إلى قوته العسكرية. إن الموارد المالية والبشرية المتقلصة لحزب الله وإيران تقابلها زيادة في قدرة حزب الله العسكرية كنتيجة لمشاركته في النزاع السوري. وبحسب التقارير، فإن لدى حزب الله الآن مصانع لتصنيع الأسلحة داخل لبنان، وهو ما لم يكن يملكها قبل عام 2011. كما أنه، حسب المستقبل، زاد من ترسانته في الصواريخ عشرة أضعاف منذ أيام حربه مع إسرائيل عام 2006.
ليس لدى أي حزب آخر في لبنان القدرة العسكرية لحزب الله، وبعد أن استخدم حزب الله سلاحه في الداخل اللبناني في الماضي لتعزيز قوته في مواجهة معارضيه، فإن قدرة المعسكر المناهض له محدودة في التصدي له في الداخل من دون دعم دولي كبير.
أزمة مقيمة
إن عملية تشكيل الحكومة في لبنان تعترضها تجاذبات داخلية على اقتسام النفوذ السياسي والموارد المالية لكن العقبة الرئيسية في نهاية الأمر تتعلق بالتوتر المتصاعد بين السعودية وإيران. فالمملكة العربية السعودية تشعر بمزيد من الجرأة بسبب وجود الرئيس دونالد ترامب في السلطة، وإعلانه عن عزمه على تقليص التغلغل الإيراني في الشرق الأوسط. لكن التجاذبات السياسية داخل الولايات المتحدة نفسها، مثل تصويت مجلس الشيوخ الأخير للحد من المساعدات العسكرية الأميركية للمملكة العربية السعودية في حرب اليمن وإلقاء اللوم على ولي العهد السعودي في مسألة قتل خاشقجي، تقلِّل من مستوى اليقين بشأن التأثير الإقليمي للمملكة العربية السعودية.
ما دامت القوتان الإقليميتان، السعودية وإيران، لم تتوصلا إلى تسوية أو يفرض أحدهما إرادته على الآخر لاهتزاز وضعهما الخارجي فإن تشكيل الحكومة اللبنانية سيظل عرضة لتجاذباتهما التي ستدفع بحلفائهما إلى مواجهة عدم اليقين الناشئ من هذا الصراع بالإصرار على التحكم في الحكومة لأنها توفر له الغطاء الشرعي لوجوده وقراراته والموارد المالية التي تعوِّضه عن تناقص الموارد الخارجية التي كانت تصله من حلفائه.
من المرجح في نهاية المطاف تشكيل الحكومة اللبنانية حسب موازين القوى الداخلية التي تعكس تقدم حزب الله وحلفائه محليًّا وبلوغ الحزب بالذات مستوى من النفوذ لبنانيًّا لم يبلغه في تاريخه، وستحمل أيضًا بصمات تراجع قوة المملكة في الشأن اللبناني قياسًا على السابق وما تركته مؤخرًا من تداعيات سلبية أوصلت الحريري إلى أضعف حالاته منذ انخراطه في الشأن اللبناني (عام 2005).
لكن بالمقابل، سيأخذ تشكيل الحكومة بالاعتبار حاجة لبنان إلى تفادي العزلة الخارجية فيأخذ في الحسبان الضغوط الدولية والإقليمية التي تتعرض لها إيران وحلفاؤها، ويراعي أصواتًا عربية وإسلامية أخرى مؤيدة للحريري ومتحفظة على دور إيران وحزب الله في لبنان والمنطقة؛ ما سيعطي هذا الأخير مساحة كافية للحد من خسائره في تشكيل الحكومة، وتجعله قادرًا على التحرك بحرية نسبية في الخارج وبما يخفف من قيود الداخل.