
مقدمة
في التاسع من يوليو/تموز 2025، أعلن ماركو روبيو، وزير الخارجية الأميركي، فرض عقوبات على فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الأممية الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية. وكانت إدارة الرئيس ترامب قد مارست في السابق ضغوطا على المنظمة الأممية لإقالة المقررة ألبانيزي من منصبها على خلفية عملها الحقوقي ودعوتها لمحاسبة قادة إسرائيل على ما يرتكبونه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال حرب الإبادة التي يشنونها على قطاع غزة.
جاءت العقوبات الأميركية بعد أيام من نشر تقرير كشفت فيه المقررة الأممية وفريقها عن انخراط أكثر من ستين شركة عالمية كبرى في تمويل المستوطنات ودعم الحرب الإسرائيلية على غزة. وطالب التقرير، الذي نُشر بتاريخ 30 يونيو/حزيران 2025، وحمل عنوان "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة"، بمحاسبة المسؤولين التنفيذيين في تلك الشركات أمام القانون الدولي. وجاء في التقرير أن "الإبادة الجماعية الإسرائيلية مستمرة لأنها مربحة للكثيرين"، وأن الشركات المدرجة "مرتبطة بنظام الفصل العنصري الإسرائيلي"، وأن بعض تلك الشركات "تزود إسرائيل بأسلحة ومعدات تُستخدم في تدمير البنية التحتية الفلسطينية"(1).
هذه العقوبات ليست الأولى التي تفرضها الإدارة الأميركية على شخصيات أممية أو مؤسسات دولية. فقد سبق لها أن فرضت، في فبراير/شباط 2025، عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، شملت المدعي العام كريم خان، وزملاءه في هذه الهيئة القضائية التي تُعد أحد أعمدة النظام القضائي الدولي. وبرّر الرئيس ترامب فرضه تلك العقوبات بارتكاب المحكمة "أفعالا غير مشروعة ولا أساس لها ضد أميركا وحليفتها المقربة إسرائيل(2). وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت، في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، مذكرتي اعتقال في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه، يوآف غالنت.
هذه العقوبات ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ولكنها تحمل خطورة بالغة لسببين. أولا، لكونها مفروضة من القوة العظمى التي تتفرد بقيادة النظام الدولي وليس من قوى هامشية، وثانيا لكونها لم تُفرض على من يخرق قواعد هذا النظام أو قوانينه المنظمة، بل على العكس من ذلك، فُرضت على من يسعى لتطبيق تلك القواعد والقوانين على من ينتهكها ولا يعترف بها. لذلك، ينبغي النظر إليها باعتبارها انعكاسا لحالة قلق متصاعد إزاء المؤسسات الدولية والأممية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، تتجاوز الأشخاص المعنيين بالعقوبات. إنها تعبير عن أزمة متفاقمة بين أركان النظام الدولي، تُفقده الانسجام وتدفع به نحو تغيير عميق. فماهي مؤشرات هذا التغيير، وما هي مساراته، وإلى أين يمكن أن تقود في نهاية المطاف؟
ديناميات التغيير في النظام الدولي
ليس جديدا الحديث عن أن العالم يتغير، فهو لا يكف عن التغير، سواء انتبهنا إلى ذلك أم غفلنا عنه. أما الحديث عن تغير في النظام الدولي فينقلنا إلى مستوى آخر من التحليل والتأطير النظري. فالتغير بهذا المعنى لا يحدث كل يوم أو كل عام بل يحدث بعد عقود وأحيانا قرون تكون فيها موازين القوى المهيمنة قد استقرت عبر منظومة من المؤسسات والقوانين والاتفاقيات والأعراف. وإذا كانت الأنظمة السياسية الوطنية تأخذ تسمياتها من طبائعها أكانت رئاسية أم ملكية، ديمقراطية أم استبدادية، فإن تسمية النظام الدولي تأتي من عدد القوى المهيمنة والأقطاب الحاكمة. من هنا جاءت تسميات من قبيل أحادي القطبية وثناني القطبية.
منذ سقوط الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينات القرن العشرين، يعيش العالم في ظل نظام دولي أحادي القطب، تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى متفردة. قبل ذلك، ساد لعقود، نظام ثنائي القطبية وُلد من رحم الحرب العالمية الثانية، هيمن عليه الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. قبل الحرب، كان قطبا النظام الدولي فرنسا وبريطانيا، اللتان ورثتا بدورهما نظاما ثنائي القطبية نشأ منذ القرن الخامس عشر بقيادة إسبانيا والبرتغال. قبل ذلك، تعاقبت على قيادة العالم دول وامبرطوريات عدة، وشكلت أنظمة دولية مختلفة الأنماط والخصائص، مثل روما وبيزنطة وفارس والإغريق.
تخصصت في دراسة النظم الدولية نظريات العلاقات الدولية بمختلف مدارسها، وأبرزها المدرستان الواقعية والنيوليبرالية. ورغم ما بين هذه المدارس من اختلافات تتعلق أساسا بمواطن التركيز وتغليب أبعاد في التحليل على أخرى، تلتقي نظريات العلاقات الدولية في اعتبار سلام وستفاليا سنة 1648، الذي أعقب حرب الثلاثين عاما الدينية، انعطافة فاصلة في تاريخ النظم الدولية، شكلت لحظة ولادة النظام الدولي الحديث. يتسم هذا النظام بعدة خصائص أبرزها:
- الدولة هي الوحدة الأساسية التي يقوم عليها النظام الدولي، لذلك يسمى أيضا نظام ما بين الدول (inter-state system)
- الدول كيانات متساوية ذات سيادة، وهدفها الأسمى البقاء والحفاظ على استقلالها وأمنها القومي من خلال مراكمة القوة في بيئة دولية تنافسية معادية.
- إلى جانب الدول، يدار النظام الدولي عبر شبكة من المنظمات والمؤسسات والقوانين والمعاهدات الدولية والإقليمية.
- تنعكس بنية النظام الدولي في توزيع القوة بين مكوناته من الدول، فيتركز منسوب القوة الأكبر لدى القطب المهيمين أو الأقطاب القائدة، ويأخذ النظام السائد تسميته بناء على عدد تلك الأقطاب.
- الجغرافيا السياسية هي المحور الذي تدور عليه العلاقات الدولية، والخلفية التي تتشكل على قاعدتها الأحلاف والكتل الإقليمية، والإطار الذي تُرسم فيه الاستراتيجيات وتحدد ميادين الصراع ومجالات التنافس وأدوات الهيمنة.
- إضافة إلى عامل القوة، تسهم الديبلوماسية وآليات حل النزاعات والمصالح الاقتصادية المتشابكة في ترتيب العلاقات بين الدول ومنع النظام من الانهيار.
- تجري في صلب النظام الدولي تغيرات جزئية بحسب تغير موازين القوى داخله، ولكن الانتقال من نظام إلى آخر يقتضي تغييرا هيكليا في بنية النظام السائد.
الآن، يتردد الحديث عن تغيير في النظام الدولي، فما المقصود بذلك، وعلى أي مستوى يمكن لهذا التغيير أن يحدث، هل هو تغيير جزئي، أم على المستوى الهيكلي، أم هو أكثر من ذلك؟
تتزايد المؤشرات على أن العوامل التي اجتمعت وهيأت لنشأة نظام القطب الواحد وضمنت استقراره خلال الثلاثين عاما الماضية بدأت تفقد تماسكها. وتزيد هذه المؤشرات من احتمالات تغير النظام، في ظل شكوك متعاظمة في قدرته على التكيف مع المتغيرات الجارية وتجاوز الأزمات المتعددة التي تعصف بأركانه، ولكن ذلك سيحتاج وقتا. فمثلما تحتاج الأنظمة الدولية إلى وقت لتستقر، فإن تغييرها أيضا يستغرق وقتا ليكتمل، بحكم التركيب الذي تتسم به بنيتها وتداخُل العوامل المشكلة لها. وبين فترات الاستقرار وتثبيت القواعد، ولحظات الاضطراب وحدوث التغيير، تنشأ التناقضات في صلب الأنظمة الدولية وتتحول بالتدريج إلى تصدعات ثم انكسارات تؤدي في النهاية إلى الانهيار والاستبدال. خلال تلك الفترات الانتقالية، التي يكون فيها "العالم القديم بصدد الاحتظار والعالم الجديد يصارع من أجل الانبعاث، تظهر الوحوش"، على حد تعبير أنطيونيو غرامشي(3). تظهر الوحوش وتسود حالة التوحش في الفراغ الذي يخلفه تراجع النظام القديم قبل أن تكتمل ولادة النظام الجديد. فتراجع النظام يعني تقلص الضوابط وارتخاء القوانين واهتزاز القواعد التي كانت تقيد تلك الوحوش وتمنع ظهور حالة التوحش.
التوحش في الفترات الانتقالية يمكن أن يتخذ أشكالا مختلفة بدءا بازدراء القوانين الدولية وانتهاكها، مرورا بالاعتداء على الدول الأخرى والتدخل في شؤونها واستخدام القوة لحسم الصراعات أو تغيير الحدود أو التوسع الجغرافي، وانتهاء بشن الحروب والنزاعات المسلحة داخل الدولة وخارجها. وتُعد الحروب شكلا تقليديا من أشكال التوحش وأداة رئيسية في إحداث التحولات الكبرى، ومحركا أساسيا لنشأة الأنظمة الدولية وانهيارها.
ما يجري في غزة منذ أكتوبر 2023 من إبادة جماعية تنفذها إسرائيل بدعم غربي معلن، يجسّد حالة من حالات التوحش التي لا تعبأ بالقوانين ولا بالقواعد التي يقوم عليها النظام الدولي. وما تعانيه منظمة الأمم المتحدة وعدد من موظفيها ووكالاتها المتخصصة من عجز عن القيام بوظائفها وإنفاذ القوانين الحاكمة وإلزام المعتدين بالقواعد المرعية، يكشف عن تناقض بين مكونات النظام الدولي وتعارض بين مصالحها وأهدافها وأجنداتها. والأمثلة كثيرة على هذا التناقض، الذي من شأنه أن يعطل فاعلية المنظومة الأممية ويكرس عجزها ويفقد الثقة في جدواها. فإذا زاد منسوب التشكيك في قدرة هذه المنظومة على أداء دورها الذي تأسست من أجله، سيؤدي ذلك في النهاية إلى انهيارها وتشكيل منظومة أو منظومات بديلة. ما يعزز هذا الاتجاه، التغييرات الجارية على مسارات متعددة، هيكلية واقتصادية وتكنولوجية وقيمية. هذه التغييرات، التي سنفصّلها في ما يلي، تجعل حديثنا عن تغير النظام الدولي قراءة في ديناميات واقعية ملموسة وليس مجرد تمرين نظري أو فرضية ذهنية.
1. من القطب الواحد إلى التعددية القطبية: لا تزال الولايات المتحدة الأميركية تمتلك القوة الأولى عالميا، خاصة على صعيد النفوذ السياسي والاقتصادي والتفوق العسكري. ولكن هذه القوة تشهد تراجعا ملموسا مقابل صعود حثيث لعدد من المراكز والتكتلات الإقليمية. فروسيا، التي ورثت الاتحاد السوفيتي وخرجت من الحرب الباردة منهكة على مختلف الأصعدة، تمكنت من العودة سريعا إلى الساحة الدولية وشكلت تحديا لأحادية الهيمنة الغربية. وقد مكّنها احتفاظها بقدراتها العسكرية السوفيتية وتطويرها لاحقا من خوض حرب في أوكرانيا، فشل الدعم الذي قدمه حلف شمال الأطلسي لكييف بمختلف أشكاله في تحويلها إلى "هزيمة استراتيجية"(4). والصين، تواصل صعودها الهادئ في اتجاه استكمال شروط القوة الشاملة. وقد حققت نجاحات هائلة في مجالات الاقتصاد والتسلح وصناعة الفضاء والتكنولوجيات الفائقة. لقد تجاوزت الصين بذلك مستوى القوة الإقليمية الصاعدة، لتشكل قطبا دوليا يتهيأ لاحتلال موقع قيادي في نظام دولي متعدد الأقطاب بصدد التشكل. إلى جانب روسيا والصين، تسعى دول أخرى إلى مراكمة القوة وزيادة نفوذها العالمي من خلال تكتلات سياسية واقتصادية إقليمية أو عابرة للأقاليم والقارات، على شاكلة مجموعة بريكس. ويبدو أن بنية النظام الدولي الجديد ستختلف عما سبقه، وربما تفقد الدولة فيه مركزيتها لفائدة كيانات أصغر أو أكبر، وتكتلات أكثر تأثيرا. بهذا المعنى، سيكون الانتقال من نظام القطب الواحد إلى نظام متعدد الأقطاب، تغييرا هيكليا يعاد فيه بناء المنظومة الدولية وتوزيع القوة بين مكوناتها وتحديد طبيعة العلاقات داخلها(5). غير أن ما نشهده من تعدد في المسارات والديناميات يدل على أننا لسنا إزاء تغيير في البنية والقيادة وحسب، بل إزاء تغيير شامل في النموذج الحاكم (paradigm shift).
2. من الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الاقتصادية: تعد الجغرافيا السياسية خلفية أساسية في فهم وتحليل السياسة الدولية منذ نشأ هذا المفهوم في بداية القرن العشرين(6). فقد كان الدافع الأساسي وراء نشأة وتطور الجغرافيا السياسية، مفهوما وحقلا معرفيا، مساعدة قادة الدول على فهم تعقيدات البيئة الدولية والبحث عن خيارات آمنة وانتهاج سياسات أكثر سلمية وأقل كلفة للبقاء والتكيف مع تلك البيئة غير الصديقة. ولكن استخداماته اللاحقة ارتبطت إلى حد كبير بالحروب والصراعات، خاصة مع تبني المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية لمقولاته الأساسية. وهكذا أصبح فهمنا للنظام الدولي لا ينفصل عن بعده الجغرافي وما يعنيه ذلك من صراع على الحدود وتنافس على مجالات النفوذ، وما يقتضيه ذلك من مراكمة للقوة وسباق للتسلح وتحالفات عسكرية وأمنية وحروب لا تنتهي. في هذه البيئة المتوترة، مضت الصين في بناء نموذج "القوة الشاملة" التي يغلب عليها البعد الاقتصادي. وتركزت جهودها خلال العقود القليلة الماضية على بناء شبكة واسعة من العلاقات التجارية العالمية وتطوير بنية تحية من سلاسل التوريد التي من شأنها أن تجعل من الاقتصاد محرّكا رئيسيا للعلاقات الدولية. ومع تقدم هذا النموذج وتوسعه جغرافيا، من المرجّح أن يتحوّل تركيز الدول من الأمن العسكري إلى الأمن الاقتصادي، وتصبح التحالفات الاقتصادية ذات أهمية متزايدة في مواجهة التحالفات العسكرية التقليدية. بالتوازي مع ذلك، سنشأ أنظمة مالية رديفة أو بديلة تعيد هندسة خرائط المبادلات التجارية بين الدول والكتل الاقتصادية والمنظمات الإقليمية. وستكون المنافسة الرئيسية في المستقبل بين المشاريع الجيواقتصادية مثل مشروع "الحزام والطريق" الصيني ومشروع "الكوريدور" الأميركي الهندي الشرق أوسطي، ومشروع "طريق التنمية" التركي العراقي الذي يربط الشرق الأوسط بأوروبا.
3. من مركزية الدولة إلى التكتلات الإقليمية والفاعلين من غير الدول: ستظل الدولة القومية التي قام على أساسها النظام الدولي الحديث لاعبا أساسيا ومكوّنا من مكوّناته الفاعلة، ولكن المؤشرات على تراجع دورها في تزايد. يؤكد ذلك اتجاهان ناشئان؛ اتجاه نحو التفكك والانحلال إلى كيانات أصغر، واتجاه نحو التكتل والاندماج في كيانات أكبر تذوب فيها سيادة الدولة فتفقد بذلك قرارها السياسي والأمني والاقتصادي(7). في المقابل، تتعاظم أدوار كيانات أخرى، مثل الشركات الرأسمالية العابرة للقومية والقارية، وشبكات التواصل الاجتماعي العابرة للحدود والهويات، في صناعة السياسات وتشكيل التوجهات وتكييف التشريعات التي تقود السياسة الدولية. في ذات الاتجاه، تتزايد أهمية التكتلات السياسية والاقتصادية الإقليمية التي بدأت تشكل ملمحا من ملامح النظام الدولي الجديد، فترسّخ صبغته التعددية وتعزز من قوة دول على حساب أخرى. أما الفاعلون من غير الدول، فقد تضاعفت أعدادهم وتطورت قدراتهم، وأصبح بعضهم لاعبا مهما في العلاقات الدولية. وفي أحيان كثيرة أصبحوا يملكون قرار الحرب والسلم، الذي كانت تحتكره الدولة، فباتوا يشنون الحروب ويبرمون الصفقات ويعقدون الاتفاقات لوقفها أو إنهائها.
4. من العولمة ذات الخصائص الغربية إلى العولمة المفتوحة: تغلب على العولمة السائدة خصائص الحضارة الغربية، التي تتحكم إلى حد كبير في مساراتها المختلفة. فقد أسهمت تلك الخصائص في تشكيل القيم الثقافية المهيمنة مثل الليبرالية والفردانية، وتعميم الأنماط الاقتصادية الغالبة مثل الرأسمالية وحرية السوق والشركات متعددة الجنسية، وسيادة المؤسسات المالية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية. وقد ساعدت القوة الهائلة، التي يتمتع بها الإعلام الغربي على ترسيخ تلك القيم والأنماط وتغليبها على غيرها وإكسابها طابعا عالميا. وهو ما سهّل بدوره فرض نماذج تنموية على دول الجنوب، تابعة للمراكز الغربية الكبرى وخادمة لمصالحها. غير أن العولمة بتلك الخصائص، بدأت تواجه تحديات متصاعدة تدفع لإعادة توجيه مساراتها لتكون أكثر تعددية وشمولية، فتعكس تنوع الحضارات والثقافات بعيدا عن روح الهيمنة الغربية. ومع الاتجاه نحو انبعاث نظام دولي متعدد الأقطاب، سينفسح المجال أمام مشاركة فاعلين جدد في صياغة عولمة مفتوحة على تعدد مراكز القوة والنفوذ، وعلى اختلاف النماذج الاقتصادية والتنموية، وعلى تنوع السبل أمام المجتمعات لتطوير قدراتها وبناء نهضتها الخاصة أو الجماعية.
5. من الحروب التقليدية إلى الصراعات المركّبة: تشير التحولات الجارية على صعيد الصراعات الدولية إلى تغييرات جوهرية في طبيعة الحروب، من المواجهات العسكرية المباشرة بين الدول إلى استراتيجيات مركبة أكثر غموضا وتشابكا، تعتمد مزيجا من أدوات القوة الصلبة والناعمة والذكية، وتأخذ بعين الاعتبار التهديدات الأمنية بمعناها الشامل. تحدث هذه التغييرات لعدة أسباب، منها التطور التكنولوجي، وتغيّر البيئة العالمية، وظهور فواعل جديدة في النظام الدولي وبروز تهديدات غير تقليدية. لذلك، لم تعد الحرب مقصورة على المواجهات العسكرية بين الجيوش النظامية باستخدام الأسلحة الثقيلة واعتماد أساليب الكر والفر عبر الحدود الجغرافية. بل أصبحت تتخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا تتداخل فيها الأبعاد العسكرية والاقتصادية والديبلوماسية والمعلوماتية والسيبرانية. في هذه البيئة، تتزايد قدرة الإنسان على التحكم في مسارات الحرب ونتائجها عن بعد، سواء أكانت حربا نظامية كلاسيكية أم غير متماثلة أم سيبرانية أم هجينة أم حربا بالوكالة.
6. على صعيد القيم والمعايير: تأسس النظام الدولي الحديث على مجموعة من القيم الأساسية التي ساهمت في تشكيل العلاقات بين الأمم، مثل السيادة الوطنية وحق الشعوب في إدارة شؤونها وتقرير مصيرها؛ واحترام حدود الدول وعدم التدخل فيها أو الاعتداء عليها؛ والإعلاء من الشرعية الدولية وما يجسدها من قوانين ومعاهدات والتزامات متبادلة؛ واحترام حقوق الإنسان وحمايتها وفق الإعلانات والمواثيق الدولية؛ وتعزيز التعاون بين الدول وتشجيع الحوار لحل النزاعات سلميا بدلا من استخدام القوة واللجوء إلى الحرب. تشكل هذه القيم والمعايير ركائز أساسية للنظام الدولي، ولكن كثيرا منها فقد علويته ولم يعد سلوك العديد من الدول يلتزم بها أو ينسجم معها. وتشكل الحرب الإسرائيلية على غزة حالة نموذجية يتكثف فيها ويتجلى التصادم بين عالم القيم المذكورة وعالم الممارسات المتوحشة التي تسندها قوى قائدة ومؤثرة في هذا النظام الدولي. في المقابل، تبرز حركات المقاومة الفلسطينية مدافعا شرسا عن تلك القيم وممثلا للضمير الأخلاقي العالمي الذي وجد فيها صوته وصورته التي غابت طويلا بفعل هيمنة الدعاية وغطرسة القوة. وما اتساع نطاق المساندة الشعبية غير المسبوقة لغزة ومقاومتها، في مختلف أنحاء العالم، إلا تعبيرا عن تطلع واسع النطاق لنظام دولي جديد يعود فيه الانسجام بين القيمة والممارسة، ورفضا لهذا التناقض بين سلوك التوحش والعنصرية والاحتلال والإبادة الجماعية ونهب الثروات وإذلال الشعوب، وقيم العدل والحرية والتعاون والعيش المشترك على قاعدة التساوي في الإنسانية.
خاتمة
هذه الديناميات تتفاعل فيما بينها وتدفع باتجاه ولادة نظام دولي متعدد الأقطاب، تلعب فيه الجغرافيا الاقتصادية دورا متعاظما في ربط العالم بعضه ببعض. وتتجه فيه العولمة نحو الانفتاح على أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية أخرى. وتتراجع فيه الدولة عن مساحات كانت تحتكرها وأدوار تقليدية كانت تلعبها داخل مجتمعاتها وعلى صعيد السياسة الدولية. فالمنافسة في المستقبل لن تكون محصورة بين الدول، بل أيضا مع كيانات أصغر وأكبر منها، ولكنها أكثر تأثيرا وأقدر على التأقلم مع متغيرات البيئة الجديدة، سواء في مناخات الحرب أم في حالات السلام.
(1) من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة، تقرير المقرر الأممي الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، موقع الأمم المتحدة، 30 يونيو/حزيران 2025، (تاريخ الدخول: 08 أغسطس/آب 2025):
(2) فرض عقوبات على المحكمة الجانئية الدولية، موقع البيت الأبيض، 6 فبراير/شباط 2025، (تاريخ الدخول: 08 أغسطس/آب 2025):
(3) انظر دفاتر السجن، لأنطونيو غرامشي، الدفتر الثالث، ص 283:
Gramsci, Antonio, Chahiers de Prison, Edition Gallimard, 1996.
(4) يتفق قادة دول حلف شمال الأطلسي على هدف إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وقد عبر عن هذا الهدف أكثر من سياسي غربي. انظر مثلا تصريح وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكين بتاريخ 9 مارس/آذار 2022، (تاريخ الدخول: 08 أغسطس/آب 2025):
انظر كذلك تصريح وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تراس بتاريخ 28 أبريل/نيسان 2022، (تاريخ الدخول: 08 أغسطس/آب 2025):
https://www.bbc.com/news/uk-61251698
انظر أيضا تصريح الرئيس البولندي، أندري دودا بتاريخ 23 يونيو/حزيران 2023، (تاريخ الدخول: 08 أغسطس/آب 2025):
(5) حول التغيير الهيكلي في النظم الدولية، انظر على سبيل المثال:
Waltz, Kenneth N., Theory of International Politics.
Mearsheimer, John J., The Tragedy of Great Power Politics.
Gilpin, Robert, War and Change in Public Politics.
(6) أول من استخدم مفهوم "الجيوبوليتيك" هو عالم السياسة السويدي رودولف كيالن (1864-1922)، ثم انتقل المفهوم إلى ألمانيا وبدأ استخدامه على نطاق واسع في عموم أوروبا، خاصة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
(7) لمتابعة النقاش الدائر حول انسحاب الدولة وانهيار كيانها وتراجع دورها في السياسة الدولية، انظر على سبيل المثال:
Creveld, Van Martin, The Rise and Decline of the State
Horsman, Mathew and Marshall, Andrew, After the Nation-State
Strange, Susan, The Retreat of the State