قرارات السلطة التنظيمية بالمغرب في ضوء نظرية الدولة الإدارية: دراسة مقارنة

(الجزيرة)

المقدمة
واجهت الدولة، منذ تأسيسها بالشكل الذي نعرفه اليوم "بالدولة الحديثة"، مجموعة من الصعوبات، أهمها الصراع بين السلطة والحرية، أي بين الدولة ككيان في مواجهة الحريات الفردية والجماعية. ومنه بدأت الحاجة إلى التفكير في سبل حلول لتقييد سلطات الدولة دون انحرافها وإهدار الحقوق والحريات، أي تحديد الضمانات القادرة على تكريس وترجمة أهم الوسائل القانونية والآليات الرقابية التي تكفل احترام ونفاذ مفهوم "دولة القانون". ومنه بدأت مناقشة فكرة دولة القانون مع الفقيه النمساوي هانس كلسن (Hans Kelsen) لوضع معايير قانونية تضمن مبدأ فصل السلط وحماية الحقوق والحريات. ومع التطورات والأزمات، سنُفضي إلى مناقشة أحد مؤسسي نظرية سيادة القرار من خلال تحليل أفكار كارل شميت (Carl Schmitt).تطورت الدولة الحديثة على مر العصور، وشملت عدة مراحل وسيرورات تاريخية محددة، عرفت فيها كل مجالات الحياة العامة (السياسية والاجتماعية والاقتصادية) تحولًا جوهريًّا وبنيويًّا. شملت هذه التغيرات، على وجه الخصوص، المجال والنشاط السياسي، مما تسبب في تغير مفهوم السلطة وواقعها، سواء في تجلياتها ومظاهرها ومؤسساتها، وكذا نطاق اشتغالها. فتطور الدولة الحديثة عرف عدة مراحل تغيّرت فيها التصورات والمفاهيم والأسس؛ خاصة مفهوم السلطة السياسية والإدارية، ومفهومي الشرعية والمشروعية، لعل أهمها العصور الوسطى، عصر النهضة، والثورات السياسية التي انبثقت عنها نظريات سياسية ذات تصور ليبرالي عن الحكم والسلطة والسياسة.

مما لا شك فيه أن تطوّر الدولة الحديثة كان من خلال النظريات السياسية والقانونية؛ فقد أثّرت الفكرة الإشكالية للسلطة السياسية والحكم في ولادة الدولة الحديثة، حيث قدّم الفلاسفة والمفكرون السياسيون الليبراليون مثل "توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، ومونتسكيو" تصوّرات مختلفة حول العقد الاجتماعي ومصدر السلطة الحاكمة. كما قدّمت هذه النظريات الأسس الفلسفية والقانونية لتأسيس الدولة الحديثة، حيث يكون الحاكم مسؤولًا أمام الشعب ومقيَّدًا بقوانين ودساتير تنظم عمل الدولة. ونتحدث هنا عن الشرعية الشعبية متمفصلة مع الشرعية القانونية، أو نظام المشروعية (النظام القانوني) في الدول القانونية.

يثير نقاش إشكالات السلطة السياسية والإدارية والشرعية التقليدية (الدينية، الأخلاقية، اللاهوتية...) في الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، تفسير التحولات الواقعية في نمط اشتغال السلطة ومكانتها النسبية في جميع العلاقات الاجتماعية والسياسية. من هذه الزاوية، سعى ميكيافيللي وهوبز ولوك وروسو إلى سدّ الهوة الواسعة في الإشكالات التقليدية والكلاسيكية المرتبطة بهذا المفهوم، ووضع نظرية القانون الطبيعي، وبناء الإطار المفاهيمي للديمقراطية.
وفي هذا السياق، نشأت المشروعية المرتبطة بدولة القانون كحل منطقي لتجاوز الإشكالات المرتبطة بالشرعية. فمنطقيًّا، لا يمكن حلّ أزمات الشرعية بمجرد التخلي عن التبرير اللاهوتي والأخلاقي، إلا في إطار نظم عقلانية وجدت أساسها في نظام المشروعية المرتبطة بالقانون الوضعي.

نستحضر هنا التحليل الهيغلي حول الانتقال من النظام القديم إلى الثورة الفرنسية والارتباطات المنطقية بين نقد فلاسفة التنوير وفكرة الإرادة العامة، بحيث يشير هيغل إلى أن النقاش المتولّد عن المبرّرات الدينية والقيم في حد ذاتها، يؤدي إلى شكل من أشكال النفعية الاجتماعية utilitarisme social التي لا يمكن تحديد أسسها وجوهرها إلا من خلال الإرادة العامة، بالمعنى الذي نظر له "روسو"، أي إجماع الأمة وليس إجماع الأغلبية كما جاء عند هانس كلسن.

تجدر الإشارة إلى أن ظهور مفهوم الديمقراطية (الديمقراطية الليبرالية / الديمقراطية التمثيلية) جاء بمثابة استجابة رصينة ومتماسكة لتجاوز أزمات الشرعيات الكلاسيكية التي كانت تقوم عليها دول ما قبل الحداثة. وفي هذا السياق، تم وضع أسس الشرعية الحديثة المتلازمة مع المشروعية التي تقوم على فكرة النظام التشريعي والقانوني الذي يتم إنتاجه من قبل المشرّع المعبر عن الإرادة العامة، أي إرادة الجماعة. هذا التصوّر يهدف إلى تحويل الشرعية كأساس ومصدر اشتغال المؤسسات داخل الدولة إلى المشروعية "كشرعية حديثة" مرتبطة بفكرة الخضوع للقانون وسموّه على جميع الأنساق الاجتماعية والسياسية.

وجدت النظرية السائدة في تلك الحقبة، وخاصة الليبرالية، تبريرها في كون القانون هو تعبير عن إرادة الجميع، وأنه منبثق عن المجتمع بطريقة غير مباشرة عبر نمط البرلمان أو المؤسسة التشريعية في إطار الديمقراطية النيابية.
بحيث يصبح البرلمان في هذا الشكل من الدول – دولة القانون – مؤسِّسًا لنظام المشروعية القانونية ومصدرًا للشرعية. يُعد مبدأ المشروعية من المبادئ الهامة المعتمد عليها في الدولة الحديثة حتى تتحقق سيادة القانون. هنا، تعني المشروعية خضوع الأفراد للقانون والتقيد به، وتتحقق كذلك بخضوع الدولة للقانون. ويُقصد بالدولة تلك الهيئات التي تملك سلطات إدارة البلاد، أي السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وفق النظرية الوضعية القانونية لهانس كلسن.

وعليه، فإن خضوع الدولة والأفراد للقانون أصبح ميزة الدولة الحديثة، واحترام مبدأ المشروعية، سواء من طرف الأفراد أو الدولة، يُقصد به خضوع أعمال ونشاط كل السلطات لقواعد قانونية عامة ومجردة، بحيث تسري على جميع الأفراد دون استثناء. وهذا ما يقوّي وجود الدولة الحديثة على صعيد كافة المستويات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية.

إلا أن دور الدولة لم يعد ينحصر في ضمان الاستقرار والأمن داخل المجتمع في إطار ما سُمِّي بـ"الدولة الحارسة" في بداية القرن العشرين. ومع التحولات السياسية والاقتصادية الدولية، تطوّرت وظيفة الدولة من الدولة الحارسة إلى دولة العناية، استجابة للمتطلبات المتنوعة للمجتمعات الحديثة، مما استلزم معها التدخل كمراقب وموجِّه وأحيانًا كفاعل اقتصادي، اجتماعي وتنظيمي، حسب ما استجد من تصوّرات لدور الدولة.

زاد من هذا التناقض والفجوة بين الواقع والقانون، توسُّع السلطة التنفيذية في مختلف الأنظمة السياسية منذ القرن العشرين، إيذانًا بميلاد نظرية ليبرالية جديدة حمل مشعلها هانس كلسن في كتابه "النظرية المحضة" في إصلاح عطب تغوّل السلطة التنفيذية، على غرار الحكم الملكي في العصور الوسطى في ممارسة السلطة السيادية، بحيث تم هذا التوسّع إما بسبب الممارسة التي أفضت إلى تجاوز السلطة التنفيذية للإطارات المفروضة من قبل النصوص الدستورية، أو بسبب أن النصوص الدستورية أخذت في الاعتبار هذا التحوّل نظرًا لعوامل ما.

وهو ما درسناه من توسع السلطة التنفيذية في النظام السياسي للولايات المتحدة، حيث تم وضع الحكومة البرلمانية المعتمدة بواسطة دستور 1787 خلال النصف الأول من القرن العشرين تحت سيادة الرئيس، مع تجاهل مسألة الانتخابات التشريعية، التي طُرحت على نطاق واسع منذ بداية القرن التاسع عشر. وقد ساهم ثلاثة رؤساء أساسًا في توسيع وظائف السلطة التنفيذية الأميركية وتعزيز قيادتها في مجال التشريع، حيث قام هؤلاء الرؤساء بإعادة تعريف دورها بموجب ظروف معينة، ما أدى إلى توسيع السلطة التنفيذية للرئيس وتعزيز دوره في تحقيق الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية.

تعرّضت أوروبا في القرن التاسع عشر لمجموعة من الأحداث المهمّة التي تركت أثرًا، وتميّزت بمطالبات سياسية واقتصادية تقودها الطبقات الشعبية، حيث أدّت إلى ثورات في بعض البلدان والخوف في بلدان أخرى. بينما تميّز القرن العشرون بارتفاع الأنظمة الديكتاتورية التي قادت سياسة الإبادة الجماعية والاضطهاد الشديد للأعراق البشرية والطبقات الاجتماعية. ولكن بفضل رجال أطلقوا إشارات وتصوراتهم للحياة، رغم صعوبة المواقف والأحداث التي تركت بصمتها في التاريخ، مثل الحرب العالمية الأولى، وصعود الشيوعية، والفاشية، والنازية، والحرب العالمية الثانية، ومن بينهم يأتي رجل القانون والفيلسوف الألماني كارل شميت (Carl Schmitt)، الذي تتمحور هذه الأطروحة حول طرح تصوّره وأفكاره لبداية التحديد النظري للدولة الإدارية التي تمتلك آليات الحكم، بحيث يكون الحاكم هو السيد وهو المالك للقرار. وذلك حول بعض من أفكاره النقدية للديمقراطية البرلمانية (التمثيلية) والليبرالية، وللوضعية القانونية (1921-1932)، وطرحه لمجموعة من الأسئلة التي تطرح قلقًا معرفيًّا في علم السياسة الذي نعيشه اليوم.

على إثر التحوّلات السالفة الذكر، أصبحت السلطة التنفيذية في مجموعة من الدول هي التي تتدخل في مجال التشريع بدلًا من السلطة التشريعية، التي هو اختصاصها التقليدي الأصيل. وأصبحت الإدارة أداة تنفيذية للدولة لتحقيق وظائفها الجديدة، بحيث تلعب دورًا أساسيًّا في تحقيق المصلحة العامة بمختلف مظاهرها، في إطار دولة الحق والقانون والمؤسسات، معتمدة آلية القرارات الإدارية، تنظيمية كانت أم فردية، صريحة أو ضمنية، مكتوبة أم شفوية، وذلك باعتبارها الأداة السريعة والفعّالة لتحقيق الأهداف، نظرًا لقوتها التنفيذية الذاتية والفورية، والتي بواسطتها يتم وضع حلول ملائمة لكل وضعية إدارية، اقتصادية واجتماعية.

في خضم هذا الشد والجذب، يتم توزيع المهام والسلط بين الحاكم والمحكوم، أي بين المشرّع والمنفّذ، في ظل هذا التاريخ السياسي الذي جرّبت فيه المجتمعات البشرية أنماطًا للحكم وأشكالًا للممارسة السياسية، تراوحت بين الاستبداد والإشراك، سعت فيه هذه المجتمعات إلى بلوغ شكل من الديمقراطية مبنيّ على أسس عقلانية. ومن هذه الأسس، تلك التي نصّ عليها "مونتيسكيو" في "روح الشرائع"، ألا وهي مبدأ الفصل بين السلط التشريعية، التنفيذية والقضائية.

غير أن شكل هذه السلط والعلاقات بينها، ليس بالأمر الواضح، وإن كان هذا الأمر ميسّرًا على المستوى النظري، فهو من الصعوبة بمكان على المستوى العملي التطبيقي. وعلى أساس هذا التداخل، تظهر السلطة التنظيمية كسلطة تجسّد مبدأ الفصل وقوام التداخل في الآن ذاته، وتُفسَّر صعوبة مبدأ الفصل بالصورة التي أقرّها "مونتيسكيو".

يدخل موضوع السلطة السياسية والإدارية ضمن مجال الظاهرة الدستورية، باعتبارها ميلًا نحو المقاربة الديمقراطية لنظرية الحكم السياسي. وتتجلّى فيها السلطة التنظيمية، كونها مخوّلة لإحدى الأجهزة الحكومية من أجل إصدار أوامر عامة، وذلك في إطار الحفاظ على النظام العام بعناصره الثلاثة (الأمن العام، السكينة العامة، الصحة العامة). أو هي السلطة المسندة قانونًا على سبيل الحصر إلى سلطات تنفيذية وإدارية، من أجل القيام بأعمال تتضمّن مقتضيات عامة ومجردة. الأمر الذي يثير إشكالية تمفصل هذه السلط وحدود التداخل بينها من جهة، وإمكانية رسم الحدود بينها من جهة ثانية.

يؤدي تركيز السلطة في ظل الأنظمة السياسية للعصور القديمة والوسطى في يد الملوك إلى فساد الحكم وضياع الحقوق، وينتج عنه العديد من الثورات الشعبية. فكان لا بد من وضع قيود عند ممارسة كل سلطة لاختصاصاتها، في إطار "السلطة والسلطة المضادة"، وهذا ما يجسّده مبدأ الفصل بين السلطات، بتقسيم وظائف الدولة إلى ثلاث سلطات أساسية، بحيث تختص كل سلطة بمهام محددة.

تتمثّل مهمة السلطة التنفيذية وفق هذا المبدأ في تنفيذ ما صدر عن البرلمان من تشريعات، باعتباره المعبّر الأسمى عن إرادة الشعب، وذلك من خلال اتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية التي تسمح بوضعها محلّ التطبيق. وهذه المهمة تضع السلطة التنفيذية نظريًّا في موضع تبعية وخضوع إزاء السلطة التشريعية. وبالتالي، اعتُبرت البرلمانات صاحبة الاختصاص الأصيل والمطلق في مجال التشريع ووضع القواعد العامة في الدولة.

إبّان مطلع القرن العشرين، وتحت تأثير الديمقراطيات الاجتماعية، والتقدم التكنولوجي والصناعي والفني، والتحوّلات التي عرفتها الأنظمة الاقتصادية، خاصة بعد الحربين العالميتين والأزمة الاقتصادية، تطوّر دور الدولة في شتّى المجالات وتدخّلها في العديد من أنشطة الأفراد المختلفة، وتكرّست وبرزت فكرة تحكّم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، مفادها اتجاه مختلف الأنظمة السياسية المعاصرة إلى وضع دساتير تحدّ من الاختصاص المطلق للبرلمان، وتقوّي اختصاص السلطة التنفيذية، من خلال اعتماد نظام "العقلنة البرلمانية".

كل هذه العوامل أدّت إلى أزمة أسس نظرية الفصل بين السلطات، واختلال توازن العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لصالح الأخيرة. إذ أثبتت الوقائع أن التشريعات تمر بمراحل مسطرية معقّدة، يمر فيها التشريع بمراحل مختلفة إلى أن يرى النور ويدخل حيز التنفيذ، وهذا ما يجعل من السلطة التنفيذية في موضع حرج، خاصة في الظروف الاستثنائية، حيث تحتاج في هذه الفترات إلى وضع حلول استثنائية وغير عادية وسريعة. ولاعتبار السلطة التنفيذية هي الأقدر على مواجهة هذه الظروف، والأقرب لمعرفة الحاجات الحقيقية للأفراد والمجتمع وما تستلزمه من إجراءات، دأبت الكثير من الدساتير على منح السلطة التنفيذية جزءًا من السلطة التشريعية بموافقتها، من خلال منحها حق أو سلطة إصدار قرارات لها قوة القانون، تتماثل فيها هذه القرارات مع التشريعات من حيث القوة القانونية، ولكن يبقى الحق الأصيل في مراقبة هذه القرارات وتقرير مصيرها لاحقًا، ومحاسبة السلطة التنفيذية فيما إذا تجاوزت الحدود المرسومة لها.

وتشمل الحاجة إلى منح السلطة التنفيذية جزءًا من الوظيفة التشريعية في الظروف الاستثنائية، حيث يكون البرلمان موجودًا ومنعقدًا. كما يمكن أن تحدث هذه الظروف الاستثنائية والبرلمان في غير حالة الانعقاد أو غير موجود لأسباب متعددة، وذلك من خلال إصدار اللوائح، إما بناءً على تفويض من البرلمان أو بدون تفويض منه، وخاصة في حالة غياب البرلمان لمواجهة حالة الضرورة. فالتفويض التشريعي يمثّل نوعًا من أنواع التنازل الذي تقوم به السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية عن حق الأولى في وضع القانون في مجال معين محدد خلال مدة محددة، بحيث تصبح للسلطة التنفيذية سلطة التشريع ووضع القوانين في هذا المجال خلال تلك المدة.

انطلاقًا مما سبق، وفي ظل هذه التطورات في ممارسة الوظيفة التشريعية من طرف السلطة التنفيذية بجهازها الإداري البيروقراطي وفق آليات دستورية قانونية، تبرز أهمية القرار الإداري، والذي يُعد صلب أطروحتنا.
ونعرض تعريف القرار الإداري للأستاذ "Vadel"، بأنه: "ذلك التصرف القانوني الذي يصدر عن الإدارة المختصة بصفتها سلطة عمومية وحيدة الطرف، وعلى أن يُحدث بحد ذاته آثارًا قانونية". وهذا ما يميّز القرار عن العقد الإداري ويمنحه صفة "الشيء المقرَّر"، ويرتّب آثارًا قانونية، وذلك إما بإنشاء أو تعديل أو إنهاء وضع قانوني معيّن، سواء تعلّق الأمر بقرار فردي أو جماعي تنظيمي. ومثال على ذلك: صدور قرار بتعيين شخص في وظيفة ما، ما هو إلا تأثير في المركز القانوني لفائدة ذلك الشخص المعني. وأهم ما يميّز القرار الإداري هو تأثيره في المراكز القانونية القائمة للمخاطبين به، وهذا التأثير هو الذي يُميّزه عن غيره من الأعمال التي تقوم بها الإدارة.

إذًا، تتميز القرارات الإدارية بمجموعة من الخصائص التي تتوفر عليها الإدارة، التي تمارس مختلف أنشطتها بواسطة القرارات الإدارية. وتظهر أهمية الإدارة في كونها ترتّب الحقوق وتفرض الالتزامات بالإرادة المنفردة والملزمة للإدارة. كما أنها تتمتع بسلطة تقديرية واسعة في إعمال إرادتها الذاتية وتحديد مضمون هذه القرارات بما يتناسب ويتلاءم مع ظروف الواقع العملي ومقتضيات الحياة اليومية الجارية. كما يتمتع القرار الإداري، متى صدر، بقرينة الصحة المفترضة التي تكفل له تنفيذًا فوريًّا ومباشرًا لا يوقفه شيء.

وقد تتمتع الإدارة عند تنفيذه، في أحوال معينة، بحق التنفيذ الجبري المباشر، الذي يُتيح لها تنفيذ قراراتها جبرًا أو مباشرة وبدون الحاجة إلى اللجوء للقضاء.

ويتمتع القرار الإداري أيضًا بخاصية النهائية، بحيث هو عمل نهائي، ولا يُعتد بالأعمال السابقة أو اللاحقة عليه. وأخيرًا، فهو يدخل ضمن الصلاحيات غير المألوفة في القانون الخاص.

تدخل الإدارة في جلّ أوجه الأنشطة الهامة والحيوية للدولة، وفي ظل الامتيازات السابق ذكرها، قد يؤدي ذلك إلى تعسّف الإدارة ومساسها بحقوق الأفراد وإضرارها بمصالحهم، وذلك نظرًا لما تتمتع به من امتيازات السلطة العامة. ولضمان عدم المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم، لا بد أن تلتزم الإدارة وتتقيّد أثناء ممارستها للوظيفة الإدارية بالقانون، وأن تخضع جميع تصرفاتها لرقابة قضائية فعّالة، يساهم القضاء الإداري بأجهزته في كفالة حماية مبدأ المشروعية.

مقابل ذلك، بات الجميع يعترف بأن واقع الأمر يوجب منح الإدارة ومتخذ القرار مساحة من الحرية والمرونة في التصرف، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة حماية حقوق وحريات الأفراد ضد تعسّف الإدارة، والالتزام أثناء مباشرة الإدارة لسلطاتها بحدود المشروعية التي تقوم عليها دولة القانون.

وبالتالي، مُنحت الإدارة في معرض ممارستها لمهامها امتيازًا آخر، يُعد استثناءً عن مبدأ المشروعية، يتمثل في السلطة التنظيمية، والتي تشكّل روح الإدارة العامة وجوهرها. حيث تقتضي فعالية الجهاز الإداري منح الإدارة هذه السلطة، بغية مراعاة الظروف المتباينة والمتغيرة وصولًا إلى تحقيق المصلحة العامة. ذلك أن واقع حركية المؤسسات العامة وتعقّد وتنوع أنشطتها يجعل من الصعب تصوّر موقف الإدارة منها وتنظيم تصرفها بشأنها بمقتضيات قانونية تلزمها باتباعها. على اعتبار أن القاعدة القانونية، بطبيعتها، ومساطر إصدارها، هي مساطر معقدة وبطيئة، يستحيل معها مواكبة الحركية الإدارية التي تتجدد باستمرار لمسايرة التطور التكنولوجي والاقتصادي. فالمشرّع، عند صياغته للنصوص القانونية بشكل عام ومجرد، لا يمكن أن يُحيط علمًا بمجمل الوقائع، بما تحمله من وضعيات متباينة بخصوص جزئيات إدارية متداخلة.

يسلك المشرّع، حين يمنح الإدارة سلطة معينة، أحد أسلوبين: فهو إما أن يُحدد الشروط والضوابط التي ينبغي على الإدارة اتباعها عند مباشرة اختصاصاتها، فتكون سلطتها في هذه الحالة مقيدة، ويكون عملها مقصورًا على تطبيق القانون على الحالات التي تستوفي شروط هذا التطبيق. أو أن يترك للإدارة حرية التصرف لتُقرر بمحض إرادتها، فيكون لها سلطة تقدير زمن وكيفية وملاءمة مزاولة اختصاصاتها ومباشرة صلاحياتها دون قيود. وتبدو أهمية التمييز فيما إذا كانت سلطة الإدارة مقيدة أو أنها تتمتع بسلطة تقديرية، بالنسبة لأركان القرار الإداري، باعتباره الوسيلة الأهم التي تستخدمها الإدارة عند ممارستها لاختصاصاتها، فتكون سلطة الإدارة مقيدة بخصوص ركنَي الاختصاص والشكل، أما فيما يتعلق بأركان السبب والموضوع والغاية، فتلك تمثل الحقل الخصيب لسلطات الإدارة.

ويمكن لكل من تضرّر من إصدار هذا القرار الإداري الطعن أمام القضاء الإداري لإلغاء هذا القرار، فجَوهر دعوى إلغاء قرار إداري يتوخّى الحد من طغيان وتعسّف الإدارة. لذلك تم إقرار مبدأ الطعن في القرار بالإلغاء، وشرعية القرار الإداري مرتبطة بشرعية الأركان التي يقوم عليها، فهي الضمانة لشروط صحة القرار الإداري وفق الشروط المنصوص عليها قانونًا. ذلك أن المادة 20 من القانون 41.90 المحدث للمحاكم الإدارية نصّت على أن: "كل قرار إداري صدر من جهة غير مختصة، أو لعيب في شكله، أو الانحراف في السلطة، يمكن للمتضرر الطعن فيه أمام الجهة القضائية الإدارية المختصة".

تستند الرقابة القضائية، كما كرّسها الاجتهاد القضائي الإداري، إلى مبدأ المشروعية بمفهومها الواسع والمتعدد، من مصادر مكتوبة كالقوانين والمواثيق الدولية، وغير مكتوبة كالاجتهاد القضائي والمبادئ العامة للقانون. وهي مصادر تتطور بتطور العمل الإداري، مما يُعقّد من مهام القاضي الإداري في رقابته على القرارات الإدارية، في جانبها التقديري، الذي اعتبره الفقه والقضاء في فترة من الزمن مستثنًى من الرقابة على المشروعية في البداية، وذلك تماشيًا مع تطور الاجتهاد القضائي واتساع مجال الحقوق والحريات، مما أصبحت معه الإدارة والقضاء الإداري في تجاذب مستمر بمناسبة الطعن في قراراتها.

ولكي لا تتحوّل السلطة التنظيمية للإدارة إلى عمل سيئ يهدّد حقوق الأفراد وحرياتهم، توسّعت رقابة القضاء الإداري على نطاق الملاءمة في اتخاذ القرارات الإدارية، واختلفت باختلاف طبيعة العمل الإداري. فإذا كانت السلطة التقديرية تتسع في مجال الضبط الإداري، خاصة في مجال الضبط الإداري العام، فإنها تضيق في مجال الوظيفة العمومية، وفيما يتعلق بتكليف الموظفين ونقلهم وتقييمهم وتأديبهم، وفي مجال نزع الملكية من أجل المنفعة العامة، في تقدير قرار المنفعة العامة، وفي مجالات أخرى للعمل الإداري حيث تُحدّد إجراءاتها ومساطرها بشكل دقيق وتُعدّل باستمرار تبعًا لحاجيات المرفق العام.

الهدف من أطروحتنا يشمل جانبين اثنين: جانبًا قانونيًّا نظريًّا يهدف إلى تبيان الطبيعة القانونية للسلطة التنظيمية للإدارة، والنظرية الوضعية للقرار في علاقتها بمبدأ فصل السلط، وفي ميلاد الدولة الإدارية التي تُعد الأساس والتحديد النظري لأطروحتنا. ممارسة الإدارة لسلطتها تُعد من بين امتيازات السلطة العامة التي منحها لها القانون، ولكن ممارستها تندرج ضمن تحقيق مبدأ المشروعية، ولا تُعد استثناءً أو قيدًا عليه، وليست من حدود تطبيق هذا المبدأ، بل هي تخضع له في معناه الواسع، لأن الغاية من القانون، سواء في السلطة المقيّدة أو التقديرية، واحدة، وهي تحقيق المصلحة العامة.

وجانبًا إمبريقيًّا، نهدف من خلاله إلى اختبار نظرية الدولة الإدارية في النسق المغربي، لتفسير مآل فصل السلط وواقع الديمقراطية المغربية في ظل دولة إدارية موسّعة.

دوافع اختيار الموضوع:

بالنسبة لدواعي اختيار موضوع الأطروحة في ضوء التجارب المقارنة، فهي تعود إلى سببين: الأول ذاتي، والثاني موضوعي.

السبب الذاتي:

رغبتي في تعميق البحث والدراسة حول هذا الموضوع، بحيث كثيرًا ما يُطرح في كل مناسبة لإصلاح مسلسل ممارسة السلطة السياسية والإدارية، ولكن دون أن تكون لدينا الكفاية الفقهية من الدراسة حول هذا الموضوع، فيبقى عامًا أو تُطرح فيه اقتراحات إصلاحية محدودة، إما مجتمعيًّا أو نخبوية، تغيب فيها الجرأة والمبادرة، وتحتاج إلى الدفع والتفعيل، وذلك بطرح عدة نماذج للتحليل والمقارنة.

واختيارنا كباحثين لدراسة تجربة محددة يفترض منا أن تكون تجربة راكمت العديد من الممارسات، وتشكل امتدادًا لخط علمي حول الدولة والديمقراطية، بداية من مرحلة الدراسة بسلك الإجازة التي توجت ببحث لنيل شهادة الإجازة في الدراسات القانونية، تخصص القانون العام، الموسم الجامعي 2015، تحت عنوان: "علاقة الدولة بالمجتمع المدني بالمغرب بعد دستور 2011".

وفي نفس المسار البحثي على مستوى الدراسات العليا، الموسم الجامعي 2019، حيث تُوّج برسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الدستوري وعلم السياسة، تحت عنوان: "علاقة الدولة المغربية بمحيطها الترابي بعد دستور 2011 في ضوء نظرية المركز والمحيط لجون جاك شوفالييه"، والتي خلصنا فيها إلى الدور المهم للدولة من خلال عملية تقاسم السلط مع الجماعات الترابية، ووضع البرامج التنموية وفق آليات وضوابط قانونية صادرة من المركز.

لنصل إلى مرحلة تعميق البحث في أطروحتنا لدراسة قرارات السلطة التنظيمية، حيث كانت مختلف هذه المراحل تدور حول دراسة الثيمة الأساسية: "الدولة والديمقراطية"، وكانت إحداثيات كل مرحلة مختلفة من حيث النظريات المفسرة، التي توجت بإعداد هذه الأطروحة في القانون العام والعلوم السياسية.

وأيضًا، في نفس المسار، شاركنا علميًّا بعدد من الأبحاث العلمية المحكمة، منها:

  • نشر مقال تحت عنوان: الذهنية المركزية بالمغرب وتأثيرها على المجال الترابي، ضمن أعمال مؤلف جماعي حول موضوع: "دراسات في الديمقراطية ونقد القانون: تطبيقات النظرية التداخلية على المعرفة القانونية المغربية"، منشورات المركز الديمقراطي العربي، برلين – ألمانيا، سنة 2021.
  • نشر مقال تحت عنوان: تدبير السلطة القضائية في حالة الأزمات – دراسة مقارنة، ضمن أعمال مؤلف جماعي حول موضوع: "مقاربات في تدبير الأزمات الدستورية والسياسية في البيئة المغربية"، إصدار كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بآيت ملول، جامعة ابن زهر، سنة 2024.
  • وأخيرًا، نشر مقال علمي محكّم حول: تدبير الأزمة الدستورية والسياسية في المغرب: دراسة حالة الطوارئ الصحية، منشور في العدد 33 من مجلة "قراءات في الأبحاث والدراسات"، يوليوز 2024.

وتُعتبر تجربتنا فتية، لم تستقر على وضع محدد بعد، فهي أحوج ما تكون إلى دراسة وصفية كمية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بممارسة السلطة التنظيمية على كل ما هو مخالف للدستور، وهو ما أعتبره طرحًا موضوعيًّا لكل دراسة تأصيلية وتقعيدية، بحيث ترسخت لدي رغبة في تقوية معارفي.

السبب الموضوعي:

يتمثل في سياق بدأت فيه الكثير من الأنظمة العربية تقليد الأنظمة الغربية "الديمقراطية"، مع اختلاف أنماطها ودرجاتها من دولة لأخرى. وهذا ما يقوي فكرة الرغبة في التغيير والإصلاح للانتقال التدريجي من نظام تقليدي إلى نظام عصري حداثي، يعكس فكرة سيادة القانون، والدفاع عن إرادة الشعب الذي أصدر الدستور، وحماية الحقوق والحريات من تعسف وشطط الإدارة.

ومن الطبيعي لنا كباحثين أن ننخرط في مثل هذه الأعمال الهامة، خاصة من زاوية الاهتمام الأكاديمي، للدفع بالسلطة إلى مزيد من الانفتاح والتطور، بالسير التدريجي في الاتجاه الصحيح، مقارنة مع نماذج أخرى من الأنظمة الديمقراطية في العالم الغربي، قد تكون شبيهة بوضعنا، وقد تكون متقدمة علينا، يمكن الاستفادة منها بحكم توفر العديد من القواسم المشتركة، وهذا ما سأحاول تشخيصه قبل تقييمه من منطلق اختبار تجريبي لنظرية الدولة الإدارية في السياق المغربي.

الأهمية العلمية للأطروحة:

برزت في القرن الحادي والعشرين كتابات عن الدولة الإدارية ساهمت في تفسير الديمقراطيات في الغرب الأميركي، وفي المغرب، مثل كتاب "الدولة الإدارية وحدود الديمقراطية: نقد لاهوت الدولة الدستورية الليبرالية" لأستاذي الفاضل رشيد كديرة، الذي يُعد علامة في هذا النقاش، وقد اعتبرناه زاوية علمية للتحليل والاختبار في نسق مغربي يُفسّر واقع وأزمة فصل السلط، وواقع الديمقراطية المغربية.

واستحضارًا منا للخطب الملكية أسفله كمرجع أساسي، والتي تُعتبر ممرًّا أساسيا للوقوف عند أهمية الدراسة التي أتقدم بها، لكون موضوع القرارات التنظيمية مرتبطًا بالسلطة الإدارية القرارية داخل الدولة المغربية، والتي تُعبّر عنها الدساتير المغربية بالسلطة التنظيمية المستقلة، سواء الموضوعة بيد الملك باعتباره رئيسًا للدولة، شأنه في ذلك شأن رؤساء الدول الذين يتخذون قرارات مصيرية، كما هو الحال مع رئيس البيت الأبيض في الدولة الإدارية الأميركية، أو الموضوعة بيد رئيس الحكومة.

وكما يقول المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني، في خطابه بمناسبة افتتاح السنة التشريعية البرلمانية 1987-1988 في فقرته الأخيرة: "… بالنسبة لعبد الله الضعيف، خادم المغرب الأول، ليس هناك فصل للسلط".

وفي خطاب جلالة الملك محمد السادس، بتاريخ 17 يونيو 2011، الموجَّه إلى الأمة حول مشروع الدستور الجديد، والذي يُكرّس مكانة المؤسسة الملكية، حيث نصّ على: "الملك، كرئيس للدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، والضامن لدوام الدولة واستمرارها، ولاستقلال المملكة وسيادتها ووحدتها الترابية، والموجّه الأمين والحكم الأسمى، المؤتمن على الخيار الديمقراطي، وعلى حسن سير المؤسسات الدستورية، والذي يعلو فوق كل انتماء."

وتُعتبر القرارات التنظيمية، في الأنظمة الغربية والمغربية، عماد الدولة، لكونها تمسّ كل مناحي حياة الدولة والمواطن، وتتداخل فيها السلط الدستورية الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية. وتصدر هذه القرارات التنظيمية عن جهات إدارية متعددة المستويات، فهي تصدر عن المستوى المركزي وكذلك الترابي.

كما تكمن الأهمية العلمية لأطروحتنا في فهم أزمة وتحوّل مبدأ فصل السلطة، وانحرافه نحو توحيد القوة بيد السلطة التنفيذية، ولفائدة سلطة بيروقراطية إدارية للدولة الحديثة، كمشرِّع أو منفذ يصعب تقييده ورقابته قانونيًّا، قضائيًّا، دستوريًّا أو إداريًّا، وبالتالي انفلاته من رقابة السيادة الشعبية، لفائدة الحاكم، سواء في الحالات العادية، متلبسًا بصورة المؤسسات والقوانين، أو بارزًا كما في حالات الاستثناء والطوارئ، التي تستسلم فيها المؤسسات والسلط لقوته، ويتم فيها تأجيل حكم القانون.

المفاهيم الأساسية للأطروحة:

تحتل مسألة تبيان المفاهيم المركزية في البحث أهمية أساسية، وذلك نظرًا لما تحمله بعض المفاهيم من دلالات متعددة وفق نظريات التحليل، وخاصة إذا تعلق الأمر بمفهومين محوريين من قبيل: مفهوم الدولة الإدارية، ومفهوم دولة القانون.

  1. مفهوم الدولة الإدارية:

يحتل مفهوم الدولة الإدارية مكانة هامة في الأدبيات السياسية المعاصرة. ومن الدراسات التي تناولت حتمية الدولة الإدارية كنمط من أنماط الحكم، وشكل جديد من أشكال ممارسة السلطة في المجتمعات المعاصرة، نجد دراسات كارل شميت مثل: Légalité et légitimité، Théologie politique، Théorie constitutionnelle...، التي تناولت أزمة دولة القانون الحديثة وحتمية تحولها إلى دولة إدارية.

فإذا كانت الدولة، في الحالة العادية، لا تظهر، فإن حالة الاستثناء - حسب شميت - تزيح دولة القانون وتُعبِّر عن الحاكم الفعلي. وفي هذا الصدد، يقول شميت: "في الفترات العصيبة والمتقلبة، تبرز أو تظهر معالم لبعض أنواع الدولة، هذه الأخيرة تتشكل في جوهر الدولة الحكومية أو الدولة الإدارية"، بحيث يمكن للدولة الإدارية أن تلجأ إلى الضرورة الموضوعية، وإلى الوضعية الراهنة، وإلى الأزمة الكبيرة للعصر، والسعي للحصول على شرعية التدخل.
فمن هذه الموضوعية والملاءمة، ومن هذه التدابير والمراسيم والأوامر الفورية والسريعة، تستمد الدولة الإدارية سبب وجودها. بينما تسعى الدولة التشريعية، التي تقوم على التقنين، إلى البحث عن التبريرات القانونية وعن سيادة القانون ومطابقة الأفعال للقانون، ترى الدولة الحكومية والإدارية في الأمر والقرار قيمة جوهرية دون الحاجة إلى البحث عن أي شكل من الأشكال الأخرى للتنفيذ.

أما بخصوص تنظير ميشيل فوكو، فقد ربط الدولة الإدارية بالجانب الأمني، بحيث يعتبر أن الدول المعاصرة هي دول إدارية أمنية، تعمل فيها السلطة الحكومية على تطوير تقنيات المراقبة والعقاب المتعلقة بالدولة من أجل ضبط المجتمع، أي أنها نتاج الدول التي تعتمد القرار بدل القانون، وفق سياسة بيولوجية. وهو ما يُعبّر عنه فوكو بمفهوم "السلطة الحيوية"، التي تعمل الدولة من خلالها على تطويق الحياة العامة عبر تطوير تقنيات الحكم والمعرفة.

وعليه، يمكن القول إننا نتحدث عن الدولة الإدارية عندما تُمنح السلطة التنفيذية والجهاز الإداري اختصاصات كبيرة وسلطات تقديرية واسعة، تتجاوز بها تنفيذ القانون إلى صناعته عن طريق المبادرة الحكومية، والفصل في نزاعاته، وتمتلك سلطة تقديرية واسعة يصعب على القضاء الإحاطة بها، وتمتلك صلاحيات إصدار قرارات إدارية بإرادتها المنفردة الملزمة تطوّق بها الحياة العامة، فتتوارى المبادئ التي بُنيت عليها دولة القانون (سيادة القانون، فصل السلط، سمو الدستور، الإرادة العامة...)، ويسود القرار الإداري من جانب واحد. فالدولة الإدارية ليست سوى صورة لحكم تسلطي جديد بزغ من رحم دولة القانون الليبرالية ومن دساتيرها التعاقدية.

أما في السياق الأميركي، فتنحدر الجذور التاريخية لميلاد الدولة الإدارية من أواخر القرن التاسع عشر، حين سعى التقدميون إلى إنشاء وكالات تنظيمية يُدبّرها خبراء بيروقراطيون دون انتماءات سياسية، وغير منتخبين. بعد ذلك، توسع نطاق هذه الوكالات مع "الصفقة الجديدة"، بحيث تم إنشاء وكالات جديدة أقوى من سابقاتها، يرتبط معظمها بالفرع التنفيذي، وبالتالي تم إطلاق بيروقراطية كبيرة وتمكينها من صلاحيات واسعة، بحيث يمكن للوكالات تنفيذ القواعد التي تصدرها، والتي لها قوة القانون، والفصل في النزاعات التي تترتب عنها، وغالبًا ما تُمارس هذه السلطات بطريقة مستقلة إلى حدّ كبير عن السيطرة الرئاسية، ومستقلة تمامًا عن الرقابة السياسية.
وهو ما يعتبره وائل حلاق "ثورة دستورية بلا دماء... وربما كانت أزمة مبدأ الفصل بين السلطات جوهرًا أو أساسًا في الثورة الإدارية الحديثة، فالهيئات الإدارية تجمع بصورة اعتيادية بين الوظائف الحكومية الثلاث في المؤسسة نفسها، بل حتى في الأشخاص أنفسهم داخل تلك المؤسسة".

إن ظهور الدولة الإدارية، التي هي سمة متكاملة من سمات الليبرالية الحديثة، تطلّب بالتالي هزيمة مبدأ الفصل بين السلطات كمبدأ ناظم، على الأقل كما كان مفهومه في الأصل، واستبداله بنظام الجمع بين الوظائف. وعلى هذا الأساس، فالدولة الإدارية هي المفهوم الذي سنفسر من خلاله، في أطروحتنا، تجميع السلط بيد الجهاز التنفيذي.

  1. مفهوم دولة القانون:

على الرغم من أن مفهوم "دولة القانون" يُعد أحد أكثر المفاهيم شيوعًا في القانون الدستوري، إلا أنه من العسير إعطاء تعريف جامع مانع له، ويُعزى ذلك إلى تعدد المقاربات والرؤى بين الباحثين، والتي ظلّت محل اختلاف وخلاف في النظر إلى قاعدة القانون في حد ذاتها ومعايير صلاحيتها.

ذلك أن دولة القانون، كما يقول شوفالييه، تُطرح أحيانًا على أنها الدولة التي تعمل عن طريق القانون، وأحيانًا كدولة خاضعة للقانون، وفي بعض الأحيان كدولة يتضمن قانونها سمات جوهرية معينة.
هذه النسخ الثلاث (رسمية، مادية، جوهرية) تحدد ماهية دولة القانون، والتي لا تُستثنى من الآثار السياسية.

وعليه، يمكن القول إن أصول مفهوم دولة القانون تعود إلى النظام القانوني في ألمانيا، وتُعرف بالـ Rechtsstaat، ويُعتبر الفقيه القانوني روبرت فون مول (Robert von Mohl) (1799–1875) أول من استعمل هذا المصطلح، حيث أشار في مؤلف له نُشر عام 1831 إلى دولة القانون بوصفها شكلاً من أشكال الدولة العقلانية (Verstandestaat)، التي يكون أساسها ضمان حريات المواطنين وحقوقهم في مواجهة مؤسسات الدولة.

فالقانون يجب أن يكون ملزمًا لمؤسسات الدولة كلها، بما فيها البرلمان نفسه الذي يضعه، ويجب أن تكون القاعدة متسمة بخصائص موضوعية وعقلانية وعادلة، إضافة إلى العمومية والمساواة.

كما ارتبط مفهوم دولة القانون بفكرة الدولة الدستورية العقلانية، وبالقانون العقلاني الذي يجب أن يكون مجردًا وعامًّا، وهي الأفكار التي أسّس لها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Immanuel Kant) (1724–1804). بعد ذلك، نقل الفقهاء الفرنسيون مفهوم دولة القانون من الفقه الألماني إلى فرنسا، ثم انتشر المفهوم في البلدان الأوروبية.

وتأسيسًا على ما سبق، يُعرّف قاموس أكسفورد للعلوم الاجتماعية "دولة القانون" بأنها الدولة التي يُحكم فيها القانون بوصفه المبدأ الذي يعني أن السلطة يجب أن تُمارس تبعًا لقواعد وإجراءات يتم التفاهم عليها، وتنطبق على جميع أعضاء الكيان السياسي، بمن فيهم موظفو الدولة.

ويقتضي حكم القانون وجود هيئة قضائية مستقلة قادرة على فرض القوانين، حتى في مواجهة كبار المسؤولين في الدولة. ولهذا السبب، فإن هذا المفهوم وثيق الارتباط بمبدأ فصل السلطات في التقليد السياسي الغربي. ومع أن حكم القانون ليس مقتصرًا على الديمقراطية، فإنه يُعد شرطًا مهمًّا من شروطها.

هناك إذًا مبدأ لا يمكن بموجبه للأجهزة المختلفة للدولة أن تتصرف إلا بموجب تفويض قانوني، أي أن كل استخدام للقوة المادية يجب أن يقوم على قاعدة قانونية. فتمارس السلطة بوصفها مهارةً، يؤسسها القانون ويؤطرها. وبقدر ما تلتزم أجهزة الدولة باحترام قواعد قانونية أعلى، فإن سيادة القانون تميل إلى الظهور في إطار الجانب الرسمي للتسلسل الهرمي للقواعد.

تفترض إذًا دولة القانون خضوع الإدارة للقانون. يجب أن تمتثل الإدارة للمعايير التي تشكل، في الوقت نفسه، أساس عملها، وإطارها، وحدودها. ويجب ضمان هذا الالتزام من خلال وجود رقابة قضائية، يمارسها إما القاضي العادي (Justizstaat) أو المحاكم الخاصة (Sondergerichte).

لكن النظرية تفترض أيضًا خضوع القانون للدستور، وأن يمارس البرلمان سلطاته ضمن الإطار الذي حدّده الدستور.

  1. مفهوم دولة القانون:

على الرغم من أن مفهوم دولة القانون يُعد أحد أكثر المفاهيم شيوعًا في القانون الدستوري، إلا أنه من العسير إعطاء تعريف جامع مانع له، ويُعزى ذلك إلى تعدد المقاربات والرؤى بين الباحثين، والتي ظلّت محل اختلاف وخلاف في النظر إلى قاعدة القانون في حد ذاتها ومعايير صلاحيتها.

ذلك أن دولة القانون، كما يقول شوفالييه، تُطرح أحيانًا على أنها الدولة التي تعمل عن طريق القانون، وأحيانًا كدولة خاضعة للقانون، وفي بعض الأحيان كالدولة التي يتضمن قانونها سمات جوهرية معينة. هذه النسخ الثلاث (رسمية، مادية، جوهرية) تحدد ماهية دولة القانون، والتي لا تُستثنى من الآثار السياسية.

وعليه، يمكن القول إن أصول مفهوم دولة القانون تعود إلى النظام القانوني في ألمانيا، وتُعرف بالـ Rechtsstaat. ويُعتبر الفقيه القانوني روبرت فون مول (Robert von Mohl) (1799–1875) أول من استعمل هذا المصطلح، حيث أشار في مؤلف له نُشر عام 1831 إلى دولة القانون بوصفها شكلاً من أشكال الدولة العقلانية (Verstandesstaat)، التي يكون أساسها ضمان حريات المواطنين وحقوقهم في مواجهة مؤسسات الدولة.

فالقانون يجب أن يكون ملزمًا لمؤسسات الدولة كلها، بما فيها البرلمان نفسه الذي يضعه، ويجب أن تكون القاعدة متسمة بخصائص موضوعية وعقلانية وعادلة، إضافة إلى العمومية والمساواة.
كما ارتبط مفهوم دولة القانون بفكرة الدولة الدستورية العقلانية والقانون العقلاني، الذي يجب أن يكون مجردًا وعامًّا، وهي الأفكار التي أسّس لها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Immanuel Kant) (1724–1804).
بعد ذلك، نقل الفقهاء الفرنسيون مفهوم دولة القانون من الفقه الألماني إلى فرنسا، ثم انتشر المفهوم في البلدان الأوروبية.

وتأسيسًا على ما سبق، يُعرّف قاموس أكسفورد للعلوم الاجتماعية "دولة القانون" بأنها الدولة التي يُحكم فيها القانون بوصفه المبدأ الذي يعني أن السلطة يجب أن تُمارس تبعًا لقواعد وإجراءات يتم التفاهم عليها وتنطبق على جميع أعضاء الكيان السياسي، بمن في ذلك موظفو الدولة.

ويقتضي حكم القانون وجود هيئة قضائية مستقلة قادرة على فرض القوانين، حتى في مواجهة كبار المسؤولين في الدولة. ولهذا السبب، فإن هذا المفهوم وثيق الارتباط بمبدأ فصل السلطات في التقليد السياسي الغربي. ومع أن حكم القانون ليس مقتصرًا على الديمقراطية، فإنه يُعد شرطًا مهمًّا من شروطها.

هناك إذًا مبدأ لا يمكن بموجبه للأجهزة المختلفة للدولة أن تتصرف إلا بموجب تفويض قانوني. أي أن كل استخدام للقوة المادية يجب أن يقوم على قاعدة قانونية؛ فتمارس السلطة بوصفها مهارةً يؤسسها القانون ويؤطرها. وبقدر ما تلتزم أجهزة الدولة باحترام قواعد قانونية أعلى، فإن سيادة القانون تميل إلى الظهور في إطار الجانب الرسمي للتسلسل الهرمي للقواعد.

تفترض إذًا دولة القانون خضوع الإدارة للقانون. يجب أن تمتثل الإدارة للمعايير التي تشكل، في الوقت نفسه، أساس عملها، وإطارها، وحدودها. ويجب ضمان هذا الالتزام من خلال وجود رقابة قضائية، يمارسها إما القاضي العادي (Justizstaat) أو المحاكم الخاصة (Sondergerichte).

لكن النظرية تفترض أيضًا خضوع القانون للدستور، وأن يمارس البرلمان سلطاته ضمن الإطار الذي حدده.

  1. مفهوم السلطة التنظيمية:

إن صعوبة تعريف مفهوم السلطة التنظيمية تدفع الباحثين إلى الحديث عن "أزمة" في تحديد المفهوم، ويمكن تفسير ذلك بتعدد المتدخلين في هذه السلطة.

بشكل عام، يمكن تعريفها على أنها سلطة القيام بأعمال ذات طبيعة عامة وغير شخصية بشكل انفرادي.
وقد حدد الدستور الفرنسي الصادر في 4 أكتوبر 1958 في المادة 37 المجال التنظيمي في المواد التي لا يشملها اختصاص القانون، بينما حدد اختصاصات البرلمان على سبيل الحصر في المادة 34.

عملت الدساتير المغربية بدورها على تكريس تقليد دستوري منذ وضع أول دستور سنة 1962 إلى غاية المراجعة الدستورية لسنة 2011، متمثّلًا في إشراك الجهاز التنفيذي في العملية التشريعية، من خلال حصر مجال القانون، وترك المواد الأخرى لاختصاص المجال التنظيمي.

يُعرّف الأستاذ أمين السعيد السلطة التنظيمية بأنها: "قواعد قانونية عامة وغير شخصانية ترقى إلى مكانة القاعدة القانونية التي يُسندها البرلمان في شكل قانون، حيث لا تقتصر على مجرد تنفيذ القوانين بناءً على تفويض من لدن السلطة التشريعية، بل هي ممارسة للوظيفة التشريعية ممنوحة دستوريًّا، وبصفة استثنائية، إلى السلطات الإدارية".

وعليه، فالسلطة التنظيمية تنقسم إلى نوعين:

أولًا – السلطة التنظيمية المستقلة:

وهي مجموعة من التدابير التي تُتخذ دون أن تكون مستندة إلى نص قانوني ولا مقيّدة به. وتمارس هذه السلطة من قبل رئيس الحكومة بناءً على الدستور.

ويقصد بها التشريع في جميع المجالات باستثناء تلك التي خُولت للبرلمان صراحة بموجب مقتضيات الدستور. وتجدر الإشارة إلى أن السلطة التنظيمية المستقلة تُمارس بموجب مراسيم تُسمى "المراسيم المستقلة"، وهي مراسيم تصدر دون الاستناد إلى قانون، أي أنها قائمة بذاتها.

ويبقى المرسوم التنظيمي المستقل، من حيث الجوهر، هو ذلك المرسوم الذي يتناول موضوعًا خارج دائرة اختصاص القانون، ولا يُتخذ بموجب قانون أو تطبيقًا له، وإنما استنادًا مباشرًا إلى الدستور.

ثانيًا – السلطة التنظيمية التطبيقية أو التقييدية:

وينحصر دورها في تطبيق القانون.

فالسلطة التنظيمية هنا تصنع القواعد التفصيلية اللازمة لتنفيذ القانون.

وعليه، تُعتبر المراسيم مصدرًا من مصادر التشريع الإداري التي تمكّن الحكومة من اتخاذ القرارات اللازمة لتحقيق برامجها خارج النظام الاعتيادي، وذلك بموجب قانون صادر عن البرلمان يُمكّنها من استصدار القوانين لمدة محددة.
وتبقى شروط تمكين الحكومة من اتخاذ القرارات مرهونة بالمداولات داخل مجلس الوزراء، بعد تأشير من مجلس الدولة، ثم إمضاء رئيس الجمهورية.

وإذا تعذّر الأمر، يمكن للحكومة الرجوع إلى البرلمان من أجل استصدار مشروع قانون.

حينها، يمكن للحكومة أن تستصدر القوانين المخوّلة للمشرّع أو تعديلها، وبالموازاة مع عملية التمكين هذه، يتم تجريد البرلمان من حق تعديل هذه المراسيم طيلة مدة التمكين، التي أصبحت الحكومة تتمتع بها. ويتم تفعيل المراسيم بصورة فورية.

تُعتبر السلطة التنظيمية التطبيقية، أو ما يُسمى بالسلطة التنظيمية لتنفيذ القوانين، هي الاختصاص التنظيمي التقليدي للحكومة، بحيث كان يقتصر دورها على تنفيذ القوانين دون المساهمة في وضع القواعد القانونية إلى جانب البرلمان، الذي أصبح منذ إعلان وثيقة الماجنا كارتا بإنجلترا والثورة الفرنسية الممثل الحقيقي للشعب، صاحب السيادة، وبالتالي الممثل للإرادة العامة والواضع الحقيقي للقواعد القانونية، في ظل نظام بدأ بالتأسيس منذ هذه الفترة نحو الديمقراطية.

لذلك، ومن أجل احترام إرادة الشعب صاحب السيادة، كان لزامًا على الحكومة أن يقتصر دورها فقط على تنفيذ القوانين والمبادئ الأساسية للحقوق والحريات العامة التي يسنّها البرلمان، صاحب السلطة التشريعية.

المناهج المعتمدة:

طبيعة موضوع أطروحتنا هي التي تفرض علينا المقاربة والمنهج المعتمد في تحليلنا. والمنهج هو طريق في البحث، ومبادئ علينا كباحثين الالتزام بها، ومفاهيم وعناصر للتفسير النظري تُوظَّف في تحويل موضوع البحث من مادة خام خالية من المعنى والمعقولية إلى معانٍ وعلاقات لها معقوليتها في التحليل. فهي تختلف باختلاف الموضوعات.

وللإحاطة بالتساؤلات المطروحة، سنعتمد مناهج ومقاربات مختلفة، بدءًا بالمقاربة الوصفية، لما يتضمنه الموضوع من قوانين وتعريفات وتوضيحات للمفاهيم القانونية والنظريات المفسِّرة. وتهدف هذه المقاربة أيضًا إلى الاستكشاف والتعرف على نماذج العلاقات التي تربط بين متغيرات الموضوع، أي بين السلطة التنظيمية ونظرية الدولة الإدارية ودولة القانون، بالإضافة إلى التعرف على الأسباب والعوامل المرتبطة بالموضوع.

أما المقاربة التحليلية، فستُستخدم في طرح ومناقشة وتحليل الآراء الفقهية والقانونية للمفكرين الذين تناولوا موضوع الدولة الإدارية والسلطة التنظيمية، وكذلك لتحليل مختلف قرارات السلطة التنفيذية بالمغرب ومحاولة فهمها ضمن نسقها السياسي. كما يمكن القول إن مسألة تعدد المقاربات في هذا الموضوع تندرج في إطار وحدة المنهج، كما أسس لذلك كارل بوبر (Karl Popper).

أما استعمالنا للمنهج المقارن، فهدفه إجراء مجموعة من المقارنات بين الأنظمة السياسية موضوع الدراسة، لإظهار أوجه التشابه والاختلاف في ممارسة السلطة التنظيمية.

كما سنستعمل المنهج التاريخي إلى جانب المنهج المقارن، بهدف فهم كرونولوجي لتطور ممارسة السلطة التنظيمية في النظامين السياسيين الفرنسي والفيدرالي (الألماني والأميركي)، والرجوع إلى أصل النظريات المفسرة للسلطة التنظيمية وتدخلاتها الواسعة في إطار النظرية الوضعية القانونية، والنظرية المفسرة للدولة الإدارية في علاقتها بمفهوم الديمقراطية.

الخلفية النظرية المعتمدة في الأطروحة:

ينهل تحليلي في هذه الأطروحة من الأطر النظرية للدولة الإدارية، ومن النظرية القرارية لكارل شميت في سياقها النظري الألماني، والتي برزت من أجل فهم أزمة الحداثة الغربية.

وبالتالي، فإن تنظير كارل شميت (Carl Schmitt) الفكري والسياسي كان مفيدًا من الناحية العلمية والعملية، في مواجهته لكبار المثقفين سواء في الغرب اللاتيني أو الغرب الجرماني الألماني، في بداية القرن العشرين، مع بدايات الأزمات الأولى التي أظهرت عجز الدولة الليبرالية والنظرية القانونية الليبرالية، خصوصًا في جانبها الوضعي الذي جسّده الفقيه القانوني هانس كلسن (Hans Kelsen).

وعليه، سنختبر الطرح النقدي للدولة الإدارية في السياق المغربي، محاولين تسليط الضوء على قرارات السلطة التنظيمية باعتبارها من أبرز معالم ممارسة القرار في الدولة الإدارية.

إشكالية الأطروحة

أدى توسّع وتعقّد الحياة العامة إلى مجموعة من التحولات التي مست دولة الرفاه ومجتمع الحداثة بصفة عامة، في الدول الغربية والعربية، والتي طالت تداعياتها التنظيم الهندسي التقليدي للدول، وآلياتها، ووسائل تدخلاتها، وأزمة القانون الوضعي والديمقراطية البرلمانية.

كلها كانت من العوامل الأساسية والمحفزة لميلاد الدولة الإدارية وتوسع السلطات الإدارية التنفيذية.

تحاول أطروحتنا تناول إشكالية تنطلق من علاقة السلطة السياسية بالديمقراطية، أي من العلاقة بين القرار والقانون، وما ينتج عن هذه العلاقة من تفاعل وتضاد. وانطلاقًا من ذلك، يمكننا طرح الإشكالية المحورية للأطروحة على الشكل التالي:

في ضوء اختبار نظرية الدولة الإدارية بالمغرب، كيف يمكن تفسير مركزية القرار التنظيمي للسلطة التنفيذية، وهامشية حكم القانون وفصل السلط؟

وتتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من التساؤلات الفرعية تتطرق إلى فصول الأطروحة، منها:

  • ما هي الماهية الدستورية والإدارية للقرار الإداري التنظيمي بالمغرب؟
  • وكيف هي الممارسة الوضعية القانونية للسلطة التنظيمية بكل من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية؟
  • لماذا ساهمت الدولة الإدارية في فهم اهتزاز أو أزمة مبدأ فصل السلط؟
  • كيف يمكن تفسير سيادة سلطة القرار في مواجهة سيادة القانون؟
  • ما المقصود بنظام الوكالات الإدارية؟
  • ما هي أهم أدوات التدخل الرئاسي الأميركي كحل تنفيذي لفهم عمل الدولة الإدارية؟
  • إلى أي حد يمكن فهم مركزية ممارسة القرار الملكي بالمغرب كقرار استراتيجي سياسي؟
  • وأخيرًا، هل يُعتبر القرار الملكي قرارًا إداريًّا له أثر قانوني؟ وكيف يؤثر على السلطة التنظيمية للحكومة؟

كلها أسئلة تفاعلية تستدعي الإحاطة بها وتحليلها من خلال فرضيتين ومنهج تحليلي متكامل.

 

الفرضيات المؤطرة للأطروحة:

في محاولة للإجابة عن الإشكالية المحورية، ننطلق من فرضيتين أساسيتين:

الفرضية الأولى:

مفادها أن التحول الحاصل في النظرية القانونية الوضعية، التي قوامها عمل السلطة التنظيمية وفصل السلط، يبقى محدودًا في ظل تحولات الدولة الإدارية.

الفرضية الثانية:

تفترض أن المؤسسة الملكية، بوصفها على رأس السلطة التنفيذية، تُوجّه الوظيفة التنفيذية والتشريعية والقضائية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما يُفسّر فرضية قوة نظرية "الدولة الإدارية" عبر مجموعة من آليات الممارسة القرارية، بما فيها ممارسة سلطة القرار الإداري السيادي، والتدخل على رأس السلطة التنفيذية وفي مختلف مناحي الحياة السياسية، في مسار يُلامس التحول من الحالة العادية إلى حالات الاستثناء.

تصميم الأطروحة:

بغرض الإلمام بمختلف جوانب الأطروحة، ومحاولة الإجابة على مختلف التساؤلات التي تطرحها الإشكالية المحورية والأسئلة المتفرعة عنها، سنتناولها من خلال التصميم التالي:

القسم الأول: النظرية القانونية لقرارات السلطة التنظيمية بالمغرب والأنظمة المقارنة

الفصل الأول: الإطار القانوني لقرارات السلطة التنظيمية بالمغرب

المبحث الأول: المفهوم الدستوري والإداري لقرارات السلطة التنظيمية

المبحث الثاني: مسار تشكل ممارسة السلطة التنظيمية في النظام السياسي المغربي بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة

الفصل الثاني: دراسة السلطة التنظيمية بين الأنظمة الموحدة والمزدوجة للسلطة

المبحث الأول: ممارسة السلطة التنظيمية بالنظام السياسي الفرنسي

المبحث الثاني: ممارسة السلطة التنظيمية في النظام الفيدرالي الألماني والأميركي

القسم الثاني: الإشكالات العلمية لقرارات السلطة التنظيمية بالمغرب

الفصل الأول: نظرية الدولة الإدارية وحالة الاستثناء

المبحث الأول: ميلاد نظرية الدولة الإدارية مواجهةً للدولة الدستورية الليبرالية

المبحث الثاني: حالة الاستثناء لفهم نظرية الدولة الإدارية

الفصل الثاني: قرارات السلطة التنظيمية بالمغرب في ضوء نظرية الدولة الإدارية

المبحث الأول: الدولة الإدارية وسيادة القرار: نموذج إعلان حالة الطوارئ الصحية

المبحث الثاني: تجليات مركزية الملك في اتخاذ القرار في ضوء نظرية الدولة الإدارية

خاتمة

من خلال ما طرحناه بين طيّات القسم الأول من فصول الممارسة القانونية للسلطة التنظيمية، يتبيّن أننا إزاء مفهوم جوهري في معادلة تدبير توزيع السلطة بين مكوّنات نسق الحكم/السلطات الدستورية، في أي دولة كيفما كان نظامها الدستوري. ذلك أن السلطة التنظيمية هي مناط الحكم في حد ذاته، ومدار حقيقته؛ فمن يملك السلطة التنظيمية هو من يحكم، ومن يحكم فبيده سلطة تنظيمية بالضرورة.

وقد رأينا أنه، ومهما كانت للسلطة التشريعية من قيمة وشرعية تمثيلية لسيادة الأمة/الشعب، ومهما كان الاختصاص في التشريع وسنّ القواعد القانونية منعقدًا لها بالمبدأ، فلم تَعُد المقرِّرة الوحيدة لهذه القواعد. بل إن تطوّر الممارسة اليومية، وبحسب الظرفيات السياسية والتاريخية للدول، حكم بأن تتبوّأ السلطة التنفيذية مقعد التشريع إلى جانب السلطة التشريعية من بوابة المجال التنظيمي، الذي اتّسع أكثر من مجال القانون، والذي درجت الدساتير، في إطار "العقلنة البرلمانية"، على تحديده وحصره. لتبقى السلطة التنفيذية منطلقة في مهامها التدبيرية والتنظيمية، متحرّرة من قيود وبطء المساطر التشريعية، لتستجيب لمتطلبات الحياة اليومية المتسارعة والمتجددة في طبيعة نوازلها وحيثياتها، فتقرّر ما تراه ملائمًا ومسايرًا لذلك من إجراءات وتدابير، في شكل قواعد عامة ومجردة، بصبغة قانونية، لكن بصفة إدارية.

وهذه الصفة "الإدارية" لأعمال السلطة التنظيمية تستدعي موضوع الرقابة عليها من قبل القضاء الإداري، وما قد ينتج عنها من طائلة الإلغاء أو التعويض. كما يبرز التساؤل، بخصوص بعض هذه الأعمال، حول مدى اختصاص القضاء الدستوري في مراقبة دستوريتها.

وهنا، وخاصة في الحالة المغربية ومثيلاتها، يتبدّى لنا بجلاء "الاستثناء" الذي تطرحه قرارات الملك في مجال اختصاصاته التنظيمية، كما تُطرح في السياق ذاته أسئلة الجدوى من تمتيع المجالس الترابية، بالشخصية المعنوية، بسلطات تنظيمية مستقلة، علاوة على الطبيعة غير الأصلية لهذه السلطة التنظيمية.

وقد أكّدنا الفرضيات التي عرضناها في مقدمة الأطروحة، من خلال تناولنا للموضوع وفق تقسيم ثنائي، تطرّقنا فيه في القسم الأول إلى الإطار القانوني لقرارات السلطة التنظيمية، في ضوء النظرية القانونية للدولة الليبرالية الدستورية. والتي مفادها أن حضور السلطة التنظيمية في النظام السياسي والدستوري والإداري المغربي هو تعبير عن تحديث النظام. وقد ترتب عن ذلك أن توزّعت تاريخيًّا سلطة إصدار القرارات العامة والمجردة بين جهات مختلفة، بعد أن كانت، في عهد سابق، مركزة في يد الملك منذ دستور 1962. ثم عرفت هذه السلطة التنظيمية تذبذبًا كما تطرّقنا إليه، واستقر الأمر بشأنها بموجب دستوري 1972 و1996، اللذين أسنداها إلى الوزير الأول.

وقد تميز دستور فاتح يوليوز 2011 بمجموعة من المقتضيات الجديدة، والمبادئ الديمقراطية، ونصّ لأول مرة على مصطلح "المجال التنظيمي" في الفصل 72، وأوكل صلاحيات السلطة التنظيمية لرئيس الحكومة عبر الفصل 90، دون أن نغفل أن للملك صلاحيات واسعة في اتخاذ الظهائر والمراسيم، في الحالات العادية وفي الحالات الاستثنائية.

لكن هذا لا ينفي أن الملك لا زال المهيمن على هذه السلطة، وبقي يشرف على جميع القواعد العامة والمجردة التي تصدر داخل الدولة، باعتباره رئيس المجلس الوزاري، ويمارس دور الإشراف ويراقب القواعد العامة التي يصدرها البرلمان من خلال تقنية "الإصدار" و"الأمر بتنفيذ القوانين"، وهي التقنية التي تعبر عن موافقة الملك الصريحة والرسمية على القانون.

إن الممارسة القرارية في المغرب، وفق نظرية الدولة الإدارية، منقسمة بين كتلتين بينيتين:

  • الأولى: البنية القرارية، أي الملك؛
  • الثانية: البنية الدستورية، من خلال القرارات التنظيمية للسلطة التنفيذية بما هو محدد لها بوضوح في القانون.

نستنتج، على مستوى طبيعة الممارسة القرارية للملك، أنها تتميز في مضمونها، وفي أغلبيتها، بكونها قرارات سيادية، أو كما تسمى بقرارات سياسية، بحكم طبيعة السلطة التي تتخذ القرار.

وعلى مستوى الشكل، فهي لا تخرج عن ثلاثة أنماط للممارسة، هي:

  • الخُطب الملكية،
  • الظهائر،
  • التعليمات الملكية، التي تُمارس من خلال الرسائل الملكية.

كما نخلص، في أطروحتنا، ومن خلال اختبار نظرية الدولة الإدارية بالمغرب، إلى أن محورية أو مركزية القرار السيادي الملكي تتجلّى في الوجود الفعلي للملك كفاعل أساسي يتمتع بسلطة توجيه مسلسل صناعة القرار، خصوصًا ما يدخل ضمن الشرعية الإسلامية للملكية، والوحدة أو الهوية الوطنية، باعتبارها مجالًا خاصًا بالمؤسسة الملكية.

وفي دراستنا لحالة الاستثناء المغربية إبان إعلان حالة الطوارئ الصحية، اعتبرناها فرصة لاختبار مدى الحضور الفعلي للسلطة التنفيذية في اتخاذ القرار، وهو ما تمّت ملاحظته أثناء اتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات التي كرّست، بشكل فعلي، الدولة الإدارية، من خلال مجموعة من التدخلات الخارجة عن نسق القانون، والتي تبيّن قدرة الدولة على التدخل والتعامل مع الأحداث الاستثنائية، مثل:

  • قرار إجبارية جواز التلقيح بهدف الوقاية العامة.
  • قرار فرض جواز التلقيح.

فكل ما اتُّخذته الدولة من قرارات وإجراءات، إنما كان باسم ضمان استمراريتها، ومواجهة هذه الظروف الاستثنائية، ولأجل الحفاظ على النظام العام.

وتتمثل مركزية القرار السيادي السياسي للملك في توجيهه وتحريكه للنظام السياسي بمؤسساته، التي تعمل بشكل ظرفي.

كما نستنتج، أيضًا، من خلال ملامسة التوجهات الملكية بشأن قضية تعديل مدونة الأسرة، في الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية الحادية عشرة، تركيزه على دور الأسرة في بناء مجتمع مستقر، وتوجيهه الدعوة للمغاربة إلى الجدية والتمسك بالقيم الدينية والوطنية.

ونخلص إلى أهمية آلية التحكيم، التي تُفعّلها المؤسسة الملكية في ممارسة دورها الأساسي في العملية القرارية، وفي إنتاج القواعد، ويتكرّس ذلك أكثر في تفسير التأويلات الدستورية المرتبطة بمرجعيات المؤسسة الملكية.
وتُمارس آلية التحكيم أيضًا من أجل ضمان استقرار النظام السياسي وحفظ التوازنات، تجاوزًا لتكرار الصراع، كما في قضية المرأة والأسرة سنة 2004، التي كرّست فيها المؤسسة الملكية سموّها لأجل ضمان الهوية الوطنية.

كما نستنتج من دراسة قرار اتفاقية استئناف العلاقات السياسية والدبلوماسية مع دولة إسرائيل أن البنية القرارية في المغرب تتفاعل مع العوامل الخارجية، وتُراعي الاعتبارات الجيوسياسية.

ورغم النسق المضاد، والفعل الاحتجاجي على هذا القرار، إلا أنه يُصنّف ضمن الأعمال السيادية للمؤسسة الملكية، والتي لا تقبل الطعن أو فكرة التقاضي، كما كرسه حكم سابق لمحكمة النقض، وجاء في منطوقه:
"… الدعوى تهدف إلى إلغاء قرارات ذات طبيعة سياسية ودبلوماسية صادرة عن الحكومة المغربية، في إطار العلاقات الخارجية، وهو ما يعني أن العمل المطعون فيه لا يُعتبر قرارًا صادرًا عن سلطة إدارية، وإنما من أعمال السيادة التي تقوم بها السلطة التنفيذية، استنادًا إلى الباعث السياسي، في إطار العلاقات الخارجية، ولا يُخاطب الأفراد مباشرة"

ختامًا، ومن منطلق أهمية هذه الدراسة، نطرح أسئلة استشرافية حول موضوعنا، لإعطاء الباحثين من بعدنا قدرة على التطوير واستكمال البحث والتحليل، من خلال الاستغلال الأمثل للنظريات المتاحة والأفكار التي طرحناها سابقًا.
وتزداد أهمية الأسئلة الاستشرافية في أطروحات الدكتوراه، في ظل التغيرات المتلاحقة التي يشهدها حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية. وعليه، نطرح هذين السؤالين التالية للبحث مستقبلًا:

  • إلى أي حد يمكننا الحديث عن الدولة الإدارية في المغرب؟
  • وهل تمثل السلطة التنظيمية أهم المعالم القانونية والنظرية للدولة الإدارية؟
  • الآراء الواردة في الأطروحة تعبر عن صاحبها فقط
  • للإطلاع على أطروحة الدكتوراه (اضغط هنا)

ABOUT THE AUTHOR