اختتام مؤتمر "التنافس بين القوى العظمى والشرق الأوسط: إعادة رسم طرق التجارة والشبكات"

18 June 2025
إحدى جلسات المؤتمر (الجزيرة)

في ظل تحولات متسارعة يشهدها النظام الدولي، وتزايد حدة التنافس بين القوى الكبرى على النفوذ والموارد، استضافت جامعة بوغازيجي التركية، يومي 16 و17 يونيو/حزيران 2025، مؤتمرًا دوليًّا رفيع المستوى بعنوان: "التنافس بين القوى العظمى والشرق الأوسط: إعادة رسم طرق التجارة والشبكات". جاء المؤتمر بتنظيم مشترك مع مركز الجزيرة للدراسات، وبمشاركة مؤسسات أكاديمية من الصين وتركيا وأوروبا، وبحضور نخبة من الباحثين والخبراء.

ناقش المؤتمر، على مدى يومين، الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية لمشاريع الربط والبنى التحتية العالمية، وفي مقدمتها مبادرة الحزام والطريق (BRI) الصينية، والممر الاقتصادي الهندي–الشرق أوسطي–الأوروبي (IMEC)، ومشروع طريق التنمية بين العراق وتركيا، فضلًا عن المبادرة الأوروبية للبنية التحتية، مع تركيز خاص على موقع الشرق الأوسط ضمن هذه المبادرات، باعتباره منطقة تقاطع إستراتيجي في إعادة تشكيل شبكات التجارة والتحالفات الدولية.

طبيعة الصراع الدولي

في كلمته الافتتاحية، قدَّم محمد المختار الخليل، مدير مركز الجزيرة للدراسات، قراءة إستراتيجية معمقة لطبيعة التنافس الراهن، مؤكِّدًا أن القوى العظمى لا تتصارع اليوم على "إعادة رسم الخرائط" فحسب، بل تسعى إلى بناء شبكات مصالح متجددة ومسارات بديلة لطرق التجارة، ترسم بها خريطة النفوذ المستقبلي. واعتبر أن النظام العالمي الجديد لا يمكن أن يولد دون تفكيك ما تبقَّى من القديم، وأن ما يجري في غزة وإيران ليس إلا تمظهرًا حيًّا لهذا التحول.

ورأى الخليل أن التنافس القائم في المنطقة يجسد مواجهة بين ثلاث كتل: قوى صاعدة، وقوى متراجعة، وقوى نزَّاعة للاستقلال، وأن هذا المؤتمر يسعى إلى صياغة فهم جماعي لهذه التحولات، بما يمكِّن الباحثين وصنَّاع القرار من استشراف سيناريوهات الخروج من الأزمات المتكررة في الشرق الأوسط.

مدير مركز الجزيرة للدراسات، الدكتور محمد المختار الخليل، يُلقي كلمته في افتتاح المؤتمر (الجزيرة)
مدير مركز الجزيرة للدراسات، الدكتور محمد المختار الخليل، يُلقي كلمته في افتتاح المؤتمر (الجزيرة)

إستراتيجيات بديلة

من جانبه، شدَّد وو شويمينغ، نائب رئيس أكاديمية شنغهاي للعلوم الاجتماعية، على الأهمية الإستراتيجية للشرق الأوسط ضمن مبادرة الحزام والطريق، واعتبر أن الصين تسعى إلى بناء علاقات قائمة على التفاهم والتكامل في مجالات الطاقة المتجددة والاتصالات والتبادل الثقافي، وليس على الهيمنة أو الاستقطاب. كما أكد التزام بكين بتعزيز التعاون الدولي ودعم الاستقرار في المنطقة بعيدًا عن الإستراتيجيات القائمة على الفوضى أو التفتيت.

الحرب على إيران حدث مفصلي

من تركيا، اعتبر مراد يشلطاش، مدير دراسات السياسة الخارجية في مؤسسة سيتا، أن الحرب ضد إيران ليست مجرد تطور عابر، بل هي حدث مفصلي يعكس إعادة تشكيل العلاقات الدولية وتحولات ميزان القوى، كما نبَّه إلى فشل النظام الدولي ومؤسساته الأممية في التعامل مع أزمات الشرق الأوسط، بسبب غياب المرجعيات القيمية الموحدة والتناقضات البنيوية في المنظمات الدولية.

هشاشة النظام الدولي

في كلمته، رأى سلجوق أيدين، نائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة بوغازيجي، أن الأحداث الجارية في أكثر من مكان، من الحرب على غزة إلى التصعيد في أوكرانيا، مرورًا بالتوتر المتصاعد بين القوى الغربية، تكشف عن هشاشة عميقة في البنية الاقتصادية والاجتماعية للنظام الدولي، وتؤشر إلى خلل متزايد في قدرته على الاستجابة للأزمات المتراكمة. واعتبر أن سلاسل التوريد والممرات التجارية لم تعد مجرد مسارات لوجستية، بل تحولت إلى أدوات للتنافس الجيوسياسي والاستقطاب الإستراتيجي، داعيًا إلى مراجعة شاملة للمفاهيم السائدة حول الأمن الاقتصادي العالمي، في ظل تزايد تداخل الاقتصاد بالتوازنات العسكرية والسياسية.

أبرز مداولات اليوم الأول

تفكك النظام الدولي، وصراع المصالح، وتحولات التكنولوجيا

ناقشت جلسات اليوم الأول من المؤتمر مظاهر تفكك النظام الدولي الراهن؛ حيث شدَّدت المداخلات على أن الأحداث الجارية، لاسيما في غزة، كشفت عن هشاشة عميقة في البنية الاقتصادية والاجتماعية العالمية، في ظل تنامي التوترات وتزايد الاعتماد على سلاسل الإمداد والممرات الدولية كمجالات للتنافس الجيوسياسي. ورُصد في هذا السياق تصاعد حاد في التنافسية الإستراتيجية بين القوى الغربية وفي الشرق الأوسط، مع الإشارة إلى أن الحرب في أوكرانيا والتوترات الأوروبية الراهنة تواصل التأثير على قطاعي التجارة والطاقة عالميًّا.

كما طُرحت رؤى نقدية حول دور القوى الكبرى في تأجيج الفوضى الإقليمية؛ حيث وُصف استمرار الاضطرابات في الشرق الأوسط بأنه إحدى أدوات السيطرة على موارد الطاقة وخطوط الإمداد، مقابل دعوات إلى تأسيس نظام دولي بديل يقوم على التناغم والشراكة والتعايش الحضاري.

ولم تغب الإشارة إلى ضعف النظام القانوني الدولي، في ضوء غياب المساءلة الفعلية عن الانتهاكات العسكرية، لاسيما في السياق الفلسطيني، وهو ما عُدَّ تهديدًا مباشرًا للقواعد التي يُفترض أن تضبط العلاقات الدولية، ويؤسس لمناخ عالمي تهيمن عليه القوة لا القانون.

توقفت النقاشات كذلك عند التحولات في الدور التركي الإقليمي؛ حيث رُفضت التصورات التي تربط بين الحضور التركي في بعض الملفات و"الحنين العثماني"، في مقابل التأكيد على دور أنقرة الوسيط والتوازني القائم على الثقة في النفس والسعي نحو التهدئة.

أما في المجال التكنولوجي؛ فقد طُرحت مقاربات تؤكد أن الصراع العالمي بات يتمحور حول الهيمنة الرقمية والتفوق التكنولوجي، لا حول التوسع العسكري فقط، مع تحذيرات من أن الولايات المتحدة تسعى لتطويق صعود قوى أخرى كالصين وتركيا من خلال التحكم في المجال الرقمي والتحالفات الأمنية.

شكَّلت مداولات اليوم الأول إطارًا تحليليًّا لرؤية القوى الإقليمية والدولية لمستقبل النظام العالمي، في ظل عالم تتزايد فيه مؤشرات التمزق أكثر من ملامح الاستقرار.

أبرز مداولات اليوم الثاني

الشرق الأوسط: مختبر التعددية القطبية

شكَّل اليوم الثاني من المؤتمر مناسبة لتوسيع النقاش حول موقع الشرق الأوسط داخل نظام عالمي آخذ في التشظي وإعادة التشكل؛ حيث لم يعد العالم محكومًا بثنائية الحرب الباردة، ولا باستقرار القطب الأوحد، بل بات ساحة لتفاعلات بين قوى صاعدة وأخرى متراجعة، وتحالفات مرنة تتبدل بحسب المصالح والظروف. وفي هذا السياق، ناقشت الجلسات بإسهاب إمكانيات أن تتبنَّى دول المنطقة مبادرات تكاملية خاصة بها، بعيدًا عن الارتهان للمشاريع العابرة من الخارج، وطرحت تساؤلات عميقة حول ما إذا كان الشرق الأوسط قادرًا، في ظل واقعه السياسي المعقد، على صوغ أجندة تكامل إقليمي مستقل.

تناولت المداخلات دور المنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي، ومنظمة الدول التركية، باعتبارها منصات محتملة لتفعيل هذا الدور، إلا أن غالبية المشاركين أقرُّوا بأن غياب الرؤية الموحدة، والانقسامات السياسية، والصراعات الداخلية لا تزال تشكِّل عائقًا حقيقيًّا أمام بناء مسارات تجارية واقتصادية مشتركة تنطلق من داخل المنطقة نفسها وتستجيب لأولويات شعوبها.

كما استعرضت الجلسات التحديات السياسية واللوجستية التي تواجه هذه المبادرات، بما فيها نقص البنية التحتية العابرة للحدود، والشكوك بين الدول المتجاورة، وتداخل الأجندات الأمنية مع المشاريع الاقتصادية؛ ما يجعل فكرة "تكامل إقليمي مستقل" هدفًا صعب المنال، وإن لم يكن مستحيلًا.

سلَّط المؤتمر الضوء بشكل خاص على استبعاد تركيا من مبادرة الممر الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي (IMEC)، معتبرًا ذلك مؤشرًا على الاصطفافات الجيوسياسية الجديدة التي تعيد تشكيل شبكة النفوذ والمصالح في المنطقة. وجرى ربط هذا الاستبعاد بمساعٍ تركية متصاعدة لتعزيز دورها عبر مشاريع بديلة، على رأسها مشروع "طريق التنمية" بالتعاون مع العراق، وهو المشروع الذي يراد له أن يربط موانئ البصرة جنوب العراق بميناء مرسين التركي على البحر المتوسط، ويشمل ممرًّا بريًّا وسككًا حديدية تعبر عمق الجغرافيا العراقية–التركية.

رأى عدد من المتحدثين أن طريق التنمية ليس مجرد بديل لوجستي، بل مشروع ذو أبعاد إستراتيجية متعددة، قد يسهم في تحرير القرار الاقتصادي الإقليمي من الهيمنة الخارجية، وتفعيل دور العراق معبرًا حيويًّا بين آسيا وأوروبا، وتمكين تركيا من استعادة موقعها مركزَ تقاطعٍ بين الشرق والغرب. غير أن هذا المشروع، هو الآخر، يواجه تحديات كبيرة، ليس أقلها الاستقرار الأمني، وتمويل البنى التحتية، ومدى الانخراط الدولي في دعم تنفيذه.

في المحصلة، قدَّمت جلسات اليوم الثاني من المؤتمر مقاربة نقدية وواقعية لدور الشرق الأوسط في عالم متعدد الأقطاب، وطرحت سؤالًا جوهريًّا: هل تستطيع المنطقة أن تتحول من هامش في خريطة التنافس الدولي إلى فاعل مستقل قادر على صياغة شبكاته وخياراته؟ هذا السؤال بقي مفتوحًا، لكن المؤكد أن ما طُرح في هذا المؤتمر قد رسم حدود المعضلة، وربما ملامح الطريق.

الختام

اختتم المؤتمر أعماله بإعلان مجموعة من المخرجات البحثية التي تسعى إلى ترجمة النقاشات النظرية إلى أدوات معرفية وسياساتية قابلة للتوظيف. وشملت هذه المخرجات إعداد كتاب جماعي محرَّر يوثِّق أبرز أوراق المؤتمر ومداولاته، بالتعاون مع مركز الجزيرة للدراسات ودار نشر دولية، إلى جانب إصدار موجزات سياسات، تستند إلى التحليلات والقراءات التي طُرحت خلال الجلسات.

كما تم التأكيد على التوجه نحو تنظيم فعاليات بحثية لاحقة، تشمل مؤتمرات متخصصة وورش عمل ولقاءات تشاورية، بهدف تعميق النقاش في القضايا التي تناولها المؤتمر، وتوسيع نطاقها ضمن دوائر البحث وصنع السياسات.

ورغم تنوع المداخلات واختلاف وجهات النظر، فقد عكس المؤتمر وجود قناعة مشتركة بأن الشرق الأوسط لم يعد مجرد هامش جغرافي في خريطة التوازنات الدولية، بل بات أحد الميادين الحاسمة التي تتقاطع فيها مشاريع النفوذ، وتُختبر فيها ملامح النظام العالمي الآخذ في التشكل.

الافتتاح و الجلسة الأولى -التنافس بين القوى العظمى والإرث الإمبراطوري: تساؤلات حول موقع الشرق الأوسط

الجلسة الثانية - طرق التجارة (الحزام والطريق مقابل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا)

الجلسة الثالثة -أوروبا عند مفترق طرق: الاستقلال الإستراتيجي أم تعزيز التحالف الغربي تحت الهيمنة الأم

الجلسة الرابعة : التنافس بين القوى الكبرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الجلسة الخامسة : من التجزئة إلى التعاون: المبادرات الإقليمية مقابل الإستراتيجيات العالمية

الجلسة السادسة: إلى أين يتجه العالم؟: الصراعات المتغيرة، والقيم والمعايير، والهياكل الجديدة