فتح.. انحدار طويل ومؤلم

وجود فتح حاجة ضرورية فلسطينيا لا لتجربتها التاريخية بل لوجود قطاع فلسطيني ملموس لم يستطع التيار الإسلامي الفلسطيني استيعابه حتى الآن، ولكن مؤتمر الحركة السادس لم يوفر نافذة ولا ضمانة لاستمرار وجود فتح باعتبارها قوة فاعلة في الساحة الوطنية
16 August 2009









بشير نافع


ملخص عام
اتهامات القدومي
المؤتمر العام لفتح
اللجنة المركزية الجديدة
أزمة فتح المستعصية


ملخص عام





من المتوقع أن تتفاقم أزمة تشكيل اللجنة المركزية الجديدة خلال الأيام والأسابيع القادمة فالمؤتمر السادس كرس سلطة الأمر الواقع بل وتعزيزه، أي أنه انتهى إلى تكريس النهج الذي يقوده الرئيس عباس، والذي دفع فتح إلى الانحدار طوال العقدين الماضيين
بعد تأجيل استمر زهاء العقدين من الزمن، انعقد المؤتمر السادس لحركة فتح خلال الأسبوعين الأولين من آب/ أغسطس الحالي في مدينة بيت لحم المحتلة. وقد جاء انعقاد المؤتمر عشية تصريحات غير مسبوقة أطلقها فاروق القدومي، أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، في منتصف يوليو/ تموز، بخصوص اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات.

لم يكن القدومي يهدف في تصريحاته الخطيرة إلى قيادة انشقاق داخل فتح، ولا خوض معركة تنظيمية واسعة لانتزاع الحركة من عباس ومعسكره، بقدر ما كانت تصريحاته المتفجرة عبارة عن آخر الخطوات الكبيرة في تاريخه السياسي، وقد تمكن القدومي فعلا من خلال هذه الاتهامات من إلحاق ضرر بالغ بمحمود عباس ومحمد دحلان والمجموعة الملتفة حولهما.


بالرغم من أن مكان انعقاد المؤتمر، وحجم ونوعية عضويته قد صبت كلها باتجاه مخطط عباس، فمن الواضح أن الرئيس الفلسطيني لم يقرأ المزاج العام في صفوف الحركة قراءة جيدة. كما أنه لم يقدر حجم التدافعات في قيادة الحركة، ليس فقط فيما يتعلق بالمعارضين الراديكاليين، مثل القدومي ومحمد جهاد، ولكن أيضاً بين الذين قبلوا نهج ومظلة أوسلو.


في خطوة مفاجئة، استطاع إصلاحيو المؤتمر إيصال اللواء عثمان أبو غربية إلى مقعد رئاسة المؤتمر، موقعا الهزيمة بمرشح معسكر الرئيس عباس، صخر بسيسو، الذي لعب دورا رئيسا في المجلس الثوري لتأمين انعقاد المؤتمر ببيت لحم. ثم شهد المؤتمر طوال ثلاثة أيام تدافعا عالي الوتيرة أحيانا حول عدم قيام اللجنة المركزية بتقديم تقريرها للمؤتمر، وحول الطريقة التي سيمثل بها تنظيم قطاع غزة في المواقع القيادة، وكيفية حساب أصوات أعضاء المؤتمر في غزة، وحول مسؤولية محمد دحلان والملتفين حوله عن خسارة فتح الانتخابات التشريعية وقطاع غزة.



أما فيما يتعلق بنتائج المؤتمر فقد تمخض عن لجنة مركزية جديدة تتكون من كتلة كبيرة من أنصار عباس ومحمد دحلان، اللذين يعتقد بأنهما على تحالف وثيق منذ أيام عرفات الأخيرة. ولم يصل إلى عضوية اللجنة المركزية من العناصر الإصلاحية، التي ترفع شعار الحرص على ثوابت فتح، سوى اثنين أو ثلاثة هم (محمود العالول وعثمان أبو غربية، وليس من الواضح إن كان جبريل الرجوب سيقف إلى جوارهما). وقد استبعد من عضوية اللجنة المركزية كل الشخصيات الكبيرة التي يمكن أن تقف في وجه عباس، أو تشكل مركز معارضة له، بما في ذلك أحمد قريع (أبو العلاء)، مفاوض اتفاق أوسلو، والشريك الرئيس في قيادة سلطة الحكم الذاتي منذ تأسيسها.


بيد أن الشكوك التي تحوم حول نتائج المؤتمر، لم تأت من قيادات رئيسة في تنظيم فتح في قطاع غزة وحسب، بل جاءت أيضا من أحمد قريع الذي يعتبر الشخص الثاني في السلطة، وذلك في أول مقابلة صحفية له بعد انتهاء أعمال المؤتمر، وعلى خلفية هذه الشكوك، استقالت اللجنة العليا لتنظيم فتح في قطاع غزة بكافة أعضائها، وألمح قريع إلى اتصالات تجري بين أعضاء سابقين في اللجنة المركزية وقيادات تنظيمية في مختلف المناطق لتشكيل كتلة فتحاوية جديدة.


وليس هناك من سند ملموس لما يقال بأن المؤتمر أدخل دماء جديدة إلى اللجنة المركزية، وأن هذه الدماء ستستعيد حيوية الحركة. الحقيقة أن أغلب أعضاء اللجنة المركزية الجدد هم من أكثر العناصر تأثيرا في قرار السلطة الفلسطينية منذ سنوات، وبعضهم كان أكثر تأثيرا بكثير من الأغلبية العظمى من أعضاء اللجنة المركزية القديمة. فتح لم تشهد صراع أجيال، بل عاشت أزمة طويلة وصراع سياسات، وقد حسم المؤتمر الوضع لصالح عباس ومعسكره.


المؤتمر السادس لم يوفر نافذة ولا ضمانه لاستمرار وجود فتح باعتبارها قوة فاعلة في الساحة الوطنية. فحالة التأزم التي عاشتها فتح منذ قيام سلطة الحكم الذاتي ستستمر، وربما كانت فتح قد دفعت بلا رجعة، نحو نهاية طويلة ومريرة، إلى أن تستطيع قوة فلسطينية أخرى احتلال موقع التيار المركزي، وإعادة بناء الإجماع الوطني.



نص المقالة:


عقد المؤتمر السادس لحركة فتح خلال الأسبوعين الأولين من آب/ أغسطس الحالي في مدينة بيت لحم المحتلة بعد تأجيل استمر عشرين عاما. وقد جاء انعقاد المؤتمر عشية تصريحات غير مسبوقة أطلقها فاروق القدومي، أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، في منتصف يوليو/ تموز، بخصوص اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات. احتلت مجريات المؤتمر معظم المشهد الإعلامي، ودفعت الاهتمام بتصريحات القدومي إلى الظل.


لكن ذلك لا ينبغي أن يحجب الدلالة البالغة لهذه التصريحات، وما تعنيه لمستقبل حركة فتح. وليس ثمة شك في أن سعي الرئيس عباس، ثم نجاحه، في عقد المؤتمر في مدينة بيت لحم المحتلة، بدلاً من الخارج، أريد به التحكم في نتائج المؤتمر، سيما انتخابات اللجنة المركزية والمجلس الثوري. قبل انعقاد المؤتمر، كانت فتح تعيش أجواء بالغة التأزم، ولا يبدو أن المؤتمر قد نجح في إخراج فتح من أجواء التأزم هذه.


اتهامات القدومي





التفسير الوحيد لخطوة القدومي أنه قام بما يشبه العملية الانتحارية بعدما استنفد كل الوسائل الأخرى المتاحة له، فمنذ أطاح عباس بقرار اللجنة المركزية لفتح واللجنة التحضيرية لمؤتمر الحركة العام بعقد المؤتمر في الخارج، واستمال محمد غنيم (أبو ماهر) إلى جانبه، أدرك القدومي أن انعقاد المؤتمر سيؤدي إلى الإطاحة به
تضمن بيان القدومي الصحافي اتهاما واضحا لعباس والشخصية القيادية الأخرى في السلطة الفلسطينية، محمد دحلان، بأنهما ناقشا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إرييل شارون، في 2004، عزم هذا الأخير على اغتيال عرفات. وذكر القدومي أن الرئيس الراحل ياسر عرفات كان قد أودع لديه محضر الجلسة التي جمعت بين عباس ودحلان وشارون (بحضور أميركي)، بدون أن يوضح كيف حصل عرفات على ذلك المحضر.

كما أشار القدومي إلى أن محضر الجلسة يتضمن أيضا تخطيط شارون لحملة اغتيالات تطال قادة رئيسيين في حركتي حماس والجهاد، وأن الهدف كان توفير الشروط المناسبة لسيطرة عباس ودحلان على السلطة الفلسطينية وعلى مناطق الحكم الذاتي في الضفة والقطاع. ومن الملاحظ، طبقا لمحضر القدومي، أن رد فعل عباس على مخطط شارون كان حذرا ومتخوفا، بينما اتسم رد فعل دحلان بالترحيب، وهو ما ينطبق على طبيعة الشخصيتين.


من جهة الحكم التاريخي، ليس هناك وسيلة حتى الآن لتوكيد أو نفي ما ادعاه القدومي، بيد أنه من الناحية السياسية، ثمة قدر ملموس من التطابق بين ما يعزوه القدومي إلى شارون من مخطط، وما وقع بالفعل منذ ما قبل وفاة عرفات المثيرة للشبهات حتى الآن. هل يعني هذا مجرد مصادفة، أم أن القدومي قد صاغ المحضر المزعوم بقراءة ارتجاعية لسياق الأحداث، أو أن هذا التطابق يضفي مصداقية على ادعاءات القدومي؟ ليس من الممكن ترجيح إجابة على أخرى. كما أن التسويغات التي قدمها السيد القدومي لصمته الطويل على معلومات بهذه الخطورة تثير شكوكا أخرى حول مصداقية تصريحاته.


بيد أن هذه الأسئلة جميعا لا تنفي حجم الضرر الذي أوقعته تصريحات القدومي بحركة فتح وموقع محمود عباس والقيادة المتنفذة. فمحمود عباس وفاروق القدومي هما أبرز عناصر المجموعة الصغيرة المتبقية على قيد الحياة من الآباء المؤسسيين لحركة فتح وقادتها التاريخيين الكبار، وقد وصلت العلاقة بين الاثنين إلى أن يتهم أحدهما الآخر بما يصل إلى مرتبة الخيانة العظمى، أي التباحث مع رئيس وزراء دولة العدو حول إضعاف وإطاحة الزعيم التاريخي لحركة فتح ومنظمة التحرير والحركة الوطنية الفلسطينية، اغتيالا أو بوسائل سياسية.


التفسير الوحيد لهذه الخطوة أن أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح قام بما يشبه العملية الانتحارية بعدما استنفد كل الوسائل الأخرى المتاحة له. فمنذ أطاح عباس بقرار اللجنة المركزية لفتح واللجنة التحضيرية لمؤتمر الحركة العام بعقد المؤتمر في الخارج، واستمال رئيس اللجنة التحضيرية وعضو اللجنة المركزية، محمد غنيم (أبو ماهر) إلى جانبه، أدرك القدومي أن انعقاد المؤتمر في الضفة الغربية، تحت سلطة وإشراف وتحكم عباس ومعسكره، سيؤدي إلى الإطاحة به وأغلب، إن لم يكن كل، المعارضين من أعضاء اللجنة المركزية الحالية.


تصريحات القدومي كانت الرد الوحيد الممكن، من وجهة نظره، على خسارة مؤكدة في مؤتمر عام الحركة المزمع عقده، بهدف إيقاع أكبر ضرر ممكن بعباس والملتفين حوله، بعد أن أخفق القدومي في إيقاف سيطرة هؤلاء الحثيثة على ما تبقى من حركة فتح.


ليوم أو يومين، خرجت بعض قيادات حركة فتح للدفاع عن الرئيس عباس، وقد سارع الأخير إلى إعلان عزمه على محاسبة القدومي وإجباره على دفع ثمن اتهاماته. ولكن الملاحظ أن بعض أعضاء اللجنة المركزية التزمت الصمت، ليس فقط بين المحسوبين على المعسكر المعارض لعباس، مثل هاني الحسن ومحمد جهاد، ولكن أيضا أمثال أحمد قريع (أبو العلاء) وصخر حبش ورفيق النتشه، يعتبر أولهم الشخص الثاني في قيادات فتح التي ساهمت في بناء سلطة الحكم الذاتي، ورئيس حكومة السلطة الأسبق، والإثنان الآخران يتواجدان في الضفة الغربية وليسا في الخارج.


كما أن شكوكا أثيرت حول بيان لجنة فتح المركزية الذي رد على القدومي، نظرا لأن من المؤكد أن اللجنة المركزية لم تجتمع لصياغة البيان، وأن عددا من أعضائها معروف بمعارضته الصريحة لعباس ومعسكره. وحتى تهديدات عباس للقدومي لم ينجم عنها أي إجراء فعلي، إما لعجز عباس عن إصدار قرار فتحاوي بمعاقبة القدومي، أو لأنه انتظر انعقاد المؤتمر العام للحركة، والتخلص من معارضيه في انتخابات اللجنة المركزية المقرر عقدها ضمن أعمال المؤتمر.


المؤتمر العام لفتح





كان نقاش الملفات الهامة في قاعة المؤتمر قاصراً أو مقتضباً ومهرجانياً، كذلك جاء نص البرنامج السياسي عمومياً أو غامضاً
انعقد المؤتمر العام السادس لفتح من 4 إلى أغسطس/ آب بحضور زهاء 2300 مندوب. وكانت حكومة حماس في غزة قد قررت منع 480 مندوباً من الالتحاق بالمؤتمر، بعد أن وضعت شروطاً تتعلق بالإفراج عن المئات من معتقليها في سجون السلطة، وتوفير نسخ من جوازات السفر لحكومة غزة، مقابل السماح للمندوبين من غزة بالسفر إلى بيت لحم. ما يعنيه هذا أن عضوية المؤتمر السادس قد تجاوزت ضعف عدد أعضاء المؤتمر الخامس، الذي عقد بتونس في 1989، في وقت يعتقد أن حجم تنظيمات الحركة قد تراجع خلال العقدين الماضيين. الواضح، على أية حال، أن التدافع بين القيادات الرئيسية، ورغبة عباس في إغراق المؤتمر بالعاملين في أجهزة سلطة الحكم الذاتي، لعبا دوراً رئيساً في تضخيم حجم المؤتمر وتحويله في بعض الأحيان إلى ما يقرب من المهرجان منه إلى المؤتمر الحزبي الجاد لحركة تواجه تحديات جمة. وليس هناك شك في أن معسكر الرئيس عباس أراد من المؤتمر أن يحسم الصراع على روح فتح، أو ما تبقى من هذه الروح، بتوكيد موقعه كقائد عام للحركة، وهو المنصب المستحدث؛ إضافة إلى الإتيان بلجنة مركزية تسير خلفه بدون أسئلة مزعجة، ومجلس ثوري تغلب عليه أكثرية موالية. وبالرغم من أن مكان انعقاد المؤتمر، وحجم ونوعية عضويته، صبا باتجاه مخطط عباس، فإن الواضح أن الرئيس الفلسطيني لم يقرأ المزاج العام في صفوف الحركة قراءة جيدة. كما أن عباس لم يقدر حجم التدافعات في قيادة الحركة، ليس فقط فيما يتعلق بالمعارضين الراديكاليين، مثل القدومي ومحمد جهاد، ولكن أيضاً بين الذين قبلوا نهج ومظلة أوسلو.

كان ثمة مجموعات إصلاحية من قيادات الصف الثاني في الحركة تتدبر مصير الحركة منذ شهور؛ وقد وجدت في انعقاد المؤتمر فرصة لتوكيد دورها وموقعها. تضم هذه المجموعات شخصيات مثل محمود العالول (النائب في المجلس التشريعي، ومحافظ نابلس السابق، وحسام خضر، الناشط في تنظيم الحركة بالضفة الغربية، وبعض قيادات شهداء الأقصى المحلية، واللواء عثمان أبو غربية عضو المجلس الثوري، الذي ينتمي إلى جيل العرفاتيين التقليديين. ونظراً لأن جبريل الرجوب، قائد الأمن الوقائي السابق في الضفة الغربية، يعمل منذ زمن على إعادة بناء صورته وتوكيد موقعه الوطني، فقد وجد نفسه تلقائياً في صف الإصلاحيين. ولكن المفاجأة كانت في تقدم أحمد قريع صفوف المعارضين الإصلاحيين، ربما لخشيته من أن يكون تحالف عباس المفاجئ مع غنيم مقدمة لأن يخلف الأخير عباس في رئاسة سلطة الحكم الذاتي.


ليس هؤلاء معارضين راديكاليين لعباس ومعسكره، ولكن من الخطأ تجاهل الأرضية التي ينطلقون منها. هؤلاء في أغلبهم لا يعارضون مفاوضات السلام، ولكنهم يعارضون نهج التفاوض الحالي؛ لا يرفضون وجود سلطة الحكم الذاتي، ولكنهم يرفضون تسليم مقاليد السلطة لغير الفتحاويين من أمثال فياض؛ وهم بالتأكيد يختلفون مع حركة حماس، ولكنهم يريدون العمل بجدية للتوصل إلى صيغة للمصالحة ورص الصف الوطني الفلسطيني؛ وبالرغم من أنهم لا يعملون بالضرورة لاستئناف المقاومة المسلحة، فإنهم يرون سياسة تحويل حماس وقوى المقاومة الأخرى إلى عدو، بدلاً من أن تكون الدولة العبرية هي العدو، انحرافاً عن ثوابت فتح وتاريخها. ولكن فرص هؤلاء في انتخابات عضوية اللجنة المركزية كانت متفاوتة إلى حد كبير.


في خطوة مفاجئة، استطاع إصلاحيو المؤتمر إيصال اللواء عثمان أبو غربية إلى مقعد رئاسة المؤتمر، موقعاً الهزيمة بمرشح معسكر الرئيس عباس، صخر بسيسو، الذي لعب دوراً رئيساً في المجلس الثوري لتأمين انعقاد المؤتمر ببيت لحم. ثم شهد المؤتمر طوال ثلاثة أيام تدافعاً عالي الوتيرة أحياناً حول عدم قيام اللجنة المركزية بتقديم تقريرها للمؤتمر؛ وحول الطريقة التي سيمثل بها تنظيم قطاع غزة في المواقع القيادة، وكيفية حساب أصوات أعضاء المؤتمر في غزة؛ وحول مسؤولية محمد دحلان والملتفين حوله عن خسارة فتح للانتخابات التشريعية ولقطاع غزة. ولكن أياً من القضايا التي أثيرت لم تبحث في شكل معمق. ما حدث هو أن أهم الملفات لم يثر أصلاً في قاعات المؤتمر، والبعض الآخر بحث على طريقة جلسات المقاهي وليس بما يليق بالمؤتمر العام الأول لفتح منذ عشرين عاماً. تشمل بعض هذه الملفات: مسار السلام والتفاوض بين الفلسطينيين منذ توقيع اتفاق أوسلو؛ تقدير مستقبل عملية السلام والبدائل المطروحة أمام الشعب الفلسطيني؛ المصالحة الوطنية الفلسطينية؛ علاقة حركة فتح بالسلطة الفلسطينية، سواء حكومة السلطة أو مؤسساتها الأمنية؛ وواقع منظمة التحرير الفلسطينية وكيفية إعادة بناء المنظمة وتفعيلها.


إحدى أهم وثائق المؤتمر كانت تلك المتعلقة بالبرنامج السياسي للحركة. ولكن قبل أن يطرح البرنامج السياسي المقترح على المؤتمر، طرح عضو المؤتمر محمود العالول ورقة تتضمن مجموعة من النقاط السياسية المهمة من أهم ما ورد فيها ما يلي:



1- إن حركة فتح تتمسك بكونها حركة تحرر وطني تهدف إلى إزالة ودحر الاحتلال وتحقيق الاستقلال للشعب الفلسطيني، وهي جزء من حركة التحرر العربية ومن جبهة القوى العالمية الساعية إلى حرية واستقلال الشعوب.


2 ـ تؤكد حركة فتح أن تناقضها الأساسي هو مع الاحتلال الإسرائيلي، وأن أي تناقضات أخرى هي تناقضات ثانوية تحل بالتواصل والحوار مع الاحتفاظ بالحق في استخدام كل الوسائل المتاحة للدفاع عن الوحدة الوطنية والشرعية الفلسطينية والقرار الوطني الفلسطيني المستقل.


3- إن حركة فتح ستبقى كما كانت وفية للشهداء وتضحياتهم وتناضل من أجل حرية الأسرى، وتؤكد على تمسكها بثوابت الشعب الفلسطيني المتعلقة بالأرض والقدس وتحريرهما، والاستيطان وإزالته، واللاجئين وعودتهم.


4- على الرغم من تمسكنا بخيار السلام العادل وسعينا من أجل إنجازه، فإننا لن نسقط أيا من خياراتنا، وإننا نؤمن بان المقاومة بكل أشكالها حق مشروع للشعوب المحتلة في مواجهة محتليها.


5- يعتبر هذا الإعلان جزءا لا يتجزأ من البرنامج السياسي الصادر عن المؤتمر العام السادس لحركة التحرير الوطني الفلسطيني 'فتح'." وقد نالت الورقة فعلا إجماع المؤتمر.


الواضح أن العالول ومجموعته أرادوا من ورقة النقاط الخمس التوكيد على ثوابت حركة فتح ومواجهة الخطاب الفئوي الذي حاول تقديم حماس في موقع العدو والخصم، وتجاهل الصراع الحقيقي بين الحركة الوطنية الفلسطينية والدولة العبرية. ولكن من غير الواضح ما إن كانت ورقة النقاط الخمس قد ألحقت بالفعل بالبرنامج السياسي، الذي لم يقدم جديداً على صعيد قراءة مسيرة فتح في العقدين الماضيين، والمهام الكبرى التي لا بد أن تتصدى لها في المرحلة المقبلة، والوسائل التي يمكن اعتمادها للتصدي لهذه المهام. وحتى إشارة البرنامج السياسي لوسائل النضال المختلفة جاءت في صيغة غامضة، واستندت إلى الشرعية الدولية، وليس إلى حق الشعوب الأصلي في مقاومة المحتل. كما كان نقاش الملفات الهامة في قاعة المؤتمر قاصراً أو مقتضباً ومهرجانياً، كذلك جاء نص البرنامج السياسي عمومياً أو غامضاً.



اللجنة المركزية الجديدة





بمثل قيادة حركة فتح الجديدة لم يعد للجدل حول البرنامج السياسي الذي أقره المؤتمر من قيمة؛ فالبرامج السياسية للقوى الحزبية وحركات التحرر تحملها قيادات وهيئات قيادية. والهيئة القيادية التي أعلنت لتقود فتح خلال السنوات المقبلة لا توحي في أغلبيتها بتكريس الأمر الواقع فحسب، بل تعزيز الخط السياسي الذي يقوده عباس منذ 2005 على الأقل
بمعزل عن انتخابات اللجنة المركزية، اختار المؤتمر بالتزكية الرئيس محمود عباس قائداً عاماً لحركة فتح. الاختيار بالتزكية ليس بدعة في مؤتمرات فتح العامة، فقد جرى التقليد في مؤتمرات سابقة أن تؤكد عضوية القادة المؤسسين في اللجنة المركزية بالتزكية.

البدعة غير المسبوقة كانت في إعلان عباس قائداً عاماً للحركة، وهو ما يعني تمييزه عن بقية أعضاء اللجنة المركزية، الأمر الذي لم يتمتع به حتى عرفات نفسه في ذروة شعبيته. وليس من الواضح إن كانت لوائح فتح الداخلية قد عدلت لتقنين وجود مثل هذا المنصب؛ الأمر الذي ذكر به فاروق القدومي في تعليق له على أعمال المؤتمر. وليس ثمة شك في أن عباس أراد أن تكون اللجنة المركزية الجديدة على صورته، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير.


فقد تشكلت اللجنة المركزية الجديدة من كتلة كبيرة من أنصار عباس ومحمد دحلان، اللذين يعتقد بأنهما على تحالف وثيق منذ أيام عرفات الأخيرة. ولم يصل إلى عضوية اللجنة المركزية من العناصر الإصلاحية، التي ترفع شعار الحرص على ثوابت فتح، سوى اثنين أو ثلاثة (محمود العالول وعثمان أبو غربية؛ وليس من الواضح إن كان جبريل الرجوب سيقف إلى جوارهما).


وقد استبعد من عضوية اللجنة المركزية كل الشخصيات الكبيرة التي يمكن أن تقف في وجه عباس، أو تشكل مركز معارضة له، بما في ذلك أحمد قريع (أبو العلاء)، مفاوض اتفاق أوسلو، والشريك الرئيس في قيادة سلطة الحكم الذاتي منذ تأسيسها.


ولم يكن غريباً بالتالي أن تثير هذه النتائج شكوكاً جدية حول مصداقية الانتخابات، التي استهلكت وقتاً طويلاً بالتأكيد، اقتراعاً وفرزاً، وحضر لها أصلاً بعناية فائقة من خلال إغراق المؤتمر بأكثر من 700 من الأعضاء الجدد قبل أيام فقط من الانعقاد، إضافة إلى ما تم الاتفاق عليه في اللجنة التحضيرية. لم تأت الشكوك من قيادات رئيسة في تنظيم فتح في قطاع غزة وحسب، بل جاءت من أحمد قريع في أول مقابلة صحفية له بعد انتهاء أعمال المؤتمر (القدس العربي، 13 أغسطس/ آب).


وعلى خلفية من هذه الشكوك، استقالت اللجنة العليا لتنظيم فتح في قطاع غزة بكافة أعضائها، وألمح قريع إلى اتصالات تجري بين أعضاء سابقين في اللجنة المركزية وقيادات تنظيمية في مختلف المناطق لتشكيل كتلة فتحاوية جديدة.


ومن المتوقع أن تتفاقم أزمة تشكيل اللجنة المركزية الجديدة خلال الأيام والأسابيع القادمة. وإن كانت الانتخابات أخذت أكثر من يومين، وفرز الأصوات للجنة المركزية يومين آخرين، فإن فرز الأصوات للمجلس الثوري استهلك عدة أيام أخرى، ربما للتأكد من الصورة التي يمكن أن يكون عليها المجلس، الذي ينتخب المؤتمر ثمانين من أعضائه.


بمثل هذه القيادة للحركة لم يعد للجدل حول البرنامج السياسي الذي أقره المؤتمر من قيمة؛ فالبرامج السياسية للقوى الحزبية وحركات التحرر تحملها قيادات وهيئات قيادية. والهيئة القيادية التي أعلنت لتقود فتح خلال السنوات المقبلة لا توحي في أغلبيتها بتكريس الأمر الواقع فحسب، بل تعزيز الخط السياسي الذي يقوده عباس منذ 2005، على الأقل.


أزمة فتح المستعصية





كان من الضروري لفتح في مؤتمرها العام أن تحدد ما إن كانت ستسعى للعودة إلى دور القوة المركزية وحارسة الإجماع الفلسطيني، أم إن كانت تعترف بحقيقة تحولها إلى مجرد قوة رئيسية وبانقسام الساحة الوطنية
كان هدف، وأمل، أغلبية كوادر فتح وقاعدتها أن يصبح المؤتمر العام مناسبة لإعادة الروح والحيوية لحركة فتح؛ وقد كانت الكوادر التنظيمية على وجه الخصوص تضغط خلال الأعوام القليلة الماضية من أجل انعقاد المؤتمر. الأمل في التغيير واستعادة تماسك الحركة وحيويتها استدعته جملة متغيرات طرأت على موقع فتح ودورها في العقدين الماضيين.

تعتبر فتح واحدة من أهم القوى تأثيراً في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وقد استطاعت فتح خلال فترة قصيرة بعد هزيمة 1967 إعادة إنشاء الإجماع الوطني الفلسطيني؛ وبصعودها كمركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية، أصبحت فتح حارسة هذا الإجماع. منذ منتصف السبعينات، أخذ موقع فتح ودورها في التآكل، ولكن هذا التآكل لم يتضح في صورة حادة إلا بعد التوقيع على اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية في 1994. وفي 2006، خسرت فتح الانتخابات التشريعية، ولم يعد هناك مجال للشك في انقسام الساحة الوطنية الفلسطينية. إن كل المتغيرات الكبرى التي تركت تأثيرها السلبي على موقع فتح ودورها وقعت خلال العقدين التاليين لانعقاد مؤتمر فتح الخامس في 1989. وكان من المفترض أن يكون المؤتمر السادس محطة بالغة الأهمية لإعادة النظر في موقع فتح ودورها، بعد التراجعات الكبيرة التي عاشتها منذ المؤتمر الخامس.


كان من الضروري لفتح في مؤتمرها العام أن تحدد ما إن كانت ستسعى للعودة إلى دور القوة المركزية وحارسة الإجماع الفلسطيني، أم إن كانت تعترف بحقيقة تحولها إلى مجرد قوة رئيسية وبانقسام الساحة الوطنية، وتعمل بالتالي على التعايش مع الوضع الجديد وعلى أن يتحول الانقسام إلى رافد قوة للحركة الوطنية. أي من الخيارين يتطلب سياساته وخطابه الخاص. ولكن لا في نقاشاته، ولا في برنامجه، ولا في قائمة لجنته المركزية الجديدة، بدا المؤتمر وكأنه يواجه الأسئلة الكبرى التي كان ينبغي أن يواجهها. أكد المؤتمر السادس في كافة أبعاده تقريباً، على تكريس الأمر الواقع، بل وتعزيزه؛ بمعنى أن المؤتمر انتهى إلى تكريس النهج الذي يقوده الرئيس عباس، والذي دفع فتح إلى الانحدار طوال العقدين الماضيين. وليس هناك من سند ملموس لما يقال بأن المؤتمر أدخل دماء جديدة إلى اللجنة المركزية، وأن هذه الدماء ستستعيد حيوية الحركة. فالحقيقة أن أغلب أعضاء اللجنة المركزية الجدد هم من أكثر العناصر تأثيراً في قرار السلطة الفلسطينية منذ سنوات؛ وبعضهم كان أكثر تأثيراً بكثير من الأغلبية العظمى من أعضاء اللجنة المركزية القديمة. ومن المؤكد أن عدداً من الأعضاء الجدد لا يرقى في تماسكه الأخلاقي وفي صلابته السياسية لكثير من أعضاء اللجنة السابقة. فتح لم تشهد صراع أجيال، بل عاشت أزمة طويلة وصراع سياسات؛ وقد حسم المؤتمر الوضع لصالح عباس ومعسكره.


إن وجود فتح وحيويتها هو بالتأكيد حاجة ضرورية للشعب الفلسطيني، ليس فقط لتجربتها التاريخية، ولكن أيضاً، وهذا هو الأهم، لأن هناك قطاعاً ملموساً من الفلسطينيين لم يستطع التيار الإسلامي الفلسطيني، منافس فتح الرئيس، استيعابه حتى الآن. بدائرتها العريضة، توفر فتح مكاناً لقطاعات واسعة من قوى الشعب الاجتماعية وفئاته. ولكن الواضح أن المؤتمر السادس لم يوفر نافذة ولا ضمانة لاستمرار وجود فتح باعتبارها قوة فاعلة في الساحة الوطنية. حالة التأزم التي عاشتها فتح منذ قيام سلطة الحكم الذاتي ستستمر؛ وربما كانت فتح قد دفعت، بلا رجعة، نحو نهاية طويلة ومريرة، إلى أن تستطيع قوة فلسطينية أخرى احتلال موقع التيار المركزي، وإعادة بناء الإجماع الوطني.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات