أمن الخليج وحزام النار

دول مجلس التعاون مدعوة إلى إعادة رسم طبيعة الأخطار التي تواجهها وإلى بناء هيكل للدفاع والتسلّح وبناء رؤية متكاملة لمعادلة الأمن في الخليج
31 December 2008








عبد الجليل زيد المرهون


ملخص
أولاً: تحديات النووي الإيراني
ثانياً: متضمنات الحدث العراقي
ثالثاً: مفاعيل العدوان على غزة
الخلاصة: إعادة بناء للخيارات


ملخص



تدعو هذه الورقة دول مجلس التعاون الخليجي إلى إعادة رسم طبيعة الأخطار والتحديات الإستراتيجية الطابع التي تواجهها ، وسلمها التراتبي، كما تدعو إلى إعادة بناء هيكل للدفاع والتسلّح لدول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصاً ما يتعلق بالقدرة الصاروخية التي "تكاد لا تساوي شيئاً"، قياساً بما لديها من قدرات عسكرية في مجالات التسلّح الأخرى.



وتدعو الورقة كذلك إلى إعادة بناء رؤية متكاملة لمعادلة الأمن في الخليج، على نحو يستجيب للكم المتزايد من متغيرات البيئتين الإقليمية والدولية، ويغدو قادراً على إبعاد شبح التفجرات والحروب.



ويرى كاتب الورقة أن على دول مجلس التعاون الخليجي العمل، منذ الآن، على بلورة السياسات الخاصة بالتعامل مع إيران نووية، حتى لا تفاجأ بالتطورات. مبررا ذلك بأنه لو قدر لمواجهة عسكرية أن تندلع بين إيران والولايات المتحدة، أو بينها وبين إسرائيل، فلن يكون الخليج في منأى عن هذه المواجهة، إن بطريقة أو بأخرى. وأقل ما قد يتعرض له الخليج هو التلوث الإشعاعي، الناجم عن قصف المنشآت النووية الإيرانية، سواء جرى ذلك بسلاح تقليدي أو بسلاح نووي تكتيكي.



ويرى الكاتب كذلك أن قرار الرئيس المنتخب باراك أوباما، بفتح حوار مباشر مع إيران، يُعد قراراً إيجابياً وبناءً داعيا دول مجلس التعاون الخليجي إلى أن تعتبر نفسها معنية بهذا الأمر، كما أن من مصلحتها التشجيع على مثل هذا الحوار بل والمساهمة في إنجاحه، أو وصوله إلى الحد الأدنى من التفاهمات ذات الصلة باستقرار المنطقة. ويقول الكاتب إنه لا يجوز أن يتفاوض المجتمع الدولي مع إيران دون الالتفات إلى رؤية الخليجيين وتصوّراتهم.



ويربط كاتب الورقة كذلك بين ما يجري من قصف إسرائيلي لغزة الذي بدأ نهار السابع والعشرين من ديسمبر /كانون الأول 2008، وبين الأمن القومي العربي، بما في ذلك معادلة الأمن في الخليج ويقول إنه على دول مجلس التعاون الخليجي اليوم أن تسخر قدراتها الجيوسياسية المختلفة لوقف العدوان، وضمان عدم تكراره، أو انتقاله إلى أرض عربية أخرى. ومتى فعلت ذلك فإنها تكون قد صانت أمنها قبل كل شي.



أمن الخليج وحزام النار



إن سلسلة طويلة من القضايا الملتهبة، أشبه بحزام النار، باتت تفرض نفسها اليوم على معادلة الأمن في الخليج. تبدأ بالوضع المضطرب في العراق، والملف النووي الإيراني، وصولاً إلى كتلة النار التي أشعلها العدوان الإسرائيلي على غزة. وبموازاة ذلك، تضغط الأوضاع المتأزمة في كل من الصومال وبلوشستان الباكستانية على خاصرة الخليج، مهددة بعضاً من أهم ضرورات استقراره الإقليمي، كأمن الملاحة البحرية. وهذا كله دون الحديث عن مفاعيل النزاع الهندي الباكستاني، والسياق الجديد للتنافس الروسي الغربي في المنطقة، والتجاذبات الإقليمية والعربية فيها.



أولاً: تحديات النووي الإيراني






سعي أوروبي مبكرا لحل الأزمة سلمياً مع إيران ويعود ذلك في جانب منه لخشية أوروبا من تداعيات خيار المواجهة على العلاقة بين ضفتي الأطلسي، فضلاً عن تداعياته على سوق الطاقة النفطية الدولي.
يمكن القول إن المتغيّر النووي الإيراني قد وضع أمن الخليج أمام بيئة جديدة، ليس بالمعنى الاستراتيجي، بل بلحاظ حجم واتجاه التفاعلات الإقليمية والدولية المرتبطة بهذا الأمن. وإن هذا الأمن لا زال دون مرحلة إعادة التعريف الإستراتيجي بالمعنى النظامي للمصطلح، وذلك منذ حرب الخليج الثانية في العام 1990 – 1991، حين فقد توازنه الإستراتيجي.


وخلافاً لبعض التقديرات، ليس ثمة ما يؤكد أن إيران قد أضحت قاب قوسين من صنع القنبلة النووية. بل الأرجح أن طريقاً طويلاً لا زال يفصلها عن ذلك، إن كان هذا في الأصل هو ما تهدف إليه. بيد أنه ليس ثمة طريقة أكيدة لقياس الفترة اللازمة للوصول إلى إنتاج القنبلة النووية. وعلى الرغم من ذلك، على دول مجلس التعاون الخليجي العمل، منذ الآن، على بلورة السياسات الخاصة بالتعامل مع إيران نووية، حتى لا تفاجأ بالتطورات.



وقد بدا المجتمع الدولي منقسماً بشأن التعامل مع إيران، ولم يكن قرار مجلس الأمن رقم (1835)، الصادر في 27 أيلول سبتمبر 2008، في جوهره سوى تعبير عن هذا الانقسام، حتى وإن بدا خلاف ذلك. ولقد بدا المناخ الراهن للعلاقات الروسية الغربية حائلاً دون الإجماع على موقف متشدد من الملف النووي الإيراني. وإن العقوبات الدولية ضد إيران لا يتوقع لها إحداث تأثير جوهري، ما دامت لم تصل إلى القطاع النفطي الإيراني، الذي يعتمد على نحو كبير على الاستثمارات الخارجية، واستيراد التقانة الأجنبية، بل واستيراد المشتقات النفطية، حيث لا يغطي التكرير الداخلي سوى نحو خمسين في المائة من حاجة السوق الإيرانية.



ويدرك الإيرانيون خطورة الوصول إلى مثل هذا الوضع، لكنهم يراهنون على موقف روسي يحول دون ذلك. وبالطبع، فهذا ليس رهاناً سياسياً مجرداً، بل هو توليفة معقدة من حسابات المصالح الجيوسياسية، الممتدة من القوقاز إلى الخليج العربي، والمعززة في الوقت ذاته بخارطة واسعة من التفاعلات الاقتصادية والتعاون العسكري، والتنسيق في سياسات النفط والغاز. وعليه، يمكن القول إن إيران لن تولي الكثير من الاهتمام لتحركات مجلس الأمن الدولي.



وكان هناك سعيٌ أوروبي مبكرٌ لحل الأزمة سلمياً مع إيران. ويعود ذلك في جانب منه لخشية أوروبا من تداعيات خيار المواجهة على العلاقة بين ضفتي الأطلسي، فضلاً عن تداعياته على سوق الطاقة النفطية الدولي. وبعد إعلان إيران رفضها وقف التخصيب، سارعت كل من باريس وموسكو إلى حث واشنطن على الإمساك عن التصعيد. بيد أن مساراً جديداً في المقاربة الدولية للعلاقة مع إيران قد بدأ مع قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية إحالة ملف طهران إلى مجلس الأمن الدولي. وعند هذه النقطة تحديداً، بدت أوروبا وقد اقتربت كثيراً من الموقف الأميركي، وإن لم تصل إليه تماماً.


وعلى صعيد احتمالات المواجهة، فإنه على الرغم من كل ما يثار في وسائل الإعلام عن احتمالات صدام عسكري بين الطرفين، فإن هذا الخيار لا يبدو خيار واشنطن الأول أو الثاني، وإن فرضية استبعاده تبقى قائمة، عند قراءة المعطيات السائدة. هذا على الرغم من أن التقارير التي تحدثت عن تخطيط أميركي لضرب إيران، قد ظهرت بصورة متواترة منذ سقوط بغداد في أبريل / نيسان من العام 2003 على أيدي القوات الأميركية.



ويجب التمييز بادئ ذي بدء بين قرار الحرب وبين ما يبدو ظاهرياً وكأنه إعدادٌ لها. إن خوض أي حرب هو قرار إستراتيجي يختزن بالضرورة كماً متنامياً من الأبعاد السياسية والعسكرية والنفسية، التي ليس من السهل قراءتها على النحو الدقيق الذي يضمن سلامة الخيار أو أرجحيته. أما الإعداد لحرب محتملة أو افتراضية فهو مكسب ضمني في كثير من الجوانب، فهذا الإعداد يعني مزيداً من التدريب وكسب المهارات، وقد يعني عقد صفقات سياسية ودبلوماسية. وهو يعني بالضرورة زيادة الضغوط النفسية على الطرف الآخر. وبالطبع، سوف يختلف الأمر كلياً لو كان الحديث يدور عن حرب بين قوتين متكافئتين أو شبه متكافئتين، لأن ذلك سوف يعني الدخول في سباق محموم للتسلح، واستنزافاً لا طائل منه لموارد مادية وبشرية، وقبل ذلك إرهاق البيئة النفسية للمجتمع.



ورغم كل ذلك، لا يجوز أن نستبعد على نحو كلي احتمالات الحرب، لكننا نستبعد الربط الشرطي بينها وبين كثيرٍ مما يجري على الأرض. وإذا قدر لمواجهة عسكرية أن تندلع بين إيران والولايات المتحدة، أو بينها وبين إسرائيل، فلن يكون الخليج في منأى عن هذه المواجهة، إن بطريقة أو بأخرى. وأقل ما قد يتعرض له الخليج هو التلوث الإشعاعي، الناجم عن قصف المنشآت النووية الإيرانية، سواء جرى ذلك بسلاح تقليدي أو بسلاح نووي تكتيكي. وهذا أمر مفهوم على أية حال.



وفي مقابل المقاربات الأميركية، التي لم تستبعد المواجهة، دخل عدد من الباحثين الأميركيين في نقاشات تفصيلية للخيار السياسي، أو التصالحي، مع إيران، بما هو أولوية، اعتقدوا بضرورة السعي نحوها. وكانت هناك جملة تجارب في الحوار الأميركي الإيراني، منذ العام 2001. وذهب بعض الباحثين الأميركيين إلى حد القول إن الحقائق الجغرافية الثابتة "تدعم قيام تحالف"، في يوم ما، بين الولايات المتحدة وإيران. وحسب هؤلاء، فإن إستراتيجية الولايات المتحدة البعيدة بمقدورها دون سواها "ضمان أمن إيران" من القوة الروسية المجاورة.



واليوم، فإنّ قرار الرئيس المنتخب باراك أوباما، بفتح حوار مباشر مع إيران، يُعد قراراً إيجابياً وبناءً. وإن دول مجلس التعاون الخليجي تبدو معنية بهذا الأمر، ومن مصلحتها التشجيع عليه. بل وعليها أن تساهم في إنجاحه، أو وصوله إلى الحد الأدنى من التفاهمات ذات الصلة باستقرار المنطقة.



وفي المقابل، لا يجوز أن يتفاوض المجتمع الدولي مع إيران دون الالتفات إلى رؤية الخليجيين وتصوّراتهم. ومن الحري أن نشير هنا، إلى أن سلّة الحوافز الدولية، التي قدمها لطهران، في 14 يونيو /حزيران 2008، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، خافيير سولانا( )، قد جسدت تطوّراً تاريخياً. وهي منحت إيران، في شقها السياسي، ما لم تتمكن من الحصول عليه حتى في ذروة علاقاتها المزدهرة مع الغرب، في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. إن هذه الحوافز سوف تضع إيران -في حال قدر لها أن تبصر النور- في قلب تفاعلات النظام الإقليمي الخليجي، وسوف تؤطر دورها في هذا النظام بإطار مؤسسي، ما برحت تدعو إليه منذ خمسين عاماً. وبالطبع، هذه قضية تتجاوز العلاقات الغربية بإيران، لتلامس على نحو مباشر العلاقات الإيرانية الخليجية، وماهية المقاربة التي ينشدها الخليجيون لأمنهم الإقليمي. ومن هنا، تأتي ضرورة إشراكهم في النقاش الدائر بين إيران والمجتمع الدولي، بل من الصعب بمكانٍ فهم بقائهم بعيدين عن هذا النقاش.



ثانياً: متضمنات الحدث العراقي






إن أيا من الخيارات الخاصة بالانسحاب الأمريكي من العراق لم تذهب إلى القول بإنهاء الوجود العسكري الأميركي فيه ومغادرته من دون إقامة قواعد ارتكاز، يمكن الاستناد إليها في إدامة المقاربة الأميركية الراهنة لأمن الخليج.
وحتى يومنا هذا، يعتبر المتغير العراقي، أو لنقل الغزو الأميركي للعراق، المتغيّر الأكثر بروزًا في منظومة متغيرات أمن الخليج في مرحلة ما بعد عاصفة الصحراء. وقد أفرز هذا المتغيّر مجموعة معطيات ذات صلة، تمثل أحد أبعادها في انتشار قوات أميركية ذات ثقل متقدم في شمال الخليج العربي، وذلك للمرة الأولى في التاريخ. وتمثل بُعدها الآخر في زيادة النفوذ الإيراني في العراق. وعلى صعيد ثالث، رمت بيئة الأمن الداخلي العراقي بتداعياتها على دائرة واسعة ضمن المحيط الجغرافي المجاور للعراق، وبالذات دول الخليج.


ومن الزاوية الإستراتيجية، يُراد للوجود الأميركي في العراق، على نحو مبدئي، أن يغدو، في وقت ما، الأكثر تقدماً بالمعيار النوعي على صعيد القوة الأميركية المنتشرة في المنطقة، وينهض تالياً بالدور الطليعي فيما يمكن تعريفه "بالموازن الخارجي" في معادلة أمن الخليج. فهذا الخيار، لم يعثر على معطىً متقدم على النحو الذي هو عليه اليوم، فالانتشار العسكري الأميركي في المنطقة قبل غزو العراق لم يكن ليُقدَّر له أن يرتقي بالصورة التي نشهدها في الوقت الراهن. وإضافة لفارق القدرات اللوجستية، فإنّ الوجود الأميركي في بلاد الرافدين، يتمتع بمعطىً سياسي لم يتم الأخذ به في بقية دول الخليج. و يتمثل هذا المعطى في جعل العراق ساحة متقدمة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بصورة تفوق وضع الداخل الخليجي، بل وحتى تركيا الأطلسية.



وإن أيا من الخيارات الخاصة بالانسحاب من العراق لم تذهب إلى القول بإنهاء الوجود العسكري الأميركي فيه، ومغادرته من دون إقامة قواعد ارتكاز، يمكن الاستناد إليها في إدامة المقاربة الأميركية الراهنة لأمن الخليج. ويمثل "الموازن الخارجي" أحد أقدم مفاهيم الأمن، وصوره التي سادت على صعيد عالمي. وهو قد وجد ترجمته التاريخية في الخليج في القوة البريطانية، وقبلها البرتغالية، وإن على نحو أقل تبلوراً. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ هذا المفهوم لا زال مفهوماً إشكالياً. ولعل البعد الأهم في هذه الإشكالية هو مدى إمكانية أن تكون القوة، بمفهومها العسكري المجرد، موازنة للدولة بثقلها الكلي، الذي لا تمثل القوة العسكرية سوى أحد عناصره، حيث تبرز العناصر الأخرى للقوة ديموغرافياً واقتصادياً وجغرافياً. ولا يقدم الموازن الخارجي، بحال من الأحوال، حلاً لمعضلة التوازن الاستراتيجي، التي دخلها النظام الإقليمي الخليجي منذ حرب الخليج الثانية.



وفي تطوّر ذي مغزى، طرح الرئيس الأميركي المنتخب، باراك أوباما، شعار الانسحاب التدريجي المتسارع للقوات الأميركية من العراق، مع إبقاء "العدد الكافي" من الجنود، وفقاً للمعاهدة الأمنية العراقية/الأميركية، التي صادق عليها البرلمان العراقي في 27 نوفمبر /تشرين الثاني من العام 2008. ولقد حاز قرار أوباما، بتسريع انسحاب القوات، على ترحيب عراقي وإقليمي. وتبقى العبرة في الوصول إلى مقاربة متوازنة، ومجمع عليها، لتنفيذ هذا القرار. وإنّ بعضاً مما يجب على الإدارة القادمة التوقف عنده، هو ما دعا إليه التقرير الذي خرجت به مجموعة دراسة العراق، التي شكلها الكونغرس الأميركي، برئاسة وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، والنائب الديمقراطي السابق لي هاملتون. وتحديداً ما أوردته التوصية (22) من التقرير، التي نصت على وجوب أن يصرح الرئيس الأميركي "بأن الولايات المتحدة لا تهدف إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق"( ). وهذه قضية بالغة الدلالة، على صعيد المقاربة الخاصة بأمن الخليج، ومستقبل التفاعلات البينية فيه، فضلاً عن تفاعلاته الدولية. وبالمنظور الإستراتيجي بعيد المدى، فإنّ عراقاً من دون قواعد عسكرية هو عراق أكثر قدرة على التعايش مع جيرانه، والانسجام مع بيئته الإقليمية. كذلك، فإن هذه التوصية ذات دلالة هامة في حسابات الصراع العربي الإسرائيلي، فوجود قواعد عسكرية دائمة في العراق يرتبط بإسرائيل من ناحيتين: تختص الأولى بمستقبل أمنها، وتتعلق الثانية بمستقبل مكانتها ودورها في الإستراتيجية الأميركية في المنطقة.



ثالثاً: مفاعيل العدوان على غزة






اتجهت المقاربة الأميركية لأمن الخليج تقليدياً للأخذ بمقولة العلاقة الصفرية بين أمن الخليج والصراع العربي الإسرائيلي، بمعنى أن زيادة الاهتمام بالأول يقود بالضرورة إلى تراجعه في الثاني
وإضافة للقضايا التي يثيرها العراق والملف النووي الإيراني، مثَّل العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي فاجأ الفلسطينيين نهار السابع والعشرين من ديسمبر /كانون الأول 2008، عامل ضغط كبير على مقاربة الأمن القومي العربي، بما في ذلك معادلة الأمن في الخليج. وبالنظر إلى الفظاعات الإنسانية التي خلفها، فقد دفع العدوان باتجاه مزيد من الربط بين أمن الخليج والصراع العربي الإسرائيلي. كما تعمق هذا الربط في ضوء طبيعة الموقف الذي بات من الضروري اعتماده حيال المقاربة الدولية للقضية الفلسطينية.ودفع العدوان، من جهة ثالثة، باتجاه مزيد من التجاذبات داخل النظام الرسمي العربي، وهي تجاذبات ثبت أنها ذات طبيعة ضاغطة على الأمن الإقليمي الخليجي، بل وناسفة له.


وكانت المقاربة الأميركية لأمن الخليج قد اتجهت تقليدياً للأخذ بمقولة العلاقة الصفرية بين أمن الخليج والصراع العربي الإسرائيلي، بمعنى أن زيادة الاهتمام بالأول يقود بالضرورة إلى تراجعه في الثاني. إلا أن هذه المعادلة بدت أمام امتحان كبير بعد الغزو الأميركي للعراق، وبدت واشنطن وقد اقتربت من الاقتناع بأن الارتباط بين القضيتين هو ارتباط عضوي، طردياً وليس عكسياً. وكانت حرب الخليج الثانية قد قادت إلى مؤتمر مدريد للسلام، الذي انعقد في تشرين الأول أكتوبر 1991، حيث جلست كافة أطراف النزاع العربي الإسرائيلي للمرة الأولى وجها لوجه، لتنطلق بعد ذلك مسارات تسوية ثنائية ومتعددة.



وبالنسبة إلى إسرائيل، فقد كانت هذه الحرب منعطفاً تاريخياً في بناء الجبهة الشرقية، بالمعياريين الإستراتيجي والسياسي. وعلى الرغم من ذلك، فإن حرب الخليج الثانية لم تحسم الصورة النهائية لهذه الجبهة، إذ تحول العراق من خطر مؤكد إلى خطر محتمل. ذلك أن بضعة صواريخ "سكود" يمكن إطلاقها من غرب العراق لتصيب منطقة تل أبيب وتغيّر معادلات عدة، فالمسافة بين منطقة القائم على الحدود العراقية السورية وأواسط منطقة تل أبيب لا تتجاوز السبعمائة كيلومتر.



وكان هذا هو الحال حتى تاريخ الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، حيث بدا الخطر المحتمل وقد انتهى، أو لنقل انتهى حتى حين. إذ أن زوال الخطر العراقي عن إسرائيل يبقى مرهوناً بإمساكه أميركياً، على الصعيدين السياسي والأمني، فانفلات الأمن الداخلي من عقاله، وانفراط آليات الضبط، من شأنه أن يضع إسرائيل في مرمى الصواريخ. ولكن هذه المرة محمولة بأكتف وشاحنات الجماعات المسلحة التي تحارب الولايات المتحدة. ولن يحول دون ذلك وجود قوات أو قواعد أميركية في غرب العراق، فاعتراض مثل هذه الصواريخ يشترط بالضرورة استعداداً مسبقاً لتتبعها والتصدي لها في منطقتي انطلاقها وسقوطها، وهو أمر ربما يمكن تحققه في ظروف الحرب والتأهب المسبق في الجو وعلى الأرض.



وما يمكن قوله خلاصة هو أن أشكالاً مختلفة من الربط بين أمن الخليج والصراع العربي الإسرائيلي تفرض نفسها تلقائياً على كافة القوى والأطراف. وإن العدوان الإسرائيلي على غزة يؤكد هذه الحقيقة، إنما باتجاه مدمر لفرص الأمن الإقليمي وناسف لها. وعلى دول مجلس التعاون الخليجي اليوم أن تسخر قدراتها الجيوسياسية المختلفة لوقف العدوان، وضمان عدم تكراره، أو انتقاله إلى أرض عربية أخرى. ومتى فعلت ذلك فإنها تكون قد صانت أمنها قبل كل شي.



الخلاصة: إعادة بناء للخيارات



وما يمكن قوله خلاصة هو أن دول مجلس التعاون الخليجي معنية بالدخول في إعادة رسم جديد لطبيعة الأخطار والتحديات الإستراتيجية الطابع، وسلمها التراتبي، واستتباعاً إعادة رسم هيكل الدفاع والتسلّح. فغالبية هذه الدول تعاني من اختلال هيكلي على مستوى نظم التسلح السائدة فيها. وتحديداً، فإن القدرة الصاروخية لمعظم دول المنطقة تكاد لا تساوي شيئا، قياساً بما لديها في مجالات التسلّح الأخرى. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى أن الدول الغربية تمتنع تقليدياً عن تزويد الدول الخليجية بقدرات صاروخية. وقد آن الأوان لسد هذه الثغرة.



وفي السياق الأكثر مرجعية، تتبدى الحاجة لبناء مفاهيمي جديد لقضية التوازن الإستراتيجي في إقليم الخليج العربي، بناء لا يرتكز على ذات المفاهيم التي سقطت مع حرب الخليج الثانية، وبات إعادة إنتاجها أمرا مستحيلاً بعد حرب العراق. ويمكن لدول مجلس التعاون الخليجي التعويض عن الثغرة الديموغرافية التي تعانيها بتوطين متقدم للتكنولوجيا العسكرية، وبناء خبرات وطنية في مجالات الدفاع، وتوسيع قاعدة البحوث الأساسية والتطبيقية.



وإن إعادة بناء مفهوم التوازن يستتبع مبدئياً إعادة بناء خيارات الردع. وحيث إنه قد يكون هناك توازن قوى مستقر، وآخر غير مستقر، وحيث إن الردع مرتبط بتوازن القوى، فإن الردع قد يكون هو الآخر ذا طبيعة مستقرة كما هو في حالة الردع المتبادل، أو يفتقد تلك الطبيعة. وقد يفقد الردع استقراره نتيجة خطأ في التقدير.



إن المطلوب هو إعادة بناء معرفي متكامل لمعادلة الأمن في الخليج، على نحو يستجيب للكم المتزايد من متغيرات البيئتين الإقليمية والدولية، ويغدو قادراً على إبعاد شبح التفجرات والحروب.
_______________
باحث بحريني