فكفكة التشابكات: رهانات تباطؤ التسوية الكردية في تركيا

تتسم عملية تسوية المسألة الكردية في تركيا ببطء نتيجة التباينات بين القوى المتنازعة، وارتباط بعضها بامتدادات خارجية، لكن القيادة التركية تبدو مصممة على إنجاح التسوية التاريخية.
3 October 2025
إردوغان يعد بترميم أهم شرخ داخلي (الأناضول)

ألقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، السبت، 11 يوليو/ تموز 2025، خطابًا تمحور حول تطورات عملية تسوية المسألة الكردية ووضع نهاية للإرهاب في البلاد. كان الأتراك ينتظرون خطابًا مهمًّا، أو ما وصفه البعض بالتاريخي، للرئيس، ولكنهم لم يكونوا على دراية بفحوى الخطاب، وما إن كان سيتناول ملف السلم الأهلي وعلاقته بالمسار الذي بدأ بالفعل نحو حل حزب العمال الكردستاني وإلقاء سلاحه.

جاء خطاب الرئيس في لقاء حاشد لقيادات حزبه وحكومته، ولكن الواضح أنه كان يتوجه لكافة شرائح الشعب التركي، بل ولعموم شعوب الجوار التركي. قال أردوغان في خطابه: إن الأتراك والعرب والأكراد إخوة، يجمعهم الدين والتاريخ، وإن عليهم أن يصوغوا مستقبل المشرق معًا كما صاغوا تاريخه معًا. وفي لغة مفعمة بالموروث والعواطف، ذكَّر الرئيس مستمعيه بأن وحدة الترك والعرب والكرد هي التي صنعت روح الانتصار في ملاذ كرد، وتحالف تحرير القدس من الصليبيين، وحرب استقلال تركيا الحديثة. "عندما شكَّلنا تحالفًا"، قال أردوغان، "هبَّت رياح خيولنا نسائم باردة، من بحر الأدرياتيك إلى بحر الصين".

دعا أردوغان في خطابه إلى حل المسألة الكردية بالحوار والتفاوض، بلا إرهاب ولا سلاح. وقال: "لقد قررنا، على الأقل كثلاثي، حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، اتباع هذا المسار. ثمة تحديات أمامنا، ولكن بتكاتفنا سنتجاوز هذه العقبات، إن شاء الله". وأكد أن ليس قضية كرد تركيا وحسب هي ما يشغله، ولكن الأكراد في العراق وسوريا أيضًا.

في السنوات الأولى من رئاسته لحزب العدالة والتنمية وللحكومة التركية، سبق لأردوغان أن تحدث بلغة التضامن الوطني، ولكنه لم يتحدث من قبل بمثل هذا اللغة غير القومية للشعب التركي، وشعوب الجوار. صحيح أن هذا قد يكون مجرد خطاب عابر لرئيس الدولة، وليس نصًّا دستوريًّا؛ ولكن ليس من المستبعد أن تتحول التوجهات التي حملها خطاب أردوغان حول فئات الشعب التركي والأسس الجديدة لاجتماعه السياسي إلى نص دستوري. أعرب الرئيس التركي عن عزمه على كتابة دستور جديد للبلاد قبل نهاية ولايته، كما أن الأكراد في حزب العمال الكردستاني وخارجه يأملون أن تنتهي عملية السلام بتعديل دستوري.

في 26 سبتمبر/أيلول، بعد مرور أكثر من شهرين على خطاب أردوغان بالغ التفاؤل، عقد نعمان كورتولموش، رئيس البرلمان التركي، وأحد الشخصيات الفاعلة في مشروع السلم الأهلي، مؤتمرًا صحافيًّا لمناقشة أعمال اللجنة البرلمانية المكلفة بالعمل على حل الإشكالات القانونية المتعلقة بحل حزب العمال الكردستاني. أكد كورتولموش أن اللجنة ماضية في عملها بخطوات حثيثة، ولكنه لم يُخْفِ قلقه من تباطؤ خطوات حزب العمال نحو نهاية العمل المسلح والتخلص من السلاح، ودعا قيادات الحزب إلى اتخاذ مزيد من الخطوات. وقال كورتولموش: إن خطوات أخرى ملموسة من حزب العمال على طريق الحل، ستوفر دعمًا إضافيًّا لعمل اللجنة.

كان دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية، المتحالف مع العدالة والتنمية منذ سنوات، والذي يُنظر إليه باعتباره الحزب الحارس للهوية التركية، من أطلق عملية السلم والتعاضد الأهلي، في أكتوبر/تشرين الأول 2024. دعا بهتشلي في مبادرته إلى أن يكون حل حزب العمال الكردستاني أولى خطوات هذه العملية. ولكن مبادرة بهتشلي لم تكتسب سمة جدية إلى أن أعلن زعيم حزب العمال الكردستاني ومؤسسه، عبد الله أوجلان، من سجنه، في نهاية فبراير/شباط 2024، الدعوة لحل الحزب والتخلي عن الكفاح المسلح.

أعرب الرئيس التركي مبكرًا عن تأييده لمبادرة بهتشلي، ولكن أردوغان لم يُظهر من قبل ثقة في تحقق المسار الذي تضمنته مبادرة بهتشلي كما أظهر في خطاب يوليو/تموز. والواضح أن مشهد قيام مجموعة صغيرة من مقاتلي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، في اليوم السابق على خطاب أردوغان، بإلقاء السلاح وحرقه، طبقًا لتفاهمات مع الاستخبارات التركية، التي تدير الاتصالات بين الدولة والحزب، فرض نفسه على مجمل الساحة السياسية التركية وأطرافها المختلفة، وأسس للتفاؤل الذي حمله خطاب الرئيس التركي.

فكيف انقلبت أجواء التفاؤل بالحل التاريخي للمسألة الكردية إلى قلق ملموس من تباطؤ الخطوات نحو إنجاز الحل؟ وإلى أي حدٍّ يمكن الثقة بالتقدم في عملية التعاضد والوحدة الوطنية التركية، التي أصبحت العنوان الرسمي لحل المسألة الكردية ونهاية العنف الأهلي المسلح المرتبط بها؟ وكيف يمكن أن يُقرأ أفق هذه العملية وأثرها على بنية الدولة التركية، وعلى نظام الحكم؟

خلفية من التفاهمات وليس اتفاقًا محدد المعالم

المؤكد أن مسار حل المسألة الكردية لم يُطلق من صفقة تم التوصل إليها بين تحالف حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، من جهة، وحزب العمال الكردستاني، من جهة أخرى. لم يكن هناك تفاوض مسبق أفضى إلى إطلاق بهتشلي لمبادرته. والمؤكد، أن مبادرة بهتشلي فاجأت كافة أطراف الساحة السياسية التركية، بمن في ذلك حلفاؤه في العدالة والتنمية.

ما حدث أن السياسي التركي العجوز، المراقب العتيد لشؤون الدولة التركية وتحولاتها منذ أكثر من نصف قرن، وصل إلى قناعة بأن نهوض تركيا يستدعي إعادة النظر في الأسس التي أقيمت عليها علاقة الدولة بشعبها منذ ما يزيد عن المئة عام، وأن حزب العمال الكردستاني في وضع المهزوم بحيث بات من غير المجدي استمرار الحزب في تبني الكفاح المسلح ضد الدولة. ويرى بهتشلي أن ثمة متغيرات إقليمية كبرى تضع تركيا أمام مفترق طرق: طريق التحصن وتعزيز الوحدة الداخلية، وطريق الخضوع أمام المهدِّدات المحتملة. ويقدِّر مراقبون أتراك على صلة وثيقة بحكومة العدالة والتنمية ودوائر حزب العمال الكردستاني أن بهتشلي اختار التوقيت الصحيح لإطلاق مبادرته. بدون التوقيت الصحيح ما كان للمبادرة أن تجد صدى إيجابيًّا لدى مؤسسات الدولة الرئيسة، من جانب، وقيادة حزب العمال الكردستاني، في الجانب الآخر.

ولكن التقدم على طريق تحقق أهداف المبادرة كان بطيئًا، وتطلَّب جهودًا هائلة من مسؤولي الحكومة وقادة مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، كما من قيادات حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، والممثَّل في البرلمان التركي. ولتعزيز هذا التقدم، قررت الدولة التركية، بدون إعلان رسمي، إنهاء العزل المفروض على عبد الله أوجلان في سجنه، وسُمح له باستقبال زوار سياسيين ومن عائلته.

التقى ممثلون من حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب بأوجلان أكثر من مرة، كما التقوا ببهتشلي، وبالرئيس أردوغان، وقيادة حزب الشعب الجمهوري المعارض، ورئاسة البرلمان. وفي موازاة نشاطات حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، عقد أردوغان وبهتشلي مباحثات ثنائية حول المسألة الكردية عدة مرات؛ كما تحرك رئيس الاستخبارات التركية، جهاز الدولة الرئيس المكلف بالتعامل مع الملف، في عدة اتجاهات، بما في ذلك زيارة لأربيل وإجراء مباحثات مع قيادات إقليم كردستان العراق.

ويبدو أن خارطة طريق عامة قد تطورت تدريجيًّا خلال هذه التحركات، بداية من نداء أوجلان الداعي لحل حزب العمال الكردستاني، في 27 فبراير/شباط، ووصولًا إلى مؤتمر عام الحزب، في 12 مايو/أيار 2025، الذي أعلن عن حل الحزب وإلقاء السلاح. وقد بادر ما يقارب 30 عنصرًا من مسلحي الحزب بالفعل، في 10 يوليو/تموز، بالتخلي عن، وإلقاء السلاح إلى النيران، في احتفال استعراضي جرى تنظيمه بمنطقة دوكان، إلى الشمال الغربي من مدينة السليمانية، وشهده مسؤولون أتراك وعراقيون.

في المقابل، اقترح بهتشلي، في 18 مايو/أيار، تشكيل لجنة برلمانية، تضم أعضاء من كافة الأحزاب الممثَّلة في البرلمان، للإشراف على الجوانب القانونية لعملية نهاية الإرهاب وتعزيز السلم الوطني. وقد قام البرلمان التركي بالفعل بتشكيل اللجنة البرلمانية، في 5 أغسطس/آب، باسم لجنة التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية، وأقرَّ القانون الذي ينظم عملها ويحدد أهدافها. كان الهدف أن تضم اللجنة 51 عضوًا برلمانيًّا، يتم اختيارهم بالتناسب من كافة الأحزاب الممثلة في البرلمان، ويرأسها رئيس البرلمان نفسه. ولكن رفض الحزب الجيد، اليميني ذي التوجه القومي، للعملية برمتها وإحجامه عن المشاركة في اللجنة، جعلها لجنة من 48 عضوًا. بدأت اللجنة نشاطها مباشرة بعد تشكيلها، بغضِّ النظر عن إجازة الصيف البرلمانية، في توكيد يبين جدية عملها والحرص على حمل أعباء المهمة التي أوكلت لها.

وكان المفترض، طبقًا لقانون تشكيلها والتفاهمات السياسية المسبقة، أن تعمل اللجنة في خطين: الأول: ويتعلق باستطلاع آراء الشعب التركي تجاه عملية السلام، وحدود ما يمكن للدولة أن تقوم به للدفع بالعملية إلى نهاياتها، واستقبال عناصر حزب العمال الكردستاني، بل والتأثير في الرأي العام لتحقيق هذه الأهداف. أما الثاني، فاقتراح الأرضية التشريعية لعودة ودمج الآلاف من المسلحين في المجتمع من جديد، بعد اكتمال حل حزب العمال.

ما يضفي أهمية خاصة على عمل اللجنة أن الترتيبات المسبقة لمسيرة السلم الأهلي تتضمن سماح الدولة التركية للمسلحين الأكراد الذين لم توجَّه لهم اتهامات جنائية بالعودة إلى البلاد واستئناف حياتهم الطبيعية. ولأن عقودًا من العنف المسلح الذي تعهده حزب العمال تركت إرثًا مريرًا من الدماء والثارات في مختلف أنحاء البلاد، كان من الضروري أن تقوم اللجنة بما يشبه استطلاع وإعادة تجهيز الرأي العام التركي للتعايش مع عودة آلاف المسلحين إلى الحياة العادية في المدن والبلدات والقرى التي نشؤوا فيها، أو لا تزال تربطهم بها صلات عائلية.

أما قيادات حزب العمال الكردستاني، والعناصر المتهمة بارتكاب جرائم إرهابية، وليس مجرد الانتماء للحزب، فسيُعمل على خروجها من العراق إلى عدة بلدان أخرى، ربما لحياة من اللجوء، التي قد تستمر لعدة سنوات أخرى قبل أن تجد تركيا طريقًا لإلقاء سنوات الإرهاب والألم خلف ظهرها. وستُطبق الإجراءات نفسها على أعضاء خلايا الحزب داخل تركيا (الذين يُعتقد أنهم باتوا يعدون بالعشرات، أو المئات القليلة). ولكن المتوقع أن تجد اللجنة البرلمانية وسيلة للعفو عن القيادات السياسية التي حُكم عليها بالسجن لعلاقتها بحزب العمال، مثل صلاح الدين دميرتاش، الرئيس المشارك السابق لحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، كما للموافقة على خروج أوجلان من سجنه إلى إقامة محددة.

بدأت اللجنة البرلمانية عملها بالفعل بعقد جلسات استماع وتبادل رأي مع كافة قوى المجتمع التركي: أكاديميين، ونقابات عمالية، وأمهات المختفين أو المخطوفين، ورجال أعمال، ومحامين، وكتَّابًا وصحافيين، وقوى السياسية، ومراكز الدراسات، وغيرها. وإضافة إلى أن اللجنة التقت بمسؤول الاستخبارات التركية السابق، هاكان فيدان، في مطلع عملها، فقد أشار رئيس البرلمان ورئيس اللجنة في مؤتمره الصحافي الأخير إلى أن اللجنة البرلمانية قد تقوم باستدعائه من جديد. ولكن، وعلى الرغم من مرور ما يقارب الشهرين على تشكلها، ليس ثمة مؤشرات بعد على أن اللجنة بدأت وضع مشروع القانون الخاص باستيعاب المسلحين بعد حل حزب العمال والتخلي عن السلاح. وتعد هذه المسألة من وجهة نظر المتعاطفين مع حزب العمال أحد أبرز أسباب التقدم البطيء في عملية السلام. لكن قد لا يكون ذلك هو السبب الوحيد أو الرئيسي، بل إن هناك أسبابًا أخرى خلف هذا التباطؤ، لا تقل أهمية.

عقبات في طريق عملية السلام

ليس ثمة شك في أن عديد جلسات الاستماع التي عقدتها اللجنة البرلمانية، لجنة التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية، مع كافة شرائح المجتمع التركي تصب في صلب المهمات التي أُوكِلت للجنة. ولكن من غير الواضح لماذا لم تتحرك اللجنة حتى الآن لوضع مشروع القانون المتعلق بعودة مسلحي حزب العمال إلى الحياة الطبيعية، والعفو عن قياداته المحكومين بالسجن.

ثمة من يرى في أنقرة أن نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذين يشكِّلون الكتلة الأكبر في اللجنة، كما هم في البرلمان الحالي، يُظهرون شيئًا من التردد في دعم العملية برمتها، وأن بعضهم يتحسس من ردَّة فعل المجتمع التركي، سيما أهالي ضحايا سنوات القتال، تجاه استيعاب مسلحي الحزب؛ بينما يبدو أن آخرين كأنهم أصبحوا أكثر قومية من نواب حزب الحركة القومية نفسه.

أما المصادر الرسمية فتقول: إن اللجنة في الحقيقة تنتظر مزيدًا من الخطوات الملموسة من حزب العمال في اتجاه الحل والتخلي عن السلاح، قبل أن تقوم بالخطوة الحاسمة لطرح مشروع القانون. ويشير أصحاب هذا التقدير إلى أن التفاهمات المسبقة حول تقدم عملية السلام تضمنت اتفاقًا أوليًّا على جدول زمني من ثلاثة إلى خمسة شهور لقيام مسلحي حزب العمال بالتخلي عن السلاح، وتحديد المواقع التي سيجري فيها تسليم السلاح. ويشيرون إلى أن حزب العمال لم يزل يجرُّ خطاه بتثاقل واضح نحو البدء في تطبيق هذه التفاهمات، ربما لأن ثمة قيادات بارزة في الحزب، سيما أولئك الذين تربطهم علاقات ما بإسرائيل وإيران، كانوا قد قبلوا بقرار مؤتمر عام الحزب بالحل على مضض، وظلوا ينتظرون الفرصة لوقف إجراءات المضي به قدمًا.

أما السبب الأبرز خلف تباطؤ العملية فيتعلق بمستقبل المسألة الكردية في سوريا، التي لا تعد جارًا لصيقًا بتركيا وحسب، بل تُعد تركيا القوة الإقليمية الرئيسة التي تقف خلف نظام حكمها الجديد. وتتعلق المشكلة هنا بمعضلة من جانبين متصلين: تعثر تطبيق اتفاق مارس/آذار بين مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، والرئيس السوري، أحمد الشرع، وتباين النظر إلى علاقة قوات حماية الشعب الكردية (التي تشكِّل عماد قوات سوريا الديمقراطية) بحزب العمال الكردستاني، وما إن كان قرار حل الحزب ينطبق على القوى الكردية المسلحة في سوريا أو لا.

ما يقوله مسؤولون كبار في أنقرة، سيما وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، الذي يتابع باهتمام الوضع في دمشق ومستقبل سوريا أن القيادة الكردية في شمال شرقي سوريا هي المسؤولة عن تعثر تطبيق اتفاق مارس/آذار، وإن قوات حماية الشعب ليست سوى فرع لحزب العمال الكردستاني، وإن قرار حزب العمال بحل نفسه لابد أن ينطبق على قوات حماية الشعب كذلك. ويلوِّح هؤلاء المسؤولون الأتراك بأن رفض قوات حماية الشعب، وقوات سوريا الديمقراطية، حل نفسيهما والانضواء في جسم الدولة السورية، سيؤدي في النهاية إلى تدخل عسكري تركي-سوري لحسم الموقف في شمال شرقي سوريا.

من جهة أخرى، تجادل القيادات الكردية السورية، بتأييد من قيادة حزب العمال الكردستاني، بأنه وعلى الرغم من الصلات التقليدية بين حزب العمال وقوات حماية الشعب، فإن المسألة الكردية في سوريا لابد أن يُنظر إليها من خلال السياق السوري، وبصورة منفصلة كلية عن المسألة الكردية في تركيا أو العراق، ويجب أن تُترك لعملية التفاوض المستمرة بين دمشق والقيادات الكردية في الشمال الشرقي.

المفترض، بالطبع، أنه مهما اختلفت وجهتا النظر حول الوضع في سوريا ألا يكون لهذا الخلاف من أثر فعلي على عملية السلام في تركيا. في الواقع، تُستخدم المسألة الكردية في سوريا من أطرافها الثلاثة لكسب الوقت وتعزيز أوراق التفاوض والمساومة. قيادات حزب العمال تريد الحفاظ على الورقة السورية احتياطًا لمواجهة العواقب السلبية لحل ذراعها التنظيمية في تركيا؛ وقيادات قوات حماية الشعب تريد الانتظار إلى نهاية المسألة الكردية في تركيا، مراهنة على أن يفضي ذلك إلى تضاؤل الضغط والتدخل التركيين في الساحة السورية؛ بينما يسعى عدد من المسؤولين الأتراك إلى حل المسألتين الكرديتين في تركيا وسوريا في وقت واحد، حتى إن نجم عن ذلك تباطؤ عملية السلام في تركيا نفسها.

خطى بطيئة نحو منعطف تاريخي     

ليس ثمة شك في أن مبادرة حل المسألة الكردية، واستجابة حزب العمال الكردستاني للمبادرة، مثَّلت واحدة من أهم المنعطفات في تاريخ الجمهورية التركية، وربما حتى في تاريخ الجوار الإقليمي برمته. كانت تكلفة انطلاق العمل الكردي المسلح في بداية الثمانينات، واستمراره طوال العقود الأربعة الماضية، باهظة بلا شك. تركت سنوات الاقتتال ما يزيد عن الخمسين ألف ضحية من الأتراك والأكراد على السواء، وأوقعت دمارًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا واسع النطاق في مقاطعات جنوب شرقي تركيا، وأحدثت انقسامًا عميقًا في صفوف الشعب التركي. اليوم، تفتح مبادرة تعزيز السلم الأهلي وتسوية المسألة الكردية فرصة غير مسبوقة أمام تركيا للتخلص من عبء العنف والانقسام الثقيل، وإعادة بناء العلاقة بين الدولة وكافة قطاعات شعبها على أسس جديدة، وإغلاق باب التدخلات الأجنبية في هذا الملف الشائك.

ولكن الواضح أيضًا أن ليس كافة اللاعبين الفاعلين في عملية السلام والحل على توافق بأهمية المنعطف الذي تمر به تركيا وحساسية مقاربة المسألة الكردية، وأن البعض يتعامل بصورة تكتيكية بحتة مع عملية ذات طابع إستراتيجي ووجودي. كانت الخشية من البداية أن يفتح جدول عملية السلام الزمني، الطويل نسبيًّا، الباب لمجموعات رافضة لقرار حل حزب العمال والتخلي عن العمل المسلح، أو لقوى إقليمية ودولية لا تريد لتركيا الخروج من عقود القتال المسلح، أو لعناصر نافذة في الساحة السياسية التركية، التي تعطي الأولوية لمصالحها الشخصية أو الفئوية، لتعطيل عجلة عملية السلم والتعاضد الوطني.

ولكن هذا، وعلى أهميته، ليس سوى جانب واحد من العملية؛ إذ إن ثمة مؤشرات على أن التباطؤ في عملية السلام لا يعني بالضرورة فشل العملية وتوقفها. الجانب الآخر يتعلق بضرورة إعادة النظر في أسس المواطنة والهوية داخل تركيا؛ وهذه مسألة دستورية جوهرية، وليست مجرد مسألة قانونية. قد تكون الدولة وحزب العمال لم يتفقا على صفقة قبل عملية السلام ولا أي من خطواتها، ولكن المؤكد أن الجانب الكردي، بما في ذلك عبد الله أوجلان، الذي يظهر باعتباره أكثر المتحمسين للعملية، يتوقع أن تقوم الدولة التركية، وليس بالضرورة في المدى القصير، بتعديلات دستورية في المواد المتعلقة بتعريف المواطنة والمساواة بين المواطنين. والسؤال الذي يخيم على أجواء العاصمة التركية أنه إن كان طرح تشريع يمهد لعودة واستيعاب المقاتلين الأكراد استهلك كل هذا الوقت، فهل ثمة أمل فعلًا في أن تتفق القوى السياسية التركية على تعديل دستوري؟

أما على الصعيد الإقليمي، فمهما كان الخلاف حول صلة حزب العمال الكردستاني بقوات حماية الشعب في سوريا، أو الخلاف حول علاقة الملفات الكردية في دول الإقليم ببعضها البعض، فليس ثمة شك في أن التسوية السلمية للمسألة الكردية في تركيا ستترك آثارًا كبيرة على مستقبل المسألة الكردية في كافة دول المشرق، سيما إن انتهت العملية في تركيا بتعديل دستوري مرض لأغلب فئات الشعب التركي. فمن الصعب تصور التوصل إلى حل نهائي للمسألة الكردية في تركيا، التي تضم أكبر عدد على الإطلاق من الشعب الكردي، بدون أن يتردد صدى هذا الحل في العراق وسوريا وإيران. والسؤال الذي لابد أن يطرحه هذا التطور في مقدرات المشرق هو ما إن كان هذا كله سيفتح الباب في النهاية لإعادة النظر في مفهوم سيادة الدولة وحدودها وعلاقات شعوبها ببعضها البعض.