بعد انسحاب أميركا: مستقبل الاتفاق النووي الإيراني رهن بكفاءة الإجراءات الأوروبية

تبحث الورقة في الخيارات المتاحة أمام طهران للتعامل مع تداعيات قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالانسحاب من الاتفاق النووي الذي وُقِّع بين إيران ومجموعة "5+1"، وما إمكانيات الحفاظ عليه مع خمس دول فقط، وهو ما يحتاج إلى إجراءات سياسية واقتصادية أوروبية تثبت جدية وجدوى هذا السيناريو.
9 مايو 2018
a05c34cde82740d8875cd6aa3a4be113_18.jpg
الاتحاد الأوروبي يعارض الموقف الأميركي ويعتبر فشل الاتفاق النووي تصعيدًا غير مسبوق في الشرق الأوسط والعالم (رويترز)

مقدمة 

بتوقيعه قرار الانسحاب من الاتفاق النووي، يكون الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد عاد بملف العلاقات الأميركية-الإيرانية إلى ما قبل فترة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، مع مؤشرات وتأكيدات قوية بأن الفترة القادمة ستكون شاهدًا على أنواع جديدة من العقوبات الأميركية ضد إيران بصورة غير مسبوقة من حيث صرامتها والقطاعات التي ستشملها. في المقابل، تقف الأطراف الأوروبية وكذلك الصين وروسيا مواقف معارضة للموقف الأميركي ومؤكدة على ضرورة الإبقاء على الاتفاق وحمايته، وترى هذه الأطراف -وهي التي وقعت الاتفاق النووي في 14 يوليو/تموز 2015 بالعاصمة النمساوية، فيينا، بعد سلسلة من المفاوضات المعقدة والطويلة- أن فشل الاتفاق يعني تصعيدًا غير مسبوق في الشرق الأوسط والعالم قد يجر المنطقة إلى حرب شاملة. تبحث هذه الورقة في الخيارات المتاحة أمام طهران للتعامل مع الخطوة الأميركية، وما هي إمكانيات الحفاظ على الاتفاق مع خمس دول فقط، وهو ما يحتاج إلى إجراءات سياسية واقتصادية تثبت جدية وجدوى هذا السيناريو. وتُعَدُّ الورقة جزءًا من ملف المتابعة التحليلية الذي أعدَّه مركز الجزيرة للدراسات لرصد مآلات الاتفاق النووي ومواقف الأطراف المشاركة في توقيعه. 

رغبة أوروبية بحماية الاتفاق 

فيما تُظهر إسرائيل سعادتها بقرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي انتظرته بفارغ الصبر ووصفه رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بالقرار الشجاع،  تبدو الأطراف الأوروبية عازمة على مواصلة السعي للحفاظ على الاتفاق حتى مع انسحاب الطرف الأميركي، ويتحدث الاتحاد الأوروبي عن أن الاتفاق حمل نتائج إيجابية لجميع الأطراف ويؤكد استعداده لحماية استثماراته الاقتصادية التي أنتجها الاتفاق مع دعوة واضحة لإيران بأن لا تحذو حذو الولايات المتحدة الأميركية وتقرر الخروج من الاتفاق مما يقود إلى انهياره. واعتبرت مسؤولة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فيدريكا موغيريني، أن الاتفاق النووي أفضل إنجاز دبلوماسي مع إيران، لكن الحفاظ على هذا "الإنجاز" قد يتطلب من الاتحاد الأوروبي سياسات لا تُرضي الولايات المتحدة الأميركية. 

ويرى روبرت مالي، وهو أحد مستشاري الرئيس السابق، باراك أوباما، وأحد مهندسي الاتفاق والرئيس الحالي لمجموعة الأزمات الدولية، أن "الكرة في مرمى الأوروبيين لإنقاذ الاتفاق وإقناع إيران بالبقاء فيه"، ويؤكد أن الحفاظ على الاتفاق هو الحل الأمثل لأوروبا وإيران. ويوجه رسالة إلى الإيرانيين مفادها: "من الأفضل الإبقاء على نوع من الاستمرارية في العلاقات التجارية مع أوروبا وعزل الولايات المتحدة بدلًا من التعرض للعزلة من قبل الأوروبيين والأميركيين". 

وفيما تشارك العربية السعودية إسرائيل موقفها المرحِّب بإلغاء الاتفاق، تقف الأطراف الدولية مناهضة للخطوة الأميركية؛ فقد اعتبرت روسيا خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي تهديدًا للأمن الدولي؛ حيث أشار رئيس لجنة الدفاع في الدوما (مجلس النواب) الروسي إلى أن قرار واشنطن سيخلق بؤرة فوضى جديدة في الشرق الأوسط، وهو ما تراه تركيا أيضًا؛ إذ قال بيان للرئاسة التركية: إن قرار أميركا بالانسحاب بشكل أحادي من الاتفاق النووي سيزعزع الاستقرار ويسبب صراعات جديدة بالمنطقة. 

في طهران يقف الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في مرمى نيران كثيرة وكثيفة، فهو من جهة ملزم بتقديم خطة عمل لمواجهة القرارات الأميركية والعقوبات الاقتصادية في وقت تشهد فيه العملة الإيرانية انهيارًا مقابل الدولار والنقد الأجنبي، ويدخل الاقتصاد الإيراني في مأزق جديد لم تفلح سنوات الاتفاق القليلة في جعله يتعافى من مشكلاته المزمنة، فضلًا عن الفساد المالي والاقتصادي الذي بدأت ملفاته تتكشف وينخر في جسد مؤسسات الدولة الإيرانية. ويأتي ذلك على وقع حالة احتجاج ضد الأوضاع المعيشية خفتت لكنها تملك مقومات الانطلاق مجددًا وبحدة أكبر من السابق. وداخليًّا أيضًا، تشتد حدة الهجوم من طرف خصوم روحاني ومنافسيه وهم كثر يضاف إليهم فئة سياسية وقفت منذ البداية ضد الاتفاق النووي وحذرت من تبعاته، فيما تتحقق توقعات مرشد الثورة بشأن مستقبل الاتفاق وموقف الولايات المتحدة الأميركية، وهو الذي أكد مبكرًا أن الولايات المتحدة الأميركية لن تفي بتعهداتها وسوف تنسحب من الاتفاق. 

في تعليقه على القرار الأميركي، استخدم روحاني مفردات مرشد الثورة التي واظب لسنوات على استخدامها في توصيفه للطرف الأميركي؛ إذ اعتبر أن القرار يؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية تنقض العهود ولم ولن تلتزم بتعهداتها، في الوقت الذي التزمت فيه إيران بكل تعهداتها في الاتفاق النووي بشهادة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن حديث روحاني كشف عن رغبة إيرانية في البقاء في الاتفاق إذا ما وجدت إيران لدى الأطراف الأخرى غير الولايات المتحدة الأميركية القدرة على حماية الاتفاق والوفاء ببنوده، حيث أعطى روحاني توجيهات لوزارة الخارجية بإجراء مشاورات، ومباحثات مع الأطراف الأوروبية والمتمثلة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وكذلك روسيا والصين لفهم طبيعة موقفهم من الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وماذا ستقدم هذه الأطراف على الأرض من قرارات لحماية الاتفاق. وأضاف: هذا الاتفاق لم يكن بين الولايات المتحدة وإيران بل كان اتفاقًا دوليًّا. وقال روحاني: إن مجموعة "5+1" فقدت أحد أعضائها، ومنذ هذه اللحظة الاتفاق بين إيران و5 دول فقط. 

وكان من الواضح أن روحاني يتحسب لتأثيرات القرار على الداخل الإيراني مقدمًا تطمينات بأن على الشعب الإيراني ألا يقلق في هذه المرحلة، وسيكون هناك هدوء واستقرار في الأسواق وتأمين للعملات الصعبة التي يحتاجها الناس. لكن تطمينات روحاني تبدو هشة أمام واقع معيشي يزداد شدة وتعقيدًا، ومرشح للتفاقم مع سلسلة العقوبات التي ستقررها واشنطن وبدأت فعليًّا. 

خيارات إيران والاتحاد الأوروبي 

وفيما يتعلق بمستقبل الاتفاق النووي بعد انسحاب إدارة ترامب منه، تبدي إيران رغبة في اختبار مقومات استمرار الاتفاق بدون الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يرتبط بصورة كبيرة بقوة وكفاءة الطرف الأوروبي في تقديم إجراءات عملية تكون قادرة على حماية الشركات الأوروبية وتمكينها من تحدي الموقف الأميركي، لكن تصريحات المسؤولين في طهران حتى أولئك الذين انخرطوا في المفاوضات وأسهموا في إنجاز الاتفاق النووي، والتي سبقت القرار الأميركي عكست حالة من التشاؤم بشأن كفاءة الطرف الأوروبي. 

أما فيما يتعلق بالخيارات المطروحة أمام طهران، فيقول إحداها بإمكانية الاستمرار في الاتفاق النووي بدون الولايات المتحدة الأميركية، ويقول الآخر بأن إيران ستخرج هي الأخرى من الاتفاق مما يعني نهايته. ويرتبط إنجاح الاتفاق مع الأوروبيين بصورة أساسية بقدرة هذه الأطراف على مواجهة الضغوط الأميركية، وانتهاج سياسة لا تتفق والسياسة الأميركية وهو ما تقول مؤشرات عديدة بأنه سيكون صعبًا على الرغم من أن التصريحات الأوروبية تعكس رغبة واضحة بإدامة الاتفاق. وإذا ما نجحت هذا المساعي فسيكون القرار الأميركي معزولًا دوليًّا. ومن الخيارات المتاحة أمام أوروبا لحفظ الاتفاق أن تلجأ إلى توقيع اتفاق مع الطرف الأميركي يحمي شركاتها التي ترغب بعلاقات تجارية مع إيران من العقوبات الأميركية، لكن ذلك مرتبط بقرار إيران البقاء في الاتفاق، بعد أن انسحبت منه واشنطن واحتمالات ذلك واردة لكنها مشروطة بكثير من الإجراءات التي لن تكون يسيرة على أي من الأطراف الأوروبية. 

ولتحقيق هذه الضمانات للشركات الأوروبية، فإن الاتحاد الأوروبي سيؤيد الموقف الأميركي فيما يتعلق بـ"البرنامج الصاروخي الإيراني"، خاصة وأن تصريحات أوروبية سابقة أكدت موقفًا معارضًا لقدرات إيران على هذا الصعيد، لكن الشكوك تحيط بإمكانية فصل المسارات بين الاتفاق النووي والسير به على حدة وإنجاحه، والسير في الوقت ذاته بمسار يهدف إلى تحجيم قدرة إيران الصاروخية ومحاصرة نفوذها في المنطقة. 

وليست إيران وحدها من تحتاج إلى اختبار كفاءة الإجراءات الأوروبية ومدى قدرتها على إنجاح الاتفاق بدون الولايات المتحدة الأميركية، فالشركات العالمية وفي مقدمتها الشركات الأوروبية تحتاج إلى تأكيدات على هذا الصعيد، ومما يعزز من الشكوك في هذا الجانب أن هذه الشركات كانت مترددة في الدخول إلى السوق الإيرانية خوفًا من العقوبات الأميركية، حتى قبل انسحاب الطرف الأميركي، ورغم الاتفاقية التي وقَّعتها توتال الفرنسية إلا أن الشركات الغربية في المجموع ما زالت متحسبة من المستقبل وترجح الاكتفاء بالحد الأقل من العلاقة الاقتصادية مع طهران. وقد ظهرت حالة التردد هذه بصورة جلية في تقارير عدة لمنظمات دولية من أهمها استطلاع للرأي أجرته مؤسسة مجموعة الأزمات الدولية ومؤسسة بورس وبازار، في يناير/كانون الثاني 2018، استهدف عددًا من المديرين التنفيذيين لشركات لها نشاط اقتصادي في إيران. وذكر 51 في المئة من المستجيبين أن شركاتهم أجَّلت قرارًا تجاريًّا كبيرًا خلال السنوات الخمس الماضية. وأرجع 33 في المئة منهم التأجيل إلى مخاوف من إعادة فرض عقوبات ثانوية على إيران، فيما تحدث 29 في المئة منهم عن مخاطر سياسية صاعدة كانت سببًا لهذا القرار. وأكد 51 في المئة من المستجيبين أن قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بعدم التصديق على الاتفاق النووي كان له أثر سلبي على خطط شركاتهم بشأن الاستثمار والتجارة في إيران. وأوضح 62 في المئة من هؤلاء المديرين أن الحكومات الأوروبية على الأغلب لا تبذل الجهد الكافي لتشجيع التجارة والاستثمار في إيران، ويشير 94 في المئة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية لا تقدم ما يكفي للوفاء بالتزاماتها في المجال الاقتصادي. وما زال أغلب البنوك الأوروبية، وغيرها من البنوك الرئيسية في العالم، محجمًا عن التعامل مع البنوك الإيرانية أو تسهيل التعاملات المالية مع إيران، وتشكو الشركات الإيرانية في الداخل والتجار الإيرانيون في الخارج، من رفض أغلب البنوك التعامل معهم خشية وقوع تلك البنوك تحت طائلة عقوبات أميركية وعقوبات أخرى قد تكلفهم مليارات الدولارات من الغرامات بسبب العقوبات المفروضة على الحرس الثوري. وفق المعايير المعتمدة من قِبل مجموعة العمل المالي (FAFT) والتي التزمت بها حكومة روحاني. 

ومن المرجح أن لا يبقى الإيرانيون في الاتفاق في حال لم تقدم الأطراف الأوروبية إجراءات صلبة تقنع الإيرانيين بجدوى البقاء وتجنب التبعات السيئة للانسحاب الأميركي من الاتفاق. لكن فيما يتعلق بمسار القدرات العسكرية الإيرانية وكذلك النفوذ الإيراني في المنطقة فلن تكون العلاقة مع الأوروبيين سلسة على الإطلاق، ولم يقدم الإيرانيون إلى اليوم مؤشرات تقول بأن لديهم أدنى قبول بأن يدخلوا في تفاوض بشأن برنامج بلادهم الصاروخي. 

وفيما يتعلق بالعلاقة بين إيران والعربية السعودية، فكما أن الاتفاق النووي وسَّع من شقة التباعد وعزز من الصراع السياسي بين البلدين فإن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني لن يخفف من حدة هذا الصراع بل تشير معطيات كثيرة إلى أن سياسات ترامب والدور الأميركي بصورة أشمل سيدفع إلى تصعيد غير مسبوق، سيكون له تبعات سياسية وأمنية على المنطقة بأشملها. ويعني ذلك على الأرجح أن تشهد هذه المنطقة الغارقة في الأزمات نمطًا جديدًا أشد ضراوة من حروب الوكالة، في العراق وسوريا ولبنان واليمن وهو ما قد يفتح على مواجهات أوسع. ويفتح العداء الإيراني-السعودي الباب أمام مرحلة جديدة من العلاقات السعودية-الإسرائيلية وسيكون "التهديد الإيراني" عنوانًا يُظهر ما خفي من تعاون وتنسيق لا تبدو السعودية اليوم حريصة على إخفائه بقدر حرصها على إظهاره. 

وحيث إن البرنامج الصاروخي الإيراني وكذلك ملف النفوذ الإيراني في الخارج هما ملفان أمنيان يرتبطان بصورة أساسية بالحرس الثوري، فإن ذلك قد يثير جدالًا داخليًّا إيرانيًّا بين فريق سياسي يريد أن يُنجح الاتفاق بالتعاون مع الأوروبيين وفريق أمني لا يُظهر أدنى قبول بتغيير مسار إدارة هذه الملفات، وكما أن مؤسسة الحرس الثوري كانت على مدى عمرها، الذي جاء مترافقًا مع نشأة الجمهورية الإسلامية، قد مرت بتحولات في قيادتها وهيكلها المؤسسي وتوجهاتها تبعًا لمقتضيات المرحلة فمن المرجح أن تشهد تغييرات بما يتواكب مع مرحلة عالية التهديد بالنسبة للجمهورية الإسلامية.

_______________________________________

د. فاطمة الصمادي، باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات، متخصصة في الشأن الإيراني

 

نبذة عن الكاتب