
في قصيدته الجميلة والحزينة في آن واحد "الحصار"، يبرع الشاعر الكشميري الشاب "عمر بهات" في وصف عمق مأساة هذه المنطقة المضطربة من العالم، ويبدو أن ما أورده في تلك القصيدة حين قال: "كشمير تحترق من جديد.. النار هنا كالأمواج تتلهب.. والجو يتسعر"، هو التوصيف الأعمق والأكثر تعبيرًا عن ماضي كشمير وحاضرها وحتى مستقبلها.
هذه البقعة من العالم ومنذ التقسيم التاريخي لعام 1947، لا تكاد تهدأ قليلًا إلا لتعاود الانفجار والاضطراب أكثر. وهو ما يحدث الآن على وقع هجوم مسلح استهدف، في شهر أبريل/نيسان 2025، سيَّاحًا في الجزء الهندي من كشمير، وكان ذلك كفيلًا بأن يوقظ العداوات ونذر الحرب مجددًا. ولكن المواجهة هذه المرة اختلفت عما عهدته المنطقة سابقًا من مختلف النواحي. وبناء على ذلك، تأتي هذه الورقة التحليلية لتسلط الضوء على خصوصيات ومسار وتداعيات هذه المواجهة الجديدة، من خلال تتبع التساؤلات التالية: في ظل أي سياق وخلفيات اندلعت هذه المواجهات؟ وما الذي يميزها مقارنة بما سبقها من صدامات؟ وما التداعيات والانعكاسات التي خلَّفتها على علاقات الجانبين، وعلى المستويين الإقليمي والعالمي؟
شرارة الأزمة: السياق والخلفيات
لم يكن الفوج السياحي الذي اختار منتجع باهالغام بالجزء الهندي من كشمير لقضاء إجازته، يتوقع حتى في أسوأ كوابيسه أن تتحول تلك الرحلة السياحية إلى دراما مأساوية، تتناقلها كل وسائل الإعلام العالمية، بل وتمهد لمواجهة عسكرية جديدة بين الهند وباكستان.
ففي يوم 22 أبريل/نيسان 2025، فاجأت مجموعة مسلحة تنتمي للمجموعات المسلحة الكشميرية الرافضة للسيطرة الهندية على كشمير، الفوج السياحي الذي كان يرتاد المنطقة بوابل من الرصاص، وعُدَّ الهجوم الأسوأ الذي يستهدف مدنيين هناك منذ سنوات عديدة(1). خلَّف الهجوم مقتل 26 سائحًا هنديًّا وجُرْح آخرين، وأعلنت مجموعة مسلحة تُدعى "جبهة المقاومة" المرتبطة بجماعة "لشكر طيبة" مسؤوليتها عن العملية، فأعاد ذلك إلى الأذهان مشاهد التصعيد الذي يضع الهند وباكستان دومًا على حافة حرب، كان آخرها عام 2019. وكالعادة سارعت الحكومة الهندية إلى اتهام باكستان بالوقوف خلف الهجوم. وفي المقابل، نَفَتْ إسلام أباد هذه الاتهامات، وحمَّلت السياسات الهندية مسؤولية تفاقم العنف بتحويلها الإقليم إلى "سجن مفتوح"(2).
ورغم أن هذا الهجوم يُعد سببًا مباشرًا للمواجهات العسكرية التي جرت بين الجارتين اللدودتين، إلا أن التعمق في سياقات وخلفيات هذه الأزمة، وما سبق الهجوم من أحداث وتطورات في الهند، أو في القسم الهندي من كشمير، وما تعلق بعلاقات البلدين المشحونة بالعداء تاريخيًّا، يحيلنا إلى ما هو أعمق من ذلك. فالمنطقة غير المستقرة بالأساس، شهدت خلال السنوات القليلة الماضية تنامي عوامل عدائية غير مسبوقة، مرتبطة أساسًا بالوضع السياسي الداخلي في الهند، والمتميز بصعود التيار القومي الهندوسي الموصوف بالمتطرف، الذي مارس سياسات أسهمت في سيادة أجواء مشحونة واحتقان واسع سواء في الجزء الهندي من كشمير، أو لدى المسلمين في الهند، أو ما تعلق بالعلاقات الثنائية مع باكستان.
وكان "ناريندرا مودي"، قد توَّج مساره الطويل حاكمًا لولاية غوجرات، بانتخابه رئيسًا للوزراء، عام 2014، عن حزب بهاراتيا جاناتا القومي المعروف بتوجهاته الهندوسية المتطرفة، وكان ذلك كفيلًا بحدِّ ذاته بزيادة التوتر والاحتقان في كشمير وحتى لدى مسلمي الهند عمومًا، بالنظر لتاريخ "مودي" كمناضل هندوسي متمرس، والاتهامات الموجهة إليه حين كان حاكمًا بشأن تواطؤه في أحداث العنف الطائفي في ولاية غوجرات التي راح المسلمون ضحية لها عام 2002. ولكنه نجح مع ذلك، ورغم التداعيات الخطيرة للمواجهة العسكرية مع باكستان، عام 2019، في الحفاظ على رئاسة الوزراء لعهدة ثانية(3).
وإذا كان مودي قد أبدى بعض التحفظ في سياساته خلال عهدته الأولى، فإن عهدته الثانية كانت أكثر جرأة ووضوحًا في تبني سياسات عُدَّت عدائية وماسَّة بحقوق وموقع المسلمين في النسيج السياسي والاجتماعي والثقافي للهند، وكان للقسم الهندي من كشمير قسم وافر من ذلك.
فالتحولات التي شهدتها الهند تحت زعامة "مودي"، منذ 2014، جعلت طابع الخصومة يعمُّ، وعناصر "التمييز" تسود، في حقبته تلك التي نقلت المسلمين من خانة مواطني الدرجة الثانية، إلى الغرباء الذي ينتظرون قرار الترحيل. وتَكَرَّس ذلك بعد شروع حكومته في تطبيق قوانين الجنسية الجديدة، عام 2019، والتي تقضي بمنح الجنسية الهندية لأبناء الأقليات الدينية الذين جاؤوا إلى الهند هربًا بدينهم، مثل الهندوس والسيخ والبوذيين والمسيحيين مستثنيًا المسلمين، وكان ذلك أول تجلٍّ لعقيدة سياسية تهدف إلى جعل المسلمين غرباء في بلدهم(4).
كما حققت حكومة مودي، في 5 أغسطس/آب 2019، رغبة قديمة بإلغاء الوضع الخاص الذي تتمتع به ولاية جامو وكشمير، بموجب المادة 370 من الدستور الهندي، التي كانت تتيح للهند سيطرة محدودة فقط على الولاية، بحكم وضعها الدستوري شبه المستقل (كان للولاية دستورها وعلمها الخاصَّان). كما أن المادة 35 أ، أتاحت للمشرِّعين في الولاية تعريف المواطنة، ولم تُجِزْ للغرباء عنها الإقامة الدائمة فيها، أو شغل الوظائف الحكومية، أو التملك. وبموجب التعديل الجديد تم تقسيم جامو وكشمير إلى ولايتين منفصلتين، وكان ذلك من الأهداف الرئيسية لمودي وحزبه تحت شعار "أمة واحدة، دستور واحد". ورأى السياسيون والناشطون في جامو وكشمير أن القرار يهدف إلى تغيير التركيبة الديمغرافية للمنطقة، لأنها الولاية الهندية الوحيدة ذات الغالبية المسلمة بنسبة 60% من السكان، والسماح خصوصًا بتوطين الهندوس هناك بكثافة. وترافق ذلك القرار، مع حملات قمع واسعة للمعارضين له، ونشر كثيف للقوات الهندية لمواجهة الاحتجاجات، وسجن الآلاف، وقطع خدمات الاتصالات والإنترنت وحتى التلفاز لأكثر من شهر(5).
لم تكتف حكومة "مودي"، الذي فاز بعهدة ثالثة في يونيو/حزيران 2024، بذلك، بل أقدمت على اتخاذ قرار آخر مثير للجدل في ولايتها الثالثة، فقبل أيام قليلة فقط من حادثة باهالغام، أقرَّ البرلمان الهندي، في أبريل/نيسان 2025، مشروع قانون يهدف إلى تغيير طريقة إدارة ممتلكات الوقف الإسلامية المقدرة قيمتها بمليارات الدولارات. وأقرَّ مجلس الشيوخ بدوره بعد يوم واحد فقط مشروع قانون الوقف المُعدَّل. ويقول زعماء مسلمون وأحزاب معارضة: إن مشروع القانون "غير دستوري"، وينتهك حقوق الأقلية المسلمة في الهند، ويمنح الحكومة والجهاز القضائي تدخلًا كبيرًا في صلاحيات وشؤون هيئات الأوقاف الإسلامية(6).
واستندت الجماعة المسلحة التي تبنَّت إطلاق النار في باهالغام (جبهة مقاومة كشمير)، إلى عدد من تداعيات السياسات والقرارات الحكومية المتحيزة ضد المسلمين في عموم الهند وفي كشمير على وجه الخصوص لتبرير عمليتها. حيث عبرت الجماعة في رسالة على مواقع التواصل الاجتماعي، عن استيائها من توطين أكثر من 85 ألف "أجنبي" في المنطقة (أغلبهم هندوس)؛ مما يُحدِث "تغييرًا في التركيبة السكانية"، وأضافت: "نتيجة لذلك، سيُوجَّه العنف نحو أولئك الذين يحاولون الاستيطان بالطرق المخالفة للقانون"(7).
وبالتالي، فحادثة باهالغام، ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي يمتد عميقًا في جذور الأزمة الكشميرية، والتي توفر سياسات حزب بهاراتيا جاناتا وزعيمه ناريندرا مبررًا لإذكائها، ومن تعميق حالة الشرخ وانعدام الثقة بين الحكومة الهندية وسكان جامو وكشمير من جهة، ومع دولة باكستان من جهة أخرى. وهو ما يجعل انفجار أي صراع مسلح بينهما أمرًا واردًا بشدة، ولا يحتاج سوى إلى شرارة صغيرة لإشعاله.
رفع مستوى المواجهة
كما كان متوقعًا، لم تمر حادثة باهالغام بردًا وسلامًا على كشمير، بل خطَّت فصلًا آخر من المواجهات وتفاقم العداوات بين الهند وباكستان، مع تجدد اتهامات نيودلهي لإسلام أباد بالوقوف وراء دعم الجماعات المسلحة في كشمير ومن بينها الجماعة التي نفذت الهجوم الأخير. ولكن هذه المواجهة المتجددة كان لها طابعها الخاص والمتميز مقارنة بالمواجهات السابقة، سواء ما تعلق بالإجراءات غير العسكرية المتخذة من الطرفين، أو مجريات المواجهة العسكرية، وما شهدته من تفاصيل إستراتيجية وخططية غير مسبوقة.
- على مستوى الإجراءات غير العسكرية: بعد تعهد حماسي من رئيس الوزراء الهندي، "ناريندرا مودي"، بـ: "مطاردة الجناة حتى أقاصي الأرض"، بدأت سلسلة إجراءات وإجراءات مضادة بين الجانبين، فطلبت السلطات الهندية من جميع الباكستانيين مغادرة أراضيها بحلول 29 أبريل/نيسان 2025، وقررت إغلاق المعبر الحدودي البري الرئيسي بين البلدين، وتخفيضات واسعة في أعداد الدبلوماسيين، بما في ذلك سحب العديد من الموظفين الهنود من إسلام أباد(8)، وسحب مستشاريها، الدفاعي والبحري والجوي، من باكستان، وأمرت الملحقين العسكريين الباكستانيين وغيرهم من المسؤولين العسكريين من باكستان في نيودلهي بالمغادرة في غضون أسبوع. فيما أمهلت باكستان جميع مستشاري الدفاع والبحرية والجوية الهنود لديها حتى 30 أبريل/نيسان 2025 للمغادرة، وأغلقت مجالها الجوي أمام شركات الطيران الهندية، وأوقفت كافة الأنشطة التجارية معها(9).
ولكن الإجراء الجديد الذي تم اتخاذه، ويعد سابقة ومن بين المميزات التي انفردت بها الأزمة الأخيرة دون بقية الأزمات الماضية، هو ما تعلق بإقدام الهند، في 23 أبريل/نيسان 2025، على تعليق العمل باتفاقية تقاسم مياه أنهار السند، الموقعة بين البلدين، عام 1960، بوساطة من البنك الدولي. والتي تنظم تقاسم مياه 6 أنهار في حوض نهر السند، وهي الأنهار الشرقية المخصصة للهند، وتمثل 20% من التدفقات الكلية، بينما الأنهار الغربية مخصصة لباكستان بنسبة 80% من التدفقات. وكانت المعاهدة قد نجحت في الصمود طيلة 65 سنة أمام أزمات وحروب عاتية بين البلدين(10).
تم تصنيف هذا الإجراء، ضمن نطاق حرب مائية تمارسها الهند لأول مرة في تاريخ مواجهتهما، لاسيما أن باكستان تعتمد على هذه الأنهار لري 80% من أراضيها الزراعية (نحو 15 مليون هكتار)، التي تشكل حوالي 20% من ناتجها المحلي الإجمالي، وتوظف ثلث القوى العاملة، كما تولِّد هذه الأنهار ثلث الطاقة الكهرومائية في البلاد. وثمة تقديرات تشير إلى أن تقليص التدفقات بنسبة 10% فقط، قد يكلف خسائر اقتصادية بمليارات الدولارات سنويًّا. لهذا وصف وزير الطاقة الباكستاني القرار بـ"حرب المياه"، فيما وصف بيان لجنة الأمن القومي في الحكومة الباكستانية قرار التعليق بأنه: "مساس بشريان حياة لـ 240 مليون شخص، وسيتم ضمان توافرها بأي ثمن، وأي محاولة لوقف أو تحويل تدفق المياه خلافًا للاتفاق سيُعد عملًا حربيًّا"(11).
ويبدو أن قرار الحكومة الهندية بتعليق العمل بالاتفاقية، يتناسب مع رغبة سابقة وتهديدات في وقت مضى من طرف رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي"، وبالضبط عام 2016، على إثر هجوم على القوات الهندية في إقليم جامو وكشمير، عندما أدلى بتصريحه الشهير: "لا يمكن للدم والماء أن يتدفقا معًا"، وتقديمه توجيهات حينها بمراجعة بنود اتفاقية مياه نهر السند مع باكستان، وذلك كأداة ضغط ربما هي الأقوى على إسلام أباد، ولكن ذلك بقي حينها في حدود التصريحات فحسب، ولم يتم اتخاذ قرار التعليق مثلما حدث هذه المرة(12).
هذا التعليق، هو ما دفع باكستان لاتخاذ إجراء آخر غير معهود، وهو أيضًا من مميزات أجواء ومجريات هذه المواجهة، ألا وهو قرارها بتعليق العمل باتفاقية شيملا التي وُقِّعت بين البلدين، عام 1972، إثر حرب 1971، وهي اتفاقية تجمد الوضع في كشمير. وقال مكتب رئيس الوزراء الباكستاني، إن إسلام أباد: "ستمارس حقها في تعليق جميع الاتفاقيات الثنائية مع الهند، ومن بينها اتفاقية شيملا 1972، حتى تكف نيودلهي عن إثارة الإرهاب داخل باكستان"، وجاء قرار التعليق كأقوى رد على القرار الهندي بتعليق اتفاقية المياه(13).
- أطوار ومميزات الإجراءات العسكرية: بعد مدة قصيرة من السجالات السياسية والإعلامية، انتقل الجانبان إلى مرحلة المواجهة العسكرية كإجراء تصعيدي مهدت له الإجراءات السابقة، وكان للمواجهة الهندية-الباكستانية هذه المرة خصوصياتها وجوانبها الفريدة التي لم تشهدها حروب واحتكاكات مضت.
في الليلة الفاصلة بين 6 و7 مايو/أيار 2025، شنَّت الهند سلسلة من الضربات العسكرية على تسعة مواقع في كشمير الخاضعة للإدارة الباكستانية وباكستان، مستهدفةً ما أسمته وزارة الدفاع الهندية: "البنية التحتية للإرهاب". وقد أطلق الجيش الهندي على هذه الضربات الاسم الرمزي "عملية سيندور"، وقال بيان صادر عن الوزارة: "لقد أظهرت الهند قدرًا كبيرًا من ضبط النفس في اختيار الأهداف وطريقة التنفيذ". فيما قال الجيش الباكستاني: إن 31 شخصًا على الأقل قُتلوا، وأصيب 57 آخرون في الغارات، وشمل هذا العدد أيضًا ضحايا القصف عبر الحدود. وفي وقت لاحق، شنَّت باكستان "حملة هائلة من الهجمات بالطائرات بدون طيار والصواريخ، مستهدفةً قواعد عسكرية في عدة مدن هندية"، وكان هناك "اعتراف من الجانب الهندي بأنه على الرغم من أن دفاعاته الجوية أحبطت الكثير من القصف، إلا أن أضرارًا لحقت بالمعدات وخسائر في أفراد الأمن"(14).
ولكن الحدث الحاسم في هذه المواجهة وقع عندما اشتبك أكثر من 100 طائرة من الجانبين (125 طائرة، حسب مصادر عديدة)، في معركة استمرت لساعة كاملة، دون أن تخرق أية طائرة المجال الجوي للدولة الأخرى، ووصفت المعركة من طرف مصدر أمني باكستاني رفيع، بأنها واحدة من أطول وأكبر المعارك الجوية في التاريخ الحديث. وشهدت تلك المعركة الجوية تطورًا إستراتيجيًّا غير مسبوق في تاريخ الحروب بين البلدين، والمتمثل في طبيعة منظومة الأسلحة الباكستانية المستعملة في المعركة والتي كانت صينية بالأساس؛ حيث كانت هذه المواجهة شاهدًا على دخول الأسلحة الصينية لأول مرة ساحة حرب فعلية أمام نظيراتها الغربية، متمثلة في طائرات JF10 وJF17 وChengdu J-10C، وطائرات JF-17 Thunder المطورة بالتعاون مع باكستان، والصاروخ الصيني PL-15E، الذي منح تفوقًا جويًّا لباكستان بمداه الطويل، وقدرته على إصابة أهداف خارج مدى الرؤية، ومسيَّرات صينية من نوع CH-4، وكذلك منظومة دفاع جوي صينية(15).
وعلى إثر تلك المعركة الجوية، أعلنت باكستان أنها أسقطت خمس طائرات هندية، ثلاثًا منها رافال فرنسية الصنع، وطائرتين روسيتي الصنع ميج-29 وسو-30، وصرَّح وزير الخارجية الباكستاني، إسحاق دار، قائلًا: "كانت طائراتنا المقاتلة من طراز J-10C هي التي أسقطت طائرات رافال الفرنسية الثلاث، وطائرات أخرى"، وفي هذا إشادة كبيرة بقدرة الطائرات الصينية في المعركة، وبصواب الخيار الباكستاني بالاعتماد على سوق الأسلحة الصينية، فبيجين أصبحت المورِّد الرئيسي للأسلحة لباكستان، بعدما صدَّرت 81% من صفقات الأسلحة لباكستان خلال السنوات الخمس الماضية، وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام(16)، ويعد ذلك تحولًا ثوريًّا بالنسبة لدولة لطالما اعتمدت على الأسلحة الأميركية.
وربما كان التطور العسكري الآخر المميز في هذه الأزمة، هو الاستخدام واسع النطاق للطائرات بدون طيار، ويزعم مسؤولو الدفاع من كلتا الحكومتين أن مئات الطائرات بدون طيار -بدءًا من المروحيات الرباعية الصغيرة إلى المنصات القتالية ذات القدرة على التحمل الأطول- تم إطلاقها على مدار أربع ليال، وكثير منها في مهام ذات اتجاه واحد. وللمرة الأولى، خاضت الهند وباكستان ما بدا وكأنه حرب متبادلة للطائرات بدون طيار على مدار أيام الأزمة (تنوعت ما بين مسيَّرات إسرائيلية من نوع "هيروب" لصالح الهند، وأخرى صينية وتركية لصالح باكستان)(17).
واقع إستراتيجي مغاير
أعلن الرئيس الأميركي، يوم 10 مايو/أيار 2025، عن التوصل لاتفاق شامل لوقف إطلاق النار بين الهند وباكستان؛ مما وضع عمليًّا نهاية لهذه المواجهة المثيرة والمتفردة بين الجانبين، ولكنه بالطبع لم يضع حدًّا لنزاع يعد من بين الأطول في التاريخ الحديث. وكان لهذه المواجهة بطبيعة الحال نتائجها الآنية وتداعياتها المستقبلية على طرفي النزاع وعلى المنطقة والعالم.
إلى جانب الخسائر البشرية للطرفين والمقدرة بعشرات الضحايا، وكذلك الخسائر المادية في البنية التحتية العسكرية وحتى المدنية لكل طرف، وحتى إن كان يصعب التحديد الدقيق للخسائر الاقتصادية الناجمة عن هذه المواجهة، إلا أن تقديرات بعض الاقتصاديين تضعها في حدود مليارات الدولارات يوميًّا لكل جانب. وبحسب الخبير السياسي والاقتصادي الباكستاني، فاروق سالم، فالخسائر اليومية يمكن أن تصل حتى إلى 4 مليارات دولار لباكستان، و16 مليار دولار للهند (في انتظار تقارير رسمية بهذا الخصوص)(18).
ومن حيث تقدير نتائج المواجهة، يميل كل طرف إلى تقديم نفسه في صورة المنتصر بطبيعة الحال، وحتى إن كان من غير الممكن الجزم بمنتصر في مثل هذه المواجهات، غير أن المؤكد هو أن أداء القوات الباكستانية ولاسيما سلاح الجو، قد ترك انطباعًا مفاجئًا وجيدًا لدى كثير من المراقبين، وبخصوص مدى الكفاءة التي أظهرتها المنظومة الجوية الباكستانية في المعركة الجوية التي تمكنت فيها من إسقاط خمس طائرات هندية حسب التصريحات الباكستانية، لكن الجانب الهندي التزم الصمت ورفض التعليق على هذه الادعاءات، وهذا ما عزز -بحسب مختصين- مصداقية الادعاءات الباكستانية(19)؛ ما يدفع باتجاه منح باكستان تفوقًا غير مسبوق على نظيرتها الهندية في تاريخ حروبهما العديدة، من حيث الكفاءة في إدارة المعركة، وحسن توظيف القدرات العسكرية المتوافرة.
وكان لهذه المواجهة كذلك، تداعياتها التي ستلقي بظلالها على علاقات الجانبين، وعلى الاستقرار الإقليمي وحتى العالمي، وهو ما توضحه النقاط التالية:
- أكدت هذه المواجهة حالة الاضطراب وعدم الاستقرار المزمنة في شبه القارة الهندية وفي علاقات الجانبين، الهندي والباكستاني، وهذا ما يؤجج المخاوف والنظرة التشاؤمية بشأن مستقبل البيئة الأمنية هناك، فإلى جانب كونهما قوتين نوويتين، وتضمَّان معًا أكثر من 1.6 مليار نسمة (بغضِّ النظر عن سكان بقية دول المنطقة)، فقد لجأتا خلال هذه المواجهة إلى مظاهر تصعيد غير مسبوقة، مثل تعليقهما -ولأول مرة- اتفاقيات مصيرية بالنسبة لعلاقاتهما وللمنطقة، مثل اتفاقية مياه السند، واتفاقية شيملا، وهذا مؤشر سيء جدًّا لما يمكن أن يرتقي إليه صدامهما مستقبلًا. يتعزز ذلك ببقاء القضايا الخلافية التي فجَّرت هذه المواجهة قائمة.
- منحت هذه المواجهة، أفضلية عسكرية للصين بنجاح أسلحتها الجوية من طائرات وصواريخ ومنظومات دفاعية في تحقيق تفوق ملحوظ لباكستان، وذلك في أول مشاركة فعلية لها في حرب حقيقة. في الوقت الذي هزَّ فيه أداء القوات الهندية نوعًا ما الثقة في منظومة الأسلحة الغربية التي تعتمد عليها، وخاصة الفرنسية والإسرائيلية منها. بالمقابل، وعلى الصعيد الدبلوماسي، فقد أكدت المواجهة الأفضلية الدبلوماسية للولايات المتحدة الأميركية، التي كانت الوحيدة القادرة فعليًّا على فض الاشتباك بشكل نهائي (بفعل نفوذها الدولي، وعلاقاتها المتينة مع الطرفين).
- تشي مجريات هذه المواجهة، باحتمالية كبيرة لتحول في العلاقات والتحالفات الإقليمية والعالمية لاسيما لدى باكستان، التي ستتوجه أكثر نحو تعزيز تحالفها مع الصين، التي أثبتت أنها شريك موثوق في هذه المواجهة (بفضل منظومة الأسلحة التي زودتها بها، وكان لها دور حاسم في المعارك) مقارنة بالولايات المتحدة التي كانت حليفًا لباكستان ردحًا من الزمن (لكنها منعتها من استعمال طائرات F16 ضد الهند)، ويتعزز هذا التحالف مع الصين بتوطيد العلاقات الاقتصادية الإستراتيجية بين الجانبين على مدار سنوات ضمن مشروع الحزام والطريق.
– كان تقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام للعام 2024، قد أوضح زيادة في الاعتمادات العسكرية لدول المنطقة وبالخصوص في الهند، خامس أكبر منفق عسكري عالميًّا، بزيادة قدرها 1.6% لتصل إلى 86.1 مليار دولار(20). وترجِّح مخرجات هذه المواجهة الجديدة أن ترتفع أكثر وتيرة التسلح والإنفاق العسكري لدى الطرفين، بل وحتى لدى دول قريبة منها مثل بقية دول جنوب آسيا والصين؛ ما يعد عاملًا آخر لزيادة عدم الاستقرار في هذا الجزء من العالم.
- أوضحت هذه المواجهة هشاشة وعجز النظام الدولي الحالي، والتي تجلت في عجز القوة العظمى فيه وهي الولايات المتحدة، وحتى تلك التي تسعى لمنافستها مثل روسيا والصين، في الحؤول دون نزاع مسلح بين قوتين نوويتين. فبإلقاء نظرة على خريطة النزاعات العالمية الكبرى خلال السنوات القليلة الماضية، نجد تكدسًا لعدد من بؤر التوتر الخطيرة جدًّا والمؤثرة فعليًّا على الأمن والاستقرار العالمين بشكل متزامن، من الحرب الروسية-الأوكرانية، إلى الحرب في غزة بالشرق الأوسط، مرورًا بالتحديات الجادة والخطيرة في منطقة الهندوباسيفيك، وتزايد المخاوف بشأن عسكرة القطب الشمالي وتحوله لساحة منافسة وعسكرية، وصولًا إلى هذه المواجهة العسكرية بين الهند وباكستان في وقت جيوسياسي عالمي حساس.
نزاع مزمن
يُثبت النزاع الهندي-الباكستاني مرة أخرى أنه فعلًا من بين النزاعات الإقليمية المزمنة، وذات التداعيات والانعكاسات العالمية الواسعة، ففيه تتقاطع الأبعاد الإستراتيجية، والعوامل الثقافية والحضارية، والجوانب المجتمعية. وتكمن مشكلة هذا النوع من النزاعات في أنها غالبًا نزاعات صفرية لا تقبل منتصريْن في ذات الوقت. حيث لا يمكن أن نتخيل طرفًا يقبل التنازل للآخر عن منطقة حساسة مثل كشمير، التي وصفها عدد من الخبراء بأنها قدس جنوب آسيا، فهي تكتسي طابعًا مقدسًا للطرفين.
لا يمكن لأي مراقب للوضع في المنطقة، إلا أن يتخوف من المواجهة القادمة بين الهند وباكستان، فرغم التزامهما بقدر من ضبط النفس، وامتثالهما لجهود الوساطة ووقف إطلاق النار، إلا أن سلوكهما الصدامي هذه المرة كان مختلفًا وفي مستوى آخر؛ حيث انخرطتا في قتال جوي غير مسبوق في تاريخهما، كما تجرَّأتا -ولأول مرة- على خرق خطوط حمراء، مثل تعليق اتفاقيات ثنائية حساسة لم تُمَسَّ من قبل رغم تعدد مواجهاتهما وحروبهما.
[1]- مخاوف من مقتل 20 شخصًا في هجوم بكشمير الهندية، صحيفة الشرق الأوسط، 22 أبريل/نيسان 2025 (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2025)، https://2h.ae/qKhy
2- محمد مكرم بلعاوي، "هجوم كشمير.. تداعيات خطيرة وشكوك بشأن دوافعه"، الجزيرة نت، 27 أبريل/نيسان 2025، (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2025)،https://2h.ae/vpBw
3- أحمد وهبان، أحمد صبري الحمراوي، أسامة أحمد العادلي، "أثر النسق العقدي للقيادة السياسية على عملية صنع القرار في الهند: دراسة لحالتي "سينغ" و"مودي""، المجلة العلمية لكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، المجلد 9، العدد 17، يناير/كانون الثاني 2024. ص ص 628، 629.
4- عبد الرحمن عياش، "ناريندرا مودي.. الراهب الغاضب من الجغرافيا والتاريخ"، الجزيرة نت، 15 أكتوبر/تشرين الأول 2024 (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2025)، https://2h.ae/aFku 5- زاهر شهاب أحمد ومحمد وقاص جان، "إلغاء الهند وضع جامو وكشمير الخاص: خيارات باكستان"، مجلة سياسات عربية، العدد 46، سبتمبر/أيلول 2020، ص ص 50، 51.
6- شيريلان مولان، "ماذا نعرف عن مشروع قانون إدارة ممتلكات الوقف الإسلامي الذي أقرته الهند؟"، بي بي سي نيوز بالعربي، 4 أبريل/نيسان 2025 (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2025)، https://www.bbc.com/arabic/articles/cvg7rp5gj5eo
7- مخاوف من مقتل 20 شخصًا في هجوم بكشمير الهندية، مرجع سابق.
8- توتر متصاعد مع باكستان.. قائد الجيش الهندي يزور موقع هجوم كشمير، تليفزيون العربي، 25 أبريل/نيسان 2025، (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2025)، https://2h.ae/OjHp 9- الهند تعلن عن إجراءات عقابية ضد باكستان بعد هجوم كشمير، الجزيرة نت، 23 أبريل/نيسان 2025 (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2025)، https://2h.ae/hyWx 10- محمد مكرم بلعاوي، مرجع سابق.
11- فضل الهادي وزين، "هل تنفذ الهند تهديداتها بتعليق معاهدة تقاسم المياه مع باكستان؟"، الجزيرة نت، 30 أبريل/نيسان 2025 (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2025) https://2h.ae/zQZQ
12- لماذا تريد الهند حرمان باكستان من المياه؟ هل تحول السدود لأسلحة؟، المخبر الاقتصادي، 1 مايو/أيار 2025 (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2025)،
https://www.youtube.com/watch?v=S29N93TvSA4
13- باكستان ترد على الهند بوقف التبادل التجاري وإغلاق المجال الجوي، الشرق للأخبار، 24 أبريل/نيسان 2025 (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2025)،https://2h.ae/uRWD
14-Jean Kurtis, Kashmir: Renewed India – Pakistan tensions, Commons Library Research Briefing, UK parliamant, 16 May 2025. p. p 13 – 17. (accessed 20 May 2025).
15- قراءة عسكرية.. ترمب يعلن هدنة فورية بين الهند وباكستان بعد تصعيد كشمير، الجزيرة الإخبارية، 10 مايو/أيار 2025، )تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار2025)
https://www.youtube.com/watch?app=desktop&v=iEbtfbpmK98
16- باكستان تكشف البلد المصنِّع للسلاح الذي أسقط المقاتلات الهندية، CNN بالعربية، 8 مايو/أيار 2025، (تاريخ الدخول: 20 مايو/أيار 2025)،
https://arabic.cnn.com/world/article/2025/05/08/pakistan-foreign-minist…;