ما الذي يميز الأزمة الاقتصادية الحالية عن سابقاتها؟

لا تتميز الاقتصادية الراهنة كثيرا عن سابقاتها خصوصا في المكسيك وكوريا الجنوبية لكن أجوبة السياسة الاقتصادية التي أثارتها هذه الأزمة وحجم تأثيرها يجعل مقارنتهما بسابقاتها مستحيلا







إليانا أوليفييه
ترجمة شريفة دحروش



يتناول التقرير الذي صدر عن" المعهد الملكي الكانو" بإسبانيا، الأسباب التي أدت إلى نشوب الأزمة المالية في الولايات المتحدة سنة 2007، والبحث عن أوجه التشابه والخلاف بينها وبين الأزمات السابقة، مع إعطاء أمثلة لأزمات سابقة(أزمة مكسيكو سنة 1994) و( أزمة كوريا الجنوبية سنة 1997)



الملخص
عندما تتحول الأزمة المالية إلى أزمة اقتصادية فإن أي نقاش أو طرح سياسي يخرج عن النطاق الدولي لينحصر في المجال الوطني. ومع ذلك فالأزمة المالية الحالية لها عدة أوجه تشابه مع الأزمات المالية السابقة مما يطرح ضرورة التصدي للتحدي الذي تواجهه الإدارة المالية الدولية.


اضطراب مالي عالمي متجدد
الأزمة المكسيكية أو "أثر التيكيلا"
أزمة كوريا الجنوبية، وعدوى أزمة تايلانديا
الأزمة الحالية: مركزها الولايات المتحدة الأمريكية
العناصر المشتركة
خلاصات



اضطراب مالي عاملي متجدد





لهذه الأزمة خصائص مشتركة مع الأزمات المالية المتكررة التي عانى منها عدد من الاقتصادات الناشئة في البلدان النامية والأمر يتعلق بمظهر آخر من مظاهر الاضطراب المالي العالمي الذي عايشناه منذ عقود
انفجرت الأزمة المالية في الولايات المتحدة سنة 2007 وبعد ذلك اتسعت لتشمل الأنظمة الاقتصادية المتقدمة و"النامية وذلك طيلة سنة 2008، لقد أخذت هذه الأزمة المحللين الاقتصاديين والسلطات العمومية والفاعلين الخصوصيين على حين غرة. ومن المنطقي أن تتكاثر التحليلات والنقاشات حول الأسباب والمسببات التي أدت لهذه الأزمة وحول كل ما يتعلق بالإجابة عن التساؤلات المطروحة حولها.

الأزمة المالية لسنة 1929 والتي انفجرت بالولايات المتحدة كانت الأكثر عمقا وتشابها مقارنة بالأزمة الحالية. من المنطقي أن تتكاثر التحليلات حول أسباب الأزمة وتتوالى النقاشات حول الإجراءات المتخذة ذات الصلة بها، حيث تتكرر في هذا الصدد مقارنة هذه الأزمة مع الأزمات السابقة، خاصة أزمة 1929 التي انفجرت أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية.


كذلك يمكن مقارنة نتائج هذه الأزمة بالنسبة للاقتصاد الحقيقي مع نتائج الحرب العالمية الثانية، كما تقارن مبادرة مجموعة الـ20 في نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 بنفس المسار الذي أدى إلى اتفاقيات بريتون وودز سنة 1944. واعتمادا على هذه المقارنات، يمكننا استنتاج أن الأمر يتعلق بوضعية غير متوقعة واستثنائية، آخر مرة حلت فيها هذه الأزمة العاصفة كانت قبل ستين أو بالأحرى ثمانين سنة.


أما على صعيد آخر فهناك توافق أكثر حول الأسباب العميقة للأزمة. منها تخفيف القيود المالية التي بدأت في الاقتصادات الرئيسية في السبعينات من القرن الماضي، ومنها امتدت إلى بلدان أخرى على مدى العقود التالية، مما نتج عنه ثغرات فتحت بدورها الأبواب أمام عمليات ومنتجات مالية غذت السيولة الدولية، كما غذت أيضا المخاطر التنظيمية إلى درجة اندلاع الأزمة المالية إلى درجة هائلة.


بناء على هذه العناصر التي ذكرناها أعلاه فإنه من السهل نسبيا أن نستنتج الحقيقتين التاليتين:



أولا: إن أزمة بهذه الخصائص تبقى أزمة استثنائية وليست عادية أو عابرة.


ثانيا: إن الأزمة كانت نتيجة رفع القيود خاصة على المستوى الوطني، لذا يبقى الحل في استعادة بعض مستويات التنظيم والرقابة المالية.



إن لهذه الأزمة بالتأكيد قواسمَ مشتركة مع الأزمة المالية لسنة 1929، والنتائج التي يعاني منها الاقتصاد الحقيقيي في هذه الأثناء وفي عدد من البلدان يمكن مقارنتها بالصدمة التي سببتها الحرب العالمية الثانية. فعلا الأمر يتعلق بأزمة عالمية ـ وليست متموضعة في منطقة محددة من العالم، وإن كان مركزها اقتصاد جد متطور ـ الولايات المتحدة الأمريكية في هاته الحالةـ ونتائجها وخيمة على الاقتصاد الحقيقي، وعلى كل اقتصادات العالم.


بالرغم من كل ما ذكرناه سابقا، يمكننا أن نستنتج وبناء على عدة وجهات نظر أن الأزمة المالية الحالية ليست استثنائية بإطلاق، بل نحسب أن لها خصائصَ مشتركة مع الأزمات المالية المتكررة التي عانى منها عدد من الاقتصادات الناشئة في البلدان النامية على مدى العقدين الماضييين. هكذا وبناء على وجهة نظر معينة يمكن القول إن الأمر يتعلق بمظهر آخر من مظاهر الاضطراب المالي العالمي الذي عايشناه منذ عقود.


وأخيرا، يمكننا القول، وبغض النظر عن ماهية الوضع الحالي، ولو جزئيا، بأنه نتيجة لعملية رفع القيود المالية المحلية. إذ ثمة مشكلة منهجية أو عالمية.


أين تكمن أهمية تحويل اتجاه تحليل الأزمة وموضعته داخل السياق الدولي خلال العشرين سنة الأخيرة؟


بقدر ما صارت الأزمة المالية تتحول إلى أزمة حقيقية أو بعبارة أدق بقدر ما انضافت إلى الأزمة المالية أزمات أخرى في باقي القطاعات الحيوية، فإن جهود السلطات، وكذا مناقشة النتائج المنجرة عن هذه الأزمة تحولت من عالمية إلى محلية، وهذه نتيجة منطقية لأنه عند الوصول إلى أية نتائج تخص الاقتصاد الحقيقي، فإن مجال العمل يكون وطنيا، وأية نتائج متوقعة لابد لها أن تتغير معالمها من أنظمة إنتاجية إلى أخرى.



إضافة إلى ذلك وفي إطار مالي جد محدود وإذا ركزنا على المشاكل الداخلية للاقتصاد الأمريكي ـ مثل الضغط الشديد سواء من طرف الأهالي أو المؤسسات العامة ـ الخطأ في التخطيط للاقتصاد الشامل، السياسة المالية والنقدية الموسعة، وكذا الإفراط في الانفاق العام ـ وأيضا المساهمة في تحويل الاهتمام من العالمي إلى المحلي.


بهذا العمل نحاول أن نعيد إطار المناقشة حول الأجوبة على الأزمة، وأن نعطي الأولوية للتدابير المتخذة على الصعيد العالمي.


سنقدم جردا مختصرا عن بعض الأزمات المالية الأخيرة، مع أنه لايمكن أن نحدد رقما محددا لعدد الأزمات المالية في السنوات الأخيرة، لأنه ومن المنطقي أن أي رقم سنقدمه يتوقف على أرقام أخرى هي التي تحدده بدقة مثل: الخسارة في قيمة العملة أو الانهيار في نمو القروض البنكية بالمقارنة مع الناتج الآجمالي المحلي، أو انهيار في مؤشر البورصة، وما شابه ذلك.


ولهذا فإن أي تحليل، ولأي أزمات مالية، يقدم لنا لوائح طويلة عن أزمات مختلفة. مثال، ما نشره " ديمسكي" سنة 2002 حيث يحدد ثماني أزمات تتعلق بالديون وبسعر الصرف خلال ثماني سنوات، من سنة 1994 إلى سنة 2002. وهذه هي:



الأزمة المكسيكية أو ما ترتب عنها وسمي وقتها بــ" أثر التيكيلا" 1994- 1995


الأزمة المالية الآسيوية 1997ـ 1998


أزمة الريال البرازيلي 1998ـ1999


انهيار الروبل الروسي في نفس الفترة


الأزمة التركية 2000


الأزمة الأرجنتينية 2001ـ 2002


هجوم جديد على الريال البرازيلي في 2002 ـ وتزامنه مع الانتخابات التي انتصر فيها الرئيس "لوولا"


وأخيرا الأزمة أو الانهيار الحاد في الأوروجواي سنة 2002.


فكل هذه الحالات التي ذكرناها تجمعها صفة " أزمة مالية".


يذكر "مارتن ولف" عددا آخر من الأزمات طبقا لما جاء في دراسة قام بها البنك الدولي سنة2001، أنه بين نهاية السبعينات ونهاية القرن الماضي مرت 112 أزمة منهجية بنكية في 93 دولة.و حسب "ميشال بوردو" و" باري إيشينغرين"، ظهرت 95 أزمة في 44 دولة من الاقتصادات النامية ما بين سنوات 1973 و1997، كانت الأزمات البنكية في 57 منها جراء صرف العملات، و21 أزمة مزدوجة بكلمات أخرى، أما الأزمة المالية العالمية التي انفجرت في أواسط السنة الفارطة فيمكن أن نقول عنها أي شيء سوى أنها أزمة استثنائية.


سنحاول مراجعة أهم الأسباب التي أدت إلى اثنتين من هذه الأزمات، أولهما الأزمة المكسيكية التي انفجرت أواخر سنة 1994 والتي انتشرت في سائر أقطار أمريكا اللاتينية، وثانيهما أزمة كوريا الجنوبية سنة 1997 والتي كانت نتيجة أزمات سبقتها في جنوب شرق آسيا.



الأزمة المكسيكية أو "أثر التيكيلا"





بعدما استنزف احتياطي العملة المكسيكية تخلت السلطات النقدية عن نظام الصرف شبه القار، مما نتج عنه انخفاض حاد في العملة وهكذا، ابتداء من تلك اللحظة تفاقمت الأزمة في باقي مناطق أمريكا اللاتينية مسببة ما أصبح يطلق عليه منذ ذلك الحين "أثر التيكيلا"
في السنوات التي سبقت الأزمة المكسيكية بدأ عدد مهم من اقتصادات أمريكا اللاتينية بعمليات إصلاح "هيكلي" لجلب اهتمام المستثمرين الدوليين. أما بالنسبة للمكسيك كحالة خاصة، فحركات الاصلاح الداخلية وكذا شروط انضمامها لمنظمات دولية ـ مثل اتقاقية التجارة الحرة أو منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، أو ما عرف بمنظمة "الغات" الاتفاقية العامة للتجارة والجمرك ـ عرضت مفكرة خاصة بالاصلاحات الاقتصادية التي دعت إلى إدماج الشركات العمومية في عدة مجالات أخرى غير عمومية.

كما أن المستثمرين الدوليين نظروا إلى التغييرات بشكل إيجابي، إذ أن فوائد القروض في الولايات المتحدة أوائل التسعينات من القرن الماضي كانت جد منخفضة مما شجعهم على الاستثمار في المكسيك الذي كانت شهرته ضاعت من هذه الناحية خلال فترة الثمانينات.



هكذا ووفقا لصندوق النقد الدولي فإن دخول رؤوس الأموال الأجنبية للمكسيك ارتفع في النصف الأول من التسعينات، من الناتج الاجمالي المحلي لسنة 1989 إلى 10,30% في سنة 1993 لينخفض لاحقا إلى 85, 0% وإلى %1,29 سنة 1995.



أما التمويلات الخارجية فقد وصلت إلى المكسيك على شكل سندات، ذات قدر كبير من السيولة المالية لكنها كانت متقلبة، كما سجلت أيضا المساهمات الأجنبية المباشرة والتي قدمت على شكل استثمارات مجملها أدرج في إطار عمليات الخصخصة التي كانت مهمشة خاصة فيما يتعلق بالمساهمة عن طريق القروض. هذا مع العلم أن هذه القروض كان يتم التعاقد عليها بالعملات الأجنبية.



إن التدفق الهائل لرؤوس الأموال انقلب إلى ضجة أحدثتها القروض التي مولت الاستهلاك المحلي والمستورد، وكذا فقاعات المضاربة التي ظهرت في كل من القطاع العقاري كما في سوق الأسهم، وتجب الاشارة هنا إلى أن كل هذه الأنشطة كانت تتم بالعملة المحلية المكسيكية "البيسو".



أما بالنسبة لمشكلة تراكم الديون الخارجية وزيادة الائتمان المحلي المخصصة لأنشطة تنطوي على عدة مخاطر فقد أضيف إليها عدم استقرار العملة وتقلبها بين الجمود والتحرك. باختصار، في السنوات التي سبقت أزمة 1994 كان المكسيك يعاني مما يسمى في أدبيات الأزمات المالية بتدهور القيم الأساسية للاقتصاد.


كنتيجة لهذه الوضعية، وطيلة سنة 1994 أضيفت سلسلة من الضربات منها الاقتصادي ومنها ما هو ذو صبغة سياسية. أهم ما حصل في المجال الاقتصادي، يتمثل في أن أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، كانت ذات مستويات معتدلة، مما أدى على الأقل إلى تدفق رؤوس الأموال إلى المكسيك في مطلع سنة 1990، لكنها سجلت ارتفاعا متقلبا طوال تلك السنة. إذ نجد نفس معدلات الفائدة في فبراير/ شباط 1994 كانت في حدود 3,25% بينما وصلت في نوفمبر /تشرين الثاني من نفس السنة إلى حدود 5،50 %، مع فرق بسيط في معدلات الفائدة.


بالاضافة إلى ماسبق ذكره انطلقت سلسلة من الأحداث أغرقت البلاد في عدم استقرار سياسي كبير. نذكر منها تمرد أهالي ولاية "شياباس" في يناير /كانون الثاني 1994، اغتيال"لويس كولوسيو" المرشح للرئاسة في انتخابات أغسطس/ آب، وكذا اغتيال الكاتب العام للحزب الثوري في سبتمبر/ أيلول من نفس السنة.


ومع ذلك، ومنذ اندلاع التمرد في ولاية "شياباس" بدأ انخفاض مؤشر السوق المالية، وفي نفس الفترة بدأ التغيير في توقعات المستثمرين حول حجم المخاطر والأرباح في الاقتصاد المكسيكي. كما استمر مؤشر السوق المالية في الانخفاض وإن كان بشكل متقلب طوال السنة، لقد نتج عن ذلك خسارة كبيرة في احتياطي العملات الأجنبية كما بدأ ارتفاع سعر الفائدة المحلية في شهر نوفمبر /تشرين الثاني.


في 22 ديسمبر/ كانون الأول وبعدما استنزف احتياطي العملة تخلت السلطات النقدية عن نظام الصرف شبه القار، مما نتج عنه انخفاض حاد في العملة المكسيكية. هكذا، ابتداء من تلك اللحظة تفاقمت الأزمة في باقي مناطق أمريكا اللاتينية مسببة ما أصبح يطلق عليه منذ ذلك الحين "أثر التيكيلا".



أزمة كوريا الجنوبية، وعدوى أزمة تايلانديا






كانت كوريا الجنوبية على هامش المشاكل الاقتصادية التي كان من الممكن أن تعاني منها، وأزمتها المالية عبارة عن عدوى أزمة مالية تفاقمت في اقتصاد آخر. فأزمة ميزان الأداء الذي أدى إلى تعويم العملة المحلية التايلاندية "البهت" وانهيارها في يوليو /تموز 1997 قد انتتشرت ووصلت إلى الفلبين وماليزيا وإندونيسيا وسنغفورة
في النصف الأول من التسعينات، تعهدت كوريا الجنوبية بسلسلة من التدابير أدت إلى مزيد من الانفتاح المالي. لقد استفادت التكتلات التجارية المحلية الكبرى إضافة إلى ذلك من تدابير الانفتاح ومن بعض الاصلاحات الخجولة، ومثل ما حصل في المكسيك، أضيفت ضغوط داخلية تدعو للاصلاح وإلى الاستجابة للشروط المطلوبة للدخول إلى محافل دولية معلومة.

لذا كان لدخول كوريا الجنوبية إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية قيمة خاصة بالنسبة لها. وبهذا الشكل، وفي الأعوام التي سبقت انفجار الأزمة الأسيوية، حققت كوريا الجنوبية إصلاحات مالية بشكل سريع وغير منتظم مع رفع القيودعن النظام المالي الداخلي والانفتاح على رؤوس الأموال الأجنبية دون أن يصاحب هذه العملية أي تنظيم أو رقابة مالية، إذ أن الانفتاح الاقتصادي سهل دخول رؤوس الأموال.


في سنة 1994، وهي نفس السنة التي بدأ فيها هروب رؤوس الأموال من المكسيك ـ تضاعف دخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى كوريا الجنوبية أكثر من مرتين حيث زادت من عشرة مليارات دولار عن سنة 1993 إلى أكثر من 22 مليار دولار سنة 1994. وقد استمرت السيولة النقدية في التدفق حتى سنة 1996، السنة التي استقرت السيولة في حدود 48 مليار دولار، أما في السنة الموالية لها وسجلت صافي التدفقات لسنة 1998 في هذا العدد.


لقد كان دخول رؤوس الأموال مركبا، خاصة من القروض – وذلك على شكل سندات وعلى شكل قروض على المدى القصير.لقد تعلق الأمر بمسار من الإفراط في الاستدانة الخارجية مع أن التمويل كان شديد التقلب. وبموازاة ذلك فإن الافراط في الاستدانة الخارجية قد أدى إلى ارتفاع الاستدانة الداخلية.


هذا مع وجود فرق عما حصل في المكسيك قبل ذلك بسنوات قليلة، وكذا عما حصل في دول آسيوية أخرى متضررة أيضا من من الأزمة المالية لسنة 1997، في كوريا الجنوبية وقبل تفاقم الأزمة لم يسجل أي تضخم في سوق العقار أو في السوق المالية، كذلك حجم تضخم الائتمان المالي لم يكن نتيجة الرفاهية في الاستهلاك المحلي للسلع والخدمات ولا حتى عن الزيادة في الواردات.إن الجزء الأكبر من القروض الخارجية، سواء كانت بشكل مباشر أو غير مباشر كان يوجه إلى تمويل الأنشطة الإنتاجية في قطاع الصناعة التحويلية، وفي غالب الأحيان يكون مرتبطا بمجال من مجالات التصدير.


إن ما سبق ذكره يعتبر عاملا بالغ الأهمية فيما يخص أدبيات الأزمات الاقتصادية. ففي الجدال الدائر حول تقسيم العوامل الفاعلة التي أدت إلى تفاقم أية أزمة مالية، يوجه المحللون السياسيون أصابع الاتهام خاصة إلى الأسباب الناتجة عن أخطاء السياسة المالية المحلية لأي بلد يدخل في أزمة مالية، كما يحاولون إبراز مسألة التضخم العقاري أو عدم جدوى القروض المحلية كعوامل رئيسية مسؤولة عما يؤول إليه الوضع.


بالرغم من ذلك، وفي نفس الاطار، فإن سلوك كوريا الجنوبية من الناحية الاقتصادية كان سلوكا "صحيحا" حيث لم يكن هناك أي نشاط غير منتج أو خطير، أو أي إسراف في استخدام الموارد الخارجية لتمويل الاستهلاك على أي مستوى كان. لقد استعملت كوريا الجنوبية التدفقات الهائلة لرؤوس الأموال خلال سنوات 1993ـ 1997 لتمويل قطاع الصناعة التحويلية التي كانت تؤدي إلى مستويات عليا في مجال التصدير، إلى نمو البلاد خلال عدة حقب.


لكن نظرا لكون الأنشطة المسندة للإئتمان ليست هي الأساس في تفسير اندلاع الأزمة المالية، وكون الاستثمارات الممولة من جراء دخول رؤوس الأموال الأجنبية كانت ذات نتيجة إيجابية فهذا لا يعني بالضرورة أنها كانت تسير في الاتجاه الصحيح.


إن ضعف التنظيم والمراقبة نتيجة الانفتاح السريع والغير المنظم، وكذا زيادة تمويل الشركات -دون أية قيود ولا شروط كافية ودون احتياطات لازمة لتحديد مستوى الخطر ودون أي تقييم مناسب لقدرة الشركات المدينة على تسديد ديونها- كل هذا أدى إلى خلق شبكة من الشركات النامية كلها في وضعية مالية حرجة وأرباحها جد ضعيفة.



الانتاج المفرط في قطاع الصناعة التحويلية حول الأمر إلى مشكلة وفرة العرض مما أدى بدوره إلى انخفاض ثمن صادرات كوريا الجنوبية مثل الأجهزة الكهربائية والإلكترونية. لقد حصل في كوريا الجنوبية كما حصل في مكسيكو، إذ قبل سنوات من هذا التدهور العام ـ ارتفعت مستويات القروض بالنسبة للصناعات غير المربحة، وضعف الانتاج، ومشاكل في السيولة النقدية، والغلو في تقييم العملة المحلية "الوون"، والدخول المكثف لرؤوس الأموال الأجنبية الخفض من قيمة "اليان" الياباني ـ كل ذلك انضم إلى تلك الصدمة الخارجية التي كانت السبب في تغيير توقعات المستثمرين الأجانب.


بالنسبة للأزمة المالية في كوريا الجنوبية سنة 1997، فقد كانت الصدمة الخارجية هي السبب الرئيس للأزمة الآسيوية التي حلت قبل شهور بتيلانديا. فكوريا الجنوبية مثلا كانت على هامش المشاكل الاقتصادية التي كان من الممكن أن تعاني منها، بيد أن أزمتها المالية كانت عبارة عن عدوى أزمة مالية تفاقمت في اقتصاد آخر. فأزمة ميزان الأداء الذي أدى إلى تعويم العملة المحلية التايلاندية "البهت" وانهيارها في يوليو /تموز 1997 قد انتتشرت ووصلت إلى الفلبين وماليزيا وإندونيسيا وسنغفورة. مع هذه الأخيرة، بدأت الضربات تتجه نحو اقتصادات أكثر نموا وبالتحديد باتجاه النمور الآسيوية. هكذا وبعد فصل الصيف من نفس السنة، نزل الضغط الاقتصادي أولا على تايوان ولاحقا على هونغ كونغ ثم على كوريا الجنوبية.


في نوفمبر 1997، لم يعد هناك استقرارمالي، وفي ظرف أسبوعين انخفضت قيمة "الوون" إلى النصف وانهار مؤشرالبورصة.



الأزمة الحالية: مركزها الولايات المتحدة الأمريكية






ثمة ظاهرة تدخل ضمن ما حدده "فرنانديز دي ليز"  في كتابه عن الأزمة المالية في نسق التنظيم والمراقبة المالية الذي تتقاسم مهامه جميع مستويات الإدارة الوطنية، ومن ذلك هشاشة النظام وسوء التصرف في منح القروض والتخطيط غير الملائم لمواجهة الخطر، وكذا منح القروض لاقتناء العقار دون ضمانات كافية.
فتحت الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية الأبواب، وكما كان متوقعا منطقيا، لانتشار الكثير من التخمينات والتحليلات، حول الأسباب التي أدت إليها، منذ البداية إلى الآن، حول خصوصياتها وأيضا حول الإجابات اللازمة للسياسة الاقتصادية.

بالرغم من كون الجدال حول ماهية كل عامل من العوامل التي أدت إلى اندلاع الأزمة في الولايات المتحدة الأمريكية، يمكن تحديد قائمة العوامل الداخلية التي تفسر تدهور الاقتصاد بشكل عام خلال السنوات التي سبقت الأزمة، بنفس الطريقة التي تطرقنا فيها إلى حالتي مكسيكو وكوريا الجنوبية.


أولا: هناك عدد من التحليلات تجمع على كون السياسة المالية للبنك المركزي الأمريكي (الاحتياطي الفدرالي) في السنوات الأولى من هذا العقد كانت خاطئة،. إضافة إلى ذلك فالأزمة التي كان من المفروض أن تندلع سنة 2001 اندلعت حتى سنة 2007 وذلك نتيجة السياسات الاقتصادية العامة المنتهجة -انظر إلى فقاعة التكنولوجيا- وكذلك نتيجة هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. فالبنك المركزي الأمريكي حجب أو بالأحرى أخّر وقوع الأزمة المالية محافظا على أسعار الفائدة في مستويات منخفضة بشكل غير طبيعي، دون طرح لأي حل نهائي للمشكلة، إن سياسة البنك المركزي الأمريكي استمرت في تغذية السيولة المالية على مستويات عالية داخل النظام مما أبعد المستثمرين سواء على المستوى الوطني أو الدولي.


ثانيا: وفي ذات سياق الحديث عن انخفاض أسعار الفائدة، فقد شهد الاقتصاد ارتفاع الاستهلاك الخاص الأمريكي الذي كان مرتفعا أصلا، يضاف إلى ذلك ارتفاع الإنفاق العام بهدف تمويل الوجود العسكري الأمريكي في الخارج، بالموازاة مع ذلك، ولتمويل الإنفاق عامة ارتفعت الديون العامة والخاصة، فضلا عن الديون الخارجية ضمن مسار العملية المعروفة بالاختلالات العامة، والذي استعملت فيه المدخرات الآسيوية، الصينية خاصة، لتمويل نهم الاستهلاك الأمريكي.


إضافة إلى ذلك ثمة ظاهرة أخرى تدخل ضمن ما حدده "فرنانديز دي ليز" ـ في كتابه عن الأزمة المالية ـ بنسق التنظيم والمراقبة المالية الذي تتقاسم مهامه جميع مستويات الإدارة الوطنية، ومن ذلك هشاشة النظام وسوء التصرف في منح القروض والتخطيط غير الملائم لمواجهة الخطر، وكذا منح القروض لاقتناء العقار دون ضمانات كافية.


فمثلما حصل قبل 10 سنوات تماما بمكسيكو وبكوريا الجنوبية ضربت الأزمة المالية الولايات المتحدة تماما.


لقد أضيف إلى التدهور المالي العام تغيير المستثمرين الدوليين رأيهم حول الوضع مما عجل بتفاقم الأزمة.


لماذا غير المستثمرون من توقعاتهم؟ هناك من يرجع أسباب ذلك إلى أن التدهور المالي في البداية، أي سنة 2007 عائد إلى عدم التوازن في سوق الائتمان العقاري؛ لكن الظاهر أن إنقاذ المؤسسات المالية الكبرى مثل "فاني ماي" و"فريدي ماك" بالإضافة إلى إفلاس " لهمان برادرز" في أغسطس /آب 2008 كل هذه العوامل أطلقت العنان للرعب ولعدوى الأزمة في كل أنحاء العالم.



العناصر المشتركة






 يتوجب تفعيل التدابير اللازمة التي من شأنها أن تمنع بقدر الإمكان اندلاع أزمة مالية مشابهة في المستقبل، هذا يتطلب بالضرورة تجاوز النظام المحلي إلى معالجة النظام المالي العالمي
من المؤكد أن مكسيكو وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية كانت تعاني كلها من مشاكل في اقتصادها الداخلي قبل الدخول في أزمة مالية. بالإضافة إلى ذلك كان بينها قاسم مشترك أوصلها إلى نفس المصير ألا وهو هشاشة التنظيم والمراقبة المالية، حيث أنه بالنسبة لمكسيكو وكوريا الجنوبية يمكن إرجاع الأزمة المالية إلى الانفتاح المالي السريع والفوضوي. ومن هنا نستخلص أمرين اثنين:

1ـ لا بد من المحافظة على صحة الاقتصاد وهذا مقياس لا يمكن أن تعتمده جميع الدول وفي جميع الأوقات والحالات.


2ـ يجب أن يكون التنظيم والمراقبة الماليةعلى درجة من الصلابة والفعالية، خاصة على المستوى الوطني.


عندما يحدث تجاوز في السيولة النقدية وتدفق هائل لرؤوس الأموال أو حسب قول "فرنانديز دي ليز" " التجاوزات هي التي تفسر الأزمات" لكن لنذهب إلى أبعد من ذلك.


على ضوء الأزمة النقدية الأوروبية في التسعينات، طور "موريس أوبسفيلد" نموذجا أساسيا لأزمة ميزان الأداءات من الجيل الثاني. وحسب ذلك النموذج لكي تتفاقم أية أزمة مالية لابد أن يتوفر عنصران:



1 ـ أن تكون المؤشرات الرئيسية للاقتصاد الكلي في موقع وسط بحيث لا تكون في مستوى مرتفع ـلأن في هذه الحالة يمكن للاقتصاد المعني أن ينفلت من الأزمة ـ. كذلك أن لا تكون هذه المؤشرات دون المستوى لأن في هذه الحالة سيدخل الاقتصاد المعني في أزمة لامحالة دون الحاجة إلى إضافة أي عامل آخر.


2 ـ من جهة أخرى تغيير المستثمرين الدوليين لتوقعاتهم دون الاستقرار على رأي. على خلاف ذلك يمكن للاقتصاد أن يبقى في وضع غير مستقر إلى أجل غير مسمى هذا طبعا إذا توفرت إمكانية أو من يموّل مثل هذا الوضع.


على هامش مقترح "موريس أوبسفيلد" الذي يشرح فيه أسباب الأزمات المصرفية الأخيرة حيث يدعي أن الأزمة المالية في الولايات المتحدة لم تكن نتيجة انهيار قيمة الدولار، هل نستطيع تطبيق هذه الرؤية على الأزمات التي تطرقنا إليها ؟ وهذا يعني أن ليس التدهور العام في شتى المجالات هو الذي أدى إلى اندلاع الأزمات المالية، إنما هناك أسباب أخرى، ويوجد هنا طرحان للتأكد من هذه المسألة:


الطرح الأول، يتلخص في تحليل إمكانية خضوع نفس الاقتصاد المتضرر حاليا من الأزمة لنفس عوامل التدهور العام، وعلى فترات زمنية مغايرة، هل كان سيؤدي ذلك حتما إلى أزمة مالية؟.


الطرح الثاني، هو تحليل إمكانية وجود اقتصاد آخر له نفس مواصفات الاقتصاد المتدهور لكنه لم يدخل في أزمة مالية. بالنسبة لحالة المكسيك فإن مختلف الدراسات تشير إلى أن الزيادة في الأسعار في الولايات المتحدة الأمريكية وعدم الاستقرار السياسي الداخلي كانت الفتيل المسؤول عن اندلاع الأزمة المالية. أما كوريا الجنوبية فحالتها ملفتة أكثر للنظر لكون اقتصادها في فترات سابقة كان يعاني من التدهور في عدد من جوانبه كالمديونية الخارجية ب 12% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 1996، والتي كانت قد وصلت إلى 50% ما بين سنوات 1980 و1986. بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وكما هو معلوم فقد كانت تتخبط في عجز مزدوج منذ عقود متتالية، وقد تحول ذلك إلى خلل طال الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة وبالضبط منذ التسعينات، إذ سجلت الولايات المتحدة عجزا مزمنا في الحساب الجاري الذي كان يتحمل عبأ الديون والتي كانت جل دول العالم مستعدة لتحمل قسم منها ـ لكون الدولار هو عملة الاحتياطي العالمي.


في الواقع إن الأزمة لم تندلع في الوقت الذي وصل فيه العجز في الحسابات الجارية إلى أقل قيمة : الآن يقارب 4.6 % من الناتج الاجمالي المحلي لكنه وصل ليستقر في 6 %.



ما مدى أهمية ما سبق ذكره؟
إنه يعني أن العوامل الخارجية والدولية، هي المفتاح ـ وفي كل مرة يزداد الأمر اتساعا، حسب مقياس تقدم مسار العولمة المالية ـ في بيان الأزمة المالية، مع الآثار المحتملة على الصعيد العالمي. وهذا يعني أيضا أنه يتوجب تفعيل التدابير اللازمة التي من شأنها أن تمنع بقدر الإمكان اندلاع أزمة مالية مشابهة في المستقبل، هذا يتطلب بالضرورة تجاوز النظام المحلي إلى معالجة النظام المالي العالمي.



خلاصات



ما الذي يميز الأزمة الاقتصادية الحالية عن سابقاتها؟
على ضوء التحليل الذي طرحناه أعلاه من خلال هذا التقرير، وانطلاقا من وجهة نظر تحدد طبيعة هذه الأزمة وأسبابها يمكننا أن نجزم بأنها لا تتميز كثيرا عن سابقاتها. لكن أجوبة السياسة الاقتصادية وحجم تأثيرها لا يمكن مقارنتهما مع سابقاتها ـ بطبيعة الحال مع أزمة المكسيك أو أزمة كوريا الجنوبيةـ لأن الأمر يختلف، فمركز هذه الأزمة هو اقتصاد بلد جد متقدم، وبصورة أدق واحد من أقوى وأكثر البلدان تأثيرا في العالم.


إن تقديم مجموعة من الأجوبة بعد الأزمة التي تتفاقم مرة واحدة يختلف عن الأجوبة التي تقدم بعد الأزمات التي تمر عبر مراحل معينة وهذا يرجع للآثار السياسية الناتجة عن كل منها أكثر مما يرجع للأسباب الاقتصادية.


في نفس السياق، الآن، إذا فتحت الآفاق أمام فرص التقدم في الإصلاحات المالية الدولية فإنه يمكن التماس منافذ للخروج من هذه الأزمة؛ علما وأن هذه الآفاق فتحت من قبل لكنها أغلقت على التو بعد الأزمة الآسيوية، نعطي هنا مثالا عن أزمة نهاية التسعينات عندما حاول صندوق النقد الدولي إطلاق آليات تقسم بطريقة عادلة تكلفة الديون الدولية الغير مسددة بين الدائنين والمدينين.


ومع ذلك فالتركيز على المشاكل الداخلية للاقتصاد الأمريكي ولمختلف اقتصاديات أوروبا ـ بما فيها أسبانيا وبريطانيا وإيسلانداـ قد حول وجهة النقاش والبحث عن الحلول من المجال الدولي إلى المجال الوطني، وهذه الظاهرة عززت فكرة كون ألأزمة المالية تتحول أو تأخذ صبغة الركود الاقتصادي. وهذا الأمر يتطلب إجابات مختلفة تبعا للخصائص المميزة، ونقاط القوة والضعف لكل نظام اقتصادي وطني.
_______________
باحثة رئيسية في قسم التعاون الدولي والتنمية بالمعهد الملكي ألكانو، وأستاذة مادة الاقتصاد السياسي بجامعة كمبلوتنسي بمدريد



المصدر: التقرير صدر عن المعهد الملكي الكانو بتاريخ 2/3/2009  تحت رقم 38/2009 باللغة الأسبانية فقط.
w w w . realinstitutoelcano.org/wps/portal