نبسط فيما يلي ملخصا وافيا للتقرير الصادر عن مؤسسة الدراسات الدولية (U.S.A.K)، وهي مؤسسة بحثية (think tank) تعمل ضمن قانون منظمات المجتمع المدني التركي وتقوم بدراساتها وأبحاثها بدعم من تبرعات أعضائها ورجال الأعمال المؤسسين لها، فضلا عن الواردات التي تكسبها من المشاريع التي تعدها.
ويهدف المركز من تقديم هذا الملخص إلى إلقاء الضوء على موضوع يتعلق بوضع القومية الكردية في المنطقة، وأثره على استقرارها.
والتقرير يعبر رأي المؤسسة التي أصدرته، والآراء الواردة فيه لا تعبر بالضرورة عن رأي مركز الجزيرة للدراسات.
ترجمة وتلخيص/ د. برهان كوروغلو
الملخص العام
إستراتيجية تركيا في شمال العراق
حق تركيا في الملاحقات خارج الحدود
ما خطة تركيا؟
هل يجب أن تقوم تركيا بالعملية العسكرية؟ وكيف؟
توصيات
" يعي البارزاني والطالباني أن تأسيس دولة كردية سيعرضها للخنق من قبل تركيا وسوريا وإيران والعرب في العراق، وأن تركيا ستكون المقرر الرئيسي في بقاء هذه الدولة الكردية على قيد الحياة من عدمها " |
الأول: السبب الأيديولوجي
يركز حزب العمال الكردستاني على القومية الكردية ويهدف إلى وحدة الأكراد، ومع أنه غير قادر على تحقيق هذه المهمة، إلا أنه يستعمل خطابا كرديا مدويا ويعمل على الاستفادة من التطورات الدولية. ولذلك ما لم تحل المشاكل السياسية والاقتصادية للفصائل الكردية بشكل جاد ومستقر فإن الجماعات الكردية، مثل حزب العمال الكردستاني، ستجد الأرضية الأيديولوجية المناسبة لاستمرار عملياتها العسكرية بشكل دائم.
إن ادعاء حزب العمال الكردستاني والفصائل الكردية المشابهة له بأن الشعب الكردي هو أكبر شعب في العالم بدون دولة ظل يغذي التمرد الكردي على امتداد عقود متتالية، وعلى هذا الأساس فإنه من شأن عدم تأسيس دولة مستقلة أو فدرالية أو حركة سياسية قادرة على التعبير عن نفسها بشكل ديمقراطي أن يوفر الأرضية المناسبة للحركات الانفصالية في تركيا لاستغلال هذا الوضع.
ثانيا: عنصر البارزاني والطالباني
يمثل الأمل في استعادة الأرض في شمال العراق، كما هو الأمر عند البارزاني والطالباني، عنصرا آخر في الأيديولوجية الكردية، ورغم أنه ليس لهما نظام مستقر في المنطقة، فإن مجموعة البارزاني خصوصا تراهن على تقريب الأكراد والحركات الكردية في المنطقة إليها.
يعي الرجلان أنه في حالة تأسيس أي دولة كردية في المنطقة فإنها قد تتعرض لخنق من قبل تركيا وسوريا وإيران والعرب في العراق، وهما على يقين بأن تركيا ستكون المقرر الرئيسي في بقاء هذه الدولة الكردية على قيد الحياة من عدمها، ولكن ليس لديهما إلا آليات محدودة للضغط على تركيا، ألا وهي: 1- الولايات المتحدة الأميركية. 2- حزب العمال الكردستاني. 3- مناقصات الشركات الدولية.
من الواضح أن الأكراد لا يثقون بالولايات المتحدة على المدى البعيد. أما على الصعيد التركي فإنهم يعملون على إرضاء الإدارة والرأي العام التركيين عبر تقديم المناقصات للشركات التركية. ولقد ثبت لديهم أن أحسن طريقة في الضغط على تركيا هي استغلال حزب العمال الكردستاني، ولذلك تستعمل الإدارة الكردية هذه الورقة أداة لمنع تركيا من أي تحرك في المنطقة.
إن أسلوب البارزاني الشديد ضد تركيا في بعض الأحيان ودفاعه عن حزب العمال الكردستاني يرمي إلى إنشاء حركة قومية كردية غير موجودة أصلا. وعلى عكس ما يظن الكثير فإن حركة البارزاني بعيدة كل البعد عن تأسيس أي حركة كردية ذات ميول قومية قوية. إن المجتمع الكردي في شمال العراق ما زال يعيش على شكل مجتمعات عشائرية منقسمة، ولذلك فإن الإدارة الكردية بحاجة إلى عدو اصطناعي لتحقيق الوحدة وتقوية الشعور القومي، ويجب أن يبدو هذا العدو كبيرا ولكن دون أن يصل حد القضاء على الحركة الكردية، ويبدو أن البارزاني يريد أن يستفيد من عداوة تركيا لتحقيق مطامحه القومية الكردية.
ثالثا: أكراد العراق
" يقدم شمال العراق فرصا لوجستية لتهريب المخدرات والأعمال غير القانونية التي تشكل الدخل الأكبر للإرهاب " |
إن إبراز تلك الحقيقة وإثباتها في التعامل مع أكراد العراق من شأنه أن يضعف حزب العمال الكردستاني ويقوض مطالبه الانفصالية.
رابعا: السبب اللوجستي
إن حزب العمال الكردستاني كلما أوشك أن ينهار في فترات مختلفة استطاع استرجاع حيويته في شمال العراق، الواقع في مفترق الطرق بين سوريا وتركيا والعراق.
وما لم تكن في هذه المنطقة الحساسة قوة صديقة لتركيا فإن المخاطر على الأمن القومي التركي ستظل حاضرة. إن وجود الولايات المتحدة في المنطقة بسياساتها الخاطئة، بالإضافة إلى نشاط حزب العمال الكردستاني، من شأنه أن يحول المنطقة إلى مركز "للإرهاب"، فأي نوع من الوجود الإرهابي سيجعل من شمال العراق –الذي هو معبر العراق إلى تركيا- المكان المفضل لتدريب "الإرهابيين"، إذ سيحصلون على السلاح من هناك، فضلا عن التخطيط لهجماتهم على تركيا.
ويقدم شمال العراق فرصا لوجستية لتهريب المخدرات والأعمال غير القانونية التي تشكل الدخل الأكبر للإرهاب. وباختصار عام يمكن القول إن شمال العراق سيظل أهم مكان للدعم اللوجستي ضد تركيا، وإذا لم توجد قوة متفقة ومتعاونة مع تركيا فإنه من الصعب عليها قطع هذا الدعم اللوجستي بسهولة.
خامسا: النقطة السوداء
إن عدم وجود أي هيمنة مطلقة للحكومة العراقية أو الولايات المتحدة الأميركية، أو حتى المجموعات الكردية المحلية في المنطقة، يمنح حزب العمال الكردستاني والأجهزة الاستخباراتية المختلفة، فضلا عن المنظمات الإجرامية غير القانونية، الحرية الكاملة في التصرف والتحركات "الإرهابية"، في وقت أضحت المنطقة اليوم مسرحا لعمليات الجاسوسية والإرهاب نتيجة استمرار حالة الفوضى فيها.
سادسا: قطع الارتباطات وإزالة الأصول
" ازدياد التكامل الاقتصادي والاجتماعي بين السوقين التركية والعراقية سيضعف الإرهاب، وغياب مثل هذا التكامل يؤدي إلى زيادة إرهاب حزب العمال الكردستاني " |
كذلك الوضع في علاقة إسبانيا مع إيتا، حيث استمرت في حربها على الإرهاب حتى تقطع فرنسا دعمها الرسمي وغير الرسمي عن إيتا.
أما في موضوع حزب العمال الكردستاني فإن الأمر يبدو مختلفا بعض الشيء، فشمال العراق الفاقد للاستقرار يشكل العنصر الأهم في تعميق الميولات "الإرهابية" لحزب العمال، ولذلك فإن رجوع الاستقرار إلى المنطقة وسيطرة القوى الصديقة لتركيا فيها من شأنه أن يفقد الإرهاب عمقه هناك.
ومن المعلوم في هذا الصدد أن اتخاذ تدابير أمنية صارمة ضد "الإرهاب" من قبل سوريا وتركيا قد جعل شمال العراق المنفذ الوحيد "للإرهابيين".
سابعا: التنمية الاقتصادية في جنوب شرق تركيا
تعد التنمية الاقتصادية والاجتماعية واحدا من أهم العناصر في الحرب على "الإرهاب"، لذا يجب تشجيع المنطقة على تطوير العلاقات بين دول الجوار شعوبا وحكومات. إن ازدهار العلاقات التجارية بين المنطقة المعرضة "للإرهاب" والدول المجاورة من شأنه أن يكسر شوكة "الإرهاب".
إن الدول المجاورة لمنطقة جنوب شرق تركيا هي سوريا والعراق وإيران، ومن المعلوم في هذا الصدد أن تركيا قد قطعت شوطا متقدما في تطوير العلاقات التجارية مع سوريا، ويلاحظ نتائج هذا التطور في ازدهار مدينة غازي عنتب الحدودية، بيد أن هناك مدنا حدودية أخرى، مثل حقاري وشرنق وبطمان، قد بقيت من بين أفقر المدن في مجال الاستثمارات والتجارة الخارجية، نظرا لأن أهم سوق لهذه المناطق هو العراق الغارق في أزمته، ولكن الحرب في العراق رغم كل مضارها لا تخلو من بعض الفوائد.
كما هو معروف فإن نسب الأرباح ترتفع في مناطق الحرب والقتال، والشركات التي تتحمل مخاطر الأمن تدخل السوق بسهولة أكثر، ولذلك ليس غريبا أن يقدم العراق فرصا كبيرة لهذه المدن في جنوب شرق تركيا.
إن التجار القريبين من الشعب العراقي في الشمال من ناحية الثقافة والذين هم متعودون على المخاطر الأمنية، يجنون مكاسب مهمة من تجارتهم مع شمال العراق. وعلى هذا الأساس فإن ازدياد التكامل الاقتصادي والاجتماعي بين هذين السوقين لا بد من أن يضعف الأرضية الاجتماعية والاقتصادية "للإرهاب"، وغياب مثل هذا التكامل يؤدي إلى زيادة إرهاب حزب العمال الكردستاني.
ثامنا: عدم إعطاء فرصة للدول الأخرى
إن أهم تأثير جانبي "للإرهاب" هو أن تتعرض دولة محددة لعمليات عسكرية من دول أخرى، وهذا ما يتعرض له شمال العراق.
إن وجود رجال استخبارات للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وبريطانيا وروسيا والاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى وجود عناصر غير قانونية لهذه الدول في العراق، وخاصة في شماله، لم يعد أمرا سريا، ومثل هذا الوضع يمكن أن يشكل خطرا على تركيا في أي لحظة من اللحظات.
تاسعا: عنصر إسرائيل والمحافظين الجدد
إن التوتر الذي اهتم به الغرب إلى حدود عام 1990 كان محوره سوريا ولبنان وإسرائيل ومصر، وقد أدى هذا التوتر المكثف في المنطقة الضيقة إلى الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل لتركيز سياستيهما في هذه المنطقة من العالم.
أما حرب الخليج الثانية والحرب على العراق فقد نقلتا هذا التوتر إلى شرق المنطقة، حيث تم ضبط محور "الخطر الجديد" بين سوريا والعراق وإيران. وهذا الوضع ينذر بحلول مشاكل كبيرة لتركيا، إذ يلاحظ أن الخط المذكور يشكل مساحة كبيرة متاخمة لحدود تركيا، وإن أخطر بقعة في هذه المنطقة المتوترة هي شمال العراق.
إستراتيجية تركيا في شمال العراق
مرحلة ما قبل حرب العراق
" اتبعت تركيا سياسة مركبة في الحالة الكردية العراقية فحاولت ملء الفراغ بعد حرب الخليج داعمة البارزاني والطالباني لضمان استقرار شمال العراق لكنها لم تسمح لهما بتدمير بعضهما في نفس الوقت " |
يتأسس موقف تركيا في التعامل مع شمال العراق منذ البداية في عدم الاهتمام بأمره، مادام التصور الغالب أنه لا يتأتى منه خطر حقيقي على الأمن القومي التركي. فكل هَمّ تركيا ما قبل حرب الخليج كان منصبّا على "إرهاب" حزب العمال الكردستاني وأمن المنطقة، ولم يلتفت المسؤولون إلى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعرقية في المنطقة، فضلا عن كونهم لم يهتموا حتى بالتركمان بالقدر الكافي، وكانت علاقة تركيا بالعراق في عهد صدام حسين علاقة ذات طابع رسمي بين عاصمتي البلدين، ولم ترتق إلى مستوى العلاقة الشعبية المتينة لأسباب كثيرة.
ومن المعلوم أن تركيا لم تستعمل الورقة الكردية، بينما عملت دول المنطقة بأشكال متفاوتة على استغلال وجود الأكراد لمصالحها.
فقد ساندت كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأكراد بواسطة شاه إيران، بينما دعم الاتحاد السوفياتي أكراد إيران ضد حكومة طهران، ومن جهة أخرى دعمت كل من سوريا واليونان حزب العمال الكردستاني ضد تركيا.
إن عدم اهتمام تركيا بالأكراد قد جعلها غافلة عما يجري في المنطقة، ولما عبَر أعضاء حزب العمال الكردستاني الحدود التركية العراقية وقاموا بأعمال "إرهابية" ردت عليهم تركيا بعمليات خارج حدودها ضمن الاتفاقية الموجودة بين البلدين، وتجاوزت الاتفاقية أحيانا، ولاحقت "الإرهابيين" على الرغم من اعتراضات حكومة بغداد، على أنه من الصعب القول إن تلك العمليات التي دامت خلال التسعينيات قد حققت أهداف تركيا المرجوة.
اتبعت تركيا سياسة مركبة في الحالة الكردية العراقية، فقد حاولت ملأ الفراغ الذي ظهر بعد حرب الخليج، فكان أن دعمت البارزاني والطالباني لضمان استقرار شمال العراق، ولكنها لم تسمح لهما بتدمير بعضهما في نفس الوقت.
فإذا حدث أي نزاع بينهما تدخلت تركيا وأصلحت بينهما، ولكنهما على صعيد آخر، إذا حاولا أن يتحدا منعتهما من ذلك. وتفسير ذلك أنها كانت تتخوف من ضعفهما حيث يمكن لحزب العمال الكردستاني أن يملأ الفراغ الحاصل من ضعفهما، ولكنها في نفس الوقت لم تسمح لاتفاقهما الذهاب بعيدا باتجاه نضوج فكرة الدولة الكردية.
والخلاصة أن تركيا نهجت سياستين متناقضتين، حيث ساندت تكوين كيان سياسي كردي في المنطقة، بيد أن هذه السلطة الكردية لم تحل دون وجود حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.
أما في مرحلة ما بين حرب الخليج الثانية والحرب على العراق فقد كان وجود تركيا في المنطقة عسكريا بالأساس مما عمق عدم ثقة الأكراد بتركيا. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الوضع الحالي في المنطقة هو نتاج مجموع الأخطاء التي ارتكبت من قبل الحكومات التركية المتعاقبة خلال التسعينيات، ويمكن تلخيص تلك الأخطاء فيما يلي:
- ترك المنطقة في يد قوات الأمن فقط.
- عدم تكوين أو تحديد إستراتيجية بعيدة المدى في التعامل مع الملف الكردي.
- إن بعض المسؤولين الأتراك تدخلوا فيما لا يعنيهم من سيادة العراق الداخلية، وتدخلوا أيضا في وضع التركمان هناك، مما أضر حتى التركمان أنفسهم.
- لم يكن هناك ارتباط قوي بين هؤلاء الأشخاص وحكومة أنقرة.
- السفارة التركية في بغداد لم تكن فعالة بالقدر المطلوب، ولم تكن ممثلا جديا للمصالح التركية في العراق.
- إن تركيا لم تعر اهتماما يذكر باللغة الكردية، بما في ذلك البث باللغة الكردية، وخلافا لذلك فإن الأطراف الأخرى في المنطقة، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا وغيرها من الدول التي تحاول أن تؤثر في المنطقة، كانوا يبثون باللغة الكردية، وقد أدت هذه القطيعة في مجال الإعلام إلى سوء التفاهم بين تركيا وأكراد المنطقة.
السياسات والأخطاء بعد حرب العراق
أدل العديد من الشخصيات التركية ببيانات ومواقف محددة عن المسألة الكردية، بيد أن أكثرها لم يكونوا ممثلين حقيقيين للسياسة التركية. فقد بينت تركيا أنها معارضة لفكرة تقسيم العراق، كما أنها ترفض وجود دولة كردية في نفس الوقت، وهي إلى جانب ذلك رفضت فكرة الفدرالية. ولعدم وجود مواقف أخرى، فُهم من ذلك أنه لا يوجد لتركيا خطة بديلة، وبعبارة أخرى فإن تركيا قد ضيقت ساحة المناورات على نفسها.
إن محور السياسة التركية في العراق منذ بداية حرب الخليج الثانية يتمركز حول مسألتي الأكراد والتركمان، وهذا الأمر قد أضعف سياسة تركيا وتأثيرها داخل العراق.
ومن المعلوم في هذا الصدد أن بعض العناصر الداخلية قد أضلت المسؤولين الأتراك، حيث ادّعت هذه العناصر أن عدد التركمان يتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين نسمة، وهم جماعة متجانسة.
ولكن تبين فيما بعد أن هذا الادعاء ليس صحيحا، فعدد التركمان الذين يشعرون بالهوية التركمانية أدنى من الرقم المذكور، وغالبية التركمان تكرّدوا أو تعرَّبوا، أو نسبوا أنفسهم إلى الأكراد أو العرب بعد أن رأوا أنه لا فائدة اليوم في أن يكون العراق تركمانيا.
أما الذين يشعرون بالهوية التركمانية القوية فعندهم انتماءات أخرى، كانتمائهم للشيعة، وفي هذه الحالة فإن فرضية وجود أقلية تركمانية قوية تتحرك ككتلة واحدة فرضية خاطئة، إذ كشفت الانتخابات واستطلاعات الرأي التي أجريت في العراق عن هذا التضليل الموجه لتركيا.
أما "الممثلون" الأتراك المرتبطون بقوات الأمن التركي فلم يتبعوا مناهج ديمقراطية، بل تدخلوا بالسياسة التركمانية بشكل غير صحيح مما أدى إلى ردود فعل غير مرغوب فيها وانشقاقات مضرة داخل الجبهة التركمانية، بينما كان من الأحرى أن يتم تحديد السياسة الخارجية إزاء الملف التركماني من قبل الإداريين المدنيين.
حق تركيا في الملاحقات خارج الحدود
الإطار الحقوقي
" لا يستند احتلال الولايات المتحدة للعراق واحتلال إسرائيل لجنوب لبنان إلى الحقوق الدولية، بقدر ما يشير إلى ضعف الحقوق الدولية في منع الدول القوية من تصرفاتها المخالفة للقانون " |
إن حق الملاحقة الحامية ينشأ في الغالب في مجال حقوق البحر، وفي بعض الحالات الخاصة فقط يعترف به في المجال البري. ففي البحر يعتبر حق الملاحقة ليس طبيعيا، بل هو مرتبط باتفاقيات ثنائية ودولية، أما في المجال البري فإن حق الملاحقة يظل محدودا بشكل كبير، ومهما يكن حجم الجريمة المقترفة فإن قوات أمن الدولة المعنية ليس من حقها تجاوز الحدود البرية للدولة المجاورة.
ومن المعلوم هنا أن الدول القومية حساسة جدا في شأن حدودها القومية، وحتى الدول التي تستضيف المعسكرات الأجنبية على أراضيها تحاول أن تضع قيودا على تحرك الجنود الأجانب داخل حدودها.
أما قضية العمليات العسكرية خارج الحدود فالأمر أعقد وأصعب من ذلك، لأن مثل هذه العملية تدور في دولة أجنبية، والأمم المتحدة واعية بحساسية هذه المسألة، ولذلك فإنها تضع أحكاما وشروطا من شأنها أن تصعب هذه العمليات أكثر.
هناك شرطان مشروعان للتدخل العسكري خارج الحدود القومية من وجهة نظر الأمم المتحدة: الأول: الدفاع عن الذات في حالة مواجهة مخاطر محدقة وملموسة. والثاني: قرار اللجنة الأمنية بمشروعية هذا التدخل.
وعند التحقيق الجدي يتبين أنه من الصعب جدا على تركيا إقناع اللجنة الأمنية بمشروعية هذا التدخل، وكما هو معروف فإن الولايات المتحدة لم تتمكن من إقناع اللجنة الأممية بالسماح بالتدخل العسكري في العراق، ومع أن أميركا تدعي أن العملية التي قامت بها مشروعة، فإن المجتمع الدولي يعتبرها إخلالا بالقوانين الدولية، وهذا ما ينطبق على تركيا أيضا التي تحاول تسويغ تدخلها في شمال العراق بحجة الدفاع المشروع، بيد أنها لم تنل الغطاء الدولي الذي يسمح لها بمثل هذا التدخل.
وكما رأينا فإنه لا توجد من ناحية الحقوق الدولية أحكام قوية من شأنها أن تدعم التدخل التركي في شمال العراق، أما احتلال الولايات المتحدة للعراق أو احتلال إسرائيل لجنوب لبنان فلا يستندا إلى الحقوق الدولية، بقدر ما يشيران إلى ضعف الحقوق الدولية في منع الدول القوية من تصرفاتها المخالفة للقانون، وقد كان التدخل العسكري في تلك الحالات يستند إلى القوة السياسية والعسكرية، وإرضاء الدول العظمى أو تأمين حيادها في الحد الأدنى أكثر من استنادها إلى القانون الدولي.
الاتفاقيات الثنائية
هناك ثلاث اتفاقيات تم التوقيع عليها بين تركيا والعراق:
- الأولى: اتفاقية حدود في الخامس من يونيو/حزيران 1926 عقدت في أنقرة بين تركيا وبريطانيا والعراق، وتتضمن اعتقال وإعادة المجرمين من الطرفين، ولكنها لا تقدم تصريحا بالقيام بالعمليات العسكرية خارج الحدود.
- الثانية: اتفاقية الصداقة وحسن الجوار التي تمت المصادقة عليها يوم 29 مارس/آذار 1946، وهي اتفاقية ملحقة رقم 6. وهي لا تعطي الحق في القيام بعمليات عسكرية خارج حدود الطرفين، بل تؤكد على وجوب ملاحقة المجرمين الذين يقومون بأعمال تخريبية من الطرف الآخر.
- الثالثة: اتفاقية الأمن التي تم إبرامها يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول 1985، فبموجب هذه الاتفاقية تم السماح للجيش التركي بالدخول مسافة خمسة كيلومترات داخل الحدود العراقية دون إذن مسبق من الطرف العراقي، وقد أعطي الحق نفسه للقوات العراقية، ولكن حينما استعمل العراق الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد وبدأ هؤلاء يتدفقون على تركيا، فإنها لم تسمح للعراق باستعمال حق الملاحقة بما سبب وقتها أزمة سياسية بين البلدين، ولذلك فإن الاتفاقية التي عقدت لمدة أربع سنوات لم يتم تجديدها فيما بعد نتيجة هذه الأزمة.
وكما نلاحظ فإن الاتفاقيات الثنائية لم تقو الموقف التركي بقدر ما أضعفته، وفي هذه النقطة يجب أن نتذكر حرب الخليج عام 1991 وما تمخض عنها من نتائج على سلطة بغداد. ومن المعلوم أن العراق قد عجز عن إدارة المنطقة فعليا، وأصبح شمال العراق فعليا منطقة لا تخضع لسلطة الدولة المركزية في بغداد.
ففي تلك الفترة لم ير أكراد العراق في الجيش التركي مهددا لهم، بل عملوا على الحد من فعالية حزب العمال الكردستاني أكثر وعلى مزيد من التعاون مع الجيش التركي. هكذا استطاعت تركيا القيام بعملياتها بالتنسيق مع أكراد المنطقة ودعم من الولايات المتحدة الأميركية، كما استعانت تركيا بقوات البارزاني في بعض عملياتها العسكرية. وهذا الأمر يبين أن تركيا حينما تقوم بعملياتها العسكرية بدعم محلي ودولي فإن الوضع الحقوقي لا يكون موضع نقاش.
الأمر الواقع والوضع الراهن في شمال العراق"
يتراوح عدد مقاتلي حزب العمال الكردستاني بين ثلاثة وخمسة آلاف أما العناصر الناشطة على الحدود فيقدر عددها بحدود ألفي مقاتل تقريبا
"
يوجد الجيش التركي داخل الحدود العراقية فعليا منذ 1992، وهو يقوم بعمليات يصل عمقها حدود 60 كيلومترا، إذا ما بلغته معلومات استخبارية عن وجود إرهابيين في تلك المنطقة داخل العراق، وذلك بالنظر إلى أن البشمركة لا توجد في كل أنحاء الحدود بين العراق وتركيا.
علما أن الجيش التركي في الوقت الراهن يحاول تجنب مواجهة البشمركة والجيش الأميركي، وهما بدورهما يتجنبان مواجهة الجيش التركي، ولكن في الآونة الأخيرة انفردت البشمركة بالسيطرة على أمن المنطقة، حيث ابتعدت القواعد الأميركية عن الحدود، إذ أصبحت أقرب قاعدة أميركية من الحدود بين أربيل وكركوك، وأخرى في الفلوجة.
يتراوح عدد مقاتلي حزب العمال الكردستاني بين 3000 و5000، أما العناصر الناشطة على الحدود فيقدر عددها بحدود 2000 مقاتل تقريبا. لقد فقد هذا الحزب الكثير من قوته بعد القبض على عبد الله أوجلان، والأعضاء الجدد يشكلون مجموعات وأسماء جديدة وغير معروفة.
وهناك عدد كبير من الأطفال والنساء بين "الإرهابيين"، وهذا من شأنه أن يزيد من عدد العمليات الانتحارية، إذ يستغل هؤلاء من قبل القادة في العمليات الانتحارية، أما عدد "الإرهابيين" داخل الأراضي التركية فيقدر عددهم بحدود 1500 مقاتل.
وبعد العام 2003 تم تأسيس أكثر من عشرة معسكرات مسلحة من قبل حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، حيث يقوم أعضاء الحزب بالتعبئة الأيديولوجية والتدريب المسلح، ويحتضن جبل قنديل أكثر المعسكرات في شمال العراق. وتعتمد إستراتيجية "الإرهابيين" ضد الجيش التركي على منهج "الكر والفر"، أما ساحتهم الأساسية للهجمات فهي داخل تركيا.
ومن المعلوم أن جبل قنديل منطقة جبلية تبعد عن حدود تركيا مائة كيلومتر، ويمكن وصول الطائرات العسكرية إليها من الحدود التركية خلال خمس دقائق، ويبعد أقرب مطار عن الحدود التركية 456 كيلومترا، أما أقرب طريق بري إلى جبل قنديل من الحدود التركية فيبعد 150 كيلومترا.
ومن ثم فإن أي هجوم على الجبل عن طريق البر يستلزم دعما جويا، بيد أن الأراضي الجبلية حول معسكرات حزب العمال الكردستاني تجعل من العمليات العسكرية بالغة الصعوبة.
ومن المعلوم أن أتباع حزب العمال الكردستاني الموجودين في جبل قنديل أو في غيره من المعسكرات الأخرى ينتمون إلى ست جنسيات: 1-أكراد العراق 2- أكراد تركيا 3- أكراد سوريا 4- أكراد إيران 5- الأكراد الذين يأتون من أوروبا 6- الأرمن.
كما يلاحظ أن نشاط الأرمن وأكراد سوريا في المنطقة قد ارتفع في الفترة الأخيرة بصورة ملموسة. فحزب العمال الكردستاني يجد صعوبة في جلب متعاطفين من تركيا، ولذلك تدنى معدل سن أكراد تركيا في الحزب، وأكثر أكراد تركيا هم من العاطلين عن العمل ومن غير المتعلمين، ولكن هناك ارتفاعا في عدد الشابات اللاتي يهربن من ضغط الأسرة ويبحثن عن حياة أكثر حركة ونشاطا، ولكنهن يتعرضن لغسيل الدماغ من أجل إقناعهن بالقيام بأعمال انتحارية أكثر من غيرهن، لكن بسبب المضايقات والتحرشات الجنسية التي يتعرضن لها في المعسكرات فإنهن يحاولن الهرب منها، إذ يقدر عدد الهاربات من الحزب 3500 داخل العراق.
إن معوقات العملية العسكرية في جبل قنديل تكمن في طول وصعوبة الطريق البري، بيد أن ما يسهل العمليات العسكرية هناك استهدافها من طرف إيران بالتزامن مع قيام تركيا بهذه العمليات. ويمكن التغلب على صعوبة العمل العسكري عبر التنسيق بين إيران وتركيا، وإذا أخذنا هذه الظروف كلها بعين الاعتبار فإننا نعتقد أن عملية جبل قنديل ليست من الأولويات عند المؤسسة العسكرية التركية بسبب المعوقات المذكورة أعلاه، والأرجح أن تعطى الأولوية للمعسكرات خارج جبل قنديل.
المعسكرات خارج جبل قنديل
أما معسكرات حزب العمال الكردستاني خارج جبل قنديل فهي تتمركز أساسا في السليمانية وآمدي وزاخو وبهدنان وهركوك.
يحاول أعضاء الحزب في بعض القرى أن يشيعوا أيديولوجياتهم، حيث يعلقون صور أوجلان في المدارس ويذيعون الأخبار والدعايات من خلال "روج تيفي" وإذاعة حزب العمال الكردستاني. ومن أهم العقبات التي تواجه هذا الحزب في المنطقة هي قوات البارزاني، إذ إن بعض الأعضاء في الحزب قد التحقوا بقوات البارزاني من أجل الحصول على الأمن والمكانة المرموقة في المجتمع.
صحيح أن البارزاني والطالباني يتسامحان مع حزب العمال الكردستاني لكنهما لا يحبذانه وينتظران زواله مع الزمن. إن نفسية "إرهابيي" حزب العمال الكردستاني في المعسكرات ليست جيدة، والتشاؤم والتعب النفسي منتشر بينهم، ولكن البيانات الحادة التي صدرت عن بعض المسؤولين في تركيا رفعت من حماسهم وأعادت لهم الحياة من جديد.
تحاول تركيا أن ترسخ وجودها بحزام جغرافي يمتد عمقه إلى خمسة عشر كيلومترا بمحاذاة الحدود العراقية، وعلى صعيد آخر فإن إيران تحاول القيام بهجمات في منطقة جبل قنديل يصل عمقها إلى عشرة كيلومترات داخل الأراضي العراقية.
ومن المعلوم أن القوات التركية الخاصة تقوم بهجمات سريعة على بعض معسكرات حزب العمال الكردستاني مثلما حدث في عملية الهلال، كما أن القوات التركية تقصف هذه المعسكرات بالمدفعية، فضلا عن غاراتها الجوية المتكررة بطائرات أف 16، ولكن ليس عندنا معلومات كافية عن مدى نجاح تلك الغارات في تحقيق أهدافها.
إذا نظرنا إلى المواقف التركية يمكننا القول إن الجيش التركي، حتى الآن، لا يحبذ العمليات الواسعة النطاق على طول الحدود التركية وخارجها، أما العمليات المحدودة فهي مستمرة منذ فترة، ولكن المهمة العسكرية التي طلب الجيش من البرلمان تفويضا بتنفيذها يظل حجمها غير معروف على وجه الدقة.
وقد انتشر إلى حد الآن 150 ألف جندي في شرق وجنوب شرق تركيا، ولكن التجهيزات والتحضيرات للقيام بالعملية العسكرية لا تتم بمجرد جلب الجنود إلى المنطقة فقط، وما نلاحظه أن مثل هذه التحضيرات الجارية اليوم غير كافية للقيام بعملية عسكرية واسعة النطاق..
وإذا ما حصل الجيش التركي فعلا على التصريح السياسي لمثل هذه العملية الكبيرة فإنها على الأرجح أن تنفذ بشكل تدريجي، حيث سيوسع الجيش التركي مجال سيطرته عبر الضربات المتتالية وفتح المعابر الآمنة، ولكن إذا أخذنا سياسة حزب العمال الكردستاني الهادفة إلى استدراج تركيا إلى داخل العراق بعين الاعتبار فإن احتمال استمرار العملية العسكرية يظل وارد جدا.
وهذه بعض ردود الفعل المحتملة للقوى الموجودة في المنطقة في حالة حدوث العملية العسكرية:
- أولا: حزب العمال الكردستاني:
- سيعمل الحزب على توزيع رجاله على مناطق متنوعة داخل العراق، وسيحاول تقليل عدد الأهداف الثابتة للحيلولة دون ضربها من قبل الجيش التركي.
- سيتجنب المواجهة المباشرة مع القوات التركية داخل العراق، وفي المقابل سيواصل عملياته داخل الأراضي التركية.
- سيحاول استغلال الضعف الممكن حدوثه داخل الأراضي التركية بسبب نقل عدد كبير من أفراد الجيش التركي إلى شمال العراق، وهذا من شأنه أن يفرض على تركيا تكثيف تدابيرها الأمنية في المناطق الحدودية مع إيران وسوريا، إذ من الوارد جدا أن يتسرب بعض أفراد الحزب من خلالها.
- سيحاول الحزب التأثير على اتجاه الرأي العام الدولي من خلال بعض المناورات الإعلامية مثل إعلان هدنة وما إلى ذلك من أجل إبراز نفسه كمنظمة سلمية.
- يجب على تركيا أن تقوم بحملة معاكسة من أجل بيان حقيقة حزب العمال الكردستاني، ومن ضمن هذه الحملة إبراز الوثائق والمعلومات المتعلقة بعلاقة الحزب بتجارة المخدرات وغسيل الأموال وتهريب البشر، مع العمل على نشرها في الإعلام العالمي.
- ويجب ألأ يرد ذكر الدعم الأوروبي لحزب العمال الكردستاني على ألسنة كبار رجال الدولة لما للأمر من حساسية، علما أنه كلما تطورت علاقة تركيا بالدول الأوروبية كلما فقد الحزب تأثيره في أوروبا.
- من المحتمل جدا أن يقوم الحزب بتفجيرات داخل تركيا ردا على العملية العسكرية الموسعة التي يقوم بها الجيش التركي على الحدود العراقية.
- ويمكنه أيضا أن يقوم بتحريض أكراد العراق ضد تركيا على خلفية توسيع الجبهة أمام تركيا وإدخال البارزاني والطالباني في المعركة.
- سيقوم الحزب بهجمات ضد المواقع التركمانية لتضخيم المشكلة، كما سيستغل مثل هذه العملية العسكرية لتعميق الهوة وتغذية مناخ العداء بين تركيا والأكراد.
- ثانيا: أكراد العراق والبشمركة:
- إن واجب ضمان الأمن في منطقة الإدارة الكردية في شمال العراق انتقل من الأميركان إلى البشمركة، وهذا التغيير حدث منذ ثلاثة أشهر، ولذلك فإن احتمال تشكل مواجهة حادة بين القوات التركية والأميركية تقلص إلى حد بعيد. وعلى صعيد آخر فإن وجود البشمركة في المنطقة أصبح مشروعا من خلال التغييرات القانونية التي أعطتها هذا الحق في التمركز على الحدود.
- يمكن أن يستغل البارزاني والطالباني عمليات تركيا لإحياء فكرة القومية الكردية، وهما يحاولان فعلا جلب القوى الكردية الأخرى إلى جانبهما، كما أنهما سيعملان في أوروبا على الترويج لمقولة مظلومية الشعب الكردي، ولذلك من المحتمل جدا أن تصدر بيانات كردية وأوروبية ضد تركيا.
- هناك بعض الشكوك حول الأهداف العسكرية لتركيا من وراء العمليات المذكورة، فهناك من يقول إن الهدف الأساسي من العمليات هو قوات البارزاني والحيلولة دون تأسيس دولة كردية في شمال العراق، مع أنه لم يظهر أي تأييد من السلطات الرسمية لمثل هذا الرأي، بيد أنه عند حدوث مثل هذا النوع من التدخل العسكري فإن الوضع سيختلف كثيرا، لأن حجم قوة المقاومة التي تتمتع بها قوات البشمركة ليست معروفة على وجه الدقة حتى الآن، كما أن نتائج الدعم الأميركي العسكري للبشمركة لم يجرَّب بعد.
- ثالثا: رد الفعل الأميركي المحتمل:
- عبرت الولايات المتحدة عن موقفها المعارض لهذه العمليات في مناسبات كثيرة، فقد منعت محاولة سابقة لتدخل الجيش التركي عام 2006 عبر تقديم بعض الوعود بلجم حزب العمال الكردستاني للجيش التركي في اللحظة الأخيرة. وقد أعلنت الولايات المتحدة عن عدم قبولها لعملية عسكرية واسعة النطاق، ولكنها قد تقبل بدلا من ذلك عمليات صغيرة، إلا أن تصريحات بعض قادة الجيش التركي حول تورط الجيش العراقي في دعم الإرهاب قد أزعج المسؤولين الأميركان. ومع ذلك فإنه بات من الواضح أن الجيش الأميركي لا يرغب في دخول مواجهة مسلحة مع الجيش التركي، ولذلك فإنه في حالة دخول الجيش التركي في شمال العراق فإن أميركا قد تدعم القوات المحلية العراقية وتدفع بعض المؤسسات الدولية للتحرك ضد تركيا. ومن المعلوم هنا أن مذكرة مارس/آذار 2003 التي منعت الجيش الأميركي من استخدام الأراضي التركية في الحرب على العراق، إلى جانب مشكلة "شوال" قد أضرتا العلاقات التركية الأميركية. كما أن حدوث مشكلة أخرى في شمال العراق سيؤثر سلبا بالضرورة على العلاقات الأميركية التركية.
- رابعا: رد الفعل المحتمل من الاتحاد الأوروبي:
- أعلن الاتحاد الأوروبي رفضه للعملية العسكرية في شمال العراق.
ورغم ذلك فقد لمح بعض كبار المسؤولين الأتراك إلى تورط عدد من دول الاتحاد في دعم "الإرهاب"، وقد ولد هذا البيان إزعاجا للاتحاد، وأدى إلى تراجع ملحوظ في العلاقات الأوروبية التركية. وخلافا لما يُعتقد فإن الاتحاد اتخذ تدابير واضحة ضد "إرهاب" حزب العمال الكردستاني، ويقوم بالتضييق على تحركات هذا الحزب داخل أوروبا. - ومن المعروف أنه كلما تقدمت العلاقات التركية الأوروبية كلما اشتد الحصار السياسي الأوروبي ضد هذا الحزب. إلا أن العملية العسكرية الجارية شمال العراق قد تعرقل تحسن العلاقات بين تركيا والاتحاد، إذ قد يغتنم المعارضون لتركيا داخل الاتحاد الأوروبي هذه الفرصة لوقف عملية انضمامها للاتحاد.
- خامسا: رد الفعل المحتمل من الفصائل الطائفية داخل العراق:
- من المؤكد أن الإدارة العراقية في بغداد ستعترض على مثل هذه العملية العسكرية وتعلن وقتها أن أراضيها تتعرض لاحتلال مخالف للقانون الدولي. إلا أن هناك عاملين يمكن أن يخففا موقف الإدارة العراقية في بغداد بعض الشيء، ويحولان دون بلوغ مرحلة التدهور الكامل في العلاقات التركية العراقية، وهما: اللوبي السياسي لأكراد العراق والإدارة الأميركية.
الأرجح أن تحدد الفصائل العراقية موقفها من الاجتياح العسكري التركي بحسب علاقتها مع أكراد العراق. فعلاقة مقتدى الصدر مثلا مع تركيا جيدة، وهو سيتفهم الوضع إلى حد معين، ولكن إذا ما تحولت العملية إلى نوع من الاحتلال فسيغير موقفه شأنه في ذلك شأن بقية الجماعات العراقية الأخرى. ومن جهة أخرى فإنه ما لم تتم صياغة تفاهم قوي مع سنة العراق فإنه يمكن أن تنشأ مشاكل من حين لآخر. فمجمل الجماعات السياسية في العراق مسلحة ويمكن أن تستخدم سلاحها إذا تم استفزازها وعدم أخذ مصالحها بعين الاعتبار.
هل يجب أن تقوم تركيا بالعملية العسكرية؟ وكيف؟
- الواضح أن جل الأطراف الفاعلة في المنطقة لم تجرب بعد حل المشكلات العالقة عن طريق التفاوض والتفاهم، من هنا يجب العمل من أجل إقناع الولايات المتحدة بالتعاون مع تركيا، ويجب أن تسعى تركيا لتنال دعم الإدارة المركزية في بغداد والإدارة المحلية في الشمال بما من شأنه أن يؤدي إلى حل المشاكل العالقة دون اللجوء للعمل العسكري المكلف أو في الحد الأدنى بما يسهل عملا عسكريا محدودا.
- إن بعض القادة العسكريين في تركيا قد بينوا أن العملية ضرورية، ولكن البعد العسكري ليس الوحيد في الموضوع، قد تسفر العملية العسكرية عن مقتل مئات من مقاتلي حزب العمال الكردستاني لكنها في نفس الوقت قد تؤدي إلى زيادة في عدد المقاتلين الجدد وتقوية فكرة القومية الكردية في شمال العراق، ولهذا يجب أن تُحسب النتائج البعيدة المدى لهذه العملية بصورة حكيمة ودقيقة. فإذا لم تُحدَّد أهداف العملية بشكل دقيق يمكن أن تتجاوز عملية الاجتياح حدود معسكرات حزب العمال الكردستاني لتطال العلاقات التركية العراقية برمتها. ومن المعلوم في هذا الصدد هناك مصالح تركية أخرى غير ضرب الحزب في شمال العراق يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، لذا يبدو من الخطأ أن تضحي تركيا بالمصالح الكبيرة من أجل مصالح صغيرة معقدة.
- وإذا لم يكن ثمة مفر من العملية العسكرية فيجب أن تكون ضمن نطاق محدود وتعتمد التقنية العالية بدل الاجتياح البري الموسع، وهي عملية يجب أن تتولاها القوات الخاصة وبعدد قليل من الجنود. وفي هذا السياق يمكن للجيش التركي أن ينشئ منطقة فاصلة في شمال العراق شريطة أن يتم ذلك بالاستعانة بالولايات المتحدة الأميركية والعراق، ومن المؤكد أنه إذا استمرت العملية لمدة طويلة فإن هذه الاستعانة ستصبح بالغة الحيوية.
- ثمة ضرورة لتوثيق التنسيق الإقليمي لمواجهة مشكلة التمرد العسكري لحزب العمال، فتنسيق العمليات بين إيران وتركيا في جبل قنديل من شأنه أن يلحق أضرارا فادحة بمعسكرات الحزب في هذه المنطقة الحدودية التي يتمركز فيها مقاتلوه.
- إن النقاش حول القيام بعملية عسكرية شمال العراق يدور منذ زمن طويل، بيد أن التركيز على هذا الموضوع إعلاميا وبالتفاصيل في الوقت الحالي مضر بالمصالح التركية. فهذه العملية يمكن أن تبعد تركيا عن أهدافها السياسية الداخلية والخارجية بشكل غير قابل للتدارك والإصلاح.
- إن الأضرار غير المقصودة والناتجة عن ضرب القرى التابعة للبارزاني قد تقوي موقف البارزاني أكثر من ذي قبل، وتعطيه مشروعية تمثيل الطموحات السياسية الكردية. كما أن الأخطاء التي قد يرتكبها الجيش التركي في هذه العملية العسكرية قد تؤدي إلى تعميق الهوة بين الأتراك والأكراد بما يمس الوحدة الوطنية التركية.
- يبدو إلى حد الآن أن سوريا وإيران تدعمان تركيا للقيام بهذه العملية، وستكتفي سوريا بملازمة الصمت إذا قامت تركيا بها، بل الأرجح أن تعتقل المقاتلين الذين يصلون إلى حدودها. أما إيران فيمكن أن تسند تركيا عبر قصف جبل قنديل والقيام بالغارات الجوية ضدهم، ولكن من الممكن أن تغير موقفها بسهولة إذا امتنع حزب العمال عن الهجوم على أهداف إيرانية.
يجب على تركيا أن تستغل دعمها الاقتصادي واللوجستي للمنطقة، وفي هذا السياق فإن الكثير من المحللين السياسيين يرون الحل في مزيد من ربط المنطقة بتركيا من الناحية الاقتصادية واللوجستية. يجب أن لا ننسى أن من بين العوامل المغذية للإرهاب هو الفقر وضعف الإدارة في المنطقة، فكلما ازداد الشعب العراقي فقرا والإدارة العراقية ضعفا كلما سهل على المنظمات الانفصالية مثل حزب العمال الكردستاني انتداب عدد أكبر من المقاتلين.
وهي على المدى المتوسط وعلى المدى البعيد تتعلق بالقادة الأكراد والشعب الكردي في شمال العراق.
لقد برز البارزاني والطالباني كرواد للحركة الشعبية ورموز للديمقراطية في المنطقة، وذلك بسبب ما يتمتعان به من دعم ملحوظ من الولايات المتحدة الأميركية، فضلا عن الدعاية التي يقدمها لهما الإعلام الغربي، لكنهما كثيرا ما يتصرفان بطريقة دكتاتورية. وعلى هذا الأساس من الصعب الحديث عن الأكراد كشعب بالمعنى الحديث لكلمة شعب، ماداموا لا يستطيعون التعبير عن آرائهم بكامل الحرية والتعددية بسبب ما يخضعون له من كبت من جهة الطالباني والبارزاني.
من المؤكد أن البارزاني وعبر لهجته الحادة ضد تركيا، يحاول تغذية المشاعر القومية الكردية، وإذا ما ردت تركيا على البارزاني بنفس الحدة فإن ذلك يخدم أهدافه. من هنا يجب على تركيا أن تفرق بين الشعب الكردي والقادة الأكراد في المنطقة، ويجب أن تضغط على الإدارة الكردية من أجل تحقيق الديمقراطية بشكل فعال. فغياب الديمقراطية عن المنطقة من شأنه أن يجعل الأكراد ورقة سهلة تستعملها القوات الأجنبية، وإن تثبيت الديمقراطية سيحول دون هذا الاستغلال الأجنبي للأكراد في المنطقة.
العلاقات التجارية
أما إذا تناولنا المسألة من الزاوية الاقتصادية فمن الواضح أن شمال العراق قد أصبح مكانا مناسبا للاستثمار التركي، وهناك عدة أسباب تقف وراء ذلك:
- أولا: إن البارزاني والطالباني يفضلان إعطاء الأولوية للشركات التركية في مجال الاستثمار، وذلك على خلفية التخفيف من حدة الموقف التركي الرافض لفكرة قيام دولة كردية في شمال العراق.
- ثانيا: إن شركات الدول الأخرى لا تفضل الاستثمار في المنطقة ضمن سقف الأسعار الحالية، وفي ظل هذه الأوضاع المتوترة في المنطقة.
- ثالثا: إن القرب الجغرافي يقلل من تكاليف الشركات التركية، بما يجعلها أقدر على المنافسة وانتزاع النصيب الأوفر من حصة الاستثمار في شمال العراق.
- رابعا: إن التقارب الثقافي يسهل التفاهم بين الأطراف، وتركيا بحكم صلاتها الثقافية والتاريخية تتمتع بسبق ملحوظ مقارنة ببقية الشركات الأجنبية.
- خامسا: التفضيل النفسي: فالناس في شمال العراق يقدرون مكانة وقوة الدولة التركية، وتلعب هذه السلطة الناعمة دورا داعما للمصالح الاقتصادية التركية.
- سادسا: تلعب اللغة دورا مهما في توثيق هذه العلاقة، فتوظيف الشركات التركية عمالا من أصول كردية يزيل صعوبات كبيرة في مجال الاستثمار والتعاون الاقتصادي.
_______________
باحث في مركز الجزيرة للدراسات