الانتخابات الموريتانية.. قراءة أُولى

بعد فوز ولد عبد العزيز في انتخابات موريتانيا الرئاسية طرح أكثر من سؤال حول أسباب انتصاره ومعانيه السياسية وانعكاساته المستقبلية وما علاقته بالمحيط الخارجي فضلا عن التحديات التي تواجه الحاكم الجديد والطبقة السياسية الخاسرة







أحمد ولد هارون ولد الشيخ سيديا


أثارَ الفوز الكبير الذي حققه محمد ولد عبد العزيز على زعماء الأحزاب وكبراء الساسة في موريتانيا ردودَ فعل متباينة وطرَح أكثر من إشكال حول أسباب الانتصار ومعانيه السياسية وانعكاساته المستقبلية وطبيعة الأطراف المتنافسة وحجمها. وما علاقة العملية المحلية بما يجري في المحيط الخارجي؟ وما هي التحديات التي تواجه كلا من الحاكم الجديد والطبقة السياسية الخاسرة؟ وما هي فرص الاستقطاب والتنافر بين الطرفين؟


نمط الخطاب السياسي
الاستفادة من تجربة 2007
للسياسة الخارجية دورها الحاسم
حياة سياسية بادئة ومجموعة حزبية منتهية
ماذا يريد العالم من الديمقراطية الموريتانية؟
مصاعب وقلاقل أمام النظام الجديد



نمط الخطاب السياسي





استطاع أن يتقمص شخصيةَ المعارِض المستضعَف عندما استقال من الجيش والرئاسة وتنازل عن وزارات الداخلية والمالية والإعلام والدفاع لصالح أحزاب المعارضة
بناءُ خطاب إصلاحي هجومي واستخدامُ لهجة شعبية مجردة وتبنّي مجموعة من الهموم المباشرة للطبقات الفقيرة والمتوسطة والشباب، كالسكن والصحة وغلاء الأسعار وتجديد الطبقة السياسية ومحاربة الفساد... كانت لها آثارها غير المسبوقة في تحقيق تضامن شعبي مع محمد ولد عبد العزيز، وجعلت برنامجه أكثر نفاذا إلى البسطاء من برامج خصومه الذين يعتمدون المعالجات البنيوية والطرح الأيديولوجي والتنظيرات المعقدة للشرعية والديمقراطية.

فبينما اعتمد خصومه على الإعلام الالكتروني والمؤتمرات الصحفية والمقابلات التي لا تصل إلا القليل من الموريتانيين المستفيدين من التعليم والتكنولوجيا الحديثة ويسكنون في الأماكن السهلة والقريبة، ظلّ ولد عبد العزيز يطلق برنامجه، إما من داخل ضواحي نواكشوط المكتظة بالفقراء المنحدرين من أعراق وجهات مختلفة، أو أمام سكان المدن الداخلية الذين سماهم "موريتانيا الأعماق". ذلك المصطلح الجديد على أدبيات السياسة الموريتانية والذي كان محلَّ تهكُّم ورفض من قبل المعارضة.


كاد ولد عبد العزيز يسطو على نقاط حساسة من برامج المعارضة والحركات السياسية والأحزاب العرقية وأن يتجاوزها خلال عشرة أشهر من حملته الدعائية، التي استخدم فيها منبرَ الانقلاب العسكري المثير ومنبرَ الرئاسة المسموع ثم منبرَ المعارضة الجذاب.


استطاع أن يتقمص شخصيةَ المعارِض المستضعَف عندما استقال من الجيش والرئاسة وتنازل عن وزارات الداخلية والمالية والإعلام والدفاع لصالح أحزاب المعارضة. كما تبنَّى ملف الإرث الإنساني وما ينجر عنه من معالجة معاناة الزنوج الموريتانيين، معتمدا في ذلك على إجراءات عملية كإعادة المبعدين الزنوج من مهاجرهم في السنغال ومالي إلى موريتانيا، وتعويضهم ماديا ومعنويا. بل تجاوز ذلك إلى استغلال الجانب الرمزي ليقترب أكثر من الناخب الزنجي في موريتانيا وذلك حين حضر صلاة الغائب على أرواح ضحايا أحداث سنوات الثمانين والتسعين من الزنوج.


كما أطلق خطابا اشتراكيا وتكلم على ألسن الطبقة الكادحة والبؤساء وأطلق خطابا دينيا وأخلاقيا يمس الحس السياسي الإسلامي. أما القوميون العرب فكان من المتداوَل انتماءه إليهم أصلا، بما جعل خطابه أقرب على الحس الشعبي العام.


الاستفادة من تجربة 2007





تولد لدى الموريتانيين سخطٌ على السياسات القائلة بإغلاق ملفات الفساد الماضية، كسياسة "عفا الله عما سلف" التي اتبعها الحكم الانتقالي سنة 2005 وصرح بها رئيس المجلس العسكري الرئيس السابق العقيد اعلي ولد محمد فال آنذاك وأسلوب الإغلاق النهائي لملفات الفساد الذي انتهجه الحكم المنتخب سنة 2007
لعب ولد عبد العزيز دورا مركزيا في إسقاط نظام ولد الطايع سنة 2005، كما يتفق المحللون والإعلاميون أنه ساهم بفعالية في إنجاح بعض المرشحين المستقلين في نيابيات وبلديات ،2006 ثم مرشح الجيش للرئاسة سنة 2007 واحتلاله بعد ذلك مركزا في الدولة يمكّن من الاطلاع على ما يجري في الكواليس السياسية والإدارية، نجح ولد عبد العزيز إلى حد بعيد في تحديد رؤية عامة حول الخريطة الانتخابية والشبكات القبلية والمالية واللوبيات المتنفذة في الإدارة ومواطن القوة والضعف عند كل من الجناح الحاكم والمعارضة والطبقة السياسية المناضلة والمجموعات المرنة.

لقد تبين أن الدور السياسي الذي ظلت القيادات القبلية والدينية وكبار التجار والشخصيات المحلية التي صنعتها الوظائف السابقة والمال العام، أصبح في تناقص ملحوظ، ابتداء من الانتخابات التشريعية والبلدية لسنة 2006 حيث هزمت شخصيات سياسية ومالية كبرى في عقر دارها وأماكن نفوذها من طرف مترشحين مستقلين جدد، كما حدث آنذاك في مدينة أطار عاصمة ولايات آدرار وفي مدينة كرمسين بولاية الترارزة وغيرهما.


تجاوُزُ الناخبين الكبار والوسطاء السياسيين إذنْ والوصول إلى قواعدهم الشعبية مباشرة، بات أمرا ممكنا إذا استطاع طرفٌ ما أن يخلق ديناميكية كبرى للتغيير ويبعث آمالا حقيقية في إمكانية الوصول إلى الحكم أولا، ثم التغلب على العناصر المتنفذة في الإدارة والسياسة والمال ثانيا، تماما كما فعلت المعارضة في انتخابات 1992 وكادت تنجح لولا التزوير الواضح، لتقع بعد ذلك في الشرَك القبلي والجهوي والعرقي وتدخلَ في لعبة المال السياسي، حيث تُستثمر رؤوس أموال وطنية وربما أجنبية كبرى في بعض من الساسة ذوي المصداقية.


مسألة الفساد هي الأخرى تلعب دورا محوريا في السياسة الموريتانية سلبا وإيجابا. فكل موريتاني بالغ ومؤهل ذهنيا يعلم بالبداهة أن أكثرية مَن تولوا مناصب عليا في الإدارة والسياسية طيلة العقود الفائتة قد أتوا على الأخضر واليابس، حتى إن الرجل الواحد لَيملك الملايين والمليارات المنهوبة من المال العام، ومازال يسعى إلى الاستزادة منها، في وقت لا يجد فيه أهله وجيرانه وثلاثة ملايين مواطن موريتاني أي حيلة للحصول على لقمة العيش وما تستلزمه الحياة العادية، مدمرين بذلك اقتصاد الدولة ومحطمين آمال الأجيال المتعاقبة في السياسة وأهلها والدولة وفائدتها.


تولد لدى الموريتانيين سخطٌ على السياسات القائلة بإغلاق ملفات الفساد الماضية، كسياسة "عفا الله عما سلف" التي اتبعها الحكم الانتقالي سنة 2005 وصرح بها رئيس المجلس العسكري الرئيس السابق العقيد اعلي ولد محمد فال آنذاك وأسلوب الإغلاق النهائي لملفات الفساد الذي انتهجه الحكم المنتخب سنة 2007، ثم توزيعُ بعض المرشحين للرئاسة صكوك الأمان على من باتوا يسمون في الإعلام الموريتاني "رموز الفساد" أثناء الحملة الانتخابية لسنتي 2007 و 2009. لذلك أدرك ولد عبد العزيز أن مبدأ إغلاق هذه الملفات أصبح يصطدم بردات فعل سلبية من طرف الشعب، فطفق يعِد ببناء السجون لهم ووضع القوانين الرادعة.



للسياسة الخارجية دورها الحاسم


إضافةً إلى لعبه على الأوتار الداخلية الأكثر إلحاحا والتصاقا بكل بيت موريتاني، جاء طرد ولد عبد العزيز سفير إسرائيل في الوقت المناسب، حيث كانت محرقةُ غزة في أوجها من جهة، ومن جهة أخرى كانت الأيام التشاورية التي حشد لها المجلس العسكري الحاكم مناصريه من السياسيين ومن هيئات المجتمع المدني على أشُدّها، ولذلك استجلبت له تلك العملية (إغلاق سفارة إسرائيل) جمهورا متحمسا خاصة وأن السياق الداخلي كان يعيش في جو تلك الأيام التشاورية.


ومما زاد من قيمة هذا الإجراء، أن بعضا من كبار الساسة الموريتانيين كان يصف التطبيع مع إسرائيل بالعلاقة الإستراتيجية التي لا تُمس، بينما يتجنب آخرون الحديث عنها، خصوصا في تلك المواسم السياسية الانتقالية التي يُعوَّل فيها على الموقف الغربي.


ولم تزل مسألة المقاومة على مرّ الأيام تفعل فعلها في الحياة السياسية الداخلية لمختلف الدول الإسلامية والعربية من السودان إلى لبنان وإيران واليمن وقطر... والكل يتذكر كيف استثارت قضية فلسطين الجمهور التركي الذي استقبل رجَب طيب أردوغان في المطار استقبال الأبطال ساعات بعد تغليظه الكلام على الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في منتدى دافوس الاقتصادي. أما موريتانيا، شانها في ذلك شأن بقية أطراف العالم العربي والإسلامي، فإنها شديدة الحساسية والتفاعل مع يحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان، مما جعلها في حالة من المقاومة اليومية والعيش في أحشاء تلك الهزيمة السياسية والدينية والقومية العامة.


إلى ذلك كله، تزامنت المطالبة برفع الحصار عن أهالي غزة مع تداعيات الأزمة الغذائية العالمية ومطالبة بعض من الساسة الموريتانيين فرضَ حصار اقتصادي على موريتانيا. وقد لعب ولد عبد العزيز على هذه النقطة بالذات أثناء إحدى زياراته للأحياء البائسة، ليُخرج بعد ذلك بشهور وأثناء أحد مهرجاناته الانتخابية الأخيرة بنواكشوط وثيقة قال إن معارضيه استنجدوا من خلالها بالجماعات الصهيونية بالولايات المتحدة وقرأها أمام عشرات الآلاف الذين تجمعوا في ساحة تربط بين ثلاثة أحياء شعبية كبرى هي عرفات والميناء والرياض.



حياة سياسية بادئة ومجموعة حزبية منتهية





كثير من الناخبين في آدرار وبعض المقاطعات الشرقية ومقاطعات نواكشوط قالوا لوسطائهم السياسيين: تطلبون منا اليوم أن ننتخب أحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير بعد عشرين سنة من الدعاية ضدهم والتحريض عليهم عندما كانا يتوليان قيادة المعارضة أيام حكم ولد الطايع
مقابلَ هذا كله لم يستطع الجانب الآخر -والمؤلَّف من المعارضة التقليدية لنظام الرئيس السابق ولد الطايع والعديد من رموز موالاته بالتحالف مع بعض الوسطاء السياسيين المحليين المنهكين وبعض الزعامات القبلية التقليدية- أن يطرح رؤية جديدة أو يعرض مشاريع بديلة, وإنما اقتصر على الكلام المعاد والتشنجات المفتعلة التي عافها المواطن وملَّ سماعها على مدى عقدين: كهستيريا الشرعية ومطالب الديمقراطية والانفتاح السياسي وحقوق الإنسان وغيرها من المطالب التي لا تخلو في نظر بعض المراقبين من ارتباط أحينا بسياقات أجنبية قد لا تخدم الواقع الموريتاني.

فمن الضروري إذنْ التوقفُ عند التقلص الشديد لدور الطبقة السياسية العاملة منذ وقت وما تعانيه من تقادم الخطاب وهرَم القيادات وجمود الأسلوب. فبعد عشرين سنة خلت من التعددية الحزبية والسوق السياسة الحرة إلى حد الفوضى، لم يعد لمجمل الحضانات السياسية الحالية تأثير يذكر في اتخاذ المبادرات وتطوير الحياة السياسية. وبات من البيِّن بنفسه أن المعارضة والموالاة، على حد سواء، قد فشلتا في أداء رسالة سياسة منتجة وذات بال، مكتفيتين بالمعيشة على ما يتناثر من مائدة الأحداث السطحية وردات الفعل الروتينية على تحركات العسكر والنشاطات الحكومية والنظر إليها من الزاوية القانونية المحضة.


ظلت المعارضة الموريتانية منذ تأسيسها بداية تسعينيات القرن الماضي رابطة نفسها بمهمة القضاء على نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع أو إضعافه، لكنها لم تفلح في مسعاها لكثير من الأسباب يصعب بسطها هنا، بل إن نظام ولد الطايع ما فتئ وقتها يقوى وتتحسن صورته الديمقراطية والتعددية نسبيا أمام العالم. أما جيل هذه المعارضة من الموالاة، فلم يفلحوا في توجيه الحكم والإدارة نحو شيء من التجديد والإصلاح، سواء في ظل ولد الطائع أو ما تلاه، بل نشرت هذا الموالاة ثقافة الغش وتدمير الإدارة ونهب الميزانيات وإقصاء الشباب وغبن الطبقات الضعيفة، مكتفية بالتطبيل لما شاع في عهد ولد الطايع مثلا من برامج إصلاحية مرتجلة ومستعجلة مثل: إنشاء دُور الكتاب ونشر العلم والمعرفة ومحو الأمية وتسويق الزراعات المحلية عبر الإنترنت.


عواملُ السلبية المترسّبة والفراغ السياسي والأوضاع المعيشية للسكان كانت مهيئة لتقبل أي مبادرة للتغيير الراديكالي والتجديد السياسي الشامل حتى ولو كان بالقوة أوعلى مستوى الخطاب فقط، مما ساعد في الدفع بالمرشح الجديد إلى النصر على كبراء الساسة في البلد. وقد باتت المعارضة القديمة والعديد من رموز موالاة نظام ولد الطايع في نفس الخندق المنافس للجنرال المنقلب الذي أصبح الرئيس المنتصر. فهل نحن أمام تجديد طبيعي ونهائي للطبقة السياسية أم هو الصراع المتواصل بين الأجيال والهزيمة المؤقتة للتنشئة الأولى؟


لا شك أن العلاقات السياسية في موريتانيا تنزَع نحو إلغاء الأقطاب السياسية القديمة وتفتيت محاور النفوذ وإعادة تقاسمها، ولاشك أيضا أن مجموعة من القيادات السياسية الشابة أصبحت تحكم بلدانا مهمة في العالم، أمثال أوباما ومدفديف ومحمد السادس وسعد الحريري وزاباترو وساركوزي وغيرهم. غير أن في المقابل تجوارنا قيادات سياسية مُسنّة مازالت صلبة وفعالة.



قسّم ولد عبد العزيز الأطراف المتنافسة في الانتخابات الأخيرة إلى قطبين: قطب الإصلاح وقطب الفساد، بينما وصفها كلٌّ من مسعود ولد بلخير وأحمد ولد داداه واعلي ولد محمد فال بالمنافسة بين الانقلابيين والديمقراطيين، لكنْ -عن قصد أو غير قصد- تشكّل القطب السياسي المنافس لولد عبد العزيز من "تحالف غير طبيعي" بين جيش من رموز نظام ولد الطايع توافدوا على رمزي المعارضة التقليدية: أحمد ولد داه ومسعود ولد بلخير. هذا التحالف غير الطبيعي هو الذي دفع بكثير من الناخبين في آدرار وبعض المقاطعات الشرقية ومقاطعات نواكشوط إلى القول لوسطائهم السياسيين: تطلبون منا اليوم أن ننتخب أحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير بعد عشرين سنة من دعايتنا ضدهم وتحريضنا عليهم عندما كانا يتوليان قيادة المعارضة أيام حكم ولد الطايع.


في إحدى زياراته لمدينة روصو عندما كان رئيسا للمجلس العسكري الحاكم، قال ولد عبد العزيز: إن علَى أهل السياسة أن يتقبلوا مسألة التقاعد كما يتقبلها الإداريون والعسكريون. والحديث هذه الأيام عن إمكانية اعتزال أحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير للعمل السياسي، يصبّ في تجديد الطبقة السياسية والصراع بين الأجيال وتبدُّل ملامح الحقل السياسين وانهيار حزبين سياسيين كبيرين يعتمدان كل الاعتماد هاتين الشخصيتين الكبيرتين اللتين ظلتا على مدى عشرين سنة خلت قلبا ووجها ورمزا لمعارضة الحكم الشمولي والدفاع عن حقوق العرب السود في البلد، مما يصعّب خلق رمزية سياسية جديدة قادرة على خلافتهم في تلك المهمة. أما الحركات السياسية والأحزاب الأيديولوجية، فلها من التماسك والمرونة ما يؤهلها للانعطاف السريع وإعادة التكيف مع الواقع سياسي والتعامل مع أي قطب جديد يحكم أو يعارض.



ماذا يريد العالم من الديمقراطية الموريتانية؟


جبهة الدفاع عن الديمقراطية الرافضة لانقلاب 6 أغسطس/ آب 2008 وتكتل القوى الديمقراطية الذي أيده في البداية وعارضه في النهاية، ركزوا إلى حد كبير على التدخل الأوربي والأمريكي والإفريقي لإفشال الانقلاب. وقد تصاعدت الأزمة وقتها بالفعل بين القوى الدولية والإقليمية والسلطة العسكرية في موريتانيا، مما فتح المجال أمام العديد من الاحتمالات وطرح أكثر من سؤال عن أسباب الاهتمام الدولي الزائد بالديمقراطية الموريتانية والسكوت عن أكثر من نظام شمولي في المنطقة. وهل مُزجت القصة الديمقراطية في موريتانيا بمشروع أمريكي أو فرنسي أو حتى ليبي في المنطقة؟


محاولةُ سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله تصفية قواد الجيش في لحظة واحدة وبصورة مفاجئة، أمر تعلَم القوى العظمى وكل عارف بالأمر الموريتاني مدى خطورته وحساسيته، ليس على السير المضطرد للمؤسسات الديمقراطية فحسب، بل على المصير الوجودي للدولة الموريتانية نفسها، والتي تشكل في نظر بعض القوى الدولية ثروة إستراتيجية وغذائية ومعدنية قائمة ومصدرا جدّ محتمل للطاقة.


فمما يدركه العقل السياسي في الغرب، أن المجال الحيوي لأي مشروع دولي في موريتانيا وخطوط الإمداد لأي إصلاح سياسي داخلي، تتلخص في المؤسسة العسكرية، نظرا لما عانته الطبقة السياسية المدنية من هزات خلال إحدى وثلاثين سنة حكَم فيها العسكر والمخابرات وصنعوا فيها بنيات سياسية ضعيفة ومشوهة وزعامات مدنية يحركونها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.


إن أيّ ضغط زائد وقتَها، على النظام العسكري "الديمقراطوي" الحاكم في موريتانيا منذ عقود، أو تأخير لما يقوم به من ترميم جزئي، كان من الممكن أن يؤدي إلى تراجع كبير فيما حصل سنة 2005 من "ديمقراطية استعراضية" منحها الجيش ومجّدها العالم العربي والإفريقي جلدا للذات، قبل أن يكون إعجابا بها، ومجّدها الغرب إدراكا منه بأنها الضامن الأنسب لمصالحه الإستراتيجية والتاريخية والاقتصادية في ذلك الإقليم الكبير مساحتُه والقليل أهلُه.


وأيُّ ضعف في السلطان المركزي أو فقدان للسيطرة على ذلك الإقليم، ستتجاوز آثاره المليون وثلاثين كلم مربع، الواقعة تحت سيطرة الحكومة الموريتانية، إلى منطقة الساحل والصحراء الكبرى والمغرب العربي وإفريقيا الغربية التي تشكل أرضا خصبة للتهريب والإرهاب وغيرها من المشاكل التي تؤرّق مضاجع الدول الغربية قبل أن تؤرق الإنسان الصحراوي الذي يعرف بالفطرة كيف يتعايش مع صحرائه الوعرة.


فهل يُعقل أن تستثني القوى العظمى موريتانيا من غيرها من الدول العربية المحكومة في مجملها بمؤسسات عسكرية محضة، وأن يكِل الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة وحتى دول المغرب العربي الكبرى، هموم الهجرة السرية وتهريب المخدرات والسلفية القتالية والمرور البري والبحري وغيرها من من المشاكل المزمنة إلى نظام موريتاني مدني محض، قد صُفّيت فيه الشوكة السياسية للمؤسسة العسكرية والأمنية؟


وهل صحيح ما يُطرح من عمل فرنسا لصالح الانقلاب ومنعها فرض عقوبات كان العالم يلوح بها على موريتانيا وإعطاء محمد ولد عبد العزيز الوقت الكافي لتجاوز مسألة رجوع الرئيس المطاح به وتمرير مبدأ ترشحه أولا وانتخابه ثانيا ثم الاعتراف الداخلي والدولي به، ليكون بذلك رأسا لنظام سياسي أقوى ويحظى بقبول جناحيه المدني والعسكري، مستخدمة في ذلك مكانة وتجربة زعماء المنطقة أمثال عبد الله واد.


مما يصبّ في هذا المعنى، مقابلة وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير مع صحيفة "جون آفريك" في عددها رقم 2515 الصادر يوم 23 مارس/ آذار 2009، والتي أكد فيها إمكانية ترشح الجنرال ولد عبد العزيز للانتخابات الرئاسية المقررة يوم 6 يونيو/حزيران من نفس السنة إن رغب في ذلك واستقال قبلها بخمسة وأربعين يوما من منصبه. ثم تصريح الرئيس الفرنسي ساركوزي 27 مارس/ آذار بأن ما حدث في موريتانيا لم يكن انقلابا عسكريا بالمعنى الكلاسيكي ولم يواجَه بمعارضة أو احتجاجات من أي برلماني. مما أحدث انزعاجا لدى المعارضة فاقت ما كان من احتجاجاتها على كلام القذافي الصريح والمؤيد للانقلاب. فقد وصفت جبهة الدفاع عن الديمقراطية تلك التصريحات بالمنحازة للانقلاب وقال الناطق باسمها إن ساركوزي ربما كان سكرانا وقت تصريحه المذكور.


أما جامعة الدول العربية، فقد لعبت دورا محوريا في تجنيب عقوبات دولية على موريتانيا وإحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي من قِبل مجموعة الاتصال الدولية المتكونة، إلى جانب هذه الأخيرة، من منظمة الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي الاتحاد المغاربي والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوربي.



مصاعب وقلاقل أمام النظام الجديد





"رغمَ مؤهلاتها الحضارية والطبيعية مازالت موريتانيا عاجزة عن إخراج نظام وطني سليم وإيجاد بنية ثابتة للحكم السياسي الديمقراطي أو حتى الاستبدادي
التحديث المؤسمي والتغيير على مستوى الرجال وتجديد العناصر البشرية العاملة في السياسة والإدارة والإعلام، والتقليل من وطأة التخلف والجهل والجوع ومحاربة الغبن المالي والظلم السياسي، أمور ممكنة وملحة وواردة، إلا أن من أخطر العوائق المحتملة في هذا الصدد، وجود جهات وعناصر مؤيدة للرئيس الجديد، لكنها من صميم الماضي أسلوبا وتفكيرا والشعب الموريتاني يعرفهم تماما مثل معرفته للمعلوم من الدين بالضرورة.

قليل من الموريتانيين مَن بقي مؤمنا بإمكانية بناء دولة عصرية وإدارة خادمة مستديمة وإيجاد قواعد ثابتة ومقبولة لتداول السلطة. ومافتئت نقاط الاستفهام تحوم حول قدرة الموريتانيين على بناء دولة حديثة ترقى إلى أدنى مستويات الدول المعاصرة والمجاورة وتأسيس إدارة خادمة مستديمة وتحصين إقليم تزيد مساحته على مليون وثلاثين كلم مربع من مخاطر الإرهاب والتهريب وكابوس الهجرة عبر حدوده الصعبة مع إفريقيا والصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي ومنع الدول ورؤوس الأموال الأجنبية من التسرب إلى اللعبة الديمقراطية والحياة النيابية... معتمدين في كل هذا على ما مؤسسات هشة للدولة ومصادر بشرية قليلة وبنية سياسية بدائية.


فرغمَ مؤهلاتها الحضارية والطبيعية وحصولها منذ ثمان وأربعين سنة على كيان مستقل، مازالت موريتانيا عاجزة عن إخراج نظام وطني سليم وإيجاد بنية ثابتة للحكم السياسي الديمقراطي أو حتى الاستبدادي. ولولا ذلك لما وصلت إلى ما هي فيه من تخبط وتخلف وجهل وجوع.


غيرَ أن المحاولات الفاشلة لبناء وإعادة بناء الدولة الموريتانية، ارتبطت - إلى حد بعيد - باعتماد الغادين والآتين من حكام البلاد على عنصر سياسي واحد ظلّ يهيمن على قنوات التأثير ومفاصل الإدارة، مستبعدا كل ما مِن شأنه تغيير قلب الدولة ووجهها أو إشراك المخالفين في الانتماء والأسلوب. ولذلك لمّا دخل بعض من قادة هذا العنصر – على غير عادتهم - في مواجهة مفتوحة مع الانقلاب الأخير، تولّدت آمال حذرة تراهن على استعداد هذا النظام للمجابهة وقدرته على تفتيت مكونات النظام القديم.


لقد بدا خلال عقدين من التحرر السياسي والتعددية الديمقراطية، أن التعويل في موريتانيا على الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني والقوى التقليدية لإنجاز الحداثة والتنمية والديمقراطية، أصبح ضربا من ضروب الخيال وأن نقطة الانطلاق في ذلك المنحى لن تتجسّم إلا في أحضان سلطة وطنية مستقرة، لها من الهجومية والقوة ما يؤهلها لإعادة النظر في جوهر الأشياء وسلوك الدولة وأهدافها. وقد ساعد هذا الطرح بالذات على تقبُّل انقلاب ولد عبد العزيز ثم انتخابه فيما بعد على حساب التشكيلة السياسية القديمة.
_______________
كاتب موريتاني