اتفاق أذربيجان وأرمينيا: اختراق أميركي مريح يغير موازين القوى في جنوب القوقاز

نجحت الإدارة الأميركية في رعاية اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا، اتفق البلدان بموجبه على إدارة الولايات المتحدة لمعبر زنغزور، الذي تحرص مختلف القوى الإقليمية والدولية على السيطرة عليه لترجيح كفتها في المنافسة الإستراتيجية.
4 September 2025
باشينيان (يمين) مصافحا علييف ترامب يكسب باشينيان وعلييف (الفرنسية)

ظهر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ظهر 8 أغسطس/آب 2025، بالبيت الأبيض، محاطًا بالرئيس الأذري، إلهام علييف، ورئيس الحكومة الأرميني، نيكول باشينيان، في مناسبة توقيع اتفاق سلام نهائي بين أرمينيا وأذربيجان. لم يكن توصل الدولتين المتصارعتين منذ عقود في جنوب القوقاز إلى اتفاق سلام مفاجئًا، بعد أن كانتا قد أعلنتا، في مارس/آذار الماضي، عن تقدم ملموس في مباحثات السلام بينهما. ولكن المفاجئ كان ما نصَّ عليه الاتفاق، سيما بخصوص مستقبل ممر زنغزور الذي وقف عقبة كأداء في جولات التفاوض المتقطعة منذ انتهت الحرب الأخيرة بينهما، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

طبقًا لاتفاق السلام، وافقت أرمينيا على منح الولايات المتحدة حق إدارة ممر زنغزور، الذي أصبح اسمه طريق ترامب للسلم الدولي والازدهار، والإشراف عليه لتسعة وتسعين عامًا. وستعهد الحكومة الأميركية من جهتها إلى كونسورتيوم من عدة شركات مهمة إنشاءَ خطوط سكة حديد ونفط وغاز، وربما حتى خطَّي اتصال من الألياف الضوئية والطاقة الكهربائية، عبر الممر. يقطع ممر زنغزور أقصى جنوب أرمينيا، بمحاذاة الحدود الأرمينية-الإيرانية، ليصل إقليم أذربيجان الأم بإقليم ناخشيفان، وقد ظل مغلقًا منذ اندلاع جولة الحرب الأولى بين أرمينيا وأذربيجان في مطلع التسعينات.

والمفاجأة في الاتفاق على إعادة فتح الممر؛ الأمر الذي ما كان للدولتين أن تبنيا علاقات سلم وجوار طبيعية بدونه، كانت في دخول الولايات المتحدة بهذه السهولة التوافقية إلى جنوب القوقاز وحصولها على حق إدارة الممر. يحمل هذا الدخول الأميركي إلى المنطقة دلالات إستراتيجية لكافة الأطراف المعنية، بما في ذلك أرمينيا وأذربيجان وإيران وتركيا وروسيا والصين. فكيف أمكن التوصل إلى الاتفاق، وأتيح للولايات المتحدة هذا الوجود غير المسبوق في جنوب القوقاز؟ وما الذي يعنيه هذا التطور الإستراتيجي للأطراف الأخرى ذات الاهتمام التقليدي والقديم بأمن وتوازنات القوة في المنطقة؟

النفوذ الروسي والطريق إلى اتفاق السلام

لم تختلف نظرة موسكو لدول جنوب القوقاز بعد استقلال هذه الدول في بداية التسعينات عن نظرتها إليها عندما كانت تخضع لسيطرة النظام القيصري، أو كانت مجرد وحدات فيدرالية طرفية في الاتحاد السوفيتي. يعد جنوب القوقاز، كما أوكرانيا في الغرب، مدخلًا إستراتيجيًّا إلى القارة الروسية، تحرص موسكو على أن يبقى خاليًا من أي نفوذ غربي، وعلى ألا يصبح مصدر تهديد للعمق الروسي من أي مستوى أو نوع. في صيف 2008، تدخلت روسيا بصورة مباشرة وفجَّة عندما بدا أن الحكومة الجورجية تتوجه غربًا، وبدا وكأنها تسعى إلى الانضمام لحلف الناتو. فدمرت القوات الروسية مقدرات جورجيا العسكرية، وفرضت استقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. والواضح، أن اتفاق السلام الأرميني-الأذري، وما تضمنه من تواجد أميركي في ممر زنغزور، ما كان ممكنًا دون تحول جوهري في توجهات أرمينيا، سيما أن أذربيجان كانت قد أقامت علاقات طبيعية بالقوى الغربية، والولايات المتحدة وإسرائيل على وجه الخصوص، منذ سنوات.

عندما اندلعت الجولة الأولى من الصراع الأذري-الأرميني بين عامي 1989 و1994، وقفت روسيا إلى جانب أرمينيا، التي نجحت في نهاية الحرب في بسط سيطرتها الكاملة على إقليم قره باغ، ذي الأغلبية الأرمينية في وسط أذربيجان، وعلى أجزاء أخرى من الأراضي الأذرية. أمَّنت أرمينيا في نهاية الحرب التواصل الجغرافي مع إقليم قره باغ بمساحة تفوق اتساع ممر لاتشين، الطريق التقليدي لمرور الأرمن الأذريين بين قره باغ وجمهورية أرمينيا. كما أغلقت ممر زنغزور، الذي يربط الأذريين في إقليم ناخشيفان مع أذربيجان الأم. في تلك الجولة من الصراع، وقفت روسيا إلى جانب أرمينيا، على الرغم من أن توجه باكو نحو الغرب لم يكن قد اتضح بعد، أولًا: للصلات التاريخية الوثيقة بين الأرمن وروسيا، وثانيًا: لأن أرمينيا كانت قد أصبحت عضوًا في منظمة الأمن الجماعي، التي تقودها روسيا، منذ تأسيس المنظمة في 1992، والتي اختارت أذربيجان عدم الانضمام لها.

في خريف 2020، اندلعت الجولة الأخيرة من الصراع بين أرمينيا وأذربيجان في صورة حرب طاحنة بين البلدين، استمرت لستة أسابيع. وما أن انتهت الحرب، في نوفمبر/تشرين الثاني، حتى كانت أذربيجان، بدعم تركي ملموس، قد حققت نصرًا ساحقًا، واستعادت السيطرة على معظم المناطق التي كانت تحت سيطرة القوات الأرمينية في إقليم قره باغ وجواره. لم تتدخل روسيا بصورة مباشرة هذه المرة في الحرب، وربما كان إحجام موسكو عن التدخل عاملًا لا يقل أهمية عن الدعم التركي في الانتصار الذي حققته أذربيجان.

نُشرت تفسيرات متعددة للموقف الذي اتخذته روسيا من حرب 2020، كان أقربها إلى الصحة أن موسكو عملت فعلًا خلال السنوات السابقة على اندلاع الحرب على التوصل إلى تسوية سلمية للصراع بين أذربيجان وأرمينيا، ولكن تعنت الأخيرة أفشل الجهود الروسية. وربما وجدت موسكو أن المقاربة الأفضل لحل النزاع تتطلب ترك المجال لبروز توازن قوى جديد في جنوب القوقاز، يفرض نوعًا من العقلانية على حكومة يريفان. كما كانت موسكو قد فقدت الكثير من ثقتها برئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، الذي لم يُخْفِ ميوله الغربية منذ توليه الحكم في 2018، وبدأ في فتح قنوات اتصال مع القوى الغربية، سيما فرنسا والولايات المتحدة.

ولكن موسكو لم ترفع يدها عن المنطقة وعن الصراع المحتدم بين دولتيها الجارتين الرئيسيتين. فما أن اعترف باشينيان بالهزيمة في الحرب وأمر بانسحاب كافة القوات الأرمينية من أذربيجان حتى استدعت موسكو باشينيان وعلييف إلى العاصمة الروسية؛ حيث وقَّعا اتفاقية لوقف إطلاق النار. نصَّ الاتفاق على نشر قوات سلام روسية في محيط إقليم قره باغ، بهدف حماية المواطنين الأرمن في الإقليم من القوات الأذرية، كما نص على فتح الممرات التي تربط مواطني إقليمي قره باغ وناخشيفان بكل من أرمينيا وأذربيجان. ولكن الاتفاق، الذي وُضع حينها بلغة عامة، وبهدف توكيد دور ونفوذ روسيا في المنطقة، لم يضع آليات واضحة لفتح الممرات، المسألة التي ظلت عصية على التفاوض طوال السنوات التالية.

لم يمنع الدور الروسي في التوصل إلى وقف إطلاق النار رئيس الحكومة الأرمينية من المضي في سياسة الانفتاح على الغرب. وربما كانت الهزيمة في حرب 2020 دافعًا أكبر لسياسة التوجه غربًا، التي بات باشينيان يعقد عليها الأمل في نهوض أرمينيا الاقتصادي وفي المساعدة على تعزيز مقدراتها الدفاعية والحفاظ على أمنها. وفي صيف 2021، حقق حزب العقد المدني، الذي يقوده باشينيان انتصارًا حاسمًا في الانتخابات البرلمانية المبكرة على معارضيه الذين لم يخفوا رغبتهم في العودة بأرمينيا إلى المظلة الروسية. وليس ثمة شك في أن الانتصار الانتخابي وفَّر المزيد من ثقة باشينيان بالنفس ومن الشرعية لسياسته الخارجية.

في فبراير/شباط 2022، بدأت روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا، التي سرعان ما تحولت إلى حرب مديدة. وبتقديم كافة أنواع الدعم والتأييد لأوكرانيا، أصبحت قوى التحالف الأطلسي طرفًا غير مباشر في الحرب. وسواء بسبب غرق روسيا في خضم حرب أوكرانيا باهظة التكاليف، أو لأن الحرب ألقت بظلها على خارطة التحالفات الأورو-آسيوية، أتاح تفاقم التورط الروسي في أوكرانيا نافذة أوسع لتخلص أرمينيا من ارتهانها السابق للعلاقة مع روسيا. وكانت واشنطن قد استضافت، برعاية من وزارة الخارجية الأميركية، أولى جلسات مفاوضات السلام بين أرمينيا وأذربيجان، في مايو/أيار 2023. وبالرغم من تعثر المفاوضات، فقد عاد مسؤولو الدولتين للتفاوض عدة مرات، إلى أن أُعلن عن التوصل لمسودة اتفاقية سلام في مارس/آذار الماضي.

كانت يريفان قد أعلنت، في سبتمبر/أيلول 2023، ولأول مرة، عن عقد مناورات عسكرية مشتركة بين قوات أرمينية وقوات أميركية بالقرب من العاصمة الأرمينية. وبالرغم من الاحتجاج الروسي الصاخب، فقد جرت المناورة كما خُطِّط لها. وربما مثَّلت هذه المناورات المؤشر الأوضح على أن أرمينيا، على الرغم من عدم انسحابها من معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا منذ بداية التسعينات، لم تعد تكترث بالحفاظ على العلاقات الخاصة بروسيا، ولا بهموم روسيا الجيوسياسية في جنوب القوقاز.

من جهة أخرى، كان مسؤولو الحكومة الأرمينية، بمن فيهم باشينيان نفسه، قد بدؤوا، منذ صيف 2021، سلسلة من اللقاءات مع نظرائهم الأتراك بهدف استعادة العلاقات بين البلدين. وبدعوة وزير خارجية أرمينيا، أرارات ميرزويان، إلى مؤتمر أنطاليا الدولي، في أبريل/نيسان الماضي 2025، وحديثه الواضح عن أن أرمينيا تعمل على تطبيع العلاقات مع تركيا في كافة المجالات، السياسية والاقتصادية، كما مجالات الاتصالات والطيران، لم يعد ثمة شك في طبيعة المسار الذي اتخذته حكومة باشينيان، سواء في السعي إلى سلام دائم مع أذربيجان، أو في تقديم العلاقة مع تركيا، الجارة الكبيرة وبوابة أرمينيا على العالم، على العلاقة مع روسيا وإيران.

أصداء جيو–إستراتيجية لاتفاق السلام

لا يزيد طول ممر زنغزور عن الأربعين كيلومترًا، ولكن موقع هذا الممر القصير يجعله محل اهتمام كبير لعدد من القوى الإقليمية والدولية، وليس لأرمينيا وأذربيجان وحسب. والواضح أن الحل الذي يطرحه اتفاق السلام الأرميني-الأذري لمشكلة ممر زنغزور يقسم القوى ذات العلاقة بالممر وبالموقع الجيو-إستراتيجي لجنوب القوقاز إلى رابحين وخاسرين.

أول الرابحين، بالطبع، هما أذربيجان وأرمينيا، اللتان ستضعان حقبة الحرب والصراع خلفهما، وتبدآن عهدًا جديدًا من السلم والتنمية ومحاولة بناء مناخ تصالحي بين شعبيهما، اللذين ربطت الجغرافيا بين مصيريهما منذ قرون طويلة. فالاتفاق يعيد الاتصال المباشر والقصير بين باكو وإقليم ناخشيفان، ويؤمِّن الطريق الواصل بين أرمينيا وإقليم قره باغ، ويتيح مجالًا واسعًا للنهوض الاقتصادي في الدولتين، سواء من خلال الانفتاح متعدد الأبعاد على تركيا، أو باستغلال موقعهما الذي يوفر أقصر طريق بين أوروبا وآسيا.

وتقف تركيا بالتأكيد في معسكر الرابحين، على الرغم من أنها ربما كانت تأمل في أن يقتصر حل مسألة ممر زنغزور على الأطراف الإقليمية، دون استدعاء أي من القوى العظمى. ولكن، لأن العلاقات التركية-الأميركية هي في العموم أقرب إلى التحالف منها إلى الصدام، فإن وجود الولايات المتحدة مشرفًا على الممر وضامنًا له، لا يشكِّل مصدر قلق كبيرًا لأنقرة. وبفتح الممر، سيُفتح الطريق على مصراعيه بين تركيا وأذربيجان ودول وسط آسيا التركية الأخرى. وستؤكد تركيا بذلك موقعها من جديد باعتبارها بوابة الطريق البري الرئيسية بين الشرق والغرب، بكل ما تعنيه هذه الطريق للتجارة العالمية ولإمدادات الطاقة.

لذلك، لم يكن غريبًا أن تبدأ تركيا، في 22 أغسطس/آب 2025، مباشرة بعد أيام قليلة من توقيع اتفاق السلام، إنشاء خط سكة حديد يصل مدينة قارص التركية في أقصى الشمال الشرقي بإقليم ناخشيفان الأذري. وقد أُعلن في أنقرة أن خط سكة الحديد الجديد، الذي ستبلغ تكلفته 2.4 مليار يورو، سينتهي بناؤه في 2029. ومن قارص، بالطبع، يمكن الانتقال برًّا إلى أي من موانئ البحر الأسود الرئيسة، أو التوجه عبر الأناضول إلى البحر المتوسط.

الرابح الرئيس الآخر هو الولايات المتحدة. فمنذ بدأت خطواتها الأولى في الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية باعتبارها القوة القائدة للمعسكر الغربي، لم تستطع الولايات المتحدة تأمين موطئ قدم لها في جنوب القوقاز أو وسط آسيا، لا في عهد الاتحاد السوفيتي ولا بعد نهاية الحرب الباردة. وبقيامها بدور الوسيط للتوصل إلى اتفاق السلام الأرميني-الأذري، وقبول الدولتين تعهدها الإشراف على ممر زنغزور، وتأمينه وتطويره، تؤسس الولايات المتحدة لوجود دائم في جنوب القوقاز يؤهلها للتأثير على إيران، من ناحية، وبناء علاقات أوثق مع دول وسط آسيا، ولعب دورٍ ما في التحكم بأحد طرق الاتصال الكبرى بين الشرق والغرب، من ناحية أخرى.

أما معسكر الخسارة فيضم كلًّا من روسيا وإيران. فروسيا تخسر بصورة كبرى وغير متوقعة، لأن اتفاق السلام يحمل مؤشرًا واضحًا على أن كلًّا من أرمينيا وأذربيجان حسمتا أمرهما بالتوجه غربًا. كما أن وجود الولايات المتحدة المديد في ممر زنغزور، على الرغم من أن هذا الوجود قد لا يكون عسكريًّا، على الأقل في مراحله الأولى، يضع الأميركيين، ولأول مرة على الإطلاق، في المدخل الجنوبي للاتحاد الروسي؛ الأمر الذي قاومته موسكو بالقوة المدمرة في جورجيا، 2008.

وتخسر إيران، ليس فقط لأن الاتفاق يأتي بالولايات المتحدة إلى جوارها الشمالي، ولكن أيضًا لأن فتح ممر زنغزور يقطع طريق إيران إلى أرمينيا، ومنها إلى جورجيا والقوقاز الروسي. ولأن طريق تركيا إلى دول وسط آسيا كان يمر بشمالي إيران، فإن فتح الممر ينزع من إيران إحدى أهم أوراق التحكم في عملية التبادل التجاري بين الشرق والغرب. وفي حين كانت إيران دائمًا حليفًا إقليميًّا لأرمينيا، فإن اتفاق السلام ينطوي على ميل توازن القوى في جنوب القوقاز لصالح أذربيجان وتركيا. وقد يحمل هذا التطور مخاطر على وضع الأذريين الإيرانيين الذين يفوق عددهم عدد سكان أذربيجان نفسها، وتنتشر بينهم الميول القومية.

وقد أعرب مسؤولون إيرانيون، لاسيما علي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الإيراني الأسبق ومستشار المرشد الحالي، عن مواقف غاضبة من اتفاق السلام الأرميني-الأذري، مباشرة بعد توقيع الاتفاق. وفي 18 أغسطس/آب 2025، قام الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، بزيارة رسمية ليريفان، التقى فيها نظيره الأرميني، نيكول باشينيان. ولأن طهران، التي عارضت دائمًا فتح ممر زنغزور، أدركت أن التراجع عن الاتفاق لم يعد ممكنًا، فالمؤكد أن الرئيس الإيراني كان يبحث عن ضمانات أمنية. ولا شك أن باشينيان أكد لضيفه الإيراني أن الوجود الأميركي في ممر زنغزور لن يكون عسكري الطابع. ولكن، من غير الواضح ما إذا كان مثل هذا التفسير للاتفاق كافيًا لتطمين الإيرانيين.

أما الصين، التي أخذت تحل محل روسيا في وسط آسيا خلال العقد الماضي، وبدأت بالفعل منذ 2023 في تنظيم قمة سنوية، تجمعها بقادة دول وسط آسيا الخمس، فيصعب تقدير ربحها أو خسارتها. ففتح ممر زنغزور يوفر جسرًا أقصر لما بات يُعرف بالممر الأوسط (Middle Corridor)، الذي عملت بيجين منذ سنوات على تشغيله ضمن مشروع شبكة التجارة البرية والبحرية بين الشرق والغرب، المعروف بمبادرة الحزام والطريق. وربما كانت الصين، مثل تركيا، تأمل في أن يُفتح ممر زنغزور بإرادة دول الإقليم، ودون وجود أميركي. ولكن، ومهما كان الوضع في ممر زنغزور، فإن الصين، التي ترتبط بعلاقات جوار مع عدة دول وسط آسيوية، مثل باكستان وأفغانستان، تتمتع بموقع جيو-إستراتيجي أفضل بكثير من أية قوة كبرى أخرى.

استقرار مديد أو مجرد مرحلة انتقالية

يمكن للممر الأوسط بين الشرق والغرب أن يمر بجورجيا ومنها إلى تركيا، ومن ثم إلى البحر المتوسط أو عبر البوسفور إلى البلقان وأوروبا. وهذه هي الطريق التي تسلكها إمدادات الغاز والنفط الأذرية منذ إقفال ممر زنغزور، وطريق قطار الشحن التجاري الصيني، الذي بدأ تشغيله في رحلات معدودة ومتباعدة خلال العامين الماضيين. ولأن روسيا استعادت الكثير من نفوذها في جورجيا خلال السنوات الماضية، فيمكن القول: إن خسارتها في جنوب القوقاز لا تعني أنها خسرت دورها في التحكم بطرق اتصال الشرق والغرب كلية.

ولكن مثل هذا التقدير يبدو أقرب إلى تعزية النفس منه إلى قراءة الواقع الجيو-سياسي الهائل لاتفاق السلام الأرميني-الأذري. فالنفوذ الروسي في جنوب القوقاز ليس نفوذًا مستجدًّا، فقد بدأ توسع روسيا القيصرية في القوقاز منذ العقود الأولى للقرن التاسع عشر. وحتى عندما بدا أن دول المنطقة ستستقل عن روسيا بفعل خلل القوة الذي صاحب الثورة البلشفية، عاد الجيش الأحمر ليفرض السيطرة السوفيتية على دول القوقاز كافة. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حققت دول جنوب القوقاز، كما دول وسط آسيا ودول البلطيق وأوكرانيا، استقلالها. ولكن الاعتبارات الجيو-إستراتيجية دفعت موسكو ما بعد الحقبة السوفيتية للدفاع عن نفوذها في جنوب القوقاز ووسط آسيا، بكافة الوسائل الممكنة.

وهذا ما يطرح السؤال الكبير عما إذا كان الاتفاق حول ممر زنغزور هو بالفعل بداية عهد مديد من السلم والتعاون والازدهار في جنوب القوقاز، أو أنه لن يمثل سوى مرحلة انتقالية قصيرة، وأن روسيا لن تلبث أن تعود بعدها إلى المنطقة بطريقة أو أخرى. هذا، بالطبع، اتفاق سلام إطاري، ولا تزال هناك العديد من التفاصيل التي ينبغي التفاوض حولها قبل أن يتضح حجم ومستوى الوجود الأميركي في المنطقة، وتعيين الجهات التي سيوكل إليها مشروع تطوير الممر وكيفية إنجاز هذا المشروع. وكما نجحت روسيا في استعادة نفوذها في جورجيا خلال العقد الماضي، واضطرت إلى الدفاع عن أمنها الإستراتيجي في أوكرانيا بالقوة العسكرية، فربما ينبغي الانتظار قليلًا قبل أن تتضح نوايا موسكو تجاه الانتقال الأرميني-الأذري غربًا.